الرئيسة \  تقارير  \  البوصلة الخليجية في عالم متعدد الأقطاب

البوصلة الخليجية في عالم متعدد الأقطاب

05.03.2023
فوزي الزبيدي

البوصلة الخليجية في عالم متعدد الأقطاب
فوزي الزبيدي* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 24/2/2023
الغد الاردنية
السبت 4/3/2023
في خضم حالة عدم اليقين الدولية، أصبح لدى دول الخليج القدرة على تحقيق توازن دقيق بين الشركاء القدامى والجدد.
* * *
تشكل الحرب الروسية-الأوكرانية، والقائمة الطويلة من الصراعات العالمية المحتملة التي تنتظر دورها في الاشتعال في تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وجزر الكوريل وكوريا الشمالية وإيران، جرس إنذار إستراتيجيا لجميع دول العالم، مفاده بأن النظام الدولي بعد هذه الحرب والصراعات المحتملة لن يكون كما كان قبلها، وأن نظامًا متعدد الأقطاب بدأ يلوح في الأفق، وهو ما يحتم على الدول مراجعة حساباتها الاقتصادية وتحالفاتها السياسية، ومن ثم إعادة تعريف مصالحها الجيوسياسية للتكيف مع الأوضاع الجديدة بحيث تكون قادرة على تأمين الاكتفاء الذاتي من احتياجات ومتطلبات الدولة خلال الأزمات العالمية المعقدة التي لا يبدو لها سقف زمني واضح، ولا عواقب واضحة ومحددة يمكن التحكم فيها.
بالنسبة لدول الخليج العربي، ستكون عمليات إعادة التقييم هذه معقدة بشكل متزايد.
ويعود ذلك إلى التطورات الجيوسياسية الراهنة الخاصة بالنظام الدولي: هل يكفي التحالف مع الولايات المتحدة لتحقيق مصالح هذه الدول؟
أم تبدو الحاجة ملحة إلى تنويع التحالفات مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا وغيرها في مجالات الأمن والطاقة؟
أم سيكون هناك خيار ثالث يتمثل في إمكانية إدارة توازن حساس ومعقد بين المصالح الأميركية من جهة، والمصالح الصينية والروسية من جهة ثانية؟
ويعد تحديد مسار جديد للمرحلة المقبلة أمرًا في غاية الأهمية، لأسباب ليس أقلها أن دول الخليج تنتج 40 في المائة من إجمالي الطاقة في العالم.
قبل فحص هذه الخيارات، لا بد من تسليط الضوء على استنباطات (منطقية) عدة، ستدفع دول الخليج إلى إعادة تعريف مصالحها وتحالفاتها.
أولا، لا تستطيع دول الخليج أن تتجاهل بوادر تحالف استراتيجي دولي كبير بدأ في التشكل عبر أعضاء منظمة (شنغهاي)، والذي يضم روسيا والصين وإيران والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى.
وبالمثل، تدرك دول الخليج أيضًا أهمية الدورين، الروسي والصيني، في كبح جماح إيران في المنطقة، خاصة إذا ما انهار الاتفاق النووي (بشكل نهائي)، وتحولت إيران إلى نموذج كوري شمالي جديد في المنطقة.
وفي السياق نفسه، ما تزال الدول الخليجية غير قادرة على تبني سياسة خارجية مستقرة، وما تزال مواقفها الدولية غير محددة، فيما يعود إلى حالة الانقسام السياسي في واشنطن التي أدت تناقضاتها وتذبذباتها إلى انعكاسات سلبية على الشراكة مع الدول الخليجية.
وهو ما يخلق حالة من عدم اليقين بين تلك الدول بشأن الكيفية التي ستنظر بها الحكومات الأميركية المتعاقبة إلى سياساتها.
علاوة على ذلك، ما تزال تداعيات الحرب الأوكرانية وعواقبها غير واضحة بشكل كامل ودقيق على الأمن والاقتصاد الدوليين، خاصة في ظل تداعيات أزمة الطاقة وأسعارها العالمية.
ومن ثم، لا تستطيع دول الخليج التضحية بزبائن نفطيين كبار على شاكلة الصين، كما لا تستطيع تجاهل دورها العالمي الجديد، وحجم نفوذها واستثماراتها في الشرق الأوسط، ومبادرتها لتغيير ملامح الاقتصاد العالمي المتمثلة في طريق الحرير.
هذا إضافة إلى إدراك دول الخليج أيضًا أهمية تحالف (بريكس) الذي يضم الدول الأسرع نموًا (من الناحية الاقتصادية) حول العالم، ممثلاً بروسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا.
في ظل هذه الإدراكات الخليجية والظروف الدولية الراهنة والواقع السياسي على الأرض، ترتسم أمام صناع القرار الخليجيين جملة من الخيارات لتحديد ملامح التوجه الإستراتيجي الجديد لها في المرحلة المقبلة.
وهكذا، تبدو عملية تنويع الشراكات الدولية لدول الخليج خيارًا مناسبًا في السياق الدولي الراهن.
ومع ذلك، تظل طبيعة ومضمون هذا التنويع قضية ملحة تحتاج إلى حل بالنظر إلى علاقة الخليج مع الولايات المتحدة.
وبذلك، يمكن لدول الخليج أن تمضي قدمًا في عقد شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا وقوى صاعدة أخرى، وهو ما قد يتسبب في إلحاق الضرر بعلاقاتها مع واشنطن، أو يمكن أن تبدأ في إنشاء علاقات تكتيكية ومشروطة مع تلك القوى مع الحفاظ في الوقت نفسه على المستوى الاستراتيجي من الشراكة مع واشنطن.
