الرئيسة \  كتب  \  الطريق إلى تبوك

الطريق إلى تبوك

26.06.2013
زهير سالم


المقدمة
في ظلال السيرة
بقلم : محمد الحسناوي
     " الطريق إلى تبوك " ليس عنواناً لديوان شعر أو رواية تاريخية أو دراسة عسكرية , بل هو شيء يجمع ألواناً من هذه الفنون , ويعطي كائناً مستقلاً لا يكاد يصنف في الفنون التي تعارف عليها أبناء زماننا . لم يعمد المؤلف الصديق إلى ذلك عمداً , لكنها طبيعة التصور الإسلامي الذي ينطلق منه , وطبيعة الميدان الذي يخوض فيه " السيرة النبوية " ثم طبيعة الإنسان الذي يفتقده في الواقع , ويرسم ملامحه في هذا العمل الأدبي الفذ !
 
ما تبوك؟
قال ابن إسحاق : كانت [ غزوة تبوك ] في زمان عسرة من الناس وجدْب من البلاد , حين طابت الثمار . فالناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم . وكان صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج في غزو إلا ورّى بغيرها , إلا ما كان منها , فإنه جلّاها للناس لبعد الشقة , وشدّة الزمان .
 
     وقال المؤرخون : كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه . وأنزل فيها سورة ( براءة ) . وكانت تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده " المُبَعْثِرة " لما كشفت من سرائر المنافقين وخبايا قلوبهم .
 
     هل اكتشف علم النفس مصطلح " البعثرة " ؟ ما أدري لكن الذي أدري أن الله تعالى قال في محكم كتابه في سورة ( الانفطار ) : ( وإذا القبور بعثرت , علمت نفس ما قدمت وأخرت ) . كما قال تعالى في سورة ( العاديات ) : ( أفلا يعلم إذا بُعثر ما في القبور , وحُصّل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) . بل إنه يعلم , بل هو خير العالمين . فما شأن " تبوك " من هذا كله ؟ إنها  المبعثرة " !
 
إن السيرة النبوية العطرة مجموعة أحداث في أزمنة وأماكن معينة لأناس معينين , وهي في الوقت نفسه نبراس للناس في كل زمان ومكان . وإذا كان لمعركة " تبوك " من خصوصية فهي أنها " المبعثرة " . لقد بعثرت المجتمع الإسلامي في أواخر عهد النبي صلى الله عليه السلام , ومحّصت المسلمين حقاً من المنتسبين إلى الإسلام زوراً وبهتاناً .
 
     أولاً : لقد اختار الرسول زمانها العسير ومكانها الأشد عسراً في مواجهة الروم " بني الأصفر " .
     ثانياً : أعلن الهدف خلافاً للغزوات السابقة .
     ثالثاً : كانت غزوة الوداع . حيث يتركهم بعدها ليتابعوا ( الطريق ) وحدهم !
 
لكن كيف يتركهم ليفتحوا الأرض شرقاً وغرباً قبل الامتحان الأخير ؟ ها هم أولاء يتمايزون : فرقة الطليعة الناجية تضم ثلاثين ألفاً تحت راية الرسول .
 
     وفرقة المنافقين القعدة : تضم الأعراب الذين اعتذروا للرسول ليأذن لهم بالقعود فلم يأذن .
 
وتضم رجلاً اسمه الجدّ بن قيس , الذي زعم أنه يخشى إن رأى نساء بني الأصفر أن لا يصبر , وفيه نزل قرآن يفضحه .
 
     وتضم الفئة التي بنت مسجد الضرار , أولئك النفر الذين قال لهم أبو عامر الفاسق : ابنوا مسجدكم واستعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح , فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم , فأُخرج محمد وأصحابه !
 
     وبين هاتين الفرقتين فرقة ثالثة : تخلّفت في الظاهر مع المتخلفين , وتقدّمت في ميزان الحقيقة مع المتقدمين . منها البكّاؤون السبعة الذين لم يجدوا ما يُنفقون , وقال لهم حبيبهم محمد عليه السلام " لا أجد ما أحملكم عليه " . ومنها الصحابيان : أبو ذر الغفاري الذي أبطأ به رَحْلُه , فترك الراحلة وحمل الأمتعة ليلحق بالركب المجاهد . أبو خيثمة ذو الزوجتين الناعمتين الذي استدرك نفسه قبل فوات الأوان , ومنها أخيراً الثلاثة : كعب بن مالك , وهلا بن أمية , ومرارة بن الربيع , الذين فاتهم الركب , ولما عادوا لم يكذبوا في سبب القعود , فقاطعتهم جماعة المسلمين حتى زوجاتهم إلى أن عفا الله عنهم إنه العفو الرحيم .
 
وفي هؤلاء جميعاً نزل قرآن كريم يرفع من يرفع ويضع من يضع ويعفو عن مستحقي العفو .
 
     هذه أبرز خطوط غزوة تبوك , التي لم تشهد معركة مواجهة مع بني الأصفر بالرغم من أن هرقل ملك الروم كان في حمص . إنها معركة مع الذات للتمحيص . إنها رمز للتصفية الدائمة للصف المؤمن من المعوقين والقعدة والمنافقين والجبناء وأصحاب الشهوات .
 
     فإذا طريق تبوك .. طريق خالد خلود هذه الرسالة الربانية وخلود السماوات والأرضين .
     وإذا غزوة تبوك .. " المبعثرة " .
 
ما الطريق
     لم يكن من حرب تذكر في غزوة تبوك , إلا ما كان من إرسال خالد بن الوليد إلى أكيدر ( دومة ) الممتنع بحصنه , حيث اعتقله المسلمون بعد قتل أخيه فصالح على الجزية وأطلق سراحه , كما صالح صاحب ( أيْلة ) وأهل ( جرباء ) و ( أذرح ) .
 
هذا مجمل ما تذكره كتب السيرة والتاريخ , لكأن هناك إجماعاً على أهمية " الطريق " إلى تبوك , لا تبوك بالذات . وما الطريق إليها غير الرجال السالكين في الحر والظمأ والتعب والإقبال على المهالك ؟
 
     وهكذا كان تناول الصديق المؤلف لهذه الغزوة من خلال التصوير الفني للشخصيات المتمايزة السمات : روحاً وهمة , ضعفاً وقوة , بدءاً من رسول الله عليه السلام وانتهاءً بأبي ذر رضوان الله عليه .
 
     كتب السيرة تصور طريق الذهاب والإياب , أما المؤلف فيكتفي بالذهاب .
 
     كتب السيرة تستطرد إلى الماضي أو المستقبل المتعلقين بالغزوة ورجالها استكمالاً للإطار التاريخي , أما المؤلف فيختار الجزئيات المستكملة للوحدة الفنية الهادفة .
 
     لنتأمل الخاتمة هنا وما يقابلها في كتب السيرة : فهنا يقفل الحديث عند التحاق أبي ذر الغفاري بركب الرسول بعد تهاوي راحلته , ويقول رسول الله عليه السلام :
     " رحم الله أبي ذر
     يمشي وحده ,
     ويموت وحده ,
     ويبعث وحده "
    الله أكبر ويتصل الراكب الوحيد بالركب الجاد إلى تبوك .
 
