الرئيسة \  دراسات  \  الشورى الإسلامية آلية تنزيل وتقرير ودعوة ومدافعة

الشورى الإسلامية آلية تنزيل وتقرير ودعوة ومدافعة

29.09.2015
عبد الكريم مطيع الحمداوي



 
هل يعقل أن يقتنع متفقه في دينه بأن النظام السياسي الإسلامي بقي أكثر من ثلاثة قرون مفتقدا لآلية  تنزيل شرعية للشورى إلى أن ظهر الماوردي فجعلها حقا للحاكم قياسا على ولاية الأب إذ يزوج ابنته البكر، أو بقي أربعة عشر قرنا إلى أن جاء من اقتبس لها من الفلسفة اليونانية آلية ديمقراطية للتنزيل ؟
 
رفع كثير من الإسلاميين شعار تجديد الفكر السياسي وتحديثه توطئة لقيام دولة إسلامية حرة الإرادة سوية التصرف عادلة النظم والأحكام، ثم ذهبت بهم السبل في تصور هذا الشعار مذاهب شتى، رئي عند بعضهم خلافة إسلامية غير واضحة المعالم على نهج ما دونه الماوردي ومن سار على نهجه من الفقهاء والمتكلمين، ورئي عند آخرين إمامة معصومة متصلة بالعقل الفعال كما بشر به الفارابي والفلاسفة المسلمون الأوائل متأثرين بالطوباوية اليونانية، ورئي عند غلاة التحديث والعصرنة أخذا بالديمقراطية الغربية فلسفة وأدوات حينا، واكتفاء بآليتها التنظيمية حينا آخر، إلا أن تجربة جميع هذه الرؤى والاقتراحات ماضيا وحاضرا فشلت في إقامة نظام سياسي يحفظ للأمة حقها في التسلط على أمرها الدنيوي والتشاور فيه تقريرا وتسييرا ومراقبة ومحاسبة وتطويرا، رغم ما ادُّعِيَ من انتساب ذلك إلى الدين أو إلى الأمة أو إلى الحداثة، أو مجالس الشورى السلطانية والبرلمانية، وظلت جميع هذه التجارب إعادة إنتاج للاستبداد والتبعية والتسلط، لعجزها عن وضع صيغة شوروية تنتظم الحكم الإسلامي الرشيد الذي يحفظ للدين حرمته وثوابته، وللأمة حقها في سياسة أمرها الدنيوي حرة كريمة.
 
ولئن كانت الشورى هي جوهر النظام السياسي الإسلامي ومبناه، بدونها على شكلها الصحيح يتعذر نسبته إلى الإسلام بقيمه ومثله وأهدافه ومقاصده ، فإن فقهها لحد الآن لم يستطع أن يضع لتنزيلها في أرض الواقع آلية مستنبطة من الكتاب والسنة استنباطا سليما، كما أن ما يزعمه حاليا بعض المتحمسين للحداثة من أن تنزيلها مفتقر إلى الآلية الديمقراطية، فيه كثير من الجراءة على اتهام الإسلام بالنقص والقرآن بعدم إتمام الدين والرسول صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ في أخص خصائص الأمة الإسلامية المتعلقة بتسيير أمرها الجامع، فهل يعقل أن يقتنع متفقه في دينه بأن النظام السياسي الإسلامي بقي أكثر من ثلاثة قرون مفتقدا لآلية  تنزيل شرعية للشورى إلى أن ظهر الماوردي ومن سار على نهجه فجعل الشورى ملزمة أو غير ملزمة حقا للحاكم بصفته وليا للأمة قياسا على ولاية الأب إذ يزوج ابنته البكر، أو بقي أربعة عشر قرنا إلى أن جاء مفكرونا المعاصرون فاقتبسوا لها من الفلسفة اليونانية آلية ديمقراطية للتنزيل على اعتبار أن الديمقراطية هي الشورى والعمل بها هو عين النظام السياسي الإسلامي.
 