في واقع الأمر، يبدو أن الخيار الأخير سيسمح لتلك الدول بموازنة مصالحها الجيواستراتجية بين الولايات المتحدة من جهة، وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، وهو ما سيجنبها صعوبة إقناع واشنطن بجدوى تطوير شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا.
ومن ثم، فإن إنشاء شراكات تكتيكية ومشروطة لا ترتقي إلى مستوى إستراتيجي بين تلك الدول وبين الصين وروسيا، سيكون مقبولاً بالنسبة لواشنطن، وسيكون أيضًا مقبولاً لكل من الصين وروسيا اللتين تقدران العمق الاستراتيجي للعلاقات الأميركية-الخليجية.
في حالة اعتماد دول الخليج الخيار الثاني، فإنها يمكن أن تصبح بمثابة قناة تواصل وتفاهم وتوازن بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح الصين وروسيا في مختلف القضايا العالمية، وأبرزها قضيتا الطاقة والتجارة.
وعلى وجه الخصوص، يمكن أن تلعب دولة الإمارات دورا عالمياً مهماً في إدارة التوازنات والمصالح الدولية في منطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير نظراً لمكانتها الإقليمية المتميزة.
كما يمكن للسعودية أن تعلب دوراً أكبر في إدارة هذا التوازن بين المصالح العالمية، إذا ما طورت أجهزتها البحثية والدبلوماسية، وتبنت رؤية سياسة واضحة ومحددة ودقيقة لهذا الغرض.
كما أن بإمكان قطر وعُمان أن تديرا ملفات معقدة بين الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا، نظرًا لباعها الطويل في مجال المفاوضات المعقدة.
فقد نجحت قطر في إبرام اتفاق بين حركة طالبان والولايات المتحدة، بينما نجحت سلطنة عُمان في التوسط لإبرام صفقات عدة بين إيران والولايات المتحدة، بما فيها الاتفاق النووي للعام 2015.
بغية تحقيق هذا الغرض، لا بد أولاً من صياغة آلية محددة لدول الخليج لتتمكن من خلالها من إدارة توازن حساس ودقيق بين المصالح الأميركية وبين المصالح الروسية والصينية.
وحتى يتحقق هذا التوازن، ينبغي ألا يرتقي التعاون الدفاعي بين دول الخليج وبين روسيا والصين إلى معاهدة دفاع مشترك، وألا يؤثر على منظومة التسليح الأميركية في دول الخليج، وخاصة منظومات الدرع الصاروخية.
كما يجب أيضًا ألا يضر التعاون بين دول الخليج وروسيا والصين بالمصالح الأميركية أو يمسها بشكل مباشر، أو يضر بمصالح حلفاء واشنطن، خاصة في ما يتعلق بأمن إمدادات الطاقة وأمن إسرائيل.
ويجب أيضًا ألا يفضي التعاون مع الصين وروسيا إلى هيمنتهما على منطقة الخليج، مما قد يؤدي إلى رد فعل من البيت الأبيض أو الكونغرس.
ومن الضروري بمكان أن تتوخى دول الخليج الحذر بحيث تنأى بنفسها عن الانخراط المباشر أو غير المباشر في صراعات روسيا ونفوذها حول العالم.
وفي المقابل، على دول الخليج أن تطالب واشنطن بسياسة واضحة ومحددة ودقيقة تجاه قضايا الشرق الأوسط، على أن تكون خالية من التناقضات والتذبذبات التي ميزت الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية على حد سواء.
كما ينبغي ألا تتدخل واشنطن في تفكيك التزامات خليجية قديمة مع القوى الدولية الأخرى نظرًا لما قد يترتب على ذلك من إضرار بالمصالح الخليجية.
وفي السياق ذاته، بإمكان إسرائيل، وبموجب اتفاقيات السلام المبرمة إقليميًا، أن تلعب دورًا كبيرًا في تقريب وجهات النظر الخليجية مع نظيرتها الأميركية حول بعض القضايا الإقليمية.
وأخيرًا، يمر النظام الدولي حاليًا من دون أدنى شك بمرحلة انتقالية مهمة ستفرز نظاماً جديداً أقل ما فيه أنه سيكون نظامًا متعدد الأقطاب.
فإذا ما تبنت دول الخليج رؤية مشتركة، وعملت على الحفاظ على التوازن بين قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، فإنها ستصبح قادرة على تفكيك أزمات أمن الطاقة العالمية والتحولات الاقتصادية التي ستعقبها، وستكون قادرة على مواجهة أي تداعيات قد تنتج عن الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب.
ويمكن لدول الخليج أن تحافظ على هذا التوازن وأن تفرض نفسها كفاعل دولي لا غنى عنه في استتباب الأمن العالمي إذا ما أتيح لها المجال لتلعب دورًا في هذا الصدد.
*د. فوزي الزبيدي: خبير استراتيجي وباحث يعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، متخصص في عمليتي التحليل السياسي والتخطيط الاستراتيجي لسياسات الأمن القومي، ولديه خبرة معمقة في الشأنين العراقي والإيراني والقضايا ذات الصلة.