     أما كتب السيرة فتقطع التسلسل التاريخي وتتابع مصير أبي ذر بعد تبوك , فتقول على لسان زوجته : لما حضرت أبا ذرّ الوفاة بكيت , فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض , وليس عندي ثوب يسعك كفناً , ولا يدان لي في تغييبك ؟ فقال : أبشري ولا تبكي , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر – وأنا فيهم – ليموتن الرجل منكم بفلاة من الأرض , يشهده عصابة من المسلمين . وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات , في قرية وجماعة , فأنا ذلك الرجل , فوالله ما كَذَبت ولا كُذِبت . فأبصري الطريق . فكنتُ أشتد إلى الكثيب أتبصّر , ثم أرجع فأُمَرِّضه .
 
فبينا أنا وهو كذلك , إذا أنا برجال على رحالهم , كأنهم الرخم تخبّ بهم رواحلهم , قالت : فأشرت إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا علي! , فقالوا : يا امة الله , مالك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفّنوه . قالوا  : من هو ؟ قلت أبو ذر قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم . ففدوّه بآبائهم وأمهاتهم , واسرعوا عليه حتى دخلوا عليه . فقال لهم : أبشروا ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذكر الحديث – ثم قال : وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي ولامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي . فإني أنشدكم الله أن لا يكفّني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو رقيباً , وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال , إلا فتى من الأنصار . قال يا عم أنا أكفنك في ردائي هذا . وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي , قال : فأنت تكفّنني . فكفنه الأنصاري , وأقاموا عليه , ودفنوه في نفر , كلهم يمان .
 
هذه الخاتمة الشامخة لم تغرِ الأستاذ زهيراً صاحب " الطريق إلى تبوك " وهي وحدها أحرى بعمل أدبي مستقلّ , ألهذا وقف الصديق عند لحاق أبي ذرّ حياً بركب تبوك ؟ ربما , لكن أبا ذر ليس الوحيد الذي بقي حياً في " الطريق إلى تبوك " بل الشخصيات كلها تسير , وما تزال تستأنف المسير في عمل المؤلف ؛ يقود الرسول موكب المؤمنين , ويقود عبدالله بن أبي بن سلول عصابة المنافقين .. إلى يوم يبعثون فليتحسّس كل منا طريقه !
 
ما الــــزاد
     في رأيي أن المؤلف قد تزوّد لهذا الطريق زاده ؛ وأول ما تزوّد به الوعي , فقد عرف طريقه , واختاره من بين الطرق , كما عرف بدايته وسالكيه ومنتهاه . طريق تبوك .
 
     وثاني ما تزوّد به الدعوة إليه بالتي هي أحسن , الكلمة الطيبة . لا الأداء الفني وحده , بل الأداء الحيوي الذي ينبض بالفن والهدف معاً , وإلا فما معنى الطريق ؟!
 
     شُغِلَ قومٌ في زماننا بالفن هابطاً أو فارغاً , وشُغِلَ آخرون بالطرق التائهة أو غير سالكة . أما صاحبنا , فقد أخلص لفنّ يؤاخي الطريق , ولطريق يكرم الفن , وقلّ المخلصون !
 
     ولكي لا يُسقَط في يد القارئ حين يبحث عن المؤلفات الأخرى لصاحب هذا الكتاب , بعد أن اكتشف كفاءته وأصالته , أقول : من تكاليف الطريق إلى تبوك أن يعاني السالكون من العقبات , وقد حالت حوائل دون نشر نتاج الصديق زهير سليم , فالطريق إلى تبوك ليس أول ولا آخر عمل له , فمن أعماله المنجزة :
      " فهرس في ظلال القرآن "
     و " مسرحية أهل الكهف "
     ونماذج مدروسة من الشعر الإسلامي " .
 
الطرق واضح في مساره الأدبي , والخصب داني القطوف لذلك أمتعنا في صفحات " في ظلال السيرة " ونأمل أن يمتعنا وينفعنا في بقية آثاره .
حلب 3/2/1396هـ
4/2/1976م
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الطريق إلى تبوك
زهير سالم
     سيدي رسول الله هذه سوانح قدرت في سيرتك الكريمة , وخواطر قامت عن تصورات أصحابك الكرام . فإن كانت كما قدرت ؛ فإن كثيراً منها لم يزل نجماً للهداية أو عقبة في طريق الهدى . البذل والسخاء والثبات والصدق نجوم تلوح لنا عبر الأجيال ولا بد أن تنعكس في دنيانا , والتردد والضعف  والانقطاع ؛ حقائق وجدْتَها يا رسول الله وعالجتها وحسمتها ؛ ولا بد أن تنعكس في دنيانا ؛ دنيانا التي نريدها مستمدة منك ومن سنتك وهداك . فإن وُفِّقنا فمن النور الذي قبسناه منك . وإن أسأنا فالعفو عند رسول الله مأمول .
***
 
كان الليل يرخي ظلاله على الوجود فيلُفُّه بحُلّة رهيبة , تبعث فكر المتعبدين في رحلة طويلة رحيبة , والنجوم التي أبرز الظلام جمالها , تتراقص في مداراتها , تعلم البشر كيف تكون الحركة والسكون ؛ وعلى أهداب أعينها كانت تحمل إلى الناس , سراً نافذاً من معنى البصيرة والنور , وهناك في مدينة النخيل , حيث اصطفت نجوم الأرض في هدأة الليل , تحاكي نجوم السماء ؛ وقد امتلأت النفوس بنشوة سرت من فؤاد , ما عرفها نجم , ولا أحس بها موجود , ما خلا أصحاب القلوب . في ظلمة هذا الليل , ورهبة هذا الظلام , وخشوع هذه النجوم ؛ نجوم الأرض , ونجوم السماء , كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم صافاً بين يدي ربه , علّه يكون عبداً مشكوراً , يقلب بصره بين هذه النجوم وتلك , هذه النجوم القريبة التي كان لها الشمس التي تمدّها بالنور , والليل الذي يجلّيها للعيون , فتبدو في بهاءٍ ورفعة وسناء ؛ وتلك النجوم التي سارت على نواميسها , بأمر ربها , الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . وتنطلق أماني قلبه , وتطلعات روحه ؛ تضرعات ودعوات صادقة إلى مولاه , أن يكون أصحابه نجوماً للهداية , ومورداً للعطاء لا ينضب ولا ينفد .
 
     كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب بصره في تلك البذور , التي بذرها في واد غير ذي زرع . ثم رعاها على عين الله , في قلة من الرجال , وضعف من القوة , وكثرة في الأعداء , ثم حملها غراساً صغاراً , ليغرسها هنا في بلد النخيل , ويحدب عليها عاماً فعاماً , حتى مهد لها الصحراء قاطبة , وراح ينتظر موسم الأزاهير .
 
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على صحبة الصحراء , ولكن طوفاناً أكبر , كان يرى فيه خطراً أوسع على أمته , لا لعظم ذلك الخطر , ولا لقوته وسطوته , ولا لعدده وعدته ؛ ولكن لتمكنه في نفوس المسلمين وتأثيره فيها .
 
لقدكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف أنو يؤتى أصحابه من قبل انفسهم ؛ إذ أن أعظم هزيمة تتهدد بالأفراد والجماعات , هي الهزيمة الداخلية , التي تتمكن من نفوس الناس وقلوبهم , وهنا يكون الدواء في اقتلاع بذور هذه الهزيمة , واجتثاث أصول ذلك الخوف ؛ وعند ذلك ثِقْ بالنصر والتمكين .
 
