الرئيسة \  رؤية  \  العصبوية داء العقول والقلوب .. أزمة صناعها وأبطالها هم ضحاياها الأولون

العصبوية داء العقول والقلوب .. أزمة صناعها وأبطالها هم ضحاياها الأولون

27.11.2014
زهير سالم




لا أعتقد أن ابن خلدون هو أول من أشار إلى دور العصبية في حركة الدول في أدوار قوتها وضعفها . قد يكون ابن خلدون هو أول من صاغ المعطى في نظرية أصبحت ترتبط باسمه كلما قارب الناس تاريخ العمران السياسي وقيام الدول واندثارها.
والعصبوية كحالة عنصرية تستحكم في العقول والقلوب البشرية : ( فاعلة وقابلة ) ليست خاصة بأمة دون أمة ، ولا بحضارة دون حضارة ، بل لعلها في عالم أمة العرب في بداوتهم وحضارتهم وجاهليتهم وإسلامهم أقل شأنا منها في تاريخ غيرهم من الأمم والحضارات ؛ حيث لاحظنا تاريخيا هرمية مجتمعية أكثر انغلاقا وصلابة ، كما كان عليه الحال في أوربة الطبقات الثلاث : النبلاء ورجال الدين ثم العامة وذلك قبل أن تتشكل ما سميت بالبرجوازية التي كانت بحد ذاتها شكلا من أشكال الثورة الاجتماعية . فالبرجوازي هو رجل اغتنى ونال حظا من ثقافة جعله يرى نفسه أهلا ليلحق بالنبلاء ، والتركيز هنا على كلمة يلحق مهم و جوهري .
 في المجتمع الهندي توزع الناس على خمس طبقات كتيمة غير نافذة ، بمعنى أنه لا يمكن للإنسان مهما تغير وضعه الاقتصادي أو الثقافي أن يخرج من طبقته التي هي جزء من جيناته التكوينية إلى طبقة أخرى في مجتمع يختلط فيه المجتمعي بالمقدس الديني . وحيث يحرّم المجتمع الهندي على اختلاف ملله الاختلاط أو التزاوج بين أبناء الطبقات . ولعل وضع طبقة المنبوذين في ذلك المجتمع هو أكثر الأوضاع الإنسانية مأساوية و إثارة للشفقة ..
لا نريد في هذا المقام الحديث عن العصبوية في تجلياتها وتداعياتها الاجتماعية فلهذا البحث مواطنه التي تليق به . وإنما نريد الحديث عن العصبوية السياسية وتداعياتها وانعكاساتها على الحياة العامة للأمم والشعوب في إطاريها الوطني العام والعصبوي الخاص .
يمثل لبنان جزء من الواقع العربي بواقعه الطائفي المزمن والمستعلن صورة واضحة للمرض العضال الذي تعاني منه مجتمعاتنا . يموت الزعيم اللبناني الذي كنت في مرحلة ما ترى حديثه ملء السمع والبصر وفجأة يطالعك خلفه وقد أصبح ( زعيما ) بالوراثة المدعومة من العصبية السياسية والطائفية والإقطاعية تتكدس العصبيات في شخصه بعضها فوق بعض فتجعل منه زعيما وتنفخ فيه من كيرها الأسود المربد ، فتسأل نفسك جادا : ماذا رأى فيه قومه حتى سودوه ؟! ثم لا تلبث أن تعود باللوم على العصبية ، وأنت ترى كل الذين يلعنونها ينغمسون حتى آذنهم فيها ...
مفكرون وباحثون وسياسيون كثيرون تساءلوا عن إمكانية المواءمة بين الإسلام والديمقراطية . لا أريد أن أقلل من أهمية السؤال ، ولا أن أتجاهل خطورته وجديته ، ولكن التهديد الأخطر الذي يجب أن يُطرح سؤاله حول العالم وفي منطقتنا الغارقة في العصبية : الدينية والمذهبية والعرقية والسلالية هو تهديد العصبية التي تعمى تحت تأثير أشعتها الصادة العقول والقلوب ، فأي مكان للديمقراطية في شعوب تصوت على خلفيات مذهبية أو طائفية أو قبلية او سلالية أو ربما حزبية تقوم على هذه الخلفيات ؟! ...
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واجه هذه الظاهرة الخطيرة بالتحذير منها ابتداء فهي منتنة وهي دعوى الجاهلية . ثم حاول احتواء الحالة الضاربة في أعماق اللاوعي العربي بنوعين من الخطاب ؛ الأول حديث خبري ساير فيه واقع المجتمع بما هو قائم فقال ( الأئمة من قريش ..) قريش القبيلة ذات العصبية التي قال عنها أبو بكر يوم السقيفة مخاطبا الأنصار : لقد علمتم أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، وفي الوقت نفسه ندب رسول الله المسلمين بحديث أخرجه مخرج ( الأمر ) ، والذي أول دلالته الوجوب ، ودعوة للارتقاء إلى أفقه فقال : ( اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) . الحديث الذي تم القفز عليه في تاريخ الفكر السياسي لفقهاء الإسلام .
عمليا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه إباء النفوس بطرائق من العلاج العملي فيتفنن في تولية أمرائه وقادة سراياه وجيوشه ومن يوليهم على المدينة في تولية الصغار على الكبار ، وحديثي الإسلام على سابقيه ، والضعفاء على الأقوياء . وأكثر من مرة ولى ابن أم مكتوم الضرير على مدينته أثناء غيابه عنها .
وكما اعتبر مالك بن نبي رحمه الله القابلية للاستعمار حالة من حالات الارتكاس الفكري والحضاري للمجتمع ، فإن القابلية للتبعية خلف كبير من الكبراء على أي خلفية كانت ( الادعاء ) أو ( الخلع ) والادعاء ما يدعيه الإنسان لنفسه ، والخلع ما يخلعه عليه لأتباع ، فما أكثر ما يخلع الأتباع على كبرائهم ما لا يدعونه لأنفسهم ..
لن تلام العقائد ولا الشرائع ولا الملل والنحل ما دامت العقول والقلوب تستطيب أن تتبع ويلذ لها أن تنقاد . إنها أزمة خانقة تستحكم في العقول والقلوب تضرب عالمنا تاريخيا على محور طنجة - جاكرتا . أزمة صناعها وأبطالها هم ضحاياها من حيث يعلمون أو لا يعلمون ...
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ...
لندن : 5 صفر / 1436
27 / 11 / 2014
----------------
*مدير مركز الشرق العربي
للاتصال بمدير المركز
00447792232826
zuhair@asharqalarabi.org.uk