الرئيسة \  مشاركات  \  التفكيرُ المُسطَّح في المسائل المعقّدة الخطيرة.. أشدُّ خطورةً من المسائل نفسِها

التفكيرُ المُسطَّح في المسائل المعقّدة الخطيرة.. أشدُّ خطورةً من المسائل نفسِها

25.11.2017
عبدالله عيسى السلامة




        أ) لمحة :
   قضايا الحياة كثيرة جدّاً ، متنوعة جدّاً . منها السهل البسيط الواضح ، ومنها الصعب المعقد الشائك .. منها العاديّ الهيّن ، ومنها الخطير والمدمّر ..
وكل نمط من هذه القضايا ، يحتاج إلى ما يكافئه من أنماط التفكير الإنساني ..
وإذا كان التفكير في القضيّة أو المسألة المعروضة ، يقتضي موقفاً عملياً على الأرض ، لمعالجة القضية واقعيّاً أو حسيّاً .. فإن التفكير السهل المسطـّح سيجرَّ بالضرورة – وبحسب الأصل – موقفاً سهلا ًمسطحاً . فإذا كانت القضيّة معقدة وخطرة ، فإن معالجتها بالموقف ـ أوالسلوك ـ السهل المسطح، ستزيد من تعقيدها وخطورتها، بل ربما تؤدي إلى أنواع من الخطر لم تكن في الحسبان .وبالمقابل، فإ نّ   المسألة البسيطة الواضحة ، لا يجدي فيها كثيراً التفكير العميق والمعقّد ،لأنه سينقلها من دائرة البساطة والوضوح ، إلى دائرة الصعوبة والتعقيد ، وفي ذلك ما فيه من إضاعة للوقت والجهد بشكل عبثي غير ذي جدوى .
وفي بعض أنواع القوانين ، هناك ما يسمى ب" قانون الملاء مة " ، أي معالجة أيَّة قضيّة بما يناسبها من الاهتمام والجهد . فمن غير المناسب مثلا ً أن يفكرعاقل بأن  " يصطاد عصفوراً بمدفع " كما يرد في بعض الأمثال الغربيّة . كما أن محاولة صيد الفيل بكبسولة صغيرة مما تـُصطاد به العصافير ، فيها تفريط وهدر للوقت والجهد ، بلا طائل ؛ لأن الفيل ، لا تصطاده كبسولة صغيرة .. !
           ب ) دور الحكمة في التعامل مع ثـُـنا ئـيّـات الحياة وتعقيداتها :
يقول الله سبحانه وتعالى :" ومن يؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً .."
فالحكمة كنز ثمين ، يحتاجه الإنسان في كل شأن من شؤون حياته ، وتحتاجه الجماعات والمجتمعات والدول ، والبشرية جميعاً ، على مدار العصور .
وإ نّ ثنائيات الحياة كثيرة ، وتعقيداتهاكثيرة :
- فالخطأ والصواب ، كثيراً ما يتلبس أحدهما بالآخر ، وتختلف زوايا الرؤية في تحديد كل منهما ، وفي العلاقة بينهما ، وفي النسبـيّة الكامنة في كل   منهما .. وكل هذا يختلف باختلاف البشروأفهامهم وأحوالهم وثقافاتهم..    وكذلك الحق والباطل ..والشأن فيهما كشأن الخطأ والصواب ،في التداخل والنسبية.. وكذلك الشأ ن في أمر الدنيا والآخرة ، وفي أمر الهدى والضلال .                                                                  - فلو كان الخطأ واضحاً تماما ، والصواب واضحاً تما ماً ، لكل البشر، لما اختلف فيهما العقلاء من البشر..
         - ولو كان الحق واضحاً ، والباطل واضحاً ، بشكل تام، لما اختلف البشر حولهما ، ولما تنازعوا ..
 - ولو كان شأن الدنيا معزولاً عن شأن الآخرة ، لكان سهلاً على كل فرد أن يختار الطريق الذي يرتاح له . يقول تعالى: "وابتغ ِفيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنسَ نصيبكَ من الدنيا .. " . وإذ َنْ لاختار طالب الدنيا دنياه خالصة بكل مافيها من متاع دون خوف من عذاب الآخرة . ولاختارطالب الآخرة آ خرته دون التلبس بأمر من أمور الدنيا  ، سوى ما يَسدّ رمقه  ويحفظ جسمه من الحرّ والبرد وهَوا م ّ الأرض ، يعيش راهباً منعزلاً عن الناس ودنياهم ..