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الشمال , حيث كان يرتفع الصليب في عناد وكبر وإصرار , متحدياً دعوة الحق , معتمداً على بني الأصفر .
 
ولبني الأصفر هؤلاء ذكريات طويلة مع العرب ؛ لقد كان العرب يعتقدون أن هاتين الدولتين من فارس والروم أمم لا تقهر , وأناس لا يمكن لعاقل أن فكر في قتالهم . وقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتثّ هذه العقدة من قلوب أصحابه ؛ وقد امتد بصره ورأى دعوته تمتدّ وتمتدّ , حتى تطيح بدولة بني الأصفر من الشرق كله ؛ ولكن الدرس كان قاسياً لقد كانت تجربة " مؤتة " أليمة جداً , وثبّتت في قلوب الكثيرين , أن الحرب مع بني الأصفر مغامرة غير مأمونة . لقد استشهد قواد الرسول الثلاثة , وانسحب خالد بالجيش , وعاد أفراد الجيش منكسري النفوس , مطرقي الرؤوس , خاوي الأفئدة . يوم وقف المسلمون الذين لم يذوقوا طعم المعركة , مؤنبين لإخوانهم , موبخين لهم , منادين في وجوههم , وبأعلى صوتهم : " يا فُرّار , يا فُرّار " . ومن يومها طيّب الرسول صلى الله عليه وسلم القلوب اليائسة , ورفع الرؤوس المنكّسة , وقال : " بل هم الكُرّار إن شاء الله " وكان وعداً منه صلى الله عليه وسلم فهل تراه اقترب ؟!.
 
كانت نسمات السحر تنساب رخية ناعمة , تحمل على جوانحها أرج ثمار النخيل التي آذنت بالنضج . إنه الصيف صيف الصحراء بكل عتوّه وجبروته , ولكن لليل في هذا الصيف شأناً آخر , وطبيعة أخرى , إنه ليل النسائم العذبة الباردة الرخيّة .
 
وفي هذه الأيام من فصل القيظ , يطيب لأهل يثرب المقام في حوائطهم وعرائشهم , حيث تبدو المدينة الطيبة خميلة وارفة , رزقت نعمة الظلال في صحراء لا ظل فيها غير ظلال الحصى , فهيهات لإنسان أن يترك العيش في هذا الجوار , وكيف ؟! وقلوب العرب تتحرق في لظى الهاجِرة , وأهل طَيْبة في ظل وارفٍ , وماءٍ باردٍ , ورطبٍ , إن هذا لهو النعيم .
 
كاد الليل ينقضي , وملّت نجوم السماء السهر , وغُلِبَت نجوم الأرض على أمرها لثَقَلٍ فيها , فأخلدت إلى الأرض ؛ تنال قسطاً من الراحة . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال في موقفه يناجي ربه , ويتضرع إليه , وقد بدت على وجهه هموم أمر عظيم . إنه يدبّر أمراً ما في نفسه , إنه التحدي العظيم , الذي يحب أن يُفْرَضَ على بني الأصفر .
 
ولكن المال قليل , والعدو كثير , والطريق طويل , والحر شديد .
 
     المال !! عشرةٌ حقيقية لأصحاب الدعاوى لا لأصحاب الدعوات , ومتى كان المال عشرة , في طريق دعوة تؤمن بحقها في الوجود والاستمرار ؟! المال ضروري ولكن ما أيسر الوصول إليه ؟! ما دام هؤلاء الرجال الذين ربّاهم رسول الله على عين الله , يعرفون مسبقاً حقّهم في هذا المال , ودورهم في هذه الدعوة , ما داموا يعرفون إن المال مال الله , وأنهم أوصياء عليه . إن قلوبهم التي تخلتْ عن الوطن والأهل والعشيرة , ا يمكن أن تبخل بأموالها , وهي التي لم تبخل بدمائها في سبيل الله .
 
والعدو القوي , العدو الشرس المتبجح بكل ما يملك من عدد وعدة , وبكل ما يملك من موروثات في قلوب المسلمين , هذا العدو هو الدرس الجديد الذي يجب ان يتدرب عليه المسلمون .
 
قد لقّن رسول الله أصحابه الدروس تترى منذ فجر الدعوة , لقد علمهم من النصر , كما علمهم من الهزيمة .
 
لقد كان الله سبحانه وتعالى يربي هذه الجماعة بالمحن والتجارب , ومن هنا كان بدرٌ وأحدُ , وحنينٌ والأحزاب ومؤتةُ , وكانت غزواتٌ وغزواتٌ ثبتت في قلوب المسلمين ـن النصر والتمكين من عند الله دون اعتبار لأي عنصر آخر . ولكن الموروثات القديمة عن بني الأصفر ما تزال تُطلُّ بين الفينة والأخرى من بعض القلوب ؛ فلتكن تبوك غسلاً لكل موروث , ومحواً لكل هاجس , وصفحة جديدة تبدأ بين الدولتين , وكوةً للنور المتسرب إلى بلاد الشام .
 
وأما الطريق الطويل ؛ فلن يثني رسول الله عما أراه الله , لقد خاض بأصحابه طريقاً أطول , ألا وهو طريق الدعوة , فخاضوه معه , لقد كان أحدهم يعلم وهو يخطو الخطوة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه وضع نفسه على طريق أوله في الدنيا , وآخره في الجنة , ما استقام عليه . وأن الطريق إلى الجنة أيسر ما فيه ابتلاء ومشقة , وجهد وجهاد , جهد في الداخل لتطهير النفس وجهاد في الخارج لتطهير الأرض . لقد كان أصحابه يعلمون كل هذا , ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أحداً من الصحابة لن ينكُصَ عن صحبَتِه خشية الطريق الطويل . وأما الحر الشديد ؛ وحر جزيرة العرب في فصل القيظ يعرفه من ذاقه , ويَعْسُر على الواصف أن ينال منه ؛ فقد كان من يُبددُه الوعد على الطرف الآخر من الطريق , الوعد بالجنة . وإذا كان العربي قد اعتاد أن يقطع آلاف الأميال , في هذا الحر اللاهب ركضاً وراء السراب , فإنه لن يتأخر عن الانطلاق فيه , وقد تحقق له الوعد بجنة عرضها السماوات والأرض .
 
     كانت الأفكار تراود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مصلاه , حين علا صوت بلال الله أكبر . الله أكبر .
***
 
كان المسجد قد التحم بالمسلمين , حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس , ليسمو بهم في ركعتي الفجر إلى عالم آخر من الطهر والنقاء , في جو تحفه السكينة ويزينه الجلال , ويتغشاه الخشوع . كانت ركعتا الفجر أشبه بمعراج قدسي , ارتفعت به الأرواح إلى بحر نوراني انغمست فيه , ثم عادت لتسكب على الأجسام شفافيةً وبريقاً , دونها كل ما يتمثّل للناس من شفافية وبريق .
 
ويلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه , يُنبئهم بالأمر الخطير , ويرسم لهم الطريق إلى تبوك , وتتعلق الأعين برسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم تنخفض غضيضة لجلاله وهيبته ؛ فما يكون لعين أن تمتلئ من الحقيقة كفاحاً , ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحقيقة " حقيقة العبودية " , ممثلة في أروع صورها وأبهى مظاهرها .
 
