الرئيسة \  دراسات  \  الهُوية السورية المبدّدة، هل في وسع السوريين استعادة هُويتهم الوطنية الجامعة؟

الهُوية السورية المبدّدة، هل في وسع السوريين استعادة هُويتهم الوطنية الجامعة؟

08.08.2016
مركز حرمون للدراسات




مركز حرمون للدراسات المعاصرة - 23 يوليو 2016
http://harmoon.org/wp-content/uploads/2016/07/syrian-identity.pdf
المحتويات
أولًا: مدخل
ثانيًا: عودة إلى الماضي
ثالثًا: نظام الأسد
رابعًا: تجربتنا السياسية المهيضة
خامسًا: حول الهُوية
سادسًا: خاتمة وخلاصات
 
في ظلّ نزاع الهُويّات القائم اليوم، ومع ما أوصلت سياسات الهُويّة السوريين إليه، وكذلك الحرب التي عصفت بهم، من تفكّكٍ مريعٍ للنسيج الوطنيّ، أصبحت سورية في حاجةٍ ماسّة إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ ينقلها إلى الحالة الوطنيّة الأرحب.
 
أولًا: مدخل
من بين الشعارات التي رفعتها الثورة السورية التي انطلقت في منتصف آذار/مارس 2011، هناك شعاران يختزلان ويكثفان المطامح التي كان يرنو إليها السوريون من وراء ثورتهم هذه، أولهما: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، وثانيهما: ذلك الذي تحوّل إلى أهزوجة، صدحت بها حنجرة القاشوش، وحناجر السوريين من ورائه: “سورية بدها حرية”.
يعكس هذان الشعاران إحساسًا عميقًا عند السوريين، ويلامس حدً الوعي، الحاجات التي يفرضها عليهم الواقع، ويظهر الاستجابة إلى هذه الحاجات؛للخروج من قيود الاستبداد الذي أذلّهم، وأهانهم، وصادر كرامتهم، الفردية والجمعية، طوال أكثر من خمسة عقودٍ ، وحوّلهم إلى كائنات بيولوجية ليس لها سوى أن تأكل وتشرب وتنام وتتناسل؛ وأوصل بلدهم إلى هذا المستوى من التردّي والانحطاط.
وهما يشكلان عنوانين عريضين لبرنامج سياسي متكامل، يوجّه خطاهم إلى طريق المستقبل المنشود؛ فالشعار الأول (الشعب السوري واحد)، لم يكن يشير إلى حالة عيانية مجسّدة، أو حالة واقعية محقّقة، بل يشير إلى حاجتهم إلى استعادة هذه الوحدة التي عبث بها نظام الاستبداد؛ حين عمل-استناداً إلى برنامج متكامل- على استدعاء سائر العصبيات والنزعات ما قبل الوطنية؛ الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية، وحوّل الشعب إلى شيعٍ وطوائف متنابذة ومتناحرة، وأفقده هُويته الوطنية الجامعة، سعيًا وراء تأبيد سلطته الغاشمة. أمّا الشعار الثاني (سوريةسورية بدها حرية)، فهو يشير إلى أن الحرية هي الشرط اللازم لاستعادة وحدة الشعب المفقودة، وهُويته الوطنية المبدّدة.
على الجانب الآخر؛ رفعت أجهزة السلطة وأتباعها شعارين لافتين ومعبّرين، يعكسان ويكثفان أيضًا البرنامج المقابل؛ أولهما: “الأسد أو لا أحد”، وثانيهما: “الأسد أو نحرق البلد”.
وفي الوقت الذي كان فيه السوريون، يتوقعون أنّ انتصار ثورتهم لن يكون بعيدًا؛ فإنهم-في المقابل- لم يكن يدور في خَلدهم، أنّ النظام يمكن أن يُقدم على تنفيذ برنامجه بحرق البلد وتدميره، وقتل شعبه وتهجيره، من أجل تأبيد سلطة الأسد.
 
