الرئيسة \  مشاركات  \  الرّوحُ المعنويةُ ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (6)

الرّوحُ المعنويةُ ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (6)

31.05.2023
الدكتور محمد بسام يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم
الرّوحُ المعنويةُ
ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (6)
بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف
  
مثال توضيحيّ رقم (1)
عن أهمية الروح المعنوية في الإنجاز، ودور قِيَمِ الإيمان في ذلك
طارق، مهندس ميكانيكيّ يعمل في مصنعٍ لإنتاج الأقمشة، منذ تسع سنوات، وهو ذكيّ ونشيط، يُحبّ عَمَلَه، كما يُحبّ مُديرَهُ الذي لا يبخل عليه في تقويم إنجازاته، فهو يمدحه بحماسةٍ أمام مسؤوليه، ويعمل على تحصيل ترفيعاتٍ سنويةٍ له.
وطارق يُحب المصنع الذي يعمل فيه، لأنه يحتوي على المكائن المتطورة، التي أُدْخِلَ الحاسوب إليها مؤخّراً. وهو متزوج وله طفل وطفلة، ينام مُبكّراً ويصحو مُبكّراً، وعندما يلتحق بعمله المبكّر، غالباً ما يُفاجَأ بأنّ مديره المهندس المخضرم مَنصور، قد سبقه إلى تشغيل المكائن وتهيئتها للعمل، والعمّال كلهم يحبّون المهندس طارق ويبذلون معه جهوداً كبيرة، وبخاصةٍ عندما يُتَّخذ قرار، لإنتاج أنواعٍ خاصةٍ من الأقمشة غير المتوافرة في الأسواق.
في شهر تموز الفائت، استدعى المديرُ طارقاً، ليبلّغه أنّ إحدى الشركات التجارية الكبيرة في إسبانية، اطّلعت على إنتاج المصنع من الأقمشة، وتريد أن تُبرِم مع إدارته عَقداً لتصدير أنواعٍ راقيةٍ منها، وأنّ على المصنع أن يُقدّم، خلال شهرٍ واحدٍ، نماذج من الأقمشة للشركة الإسبانية، لدراستها وتقرير الموافقة أو عدمها، على إبرام العقد، لتصدير القماش إلى إسبانية، ومدّة العقد خمس سنواتٍ يمكن تجديدها. وهو من العقود المغرية جداً، إذ إنه سيُحدِث نقلةً نوعيةً في تطوير الإنتاج وتسويقه.
بعد ثلاثة أسابيع من الاستنفار الكامل للمهندس طارق مع عمّال المصنع، قُدِّمَت النماذج إلى الشركة الإسبانية، التي أجابت بالموافقة على إبرام العقود.
خلال أشهر، كان المهندس طارق والعمّال، يعملون حِصّةً إضافيةً ليلية، لإعداد التصاميم وتنفيذها، وذلك بعد الرجوع إلى بعض الدراسات والـمَـراجع العالمية المشهورة، الخاصة بصناعة الأقمشة، كما أنّهم كانوا يداومون أيام الجمعة مدة ست ساعاتٍ إضافية. ومن الجدير بالذكر أن زوجة طارق كانت تشكو وتتذمّر خلال تلك الفترة، بسبب غيابه ساعاتٍ طويلةٍ عن البيت، وبسبب الزيارات الليلية المتكررة المتبادلة مع مدير المصنع.
في النتيجة، نجد أنّ المهندس طارق، قد أنجز عملاً مرموقاً، كان السبب في النجاح التامّ، في إبرام عَقدٍ رابحٍ للمصنع، مع الشركة الإسبانية الشهيرة، وهذا الإنجاز كان نقطة تحوّلٍ مهمّةٍ في عمل المصنع، وفي مقدار الإنتاج ونوعيّته، وأوضاع العاملين فيه.
