الرئيسة \  من الصحافة العالمية  \  البنوك المركزية والحكومات والحرب

البنوك المركزية والحكومات والحرب

20.04.2024
جوش ليبسكي




البنوك المركزية والحكومات والحرب
جوش ليبسكي
المصدر : Atlantic Council
19 ديسمبر 2023
ترجمة عبد المعين بن سليمان
تبين البيانات الجديدة أن الحكومة الإسرائيلية قد أصدرت سندات تتجاوز قيمتها خمسة بلايين دولار خلال الأسابيع القليلة الماضية محاولةً تأمين استقرار اقتصادها وتمويل جهدها الحربي. يكشف تقرير جديد أن إسرائيل تدفع أرباحا على هذه السندات أكثر تماما مما كانت تدفعه قبل شهور خلت. يشير هذا إلى أن المستثمرين يريدون تعويضا أفضل عن المخاطرة في وقت قد تزددا فيه شدة الأزمة وربما يخسر المستثمرون أموالهم.
تجهل الأسواق في حال إسرائيل كما في حال بلدان كثيرة حول العالم درجة السرعة والحزم التي صارت عليها البنوك المركزية خلال السنوات القليلة الماضية. لننظر إلى ما حصل في قيمة الشيكل الإسرائيلي إثر بدء المستثمرين بيع العملة بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر الماضي. بعد يومين فقط من الهجوم، تعهد البنك المركزي في إسرائيل بثلاثين بليون دولار من الاحتياطي وأشار إلى استعداده لصرف ما يصل إلى خمس وأربعين بليون دولار. أدت الحركة غرضها إذ استعاض الشيكل جميع خسارته وسجل عالميا أعلى مكاسب مقابل الدولار لشهر نوفمبر.
ابتداء من سلسلة الأزمات الاقتصادية في الأسواق الناشئة خلال تسعينات القرن الماضي، وعلى الخصوص بعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008؛ طورت البنوك المركزية عبر العالم كله من أدوات إدارة الأزمة لديها. استجابت البنوك للسرعة المتزايدة لانتقال الأموال دخولا وخروجا وتعاملت بروحية متحفزة جديدة. أحد الأمثلة على ذلك استجابة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي السريعة والنشطة بعد انهيار بنك وادي السيليكون (Silicon Vally Bank) في مارس 2023. في روسيا، رفعت حاكمة البنك المركزي الفيرا نابيولينا معدل الفائدة إلى أكثر من الضعف كما فرضت قيودا على رأس المال بعد أربعة أيام فقط من اجتياح أوكرانيا عام 2022 مما أدى إلى استقرار النظام المالي في وقت توقع كثيرون حصول خلل في النظام البنكي. وفّر هذا الإجراء وقتا أطول للحكومة الروسية وبدأ الروبل يقوى ثانية بعد تدفق عائدات النفط والغاز.
رجال الإطفاء الماليون
ضع نفسك مكان بنك مركزي يواجه حربا ناشئة؛ والشركات والأفراد يتسابقون لنقل أموالهم خارج البلد مما سيضعف قيمة عملة بلدك. في حين قسمٌ مقدّر من القوة العاملة في البلد استدعي للمشاركة في المجهود الحربي (في حال إسرائيل تم استدعاء 8% من القوة العاملة على الأقل)؛ بينما قد يغادر كثير من الناس خوفا من الحرب. تعزز هذه الأوضاع من فرضية أن الاقتصاد الذي تساهم في الإشراف عليه بصفتك محافظا للبنك المركزي سيدخل في مرحلة ركود (في إسرائيل، يتوقع المستثمرون أن ينكمش الاقتصاد حوالي 5% في الربع الأخير). ومما يزيد الوضع سوءا أن تجد النماذج الاقتصادية التي تعول عليها عادة قد صارت فجأة غير ذي جدوى في مواجهة صدمات واهتزازات الحرب.
إذن أنت تحتاج المال لتدعم الاقتصاد في وقت تحتاج فيه الحكومة المال لتمويل الحرب. لكن اقتراض المال يزداد كلفة- كما حال إسرائيل في ذروة إصدارها للسندات. قد يتخلى المستثمرون العالميون المذعورون عن شراء سندات بلدك (فقدت السندات الأوكرانية حوالي ثلاثة أرباع قيمتها بعد الاجتياح الروسي). في الوقت نفسه، قد تزيد محاولاتك وقف أو كبح هروب رؤوس الأموال- عبر معدلات فائدة عالية- من تكاليف الدين المحلي. قد تطبع مزيدا من الأوراق النقدية لكن من شأن ذلك أن يزيد التضخم. غالبا ما تؤدي نفقات أوقات الحرب إلى تضخم أكبر في السوق. على سبيل المثال، كان الانكماش في روسيا السنة الماضية حوالي 12 بالمائة. اعتبر نفسك محظوظا إن كان بلدك قد وفر احتياطات نقدية أجنبية تستطيع استعمالها في دعم عملتك. هذا هو الحال الذي وجد البنك المركزي في إسرائيل نفسه فيه فهو قد اكتنز احتياطات مالية ضخمة منذ حرب غزة عام 2014.