ثانيًا: عودة إلى الماضي
في عودة سريعة إلى الماضي-وبالتحديد؛ إلى الحالة التي شهدتها سوريةسورية في السنوات الأولى، التي أعقبت خروج المستعمر الفرنسي من البلاد، في منتصف الأربعينيات من القرن الفائت- يتبيّن لنا بصورة جليّة، كيف أنّ السوريين كانوا عازمين على تأسيس دولتهم الوطنية، ومجتمعهم الديمقراطي التعدّدي، وتكريس هويتهم الوطنية الجامعة، التي تشكلت ملامحها عبر سنوات الكفاح ضدّ الاستعمار، من أجل نيل الاستقلال الوطني. وقد عملوا فعليًا، عبر شرائحهم المجتمعية وتجمّعاتهم السياسية، في هذا الاتجاه. لكن؛ سرعان ما انقطع هذا المسار في إثر نكبة فلسطين في عام 1948، أي بعد نحو ثلاث سنوات فقط من عمر الاستقلال، وفي إثر الارتدادات التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، التي شهدتها البلاد في السنوات من 1949 وحتى 1954، ردًا على النكبة. غير أنهم(أي السوريين) سرعان ما استردّوا زمام المبادرة بعد القضاء على حكم أديب الشيشكلي في عام 1954، واستأنفوا من جديد مسارهم الوطني الديمقراطي، وبناء دولتهم الوطنية الحديثة.
ومن المسائل المهمّة اللافتة لانتباه الباحثين والدارسين، أن الهُوية الوطنيّة الجامعة كانت في طريقها إلى التشكّل، بالموازاة مع بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها، والمجتمع الديمقراطي التعدّدي. ففي العلاقات التي كانت سائدة بين الناس، كان الإنسان يُعرّف بدلالة هُويته السياسية، وليس بدلالة أي هُويةٍ أخرى. فكان يُقال، على سبيل المثال: “هذا بعثي” و”هذا شيوعي”، هذا “أخوان مسلمين”، هذا “قومي عربي” و”هذا قومي سوري”..الخ، ولم يكن يجري التعريف بدلالة الانتماءات أو الهُويات الأخرى الجزئية، ذات الصبغة الدينية أو المذهبية أو الجهوية أو الإثنية.
هذا يعني -أيضًا- أنّ الانقسامات التي أخذت ملامحها بالظهور والتشكّل على صعيد المجتمع، كانت ذات طابع سياسي-اجتماعي، أي ذات طابع أفقيّ، تحكمه صراعات المصالح الاجتماعية المشروعة، وهو الأمر الذي يؤسّس فعليًا لتحقّق الاندماج الوطني؛ وليست ذات طابع آخر، ديني أو مذهبي أو إثني، أي انقسامات عمودية تؤسّس لتحاجز اجتماعي، يمكن أن يؤوّل إلى صراعات وحروب أهلية بغيضة، وإلى حالة ما دون وطنية.
لقد كان السوريون فعلًا في طور تشكّل هُوية وطنية سورية جامعة، كان يمكن أن تحوز شروط تحقّقها، عبر إرساء دولة وطنية حديثة، ومجتمع ديمقراطي تعددي.
لكن سرعان ما انقطع هذا المسار مرة ثانية، في عام 1958 في إثر قيام الوحدة مع مصر، في ظلّ توجّه خارجي -غربي تحديدًا- ضاغطٍ على سورية، فلم يُتِح لأوضاعها وبناها الداخلية أن تتطور وفق منطق طبيعي.
بعد انفراط عقد الوحدة السورية- المصرية في عام 1961، وعلى عكس ما حدث في عام 1954، عندما استأنف السوريون مسارهم، في إرساء دولتهم الوطنية الحديثة، وتكريس هُويتهم الوطنية الجامعة، بعد تجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية، لم ينجح السوريون إبّان حكم الانفصال في استئناف هذا المسار. ومنذ عام 1963-تحديدًا بعد انقلاب 8 آذار/ مارس، وتفرّد حزب البعث بالسلطة- دخلت سورية في مسارٍ من التردّي والانحدار، بعدما أخذت السلطة تتغوّل على الدولة وتعمل، بصورة منهجية، على بسط هيمنتها على الحقلين السياسي والاجتماعي، وعلى حرمان المجتمع من أن يكون له حقله أو مجاله الخاص. تعمّق هذا المسار بعد عام 1970، مع إخضاع سورية لحكم آل الأسد، الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن.
 