انطلق الناس من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث متفرقة , ووجهات متباينة . لقد حثّ رسول الله صحبه على الانفاق وأعلمهم أن الموقف اليوم مع بني الأصفر .
 
قال صحابي لآخر : أرى والله أن الغاية من هذه الغزوة , تمحيص النفوس , وإظهار المعادن , وكشف المخاتلين , قبل أن تكون لقاء بني الأصفر ؛ وإلا فما عهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفْصح عن وُجْهَتِه بهذه الصراحة , وهذا الوضوح ! فأجابه صاحبه : قد يكون الأمر كذلك , ولكن لا تنس أن قتال بني الأصفر ليس كقتال الناس .
 
قال الأول : ماذا تقصد ؟ فصمت , ثم رفع عينيه إلى السماء وقال : أنسيت يوم مؤتة ؟! أجابه الأول : نعم كأنما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل قلوبنا من تلك الذكرى الأليمة , لقد وعدنا رسول الله الكرّة يومها .
***
 
     كان عمر رضي الله عنه يَخِبُّ إلى بيته مسرعاً , وفي نفسه أطياف ذكريات بعيدة ؛ لله أنت يا عمر !! كيف  أنت وقد حِيْل غداً بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم , هناك حيث يرفع النبي في أعلى عليين في جوار الله ؛ هل تُراك تطيق عنه بعداً ؟ وتهفو نفس عمر , ولكن الرسول لن ينسى أصحابه , ويتألق وجهه , إنه سيكون معه . ثم تعادوه الكآبة ثانيةً ؛ ولكن أصحابه الذين سبقوك يا عمر , أنسيت ؟! آمنوا وأنت كافرٌ , وصدّقوا وأنت مُكذبٌ , ونصروا وأنت محارب . إن صاحبه للذي هاجر معه , لا أنت . ويشعر عمر بالتفريط والتقصير : بأبي أنت وأمي يا رسول الله , والله لأنافسنّ أبا بكر ولأسبقنّه , ويدخل عمر بيته منادياً أهله : هلمّي إلي مالي , يجمع عمر ماله بين يديه وينظر إليه مليّاً .
 
- أنت مطيتي إلى الجنة يا مال , ما جمعتك إلا لهذا اليوم . وتثور الدنيا في وجه عمر , بكل رغباتها وحاجاتها وضروراتها ؛ حاجات ورغبات وضرورات لا تنتهي إلا بانتهاء الإنسان , فيزوي عمر وجهه عنها جميعاً , ثم يمد يده إلى المال هذا ربعه لله ... الربع فقط لا جرم يسبقني أبو بكر , هذا ثلثه لله وثلثاه لأهلي ... لا يكون حقّ أهلي  أكبر من حق الله , والمال مال الله ؟! والله ليكوننّ نصفه لله ونصفه لأهلي .
 
     وتسكن نفس عمر , ويحمل نصف ماله , وينطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويضع المال بين يديه , فيجد أبا بكر إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمال , وتلتمع كريمتا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه عمر , وتغوصان كأنما تبحثان عن سر , وترتدان لتلقنا عمر الحقيقة الكبرى , ماذا أبقيت لأهلك يا عمر ؟
 
عمر مبتهجاً : نصف مالي يا رسول الله . ويستدير السؤال ليلقي على الصدّيق : ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ ويجيب أبو بكر في هدوء : أبقيت لهم الله ورسوله .
 
     الله ورسوله !!! هكذا في اطمئنان وهدوء !! اطمئنان قلب حقَّ لصاحبه أن يسمى بالصدّيق , وهدوء نفس لا تعرف لها طريقاً غير طريق القلب هذا .
 
     الله ورسوله !!! وكفى بالله ورسوله , بقاءٍ وذخراً وسنداً ؛ ولكن من يفهم هذا ؟! بَلْهَ من يستطيعه , من يدرك هذه الحقيقة من الصديق ؟! من يستطيع التصور ثم لا يتهم هذا الرجل بالتفريط ؟!
 
الله ورسوله !!! وتموت الحاجات , والرغبات والضرورات قبل أن يموت الإنسان , وأي إنسان ؟ مهاجر , بعيد الدار , ناءٍ عن أهله وعشيرته , لا يترك لأهله شيئاً – في التصور الحسي المادي الترابي !! – وهو مزمع على سفر , بل على حرب قد يكون من ضحاياها !!
 
الله ورسوله !! ما أروعها كلمة , كلمة تصدر عن قلب عَرَفَ , عرف مكانه , ودوره , وعرف ربه , وأقام تصوره الصحيح على أساس هذه المعرفة .
 
     ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ والحديث يدور عن المال , ولكن بقية أخرى كانت تسيطر على تصور الإنسان , وتملأ قلبه وروحه ونفسه , بقية الله , ولذا لم يقل , رضي الله عنه , ما أبقيت شيئاً , ولكن قال : الله ورسوله . ومن أبقى الله ورسوله فقد ابقى كل شيء .
 
الله ورسوله !! كلمة باقية لترسم معالم قلب , ومنحنيات نفس , كانت هي المرآة لنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
     كانت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال تدوّي في الرؤوس والقلوب , وكان ما يزال بين أبي بكر وعمر , حين أطلت حقيقة ثالثة من حقائق هذا الدين المجيد ؛ أطلّ عثمان بن عفان , رضي الله عنه , يتلألأ وجهه بِشْراً , ويطْفح سعادة , في طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويسلم عثمان , ويجلس غاضاً بصره , ويقدّم لرسول الله مالاً كثيراً , حتى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله مارض عن عثمان فإني راضٍ عنه .
 
     ويدخل عبدالرحمن بن عوف , رضي الله عنه , يحما مئة أوقية من ذهب , ويلقيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويردفهما صحابي ثالث : يا رسول الله سألتنا الصدقة فما وجدت ما أتصدق به ؛ فآجرت نفسي ليلة البارحة على ذنوبين من تمر , تركت أحدهما لأهلي , وهذا الآخر لله ...!! ويقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعه في الصدقات ...
 
وتعانق تمرات الفقير , الآلاف العشرة والأواقي المئة ... ويعانق الصحابي الفقير " الكادح " عثمان وعبدالرحمن عناق القلوب بين ثنايا التاريخ . وتنادي الحقيقة أولئك الذين يحاولون تفسير التاريخ بأهوائهم : إني أتحداكم أن تفسروني .
 
تتراقص التمرات المباركة ... على الآلاف والمئين من الذهب والفضة ... لست بأقل مكاناً ولا قدراً ! ومن يدري بها سموت ... فقد سبق درهم ألف درهم . وأرى , من خلف القرون , على ثغر كل تمرة ؛ بسمة التحدي , وألمح في كل ينار من دنانير عثمان غبطة الرضى .. هنا تضيع النظريات ... وتتلاشى التفسيرات , وتقف الحقيقة الخالدة لهذا الدين تنادي : أنا هنا مع الغني والفقير ... أنا هنا مع التمرات والذهب والفضة , أنا هنا مع العامل والنبيل , إنني هنا .. فإن كان لكم كيد فكيدون .
***
غابت الشمس وراء الكثبان المترامية , التي تظهر من خلف عيدان النخيل الملتفة حول المدينة , وتسابقت النجوم لتسقي هذه الرّمال الحرَّى , أشعة لطيفة تسكن بها لظى الشمس , التي تقلبت عليها طوال يوم كامل . وانطلق البدر من وكنه , يحدو النجوم في مسيرتها الطويلة , وعدنا لنرى بلد النخيل , أرضاً وسماءً ؛ أرضاً تتسامى وسماءً تتعاطف , أرضاً تمور وتهفو , وسماءً دافئةً ناعمةً راضية . ولم يكن يعكر هذا الجوّ الصفيّ , وهذا الانسجام بين الأرض والسماء , سوى صرير بعض الجنادب , التي ما أزعجها غير أنوار النجوم , فراحت تعكر تلك الموسيقا البصرية الناعمة , بموسيقاها الجشّاء المتقطعة , وعلى أنغام تلك الموسيقا المقيتة اجتمع نفرٌ من المنافقين , في بيت سويلمٍ اليهودي , يضعون الكلمات النتنة , لذلك اللحن السقيم .
 