إلا أن ما نسجه الفقهاء والمتكلمون قديما ومنظروا الديمقراطية "الإسلامية"حديثا قد نسفه ابن خلدون في مقدمته ونزع عنه صفته الدينية، وأضفى على الأمر صفته الدنيوية في التدافع السياسي المبني على حب الرئاسة والغلب والتوسل بالعصبية بعيدا عن جوهر الدين وأحكامه وأهدافه، وذلك عندما صاغ نظريته في نشوء الدول على العصبية بقوله:[[1]] " إن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب لا يكون إلا بالعصبية، وزعم أن أعمار الدول كأعمار الأشخاص في التزيد إلى سن الوقوف ثم إلى سن الرجوع هرما وانقراضا[[2]]، وبذلك لامس بكثير من الوضوح، أهم معضلة سياسية يعانيها الفكر السياسي لدى المسلمين وإن لم يضع لها حلا، معضلة نشوء الدولة وشرعية تأسيسها واندثارها.
 
ولئن كانت نظريته تصب في اتجاه النشأة الفوقية، شأن نظم الاستبداد عادة، لأن العصبية القبلية لديه معززة بالدعوة الدينية، لا تنتج إلا سلطة عليا مهيمنة ومتحكمة، فإن مختلف أصناف الفكر السياسي الذي عرفته الساحة الإسلامية منذ سقوط الخلافة الراشدة كان على هذا النهج أو ما يقاربه.
 
ذلك أن نظم الملك الجبري والعضوض التي نشأت في المجتمع الإسلامي مبكرا لم يكن فقه الأحكام السلطانية الذي نشأ عنها وبتأثيرها إلا تبريرا لسلطتها الغاشمة الفوقية وحماية أيديولوجية لها.
 
لقد نشأت النظم السياسية كلها لدى المسلمين على هذا الاتجاه  الذي كشف حقيقته ابن خلدون، خارج المجتمع المسلم وفوقه، ثم انغرست مقلوبة في أرض الواقع بقوة القهر والغلبة، جذورها في الهواء وفروعها في الماء. كما هو شأن النظم الوضعية التي سادت في الأرض قبل البعثة النبوية والخلافة الراشدة وبعدهما.
 
كذلك باختلاف يسير نشأت النظم الديمقراطية التعددية، يقوم حزب تحت غطاء ديماغوجي وقيادة فردية ودعم خلفي من جهاز رسمي أو جماعة ضغط ذات مصلحة، ببسط هيمنته على الدولة، والانغراس مقلوبا في أرض الواقع.
 
ولئن كانت الديمقراطية في جوهرها متعارضة مع طبيعة المجتمعات المسلمة - كما يقول كثير من الإسلاميين المعاصرين - لكونها تعني سيادة الشعب المحتكرة بيد الحزب الحاكم وقيادته على حساب سيادة الشرع وحاكميته، فإنها في موطنها على الأقل وصلت من التطور حدا جعلها تستطيع تحقيق نوع من التداول الطوعي على السلطة بين قادة الأحزاب والمنظمات.
 
أما في الدول الإسلامية عربية وعجمية، فإنها لم تستطع أن تؤثر في رأس السلطة إيجابا أو سلبا، وبقيت محاصرة في دائرة معارك طواحين الهواء، برلمانات وأحزابا وصحفا خجولة متعثرة.
 
كذلك كان النشاط الفكري لدعاتها في أوطاننا، منذ بروز هذا الاتجاه في بداية القرن التاسع عشر على يد الكواكبي والطهطاوي وعبده والأفغاني ورضا، إذ لم يتجاوز لحد الآن محاولة مزاوجة فجة بين الاستبداد السافر في الأحكام السلطانية التراثية والاستبداد المقنع في ديمقراطية بلد المنشأ.
 
طفحت كذلك في مجتمعاتنا فكرا وممارسة دول اشتراكية ماركسية تحمل خصائص الاستبداد، وطبائع الأجسام الغريبة التي تغرس في الفضاء مقلوبة، أنف في الماء وقاعدة في السماء، فلم يتم لها نتاج.
 
ينطبق الحال كذلك على دول قومية لم تسلم من عاهة الاغتراب عن الأرض والمجتمع، أسسها مغامرون تسللوا إلى السلطة مستثمرين فساد أنظمة لأحكام سلطانية سادت في عصرهم، كما في الحالة التركية آخر أيام العثمانيين.
 
هذه النماذج السياسية التي عرفتها الساحة المسلمة فشلت كلها في إسعاد شعوبها كما أخفقت في إقامة الأمة الشاهدة والدولة الرائدة التي تقف أمام غيرها من الدول بندية وكفاية وكامل سيادة وتمام حرمة.
 