 - ولو كانت معالمُ الكفر والإيمان واضحة ً للبشر جميعاً ، وحدودُ كلٍّ منهما واضحة محددة ،  لما اختلفوا حولهما ، ولما ا قـتـتـلوا .. وإذنْ لاختارَ أهلُ الإيمان إيمانهم عن بيّـنة ، واختار أهلُ الكفر كفرهم عن بيّـنة .. ولما عـبَد بعضُ الناس الحجرَ والشجر والبقر والبشر .. وهُمْ يَظنون أنهم يُحسنون  صُـنعاً ، أو أنهم يتقربون ، بذلك ، إلى الله عزّ وجل ّ ..!
- كما أن ترتيب الأولويات والتعامل معها ، والاهتمام بها بحسب (أهميّة) كل منها (وخطورته )  و (استعجاله) .. كل ذلك يحتاج إلى حكمة ورويّة ..
  فهناك من الأمور ماهو : هامّ ، خطير ، مستعجل ..
ومنها ماهو : هام ّ، مستعجل ، غير خطير ..
وكل ذلك ، بحسب نظرة كل فرد إلى الحالة المعروضة ، وبحسب فهمه ، وبحسب قدرته على تقويم الأمور ..
ومن الأمور ماهو : فرديّ ،أسَري ، قـبَـلي ّ، حزبي ، وطني ..
فمنها ما يغلب فيه الطابع الفردي على ما عداه ..
ومنها ما يغلب فيه الطابع القبلي ،أو الحزبي ..
ومنها ما يغلب فيه الطابع الوطني العام ..
والتعامل مع هذه الأمور يحتاج إلى حكمة ورويّة كذلك .. فقد تـَجر نزعة ٌ فرديّة خاصّة ،أسرة ًبكاملها أو قبيلة ، أو دولة .. إلى كارثة محققة ..
وقد يُضرّ شأنٌ حزبيّ أو قبليّ ، بمجموعة كبيرة من البشر ، أو بالوطن كله ..
وهكذا نرى الأمور تتداخل تداخلا ًعجيباً فيما بينها ، وتحتاج إلى حكمة الحكماء ، وعلم العلماء، للتبصر فيها ومعالجتها ..
سهلٌ أن يقول قائل : هذا خطأ وذاك صواب .. ويبني موقفه على هذا الأساس .
وسهلٌ أن يختـلف فريقان من البشر ، حول مسألة ما ، فيراها أحدهما حقاً خالصاً
ويراها الآخر باطلا ًمحضاً .. ويبني كل منهما موقفاً راسخاً بناء على تصوّره واعتقاده.. وقد تنشأ نزاعات وتشتعل حروب حول هذه التصورات . 
ومع أن الخطأ المحض والصواب المحض ، قليلان جدّ اً في الاجتهادات البشريّة،  وكذلك الحق الخالص والباطل الخالص .. فكثيراً ما يتلبس الحق بالباطل ، بشكله أو معناه ، فيلتبس أمرُهما على الحكماء ، فضلا عن عامّة البشر ..
وما أكثرَ ما تقال كلمة ُحق ّ ، ويراد بها باطل ..
وقد قال ربنا عزَّ وجلَّ : " قلْ هل ننـَبئكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضلَّ سعيُهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ً " .الكهف /104 /
      ج)  الحوا ر :
وهنا يأتي دورُ الحوار وأهميته في التعامل بين الناس ..
فالله عزّ وجل ّ أقام الحجة على عبادة بكلماته ..
والرسل كلهم جاؤوا مبلـِّغين عن ربهم ، محذ ّرين  ومنذرين ، بالكلمة والحجّة والبرهان ..
والناس جميعاً مأمورون عقلا ًوشرعاً بالتحاور فيما بينهم، لحلّ الخلافات الناشئة عن اختلاف الأفهام حول شؤون حياتهم . وإذا كان ثمّة بشر لا تشريع سماويّاً ، لديهم ، يؤمنون به ، فلديهم ، مع عقولهم ، قوانين تفرضها الدول ، أو أعراف تضعها المجتمعات القبليّة ..!
      د) لكن .. مَن يحاور مَن ؟ وكيف ؟
أنواع الحوار مختلفة ، وأساليبه شتـّى ، وهو يختلف من حالة إلى أخرى ، ومن هدف إلى آخر..
فالحوار بين المدرس أو العالم ، وطلابه الذين يعلمهم ، يختلف عن الحوار بين المحامين الأنداد في ساحة قضاء ، وهذا يختلف بدوره عن مناظرات العلماء في مسائل علميّة دقيقة ، كما يختلف هذا أيضاً عن حوار الأزواج فيما بينهم ، وعن حوار الآباء والأبناء ..