     منافق : أيظن محمدٌ أن قتال بني الأصفر كقتال العرب ؟! أو تراه اشتاق إلى ابن عمه جعفر وابنه زيد ؟!
 
" ضحك "
     منافق آخر : دعه لعل الله يريحنا منه !
     ثالث : يجب أن نتقف على كلمة نلقى الناس بها غداً , نعتذر بها عن الخروج , ونثبطهم بها عنه .
الأول : سنقول لهم لا تنفروا في الحر .
     منافق رابع : ( متألّماً ) أمّا أنا فوالله لم أتكلم بشيء , وإن لم ينزّل الله بنا قرآناً غداً فقد نجونا .
 
     ويسرق فجرٌ جديد , والمدينة تتأجّج بالمسلمين , فمن مبتاعٍ رحلَه , إلى متزودٍ بزاد , إلى مصلح سلاحاً , أو شاحذ لسيف ... والجدّ بن قيس منفردٌ عن هؤلاء الناس , يغط في تفكير عميق : الطريق والحرّ ... والأهلُ ... والظِلُّ ... الثمار وبنو الأصفر .
 
- الخيار يا جد ... مالك ولهذا .؟. الطريق طويل , والحرّ شديد , والعدو ليس كالناس , وتترك اهلك ومالك وثمارك في هذه الظروف الصبة المريرة , مالك ولهذا يا جد ؟ اعتذر وسيقبل الاعتذار ...
 
- الجد : ولكنني مؤمن , مسلم , علي أن أكون مع المسلمين , يجب أن لا أوصم بالنفاق أنا لست منافقاً !!
 
- أنت لست منافقاً يا جد ؛ اعتذر وسيستغفر لك رسول الله , إنه يقبل أعذار المعتذرين دائماً .
 
الجد : ولكن لا عذر لي !!
 
- أنت تبحث عن العذر إذاً , ما أيسر التعلل بالأعذار ... هل أدلك على عذر تنال به الرضى عن نفسك ؟!
 
الجد : قل تكلم .. أرشدني إنني أبحث عنه .. منذ زمن .
 
- أنسيت نساء بني الأصفر ؟!!
 
الجد : نعم نساء بني الأصفر ... نساء بني الأصفر , أنا لا استطيع أن أتحمّل , أنا أضعف من أن أقاوم المغريات , سأهوي تحت مطارق العيون الساحرة , والخدود الناضرة ... سأهوي منذ الصدمة الأولى , وسألوّث عندها سمعة المسلمين , الذين أحبهم , وأحرص على كرامتهم وشرفهم , سأسقط وسأكون سبباً في شقائهم , وعاملاً في سقوطهم ؛ ولذا يجب أن أبقى بعيداً عنهم ... أؤيدهم من بعد , قلبي معهم .. في غدوّهم ورواحهم , ولكنني لن أشترك معهم , خوفاً عليهم , لا بخلاً بنفسي وضناً بجهدي .
 
ويتقدم الجدّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله ائذن لي ولا تفتنّي فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني ؛ وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر " .
 
     ويعرض رسول الله عن الجد ... وإعراض الرسول هو الأعراض .
 
يا جدّ أمسلم أنت ؟! أمؤمن أنت ؟! أما ترى شيطانك قد نفذ إلى قلبك وحلّ محل الإيمان : إيمان بلا يقين , دعوى بلا بيّنة .
 
     إيمان بدون ابتلاء , يا جد , كيف يكون ؟! الذهب لا خَبَثَ فيه , يا جد , ولذلك تزيده النار بريقاً , والمبرد لمعاناً . أما الذي يخاف التجربة فهو الحديد , الحديد الصدئ الذي يتطاير أكثره خبثاً . فهل أنت حديد صدئ ؟! أولى لك يا جد ثم أولى !! تخاف الفتنة قبل أن تقع ؟! ولكن مَن من الناس لا يخاف ؟!!
 
المؤمن , يا جد , أشدُ خوفاً منك , المؤمن يخاف ! ولكن يخاف الله أكثر من خوفه الناس , فيراهم صغاراً حقيرين أقلّ من أن يفكر فيهم .. المؤمن يخاف عذاب الله , وليس عذاب الناس , إنه يرى عذاب الناس لهواً ولعباً ... فماذا تخاف يا جد ؟ أتخاف أم تتهرب ؟! أم تستخذي ؟!
 
ويعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجيب , ولكن السماء تجيب لتسجل هذه اللفتة المباركة , لكلّ الذين يخافون على دين الله " كما يزعمون " , الذين يخافون الفتنة بكل ضروبها وألوانها , يأتي جواب السماء لكل الذين يخافون , أو يتهربون .. أو يستخذون : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين )  .
 
الفتنة أن تخاف الفتنة , الفتة أن يقعدك خوف الفتنة عن العمل والجهاد .
 
     وفيها سقطت , يا جدّ , فلا تسقطوا يا خلفاء الجدّ فيما يحيط بالساقطين . وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .
***
 
     الدموع ؛ المياه المطهرة لأدناس النفوس , المطفئة لحرق القلوب , المتسامية بأرواح البشر .
 
     الدموع ؛ رحمة الله للإنسان , غيث يجود من سماء الإنسان , فيحي ما مات من قلبه , كما يحيي غيث السماء , ما مات من الأرض .
 
     الدموع الصادقة ؛ جناح يحلّق ويحلق , ولا يحط , علم الله , إلا في كفّ الله .
 
     الناس في المدينة ؛ أحاديث ونجوى , أناسٌ يتناجون بالبر والتقوى , وآخرون يتناجون بالإثم والعدوان , وأناسٌ يناجون الحسرات , ويحاورون العبرات , ويجتمعون إلى أنفسهم علهم يؤنسونها , أو ينسونها الوحشة والاغتراب .
 
لقد كممت الحاجة أفواه أولئك النفر , وغلّتِ ألسنتهم , وأبدلتهم من البشاشة كآبةً , ومن الانطلاق انقباضاً , ومن الحركة سكوناً , فما هم من الناس ؛ وإن كانت قلوبهم كالطيور ترتفع وتهبط لكل حدث أو حديث في دنيا الناس .
 
كانوا ينظرون إلى هذا المهرجان العظيم من حولهم , فيفرحون أن سيكون للمسلمين غزوةٌ جديدةٌ , يكون من ورائها نصرٌ جديد , وستفتحُ أبوابُ الجنة لهم من جديد . ثم يذكرون عدم قدرتهم على المشاركة في هذا الخير العظيم , فينكفئون على أنفسهم , يمضغون الحسرة والألم .
 