هذه الاحتياطات الضخمة الاستثنائية تعني توفر خيارات لدى إسرائيل في حال استمرت الأزمة. البلدان التي تفتقر إلى هذه الاحتياطات الكبيرة سوف تعتمد أكثر على سندات أوقات الحرب والضرائب المحلية العالية والمعونة الخارجية. على سبيل المثال، لجأت أوكرانيا إلى المعونة الأمريكية والأوربية لتجمع احتياطيا قدره 41.7 بليون دولار.
دخول الصراع الجيوسياسي
التداخل بين البنوك المركزية والحكومات والتوترات بينهم ليست أمرا جديدا. خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية أبقى الاحتياطي الفيدرالي على معدلات فائدة منخفضة بغرض جعل الدين الحكومي أرخص، مقتنعا أن نظام مراقبة الأسعار يُبقي التضخم منخفضا وقت الحرب (وقد كان) وأن التضخم ينخفض طبيعيا في نهاية الحرب (لم يحصل).
لكن في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية التي شهدت ارتفاعا في استقلالية البنك المركزي وأنظمة معالجة التضخم؛ حاولت بنوك مركزية كثيرة النأي بنفسها عن نظيراتها المالية ورؤسائها السياسيين. في أوقات الحروب في القرن العشرين، رفضت أحيانا بنوك مركزية اتخاذ إجراءات اعتقد حاكموها أنها قد تنال من سلامة الاقتصاد على المدى الطويل. خلال حرب فيتنام مثلا، أغضب رئيس الاحتياطي الفيدرالي ويليام ماكشيسني مارتن الابن الرئيس ليندون جونسون برفعه معدل الفائدة في حين كان من شأن تخفيضها أن يؤمن تمويلا للحرب ويجعل برامج الرئيس جونسون عن المجتمع العظيم أقل تكلفة.
في هذا العصر الجديد من عصر إدراة الاقتصاد تزداد الحدود والفواصل غموضا. تصير بعض البنوك المركزية نفسها لاعبا جيوسياسيا. تبدأ البنوك المركزية تلقائيا في لعب دور أكثر فاعلية في الحرب عندما تصبح الأصول الاحتياطية للبلد هدفا معقولا للتجميد (مثال ذلك روسيا الاتحادية التي يبلغ احتياطها 300 بليون دولار). أحد الأمثلة الأكثر وضوحا وإثارة في تآكل الحدود بين البنوك المركزية والحكومات تعيين ضابط عسكري عالي الرتبة نائب حاكم البنك المركزي الروسي. 
على ضوء تزايد الدور الجيوسياسي الذي تضطلع به البنوك المركزية؛ قد تساعدنا قرارات هذه البنوك في تنبؤ المستقبل الذي يستعد له قاداتها. قد يكون التمعن في الميزانية العامة للصين المصدر الأكثر دلالة. رغم أن احتياطات النقد الأجنبي الرسمية لبنك الشعب الصيني (البنك المركزي في الصين) لم تنمُ بشكل ملحوظ، إلا أن بنوك الدولة والشركات المرتبطة ارتباطا وثيقا بها تراكم احتياطات ظل ضخمة. لا يعني هذا أنّ الصين تخطط لحرب؛ لكن النمو في الكومة النقدية في بكين (وطرق تخصيصها) هو أحد المقاييس المالية الرئيسية المطلوب مراقبتها على مدى السنين القادمة. 
قرارات البنوك المركزية قرارات هامة في الأوقات العادية. لكن المخاطر تزداد في زمن الحرب حيث تدعم هذه البنوك- إن كانت فاعلة- قدرة بلدانها على القيام بحملات وتدعم أيضا استقرار مجتمعاتها في ظل وطأة أوقات الحرب. 
في السنوات الأخيرة طلبت الحكومات المزيد من البنوك المركزية: تقديم الحوافز الاقتصادية حين لا يوافق نظراؤها الماليون على ذلك (مثلا في حال التيسير الكمي بمعنى توفير المزيد من الأموال)؛ وإدارة تبعات القرارات الكبيرة المتعلقة بالاقتصاد وسلاسل التوريد (في حال البيئة التضخمية بعد جائحة الكوفيد مثلا)؛ والمساعدة أيضا في مواجهة التغير المناخي على ضوء ما بينت الحوارات في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ الأسبوع المنصرم. 
اليوم يطلب من البنوك المركزية التحرك بسرعة وإبداع ووعي جيوسياسي يُطلب عادة من رجال الديبلوماسية والحرب. إنّه عالم البنوك المركزية الجديد الشجاع، وطريقة معالجتهم له قد تفرض نوع العلاقة بين البنوك وحكوماتها على مدى سنوات قادمة.