ولئن ظهرت حاليا دعوات جديدة تنظر لنظام تلفيقي من جميع هذه التجارب الفاشلة، يجمع بين الهوية الثقافية الإسلامية، والهوية الذاتية القومية، والهوية الاجتماعية والاقتصادية ماركسية ولبرالية كما دعا إليه بعض العلمانيين المغاربة أخيرا، فإنما ذلك مجرد جمع للأصفار إلى بعضها، وشطح بهلواني ينتج كيانا أشوه غير قابل للحياة، فيه شركاء متشاكسون وعقائد متعارضة متضاربة ومناهج متناقضة، حتى لو زرع في التربة لا في الهواء – على رغم استحالة ذلك - فإن التربة تمجه وتلفظه.
 
كل هذه النظم التي عرفتها الساحة المسلمة – سلطانية وديمقراطية وقومية واشتراكية وتلفيقية – نشأت أولا عن طموح غير مشروع للتسلط من قبل مؤسسيها، ثم وُرِّثَتْ للأبناء من بعدهم بمختلف ضروب التحايل والقهر والقمع، ملكيات كانت أو جمهوريات أو مشيخات أو إمارات، وغرست ثانيا في الأرض مقلوبة، أعلاها في الماء وجذورها في السماء، وهي لذلك لا تشعر بشعور الأمة ولا تمثل ضميرها وآمالها وآلامها وما تتوق إليه.
 
من ثم يبدو جليا خطأ مطالبة بعض الحركات الإسلامية المعاصرة ومفكريها بتطبيق الشريعة في ظل هذه النظم، لأن طبيعة نشأة هذه الأنظمة ونهجها لا تمكنها موضوعيا من تطبيق الشريعة والقيام بمستلزماتها، كما أن افتقادها لشرعية الوجود يجعلها في حالة تناف مع نفسها إذا ما حاولت تطبيق الشريعة.
 
هذه هي المعضلة التي تعانيها شعوب المسلمين وتغفلها دعوات المفكرين والدعاة، فهل يعقل أن يطبق الشريعة من لا يؤمن بها أو من يفتقد في أساس كيانه ونشأته الشرعية؟ وهل يعقل أن النظام السياسي في الإسلام لا يمتلك آلية لتنزيل شوراه إلا إذا رقعناه بالآلية الديمقراطية أو باجتهادات الماوردي ومن نحا نحوه؟  لذلك كانت نقطة البدء في كل إصلاح، تأسيس النظام الشرعي القادر على تطبيق الشرعية والشريعة، وإقامة أمر الإسلام الجامع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بآلية شوروية نزلت مع أحكامه في الكتاب والسنة،
 
إن شرعية أي نظام لا تتأتى من عبارات تدبج في الدساتير، أو يرطن بها في الخطب والتصريحات، أو تعرض جيدة التنسيق في المجلات والصحف، ولكنها تتحقق من طبيعة نشأته وبداية أمره ومراحل نموه وتفاعله مع مجتمعه، وتعامله مع منهج ربه.
 
إن النظام الإسلامي - على عكس النظم الأخرى – تماثل نشأته نشأة النبات، تدفن بذرته في التراب أولا، لأن مبدأ الحياة دائما أن تنغرس بذرته في عمق الأرض والأرحام، وما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ولا تنبعث فيه حياة، ثم يرمي جذوره ويخرج شطأه، ويمد فروعه في الفضاء الرحب، ينشر الفيء والظلال، ويغدق على الكائنات الحية الخير والثمار والغلال، وهو بذلك مائدة الله للكون، مهداة بخير عميم، وتعايش حر كريم، لا خوف ولا غبن ولا ظلم ولا غصب، للمؤمن وغير المؤمن، للأسود والأبيض والأحمر على السواء.
 
إن أول خطوات التأسيس الشرعي للدولة أن تنشأ الجماعة المسلمة ( الأمة) حول بذرة العقيدة وتتفاعل بها ومعها ومن أجلها، وتنظم شأنها العام بواسطة الشورى الجماعية قرارا وتنفيذا ومحاسبة ومراقبة، بمنأى عن التراتبية السلطوية الهرمية، بما يحقق التعاطي الإيجابي البناء بين الأمة وقيادتها الخدمية التنفيذية، دون احتكار للخيرات، أو مصادرة للرأي والحريات، أو سقوط في شراك الفتن الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو الطبقية أو الحزبية، لأن كافة المواطنين في دولة الشرعية سواسية أمام عقيدة سمحة وشريعة عادلة ونظام هو ملك لهم جميعا.