*     *     *
باستعراض وقائع المثال من أولّه إلى آخره، نلاحظ أنّ جميع العاملين في المصنع: مُديراً ومُهندساً مسؤولاً وعُمّالاً، كانوا يعملون بروحٍ معنويةٍ عالية، ساعدتهم على الإنجاز الكبير، وقد تولّدت هذه الروح المعنوية عند المهندس طارق ممّا يأتي:
1-الاختصاص والخبرة: فهو يعمل في اختصاصه نفسه منذ تسع سنوات.
2-الكفاءة: فهو مهندس كُفُؤ وذكيّ.
3-التشجيع والمكافآت: التي لم يبخل مديره عليه بها، فهو يمدحه باستمرار ويـُحَصِّل له الترفيعات المستمرّة.
4-الإمكانيات الجيدة: سواء أكانت لدى المهندس طارق، أو لدى مديره المهندس منصور، فضلاً عن الإمكانيات المادية الخاصة بالمصنع، الذي يحتوي على المكائن المتطوّرة.
5-الاستقرار النفسيّ: الناجم عن الأجواء التعاملية الإيجابية السائدة في المصنع، وعن العلاقة الجيدة مع المدير، وعن حياته الأسرية والاجتماعية الهادئة، بدليل أنه ينام مبكّراً ويصحو مبكّراً، بانتظام، فلا تعكير ولا مُنغِّصاتٍ في حياته الاجتماعية العامة.
6-القدوة الحسنة: المتمثلة في مديره الكُفُؤ النشيط المنظَّم، أولاً، والحريص على النجاح، ثانياً، بدليل أنّ المهندس طارق، كان غالباً ما يُفاجَأ بمديره وقد سبقه في الالتحاق بالعمل وتشغيل المكائن، والسهر معه ليلاً أثناء الإعداد لإنتاج النماذج، إذ كان يتبادل معه الزيارات الليلية كثيراً بقصد العمل المشترك، لدرجة أنّ زوجة طارق كانت تتذمّر أحياناً بسبب زيارات العمل الليلية المتكرّرة.
7-التعاون: ما بين المهندس طارق ومديره من جهة، وما بينه والعمال من جهةٍ ثانية، الذين كانوا يبذلون كلَّ جهدٍ ممكنٍ لإنجاز العمل، بل كانوا يقومون بأعمالٍ إضافيةٍ ليلاً وأيام الجمعة.
8-توافر الأنصار: فالمهندس المخضرم منصور، مدير المصنع، كان نصيراً مخلصاً للمهندس طارق، والعمّال جميعاً كانوا أنصاراً له أيضاً، ببذل جهودهم المضاعَفَة والمتميّزة.
9-الإعداد الجيد: سواء بمضاعفة الجهود والقيام بأعمالٍ تصنيعيةٍ ليليةٍ إضافية، فضلاً عن العمل أيام الجمعة، أو بالتشاور المستمرّ بين المهندس طارق ومديره، أو بالرجوع إلى الدراسات والـمَراجع الأجنبية للاستفادة منها في مجال صناعة الأقمشة.
10- توافر القناعة بالعمل وبالهدف: فالاقتناع بالعمل متوافر أصلاً، وإنّ تحقيق الهدف، وهو النجاح في إبرام العقد المتميّز مع الشركة الإسبانية، كان يراود جميع العاملين، لتحقيقه.
11- الاستيعاب ووضوح الهدف: فالمهندس طارق مع جميع العاملين مستوعبون عملهم وهدفهم لإنجازه، ومن ثمّ، تحقيق النقلة النوعية في تطوير الإنتاج وتسويقه، الذي سينعكس عليهم وعلى أوضاعهم الاجتماعية والمعاشية.
12- النجاح والانتصار والإحساس بالإنجاز: فالمهندس طارق ذكيّ ونشيط، وقد حقّق نجاحاتٍ سابقة، لإنتاج أصنافٍ من الأقمشة غير متوافرةٍ في الأسواق.
13- الثقة بالنفس: كانت واضحةً لدى جميع العاملين، لاسيما أنّ النجاحات السابقة التي حقّقوها للمصنع، كانت تُعزّز هذه الثقة العالية باستمرار.