وإذا كان من آداب الحوار وشروطه ، أن ينصبّ الكلام  فيه حول المسائل المطروحة على بساط البحث ، دون المساس بشخصيات المتحاورين .. فإن من آدابه وشروطه أيضاً، ألا ّينفرد أحد الفرقاء المتحاورين بمنبر عام ، " جريدة – مجلــّة – إذاعة – تلفاز .." ، يوجّه من خلاله آراءه وانتقاداته إلى الفريق الآخر مفنداً حجَجَه وآراءه ومواقفه .. بينما يُحرم ذلك الفريق من مثل هذا المنبر ، فلا يصل صوته إلى الناس ، ولا يسمعون رأيه أو حجّتـه . وقد يكون صوابُه أوضحَ من صواب صاحب المنبر ، وحقـّه أقوى من حقّ صاحب المنبر أيضاً ، فالعدالة تقتضي تكافؤ الفرص بين أصحاب الحجج والآراء .. وإلا ّ انطبقَ على صاحب المنبر الذي يتحدّث وحدَه ويشنّع على خصمه الغائب ، قولُ الشاعر :
وإذا ما خَلا الجبانُ بأرض ٍ      طلبَ الطعنَ وحدَه والنّـزالا
          هـ ) نماذج :
     1 - حوارالسلطة الحاكمة مع معارضيها " في الدول المحكومة بسلطات      مستبدّة " :
إن السلطة تملك وسائل إعلام الدولة كلها ، في الدول التي تحكمها سلطات استبداديّة ، فهي تستقوي على خصومها ومعارضيها ، من مواطنيها ، بما تملكه من أجهزة الإعلام المختلفة المملوكة للدولة . فتتحدث كما تشاء ، وتهاجم خصومها كما تشاء ، وتوصل آراءها وقناعاتها إلى آذان مستمعيها وعيونهم داخل البلاد وخارجها ، دون أن يكون لخصومها مثل هذه الفرص في إيصال صوتهم إلى الناس ..
وهذا ، بالطبع ، إجحاف بيّن ، وظلم واضح فاحش ، ولا يحمل أيّة صفة من صفات الحوار الموضوعيّ الجادّ ، إنما هو استبداد بشع ، وتسلـّط على عقول الناس وقلوبهم ، دون وازع عقليّ  ، أو شرعيّ ، أو خلقيّ ، أو ذوقيّ ..
        2- ومن هذا القبيل ، يأتي حوار المفكرين والمثقفين ، والعلماء ، والمتعالمين ..
من أصحاب المنابر" " مجلـّة – تلفاز – جريدة – إذاعة " مع نظرائهم الذين      لايملكون منابر توصل أصواتهم إلى الناس .
وفي هذا السياق ، يمكن إيراد مثل واضح محدّد صارخ ، هو ما تمارسه أجهزة إعلام الدول والعاملون فيها والمدعوون للحديث فيها " من علماء ومفكرين ومثقفين وإعلاميين .." ما يمارسه هؤلاء جميعا من عمليات تشنيع وهجوم  واتهام،  ضدّ بعض الجماعات الإسلاميّة " التي يسمونها متطرفة " والتي تتخذ العنف وسيلة للردّ على مضطهديها ، من حكام وأعوانهم داخل الأوطان .. وللردّ على أعداء الأمّة من قوى عالميّة متجبرة معتدية على الإسلام وأهله ..
إنّ ما يمارسه هؤلاء المتحدثون في المنابر العامّة – وكثير منهم متشدقون متعالمون ـ  ضدّ هذه الجماعات التي يسمونها متطرفة ، إنما هو جريمة شرعيّة عقليّة خُـلقيّة بكل المقاييس ..
فالشرع يأبى هذا النوع من الاستبداد الفكري ..
والعقل الإنساني السويّ ، يأنف من هذا العبث البشع الذي يسميه أصحابه
حواراً ..!
والخلق الإنساني النبيل – بلـْهَ الإسلامي – يَربأ بصاحبه عن هذا النوع من الاستبداد المستعلـِن المستعلي المتعجرف .. الذي ينطبق عليه تماماً بيت الشعر المذكور آنفاً .