كانت نفس عمرو بن حمام بن الجموح , تثور به كلما حاول أن يسكنها , كان يعللها كما تعلل الأم طفلاً ساغباً , لا تجد ما تسُدُّ به رمقه .
 
- يا نفس ألا يكفيك ما شهدتِ مع رسول الله ؟!. والله قد عذرَكِ عن هذه الغزوة , فليس بإمكانك أن تخرجي دون راحلةٍ وزاد , فاقتنعي بما قسم الله , وارضي بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
- يا عمرو ! إنه حُلْم العمر , والأمل البعيد ؛ الخروج مع رسول الله , والقتال تحت رايته ... يا عمرو ؛ لست , والله , قانع بما تحاول أن تقنعني به ؛ انظر هناك ؛ المسلمون يخرجون من المدينة ؛ المدينة فارغة خاليةٌ , إلا من منافقٍ أو مغموزٍ , المسلمون ينطلقون تعانق هذه الرمال أقدامهم , رحلة رائعة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
يا عمرو واشوقاه إلى الغد ؛ غداً يجوعون , يعطشون , يتعبون , يقاتلون , يَقتلون , يُقتلون مع رسول الله وأنت هنا .. ثم يعودون فتستقبلهم النساء والولدان , وأنت يا عمرو منهم ... أرضيت ؟! وترتفع عينا عمرو وقد اخضلّتا , فتلتقي بأعين أخرى غضيضة كسيرةٍ , كانت تعاني مثلما يعاني .
 
ما أشق أن يعذر المرء ؟! وما أقسى ؟! ويلٌ لأولئك الذين يطلبون الأعذار فلا يجدونها , فيختلقونها اختلاقاً , ويل لهم , لو اعطوا قدرتهم لهؤلاء الذين يرون الأعذار كالقيود , في قلوبهم وأفكارهم وأبصارهم , ما أشق أن يعذر الرجل فيقال له : اقعد فأنت غير قادر على أن تصحب الرجال !!! وتثور نفس عرباض بن سارية كما ثارت نفس عمرو , وتجيش نفسه , كما جاشت نفس الأول , ثم يرفع رأسه , وكأنما سنح له بارقُ نوراني توهج في قلبه , وتألّق في عينيه , فرفعهما بعد ذلّة وانكسار . ورأى أصحابه البريق في عينيه , فرفعوا رؤوسهم يلتمسون أن يجدوا في هذا الشعاع المتوقد , حياة لأنفسهم , وصاحت أعينهم جميعاً : ماذا وراءك يا عرباض ؟ قل .
 
     عرباض : والله لن نقعد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولأغدونّ إليه فأسأله الحِمْلان , عسى أن يكون عنده ما يحملنا عليه .
 
     ويغدون جميعاً إلى رسول الله , ورسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر الناس , وتجهيزهم والإعداد للغزوة , يأتيه الركب , ينظر إليه فيعلم ما يريدون , ولكنه يعلم أيضاً عدم استطاعته تحقيق ما يريدون .
 
- يا رسول الله جئناك لتحملنا !!!
 
     يا رسول الله جئناك لتحملنا !! إلى أين ؟ إلى تبوك إلى الحرب إلى الموت , لتحملنا على الطريق الشاق الطويل , الذي يتهرب منه المتهربون , ويشكك فيه المشككون !! يا رسول الله جئناك ... جئناك لا لنأخذ وإنما لنعطي ... لنعطيَ ما نستطيع من عطاء .
 
ويكون ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسياً , لا في ذاته , وإنما بالنسبة إلى القلوب الكسيرة التي جاءت لتعطي وكأنها تأخذ , جاءت لتعطي كما يأخذ المتعففون قطعة خبز يسدون بها رمقهم خشية الموت .
 
- لا أجد ما أحملكم عليه .
 
ويتوارى الركب وكأنما يسأل منكراً , يتولى حياءً وانكساراً وألماً وحسرة , وتفيض الدموع ؛ ألا تباركت الدموع , ألا تباركت دموعاً تعاليت حتى كنت دوياً في السماء , ونشيداً للمؤمنين في الأرض .
 
     ألا تباركتِ , يا حبات القلوب , يا معالم طريق الهداية . يا لآلئ البشرية في أوج الصفاء والنقاء . دموع , هي في ميزان الله أكبر من الدنيا وما فيها , دموع العاجز عن نصرة دين الله , يتحرق شوقاً إلى النصرة , دموع انسكبت لتغسل حَوْبَة العجزِ , وإثمَ القعودِ , وتطفئَ حرقةَ الأعذار .
 
إن العجز عن القيام بأمر الله ليس عذراً , إن العجز عن القيام بدين الله ليس رخصة , تستريح إليها النفس ويركن إليها القلب , وينام صاحبها رخياً رضياً . إنني لمعذور !! إن العذر حين يوجد للمعذور , ولا يخلّف في نفسه حسرةً وألماً , ولا يفجّر قلبه دموعاً وحرقةً يُعدُّ إثماً , كإثم المتخلفين . إن من استراحت نفسه إلى العذر كمن لا عذر له . العذر قيد في القلب , وعقبة في الضمير , يحاول المسلم أن يتخطاها , ويبكي , تفيض عيناه كما أخفق .
 
     أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل . والله غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون ) . صدق الله العظيم .
 
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دربه لا يلوي على أحد ممن تخلف . وخلّف علياً رضي الله عنه في أهله , ومحمد بن مسلمة الأنصاري على المدينة . ولم يبق في المدينة غيرهما , إلا معذور , أو منافق أو طفل وشيخ وامرأة , ونفرٌ من المسلمين كان لهم فيما بعد شأن آخر .
 
كان أبو خيثمة يطوف في المدينة , فلا تقع عينه إلا على منافق , أو مغموز أو معذور . ويعود أبو خيثمة إلى بيته وهو يآمر نفسه , بعد أن خلت المدينة من الناس : ترى لماذا بقي هو ؟! أخوف الحرب وهو ابنها ؟! أم خشية الصحراء وهو من رجالها ؟! أم هرباً من الحر ؟ ومتى كان الحُرُّ يخاف الحَرَّ ؛ ونار جهنم أشد حَرّاً ؟!.
 
كان أبو خيثمة يذكر رسول الله , وحبه إياه , وإيمانه به , وجهاده معه , ثم يتلوى أمام هذه الغزوة الصعبة القاسية , في هذه الظروف , التي منّى أبو خيثمة نفسه بها طوال أيامٍ كثيرة . طالما منّى نفسه أن يقضي فترة من المتعة والهدوء والاستقرار , في الظل البارد والزوجة الحسناء .
 
- لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ هذه الغزوة حتى ينصرم الصيف , لكنت أول المنبعثين , ولكن لا !! الآن نخرج من الجنة الوارفة إلى البيداء المحرقة ؟!! ما الفرق بين أن تكون الغزوة في الصيف أو في الشتاء ؟! يا إلهي ما أقسى الخروج ؟!!
 
- ولكن رسول الله يا أبا خيثمة لا ينتظر رغبات الناس وشهواتهم ؛ إنها دعوة , يا أبا خيثمة , والدعوة تشق طريقها كما ينبغي لها , دون اعتبار لرغبات الناس , أو لأهوائهم .
 