ذلك ما نصت عليه وعملت به أول وثيقة نبوية نظمت حياة الناس في الأرض، وثيقة المدينة [[3]] التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى للهجرة إلى يثرب، تنظيما لساكنتها من المسلمين وغير المسلمين، لجما لطغيان الطوائف والعصبيات على بعضها، وإقرارا لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، في سماحة وعدالة لم تعرفهما أحدث القوانين الوضعية المعاصرة ولم تقترب منها.
 
إن هذه الوثيقة لم تشر من قريب أو بعيد إلى حكومة أو رئاسة أو مجالس أهل حل وعقد أو مسؤولين على صعيد المناطق والقبائل والجيوش والدواوين، بل أرست قواعد المجتمع المتكامل المكون لجميع الأطياف مهاجرين وأنصارا ، ومن لحق بهم واعتنق دعوتهم، أو جاورهم أو ساكنهم من ذوي الديانات المخالفة يهودا ومشركين، في ظل المواطنة الصالحة تكافلا وتعاونا وتناصرا، تقريرا وتنفيذا. من غير ظلم أو حيف أو تخاذل أو تعال واستكبار ، مع المحافظة على نقطة الارتكاز العقدي بما يحفظ للأمة مبدأ ولائها وبرائها، ويعصمها من التحلل والذوبان.
 
لقد كانت هذه الوثيقة المدونة أول تعاقد سياسي رسمي أسس للدولة في الإسلام أركانها وقواعدها ومنهج سيرها. قال محمد بن إسحاق فيما أورده ابن كثير:
 
( كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم ).
 
أما المبادئ المميزة والخطوط العريضة التي رسمتها هذه الوثيقة فيمكن تلخيصها في النقط التالية:
 
1 – مبدأ المواطنة المشتركة في الدولة الإسلامية:
يقول صلى الله عليه وسلم إنها بين:
- المؤمنين والمسلمين من قريش( أي المهاجرين)، ويثرب( أي الأنصار)، ومن تبعهم ولحق بهم( أي من عامة الناس)،وجاهد معهم( بالدفاع عن الإسلام والمسلمين).
- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
 
بهذه النصوص الواضحة الصريحة تبلورت لأول مرة في التاريخ فكرة المواطنة بمعناها الحضاري، حقا في الإقامة على أرض مخصوصة، واكتسابا لجنسيتها، وتمتعا بالعضوية الكاملة في المجتمع، على أساس المساواة والتعاون المشترك، من غير تمييز بين الألوان والأعراق والأديان، مما لم تستطع الديمقراطية اليونانية استيعابه، ولم تفكر فيه الديمقراطية الحديثة إلا في القرن العشرين، أما الديمقراطيات الهجينة المستنسخة في العالم الثالث فلم تستوعبه لحد الآن.
 
2 – مبدأ التكافل الاجتماعي، تقول الصحيفة:
- وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
- وأن بينهم ( أي المسلمين وغير المسلمين ) النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وأن الجار ( أي مسلما كان أو غير مسلم ) كالنفس غير مضار ولا آثم.
- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالديون كثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
- وأن المؤمنين يبـيء ( أي يساوي ) بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله.
- وأن النصر للمظلوم.
 
3 – مبدأ المحافظة على أمن الدولة والمجتمع، تقول الصحيفة:
- وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
- وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
- وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم ولو كان ولد أحدهم.
- وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
 
4 – مبدأ المساواة والتسيير الذاتي للمجتمع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
- وأن المؤمنين يبـيء ( أي يساوي) بعضهم بعضا.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاملون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار، بني ساعدة وبني جشم وبني النجار وبني عمرو بن عوف وبني النبيت.
 
5 – مبدأ الدفاع المشترك بين جميع المتساكنين ، تقول الصحيفة:
- وأن بينهم ( أي سكان المدينة مسلمين وغير مسلمين ) النصر على من دهم يثرب.
- وأن بينهم ( أي مسلمين وغير مسلمين) النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
 
6 – مبدأ حرية الاختيار وتقرير المصير للمخالفين، تقول الصحيفة:
- وأن من تبعنا من يهود فإن لهم النصر والإسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
- وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم.
 