ولو اطمأن هؤلاء المتحذلقون في وسائل الإعلام ، إلى صحة رأيهم وقوّة حجتهم  لما قبلوا أصلا ًأن يحاوروا غائبين ويلفقوا لهم التهم الشنيعة من " ضلال – انحراف - جهل – تعصب – إجرام – خروج على الشرع .. " دون أن يفسحوا لهم مكاناً في المنابر ذاتها ، لإسماع أصواتهم وحججهم للناس .. (وهي الحجج المتهافتة التي بنى عليها هؤلاء المنحرفون الضالون، مواقفهم الفكرية والعمليةالمنحرفة الضالة، والتي يسهل على فرسان الفضائيات الأفذاذ تفنيدها بسهولة ويسر، مواجهة ً بدلا ًمن الاستقواء على أصحابها وهم غائبون مغيّبون )!
        و ) والنتيجة :
وإذا كانت هذه القضيّة – قضيّة العنف – من القضايا الشائكة ، لاختلاف الاجتهادات الشرعيّة والسياسيّة فيها ، وتباين طرائق النظر إلى المصلحة العامة حاضراً أو مستقبلاً ..
وإذا كانت تحتاج إلى حوار عقول متكافئة وحجج متصارعة ..
وإذا كانت الجهة التي تملك وسائل الإعلام ، تنفرد بعرض حججها وتشنّع على خصومها الغائبين ..
إذا كان ذلك كذلك .. فما النتيجة المتوقعة من هذا كله ؟
       1- سيبقى الفريق الآخر الغائب ، الذي يسمع التشنيع عليه ، والتهم المجانيّة الموجهة إليه دون القدرة على الردّ عليها .. سيبقى على رأيه واقتناعه .. بل سيزداد اقتناعاً بصحة رأيّه ، إزاء الاستبداد الفكري المصاحب للاستبداد السياسي والأمني والعسكري .. وسيزداد صلابة أو تصلباً في مواجهة هذا العبث كله ، إذ العلماء والمفكرون المطلوب منهم إنصافه لدى سماع رأيه ، منحازون بشكل تام إلى جوقة التشنيع الإعلاميّة التي تملكها دولة جعلت من نفسها عدواً لهذا الفريق ، فحشَرَ هؤلاء العلماء والمفكرون أنفسهم في خانة الأعداء ، وانعدم التأثير الإيجابيّ  لكلامهم ، في نفوس الفريق الغائب وعقول أبنائه ، وعقول المحايدين العقلاء المنصفين من أبناء الأمّة، الذين يتابعون هذا الطراز من الحوار العبثي البائس.
       2- ستظلّ المسألة المعروضة على أرض الواقع – مسألة العنف – ستظلّ     قائمة ، لأن الاقتناع بها سيظلّ قائماً في عقول أصحابها المؤمنين بها .. هذا إذا لم يزدادوا صلابة في التمسك بآرائهم .
      3- سيظلّ ا لفرد العاديّ ، الذي يسمع الخطاب الهجومي – المسمّى حواراً – من طرف واحد ، سيظلّ ينظر إلى هذا الخطاب نظرته ، إلى أيّة وسيلة من  وسائل الاستبداد، التي تتخذها السلطات ، لقهر خصومها ..
وسيضيف(أي: الفرد) هؤلاء العلماء والمفكرين ، إلى جوقة الاستبداد ، ويتخذ منهم الموقف ، الذي يتخذه من هذه الجوقة !
فهل هذا التفكير المسطـّح السهل الا تـّـهامي ، الذي تسوّ قه السلطات وعلماؤها ومفكروها .. هل هذا التفكير ، بهذه السطحيّة ، في هذه المسألة الشائكة المعقدة ، أقلّ ضرراً من المسألة ذاتها ، أم مُساو  ،لها ، في الضرر ، أم يتفوق عليها كثيراً ، لأنه يزّيف كل شيء .. الوعيَ ، والخُـلق ، والحقيقة ، والمنطق الإنساني السويّ ، ويؤجج النار التي يتصدّى لإطفائها ؛ إذ يزداد حقد دعاة العنف ، على الجهات التي تحاربهم ، ويضاف إليها عناصر جديدة، هي المجموعات المحسوبة على المفكرين والعلماء .. ولو تعاون العالم كله على ظلمهم ، لما زادهم هذا ، إلاّ إصراراً على تدمير هذا العالم الظالم الفاسد- حسبما يعتقدونه ويحسّون به على أرض الواقع ، وفي كل مكان من حولهم ، بدءاً بأوطانهم وحكّامهم ومفكريهم وعلمائهم ، وكل من ينحاز إلى هذه الجوقة الظالمة .. ! ، وانتهاء بأعتى قوّة متجبّرة على وجه الأرض .. – إذ يضعون نـُصب أعينهم ، في هذه الحال ، قول الشاعر:
وإذا لمْ يكنْ مِن الموتِ بُـدّ       فمِن العجْـز أنْ تموتَ جَبانا