*     *     *
ومن الجدير بالذكر، ومن خلال المتابعة، عُرِفَ أنه كانت تُقام الصلاة في أوقاتها يومياً، في مسجدٍ شُيِّد في المصنع نفسه، وأنّ جميع العاملين، مديراً ومهندساً مسؤولاً وعُمّالاً، كانوا ملتزمين بصلاة الجماعة.
كما كان أحد علماء الدين الفعّالين، يُلقي عليهم درساً يومياً بعد الدوام الرسميّ، يرُكّز فيه على الصفات الخُلُقية والسلوكية الإسلامية، التي يجب أن يتحلّوا بها في حياتهم العملية، لأنّ اللّه عزّ وجلّ (يُحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكُم عملاً أن يُتقِنَهُ). وعُرف فيما بعد، أنّ هذا المصنع كان أحد مشاريع العمل الخيريّ لإحدى الجمعيات الناشطة، التي تستثمر أموالها لصالح الفقراء والمحتاجين وأعمال الأمر بالمعروف والنّهي عن الـمُنكَر، في سبيل اللّه، وأنّ المسؤولين عن تلك الجمعية،كانوا قد عقدوا لقاءً موسّعاً مع جميع العاملين في المصنع، يَحثونهم على زيادة الإنتاج وتحسينه، لأنّ الشريحة التي تستفيد من عائدات هذا المشروع الصناعيّ قد توسّعت كثيراً، ولا بد من تطوير العمل كَمّاً ونَوْعاً، للوفاء بالالتزامات المتعدّدة.
ولم ينسَ المسؤولون أولئك، التذكير بالأهمية العظيمة لأهداف الجمعية في المجتمع، التي ينتمي إليها كلّ العاملين في المصنع، ولم يغفلوا عن التذكير بأنّ الأجر والثواب عند اللّه سيكون أكبر وأكبر من زيادات الرواتب المقرّرة، فعملهم جميعاً هو جهاد بالمال والوقت، في سبيل اللّه عزّ وجلّ.
*     *     *
كما تبيّن أنّ الإنجاز الكبير الذي تحقق من قِبل المصنع، كانت وراءه أسباب أخرى رفعت من درجة الروح المعنوية لدى العاملين، انعكاساً للبُعد الإيمانيّ العظيم، الذي كان يتداخل في مراحل العمل كلها، من أوله إلى آخره:
- فالعاملون جميعاً كانوا مؤمنين، ومُلتزمين حقّ الالتزام بموجبات إيمانهم: (صلاة الجماعة، وجود المسجد في المصنع، الدرس الدينيّ الأخلاقيّ اليوميّ،..).
- وكانوا جميعاً يعرفون المعنى الحقيقيّ للأخلاق الإسلامية العملية: أمانة، وصدق، وقوّة، وإخلاص، وصبر، ويقين، وتَوكُّل، واستقامة، وإحساس برقابة اللّه سبحانه وتعالى، وتعاون على تحقيق هدفٍ واحدٍ مُوَحَّد.. وماشابه.
- وأهمّ ما في الأمر، أنهم كانوا يعملون لتحقيق أهدافٍ آمنوا بها: وهي توفير الأموال للفقراء والمحتاجين، وللأعمال السامية النبيلة في سبيل اللّه.
- وكان من المهمّ أيضاً، أنّهم كانوا يعملون لوجه اللّه عزّ وجلّ وحده، وينتظرون ثوابه مهما كانت النتائج.
إنّها الصفات الإيمانية التي كان لها الدور الكبير في تحقيق هذا الإنجاز، فعملت على ظهوره بأفضل صورةٍ ممكنة، عن طريق تحقيق أفضل الشروط لإنجاز الأعمال مهما كانت كبيرة.
وإنّه الإيمان الذي يفعل فعله القويّ، الذي بدونه ستبقى هناك ثغرات في النفس الإنسانية، تنفذ منها السلبيات، فتنال من الروح المعنوية لهذه النفس البشرية، وبالتالي تُخفض من درجة إنجازها ورُقيِّه.
*     *     *
-يتبع إن شاء الله.