7 – مبدأ سيادة الشريعة وحاكمية الكتاب والسنة، تقول الصحيفة:
- وأن ما كان من أهل الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
 
هذه بعض أركان البناء الشرعي للدولة كما وردت في صحيفة المدينة، ثم توالت بعدها حركة التشييد عملا ميدانيا وقدوة نبوية ووحيا يتنزل.
وإذ أرسى صلى الله عليه وسلم في الأسماع والقلوب والمهج آخر ما نزل من القرآن وهو قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة 3، أقام آخر أعمدة تدبير الشأن العام للأمة في خطبته الغراء بجبل الرحمة يوم عرفات في حجة الوداع (السنة العاشرة للهجرة )، مبشرا بكمال الدين وتمام النعمة، حريصا على وضوح قوله وسماع صوته، وتبليغ رسالته، باتخاذه ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي مسمعا لخطبته وكان صيتا، قائلا له بين الفينة والفينة:"اصرخ "، مشهدا سامعيه على نفسه وبلاغه، يقول لهم:( هل بلغت؟ فيقولون: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، محذرا المسلمين من إهدار هذه الفرصة والمناسبة قائلا: (أما بعد: أيها الناس اسمعوا مني ما أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم...).
 
كانت معظم توجيهات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة متعلقة بتدبير الأمر العام للأمة، تتميما وتذكيرا وبلورة لما ورد في الصحيفة التأسيسية الأولى ( وثيقة المدينة). مما يمكن إيجازه فيما يلي:
1 – وحدة أعضاء المجتمع المسلم ومساواتهم بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته:
- أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت....اللهم فاشهد، قالوا: نعم ، قال: فليبلغ الشاهد الغائب.
- ‏إن الله يقول‏ ‏( ‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏)‏ فليس لعربي على عجمي فضل ولا لعجمي على عربي فضل ولا لأسود على أبيض فضل ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى‏.‏
- يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً‏‏‏
 
2 – تكريس العدل ونبذ الظلم:
- اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ألا وإن كل دم مأثرة ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة.
- أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
- فلا ترجعن بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد.
- إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق.
- ‏هذا يوم حرام وبلد حرام، فدماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مثل هذا اليوم وهذا اليوم إلى يوم تلقونه، وحتى دفعة دفعها مسلم مسلماً يريد بها سوءاً، وسأخبركم من المسلم‏،‏ المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله‏‏‏.
- وأحدثكم من المهاجر‏؟‏ من هجر السيئات، والمؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيبة يغتابه، وعرضه عليه حرام أن ‏‏يخرقه، ووجهه عليه حرام أن يلطمه، ودمه عليه حرام أن يسفكه، وماله عليه حرام أن‏ يظلمه، وأذاه عليه حرام أن يدفعه دفعاً‏‏‏.‏
‏‏- وحرام عليه أن يدفعه دفعة تعنته‏‏.‏
- ‏هذا اليوم حرام‏؟‏‏‏‏، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ ‏‏فإن حرمتكم بينكم كحرمة ‏‏يومكم هذا‏‏‏.‏ أنبئكم من المسلم‏؟‏ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏.‏ أنبئكم من المؤمن‏؟‏ المؤمن من أمنه المسلمون على أنفسهم ‏‏وأموالهم‏‏‏.‏ أنبئكم من المهاجر‏؟‏ المهاجر من هجر السيئات مما حرم الله عليه‏.‏ والمؤمن على المؤمن حرام كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيب ويغتابه، وعرضه عليه حرام أن يخرقه، ووجهه عليه حرام أن يلطمه، وأذاه عليه حرام أن يؤذيه، وعليه حرام أن يدفعه دفعاً يعنـته‏"‏‏.
- يا أيها الناس من كانت عنده وديعة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها‏.‏
- فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم وهذا الشهر وهذا البلد، ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم‏،‏ لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم‏‏‏.‏ ثم رفع يديه فقال‏:‏ ‏"‏اللهم اشهد‏"‏‏.
 