يصل أبو خيثمة إلى حائطه , وهناك يجد الجنة التي يتمنى . زوجتان وضيئتان , في عريشين جميلين , قد أصلحت كل واحدة عريشها , وربطته , وتزينت لزوجها تناديه بكل حقائقها : هلم إليّ ...
 
     ويقف أبو خيثمة على باب حائطه ينظر , وظنت الزوجتان أنه إنما يفاضل بينهما , بينما كان أبو خيثمة يتصدى لإغراء من نوع آخر ؛ إغراء الحقيقة التي قامت في داخله تناديه , الحقيقة المتجردة من الزينة والعطر , الحقيقة القائمة في قلبه تدعوه إلى الشمس , إلى الصحراء : يا أبا خيثمة هلمّ , يا أبا خيثمة أنا أجمل وأنقى من زوجتيك , يا أبا خيثمة أنا أورف وأندى من عريشيك , يا أبا خيثمة أنا خير وأبقى من مالك ... يا أبا خيثمة أنا مع رسول الله , أنا مع المؤمنين , وأنت مع من ...؟!!
 
أبو خيثمة : " رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِح والريح والحر , وأبو خيثمة في ظل بارد , وطعام مهيّأ وامرأة حسناء في ماله مقيم , ما هذا بالنَصَف . والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم " .
 
- صدقت يا أبا خيثمة , والله ما هذا بالنَصَف !! تطمع بالجنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله في الضِح والريح , وأنت في الظل البارد والماء البارد !!!
 
     طريق الجنة ؛ يا أبا خيثمة , ضِحٌ وريحٌ , مكارهٌ وعقباتٌ , أشواكٌ ورمال ... طريق الجنة لا ظل ولا عَبَق ولا بُخور ولا هالات نور .
 
     طريق الجنة ؛ قيدٌ وسجنٌ وعذابٌ , فاسلك يا أبا خيثمة أو فدع . ويسلك أبو خيثمة ينطلق وحيداً خلف الركب .
 
     وفي الطريق الطويل , يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم متفقداً أصحابه , متسائلاً عن تلك الحقيقة التي غرسها في قلوبهم ؛ تُرى ما فعل أبو خيثمة ؟!
 
     ما فعل أبو خيثمة وعهد رسول الله به غرسة من غراس يده , التي لا يستطيعها الشيطان , ولا تقدر عليها الأعاصير , أماتت الحقيقة في قلب أبي خيثمة ؟! تلك الحقيقة الحية النامية , الفاتنة , الجذابة , التي لا تصمد فقط , وإنما تتغلب على كل المغريات , وتنتصر على جميع العقبات .
 
هكذا تتجلى حقائق الدعوة في قلوب الدعاة فتحيلهم أقوى من كل إغراء , وفوق كل المغريات , ويلوح راكب منفرد خلف الركب :
- يا رسول الله هذا راكب يتبعنا !!
 
وينظر رسول الله فيرى الحقيقة التي غرسها في قلب أبي خيثمة تتوهج نوراً وجلاءً وبصيرةً فيقول :
   " كن أبا خيثمة " .
- هو والله يا رسول الله أبو خيثمة .
 
ويقترب أبو خيثمة , ويجب قلبه , لقد وصلت . وتغيب الكلمات , وتضيع في قرارة نفسه , فليس له كلام . ويغض بصره أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويتلقاه الرسول بالبسمة المربية . يا أبا خيثمة أولى لك . وينشد قلب أبي خيثمة :
 
ولما رأيت الناس في الدين نافقـوا       أتيـتُ التي كانت أعفُّ وأكرمـا
وبايعـت باليمنى يـدي لمحمــدٍ       فلم أكتسب إثمـاً ولم أغْشَ مَحْرَماً
تركتُ خضيباً في العريش وصِرْمة       صفايا كراماً  بُسرهـا قد تحممـا
وكنت إذا شك  المنـافـق أسمحت       إلى الجين نفسي شطره حيث يمّما
***
     الصحراء واسعة رحيبة مكشوفة , وكذلك كل ما فيها , والشمس منيرة نافذة لا يقوم لها شيء ...
 
     كانت الصحراء تنضي الأجساد , وأشعة الشمس تبحث خبايا النفوس , فتنفذ إلى مواطن الضعف في تلك الغراس البشرية المتحركة فتميتها , أو تظهرها جلية واضحة وتعريها أمام أعين الجميع .
 
     العقبات في كل طريق كثيرة ؛ ولكن طريق الجنة عقبات كله . واقتحام هذه العقبات واحدة بعد واحدة هو الفوز الأكبر , والإخفاق في واحدة إخفاق في الجميع دون شك . فما أشقك طريقاً , خُفِفْت بالمكاره , ومُلِئْت بالمشاق ؟! ولكن ما أيسرك على النفس التي تعرف فتعرف ما تريد , وتنظر فتتحقق مما ترى ؟!
 
لقد انتصر كثير من ضعاف الإيمان على الشّح فبذلوا , وصبروا عن القعود فانطلقوا ؛ ولكن لك الله يا طريق تبوك , كم جلوت من جوهر , وكشفت من حقيقة ؛ لك الله يا محكّ الرجال , وأتون الحقائق , ومجهر النفوس , لك الله يا طريق الإيمان , ما أشقّك وما أمرّك , وما أيسرك وما أحلاك ؟!
 
     لك الله يا طريق , كم جازك العابرون , وسقط عليك الساقطون ؟! فاتصل الجائزون , منذ محمد صلى الله عليه وسلم , حتى اليوم , وسيتصلون ؛ اتصلوا زهوراً دائماً في ربيع , وأرضاً دائماً في عطاء , وسماء دافئةً حنوناً .
 
وانقطع الساقطون فكأنك ما عرفتهم ولا عرفوك , ولا ألفتهم ولا ألفوك , ولا رأيتهم ولا رأوك . أتذكرهم يا طريق ؟! وفيهم من جاز منك مرحلة , وفيهم من جاز مراحل ؛ وفيهم من سقط قاب قوسين من الفوز المبين , ولكنه سقط فما تعرفه ولا تذكره , سقط عليك الكبار والصغار ؛ ومن سقط لا صغير ولا كبير , هم يسقطون ويسقطون , والربيع ما زال يبدع ألف فن من الزهور , هم يسقطون والأرض ما تزال تعطي بألف لون من العطاء , هم يسقطون والسماء ما تزال تنسج ألوف الرجال ...
 
كان الطريق إلى تبوك يقبل أقدام المؤمنين , الذي يجوزونه إجلالاً وإكباراً , بينما اخذت بعض النفوس تتلوى تحت مطارق العقبات , ثم لا تلبث أن تتردد ثم تسقط ... تسقط على الطريق , ويطير الخبر إلى رسول الله , يا رسول الله ... تخلّف فلان , سقط فلان , ويبتسم رسول الله , وما في ذلك ؟! إنها طبيعة الطريق , وفطرة النفوس , وقوة القلوب تتجلى واضحة أمامنا .. ويجيب الرسول : " دعوه ... " دعوه ليسقط من شاء , فالطريق له , وليس لكم , الطريق لمن يسير عليه , دعوه فالطريق متصل بغيره , وهو من قبل أن يسير على الطريق ؟!!
 