إن تأسيس الدولة الإسلامية مثال نادر في مسيرة الإنسانية ونظام تجمعها السياسي، ونموذج فذ لنشوء الدول والمجتمعات، فقد وضع لبنات قيم ومبادئ ونظم لم تستطع أعرق الدول الدستورية المعاصرة تجاوزها، بتقريره حدود الدولة وأصناف ساكنتها، وصفات المواطنة الصالحة فيها، وتفصيله الدقيق للحقوق والواجبات الفردية والجماعية، وإشارته لآلية اتخاذ القرارات الجماعية الشوروية، وبناء الأجهزة الخدمية التنفيذية.
 
إن تكامل التصور الإسلامي لنظام التدبير العام، كان خاتمة مسيرة الرشد البشري على الأرض، كي تعود حياة الناس إلى ما فطرت عليه يوم خلق الله السموات والأرض وبرأ آدم وذريته على أحسن تقويم وقبل أن تجتال بعضهم الشياطين فيردوا أسفل سافلين.
 
هذه كانت مهمة النبوة الخاتمة، وغاية التنزيل الحكيم، وهو ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في أول خطبة حجة الوداع:( أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض‏,‏ وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادي وشعبان‏,‏ وذوالقعدة‏,‏ وذوالحجة والمحرم‏)
 
وكما أن الزمان في حجة الوداع قد استدار كهيئته الأولى كما خلقه الله ، بعد أن ناله التغيير بالنسيء والتبديل والتغيير والتقديم والتأخير على يد الجاهلية العربية.
 
وكما أن عاقبة الحج أن يرجع الحاج إلى أهله نقيا مغفور الذنب كيوم ولدته أمه، وكما خلق أول مرة سويا في أحسن تقويم.
 
كذلك نظام تدبير الشأن العام لدى المسلمين، ينبغي أن يعود إلى وضعه الأول السوي، وينبذ كل ضلالات الاستبداد والتحكم والقهر والتفاضل الهرمي المحتكر للسلطة والجاه والخيرات. وذلك سبيل ظهور الأمة الشاهدة المنضبطة مع فطرتها السوية الأولى.
 
إن أبرز ما يميز هذا النظام الرباني أن الأمر التكليفي فيه، خطابا قرآنيا حكيما، وتوجيهات نبوية كريمة موجه إلى جميع الأمة بصفتها مسؤولة عن أمرها مسؤولية مشتركة، كما أنه لم يتضمن أي إشارة ولو عرضية إلى رئاسة أو قيادة فردية سياسية كانت أو إدارية أو عسكرية، بل ليس فيه ما يبيح اختزال السلطة في أفراد معينين أو تكتل خاص للشورى أو الحل والعقد، أو الأعيان أو الطوائف والمذاهب.مما يؤكد أن النظام الإسلامي لا يقر النظم السياسية الرأسية التي يقبع فيها على رؤوس الناس متسلط أو متسلطون. مما يدحض مزاعم دعاة القهر السلطاني السافر والاستبداد الديمقراطي المقنع.
 
إن النظام الإسلامي في هذا المجال ليس رأسي السلطة، يوزع فيها النفوذ بين الأقوياء، في طبقات بعضها فوق بعض، هذا النزوع العدواني لا يقره القرآن الكريم، والتعاليم النبوية تحض على نبذه .
 
إن النظام الإسلامي الحق، بذرته التأسيسية التي تحتضن بؤرة الانطلاق فيه هي العقيدة وما أتت به من تشريعات، العقيدة هي الموجهة والمرشدة والحاكمة ، في البدء كانت العقيدة، ومن نبضها تكونت حولها الحلقة الدعوية الأولى نبوة خاتمة، ثم من دفق النبوة وشحناتها الربانية انطلقت حلقات موجات الانتشار الأول للإسلام، مهاجرين وأنصارا والذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم الدين.
 
إن مَثَل التدبير العام الأفقي غير الهرمي في المجتمع الإسلامي، انتشارا دعويا، وإجراء شورويا، كمثل حجر نزل من السماء في الماء، فتكونت من اهتزازه المادي أو نبضه الكهربي، في الجسم الناقل الذي هو الماء، موجات تضاغطية أفقية كثيرة ومتعاقبة، على شكل حلقات تتسع موجاتها فينشأ على رأس كل منها فضاء هو مجال تفاعل الطاقة المولدة للحركة والتوسع الحلقي.
 
فالحجر في مثالنا هذا هو العقيدة التي أنزلت من السماء، وبثت شحناتها الأولى في مجالها الأول الذي هو النبوة، ثم انطلقت من النبوة الخاتمة ونبضها الرباني حلقات أجيال المؤمنين، بفضاءاتها الدعوية والتدبيرية والدفاعية على قدم المساواة قرارا وتنفيذا.
 
إن هذه الفضاءات المشكلة من حلقات الانتشار الإسلامي أو فضاءات الدعوة كما يمكن أن يطلق عليها، يكون لها في المجال السياسي دور آخر على قاعدة تدبير الشأن العام، إذ تتخذ شكل فضاءات أخرى لاتخاذ القرارات وتنفيذها، وتعيين رجال خدمتها ومراقبتهم ومحاسبتهم، بواسطة الشورى الجماعية، وهي بذلك أيضا فضاءات تنزيل للشورى تشكل صلب نظام الدولة وعنصر الحيوية فيه، وعلى نفس النسق والنظام يكون لها في مجال المدافعة ومصاولة الأعداء دور ثالث لأنها تجند كافة أفراد الأمة تروسا للدفاع عن البيضة، وحماية الحوزة، وترشيد التماسك والتآزر والتكافل والوعي، وتعميق عقيدة الاستشهاد في النفوس.
 
هذا البناء العقدي الأفقي غير الهرمي، على النهج النبوي، للأمة ودولتها الإسلامية، مشكلا في ثلاثة فضاءات: فضاء الانتشار الدعوي، وفضاء التدبير العام الشوروي، وفضاء المدافعة والمصاولة، لا مجال فيه لأي انكفاء أو تقلص عقديين، ولا لأي تسلط أو استبداد أو احتكار للمجد، ولا لأي استضعاف للأمة من قبل أعدائها، كما لا التقاء له بالنظم الهرمية ذات الطبقات المختزلة أو الملغية لمن تحتها، وهو ما يتضح من الرسمين التاليين (الشكل رقم1 ورقم 2 ).
 
ذاك هو النهج الذي عرفه عصر النبوة الخاتمة قدوة وتعليما، ثم عاشه عهد الخلافة الراشدة الذي يحلب فيه أبو بكر رضي الله عنه شويهات الأعرابيات، ويكتفي فيه عمر رضي الله عنه بالخبز اليابس والماء، وينام فيه الإمام علي كرم الله وجهه على الأرض بدون وطاء أو غطاء،.
 
هذا النظام بخصائصه ومبادئه وقيمه الربانية وفضاءاته الدعوية والشوروية والدفاعية، نقطة البدء فيه العقيدة ونقطة الختام فيه سعادة الدنيا والآخرة، لذلك لا يقبل إلا أن يكون وحده في مساحته، لا يرقع بأنظمة وضعية ولا ترقع به، فهو غني عن الترقيع، عصي عن الترويض والتبضيع، والذين يلتمسون من أنظمة استبدادية أن تطبق الشريعة، إنما يسعون في حقيقة الأمر لتشويهها أو توظيفها واستغلالها وتحريفها. وما لم يتوفر نظام ما على شرعية الوجود منهجا نبويا راشدا، فلا مجال لمطالبته بما هو خارج عن طبيعته، وكما أن الصدقة لا تجوز من ثمار الأرض المغتصبة لانتفاء شرعية تملكها، كذلك يتعذر تطبيق النظام الإسلامي من فاقد شرعية الوجود.
 
إن النظام الإسلامي مرتكز على أربعة دعائم بدونها يفتقد التمثيل الصحيح للإسلام:
1 – شرعية الوجود أولا، ومصدرها حجر الأساس الذي هو العقيدة.
2 – شرعية التشريع المنبثقة من شرعية الوجود.
3 – شرعية التسيير والتنفيذ المنبثقة من شرعية التشريع.
4 – شرعية الهدف المنبثقة من شرعية الوجود والتشريع والتسيير، وهي التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى في الآية 28 من سورة الفتح:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )، والرسول صلى الله عليه وسلم بقوله5: ( لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا ).
 