دعوه على لسان من خط الطريق , دعوه على لسان من دعا إلى الطريق , دعوه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
 
ويجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوه إن يكن فيه خير " إن يكن من رجال الطريق , إن يكن من نجوم الهداية . " فَسَيُلْحِقُه الله بكم " . دعوه يا رجال , فما يكون أن يتوقف الركب لراكب , ولا أن ينقطع الطريق لمنقطع ...
 
دعوه , ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون , فأنتم على طريق لا يلتفت سالكوه , أنتم على طريق لا ينقطع ركبه مهما انقطعت ركابه . وقالوا : يا رسول الله تخلف فلان وفلان ... وفلان , والرسول صلى الله عليه وسلم يجيب :
 
     " دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه " المنقطع لا خير فيه فلماذا تتحملون عبئه ؟
 
     المنقطع شر عليكم , وعلى الدعوة وعلى الطريق , والله يأبى لهذا الطريق , أن يسير عليه من لا خير فيه .
 
     وقالوا يا رسول الله تخلف ...
- من ؟
     قالوا : تخلف أبو ذر !!!
     أبو ذر تخلف !!! ويجيب الرسول :
- دعوه ...
- الله أكبر , أبو ذر , دعوه !!!؟
     أبو ذر !!؟ أبو ذر !!!؟
     ويجيب الرسول :
     " دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذك فقد أراحكم الله منه " .
 
دعوه .. ولو أبا ذر , فطريقنا لا ينقطع بأبي ذر ولا بغيره , طريقنا ليس طريق أشخاص , يا أصحاب , طريقنا ليس طريق أسماء فارغة , ولا شعارات زائفة , ولا رايات , طريقنا ؛ طريق المبادئ , طريق السماء طريق الجنة .
 
من أبو ذر قبل الطريق ؟! ومن هو بعد الطريق ؟! أبو ذر ؛ اسم يرفعه الثبات , ويجليه الجهاد , ويؤلقه الانطلاق , فإن ترك الطريق فما هو ؟ ومن هو ؟!
 
- ولكن أبا ذر ما انقطع يا جند الله , أبو ذر ما تخلف . وكيف ؟! وهو يعرف أنه يستمد وجوده وحياته , تطلعاته وأشواقه من هذا الطريق , كيف ينقطع إنسان أيقن أنه خلق ليكون على الطريق معلماً بارزاً يُثَوّب للمترددين والتائهين والمعتذرين , أن هذه هي سنة الطريق فأقدموا , وتبينوا , وانطلقوا ... أبو ذر ما انقطع , وكيف ؟! والطريق يعرفه . كل حُبيبةٍ من رماله تشهد له , كل ذرة نورٍ تتوهج عليه , تُقرّ بأنها لامسته فوجدته ذهباً خالصاً , لا خَبَث فيه .
 
وتدوي كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم في آذان الكرب : " وإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد اراحكم الله منه " .
 
- واأسفاه أيمكن أن يكون أبو ذر من المنقطعين ؟ أيمكن أن يكون من الذين لا خير فيهم ؟! أليس من الممكن أن يكون له عذر ؟!
 
- لا أعذار على الطريق , أما سمعت رسول الله ؛ إن لم يلحقنا أبو ذر فقد خسر خسراناً مبيناً ! رسول الله يعلنها صريحة " إن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم " .
 
- ثبت الله خطاك يا أبا ذر ماذا دهاك ...؟!
 
ولكن كيف لمن يمور الربيع في نفسه , وتضطرب الحياة في قلبه , ويتأجج النور في عينيه , كيف يتسنى له أن ينقطع عن العطاء , عن النماء .. عن الهدى ..؟!
 
- وأبو ذر تخلف !!!
 
لا يا جند الله ما تخلف أبو ذر , ولكن المتخلف هو جمل أبي ذر ... لقد أبطأ الحيوان , عجز الحيوان الصبور , عجز الجمل عن الطريق وانقطع ! أما أبو ذر , فلا ثم لا . ويتلوّم أبو ذر على جمله ... ولكن الجمل انقطع ؟! وحيداً هناك , مع تلك الرمال التي راحت تداعبقدميه , وحيداًمع تلك العين الناقدة التي كانت تعريه خليةً خلية , وإحساساً إحساساً , هناك في وسط الطريق , أبو ذر وحيداً صامداً يخوض الاختبار , ويصمد للتحدي , وتخجل منه الرمال فتعانق قدميه بحرارة وشوق , وتنكفئ الشمس حسيرة , أمام شمس الحقيقة التي انعكست في عينيها فجعلتها خابية حسيرة ...
 
ولم يكن التحدي قد انتهى , فهناك من هو أقدر وأبرع على اللعب بالقلوب والعقول والأفكار , أقبل صانع الأعذار يحجل بعيداً عن أبي ذر , خوفاً من التعرض المباشر لهذا النور المتوهج , يعرض خدماته لمن يشتهي , يمسح معالم كلمات الضعف والتخلف والانقطاع , لكي يختبئ وراءها من شاء , يقلّب الحقائق , يزوّرها يسميها بغير أسمائها , مر بعيدا ً عن أبي ذر , ولكن أبا ذر كان في شغل عنه بحيث أنه لم يتبينه أو يره . كان أبو ذر يفكر في طريقة يستحث بها جمله على متابعة الطريق !!!
 
ويحك يا جمل .. الرحلة مع رسول الله فلا تفوتنك , ويحك يا جمل , اصبر فلمثل هذا الطريق يصبر الصابرون , أترضى أن يقال عنك غداً : جمل أبي ذر مثل فلان وفلان من المنقطعين ؟! يا جمل إن التخلف عن رسول الله لا يطيقه ذو كبد فكيف تصبر عليه ؟!
 
ويحمل الجمل حنيناً أليماً , ويتمطى متحاملاً على نفسه , محاولاً النهوض , ولكن الإعياء يحول بينه وبين ذلك , فيسقط على الطريق من جديد , لقد أنف أن يكون من المنقطعين , ولكن هيهات أن تسعفه قواه .
 
وهنا يشعر أبو ذر بالرمال تغلي تحت قدميه , تتواثب تدفعه إلى الانطلاق , تحدو له إنني أنا رفيقة الطريق ومطيته ... ويكون أبو ذر مطية لمتاعه , يحمله على كتفيه , ويمتطي الرمال الحبيبة . لبيك يا رباه , وحيداً على الطريق يتبع الركب , فما أخيب من انقطع عن ركب رسول الله ؟! وحيداً على الطريق ؛ راكب ومطية , نفس تمتطي جسداً , وروح تمتطي مادة , وتلوح للأجيال عبر القرون : ما أخيب من انقطع عن ركب رسول الله ؟!
 
راكب ومطية , على الطريق , يؤذّن في الناس مستقبلاً الزمان ... نحن الذين نقتل الأعذار ...
 
     راكب ومطية على الطريق , وحيداً , بل هو أمة في واحد , هو أبو ذر , هو علم من  أعلام الطريق .
 
ويلحق الراكب الراكب , ويبدو شخص يلوح وحيداً على الطريق .
 
- يا رسول الله هذا رجل يمشي وحده !!!
     رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدوء " كن أبا ذر " .
وقالوا : هو والله يا رسول الله أبا ذر .
 
     ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده , ويبعث وحده " , الله أكبر ويتصل الراكب الوحيد بالركب الجاد إلى تبوك .
***