وكل هذه الدعائم مرتكزة على العقيدة وما ينبثق عنها.
لقد عرفت الدولة تنظيرا وممارسة منذ سقوط الخلافة الراشدة ، أشكالا كثيرة لم تتوفر لها هذه الركائز، وهي بذلك نظم فاسدة لا تحسب تصرفاتها على الإسلام، لأن أول شروط شرعية أي نظام أن يكون إلهيا ربانيا.
إن الألوهية والربوبية _ شرعا وعقلا وحقيقة كونية لا مناص من الاعتراف بها – ركنان من العقيدة لا يتم إيمان امرئ بدون توحيدهما قلبا وقولا وعملا.
ولئن كان توحيد الألوهية يستوجب وحدانية الخالق واختصاصه بالعبادة والتوجه، فإن توحيد الربوبية من مقتضى ذلك بداهة، لأن الذي خلق لابد أن يكون هو المدبر لما خلق، وشمولية إبداعه للكون تتضمن شمولية تدبيره للكائنات. لذلك كان التدبير الإلهي ( الربوبية) تعبيرا صادقا عن الألوهية المطلقة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْر6) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ..7) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ8) ، (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا9).
من هذه الزاوية تأكد أن ما عرفه المسلمون عقب سقوط الخلافة الراشدة من نظم ، لا يمثل المنهج الرباني في أبرز صفاته انسجاما مع ربانية السير العام للحياة، لأن انتفاء صفة الربانية فيها تنعكس عليها انتفاء لانتسابها إلى الإسلام نظاما سياسيا للحياة.
كذلك عجزهم عن تشخيص ربانية التدبير العام للأمة وبنائه على الشورى بآلية لتنزيلها سليمة دليل بين على الابتعاد عن النهج الذي اختاره الله عز وجل لدولة الإسلام المنشودة.
هذا الفسوق عن الربانية في مجال تدبير الشأن العام كان له وقع الكارثة على البشرية، منذ استسلمت لأنانيتها وتعالى بعضها على بعض وعاث فيها التجبر والظلم والاستبداد.
 
إن الاستبداد ينشأ أول الأمر تعاليا ونرجسية وعبادة للذات، وطموحا غير مشروع للتحكم في الغير، حتى إذا تم للمستبد السيطرة على شعب ما، فرض تألهه وجبروته، واستخف قومه، باسم الأسرة أو القبيلة أو الطبقة أو الحزب.
 
هكذا ينشأ الاستبداد ويستفحل ويتضخم على الصعيد القطري ثم على الصعيد العالمي...ولنا في المنطقة العربية نماذج أنظمة استبدت على شعوبها، ثم انتقلت للاستبداد على جيرانها وأبناء عمومتها، أما على الصعيد العالمي فلنا نموذج التسلط النازي الذي بدأ طموحا فرديا وانتهى بحربين عالميتين أحرقتا الأخضر واليابس.
 
إن منهج التدبير العام إما أن يكون ربانيا ينشر الخير والفضيلة والسلم والرخاء والعدالة والأخوة المنتسبة إلى أب واحد وأم واحدة خلقا من نفس واحدة بث الله عز وجل منها رجالا كثيرا ونساء، وإما أن يكون بشريا سمته العدوانية، وثماره الشقاء وسَقْيُ زرعه دماء المظلومين ودموع الثكالى والمحرومين.
 
إن الألوهية المطلقة لرب العباد ينبغي أن يقابلها التوحيد الإرادي الطوعي المتجلي في الخضوع المطلق للرسالة السماوية بمناهجها للحياة الفردية والجماعية، وذلك ما نطلق عليه ربانية التدبير العام في حياة المؤمنين، أو شرعية الوجود للنظام الإسلامي المنشود، وذلك ما يوجب استلهام الكتاب والسنة لوضع آلية إسلامية أصيلة للتنزيل الشوروى تكون عمادا لتدبير الشأن العام في الدولة الإسلامية بدل الاعتماد على الفقه التبريري أو الديمقراطية المنتحلة.
_______________
 [1]  - المقدمة ص 132
 [2]  - المقدمة ص 171
 [3]  - انظر تاريخ ابن كثير 2/320 ومغازي محمد بن شهاب الزهري، ومغازي ابن إسحاق وسيرة ابن هشام 3/31، وسنن البيهقي الكبرى 8/106.