ثالثًا: نظام الأسد
قام نظام “الحركة التصحيحية” -الذي استتبّ له الأمر في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1970-على أرضية توافق دولي، أميركي-سوفياتي (إسرائيل ضمنًا) تحديدًا، وكان له – بموجب هذا التوافق- دور وظيفي على صعيد الإقليم، مع إطلاق يده في الداخل السوري، ولقد أدّى هذا الدور على الوجه المطلوب، في لبنان وفلسطين والعراق والأردن وأماكن أخرى أيضًا، كما هو معروف؛ لكنه -أي النظام- احتفظ بهامشٍ من المناورة؛ فكان يتحرك فيه لمصلحته، في مواجهة رعاته؛ فينجح أحيانًا، ويخفق في بعض الأحايين.
أما في الداخل السوري؛ فقد أطلق العنان لنفسه، من أجل بسط هيمنته على الحقلين السياسي والاجتماعي، وعمل على نزع السياسة من المجتمع، الذي حرمه من حقله الخاص، وأعاد تشكيل السلطة بدلالة المسألة الأمنية، لتصبح الأجهزة الأمنية العديدة -التي جرى إحداثها- القابض على السلطة الفعلية، ليس في المجال الأمني فحسب؛ إنّما في المجالات كافةً، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية و… إلخ، وليتحوّل “مجلس شعبه” و “حكومته” إلى واجهات لا أكثر، وأشكال بلا مضمون، ماعدا ذلك الذي يخدم أبديّة السلطة، التي تحوّلت رويدًا رويدًا لتصبح سلطة العائلة. وآل ذلك كلِّه إلى مزيدٍ من التغوّل على الدولة، التي غابت كلّ مفاهيمها المتعارف عليها؛ فتُمسي السلطة هي الدولة، والدولة هي السلطة، وغابت معها أيضًا كلّ المفاهيم الأخرى المرتبطة بها، من قبيل الوطن والمجتمع والمجتمع المدني والمواطنة والمواطن، ويغدو الناس بعد هذا كلّه أرقامًا فحسب، في قطيعٍ يتحرّك في مسيرة حاشدة.
لكنّ الأخطر من كلّ هذا؛ يتجلّى في ذلك العبث الذي جرى بمكوّنات المجتمع، عبر عملٍ ممنهجٍ، لإحياء النزعات، والعصبيات، والهُويّات الجزئية ما قبل الوطنية؛ الطائفية والمذهبية والجهوية والإثنية، وإثارة النعرات فيما بينها، من المنظور الذي يخدم أبديّة السلطة أيضًا. الأمر الذي آل إلى مزيدٍ من الارتداد الهُويّاتي، الذي هدّد بصورة جدّيّة وحدة الشعب ومقولة الشعب. وتعكسُ عمليات التفتيت هذه انحدار النظام السياسي، الناجم عن تضاؤل القاعدة الاجتماعية الداعمة له أو انحسارها. ولقد وصل الأمر إلى درجةٍ من الخطورة، أصبح معها السؤال حول إمكان استعادة  الهُويّة الوطنية الجامعة سؤالًا واقعيًا ومشروعًا.
 
رابعًا: تجربتنا السياسية المهيضة
شهد العقدان الأخيران من القرن المنصرم سجالات غنيّة بين مفكرين ومثقفين عرب حول مسائل كثيرة تخصّ الفكر والسياسة العربيين، من بينها مسألة الهُوية. وقد كشفت هذه السجالات كيف أن التيارات السياسية السائدة، القومية واليسارية والإسلامية، حبست الفكر والسياسة في أيديولوجياتها المتنابذة والمتصارعة، ونظر كلّ منها إلى نفسه على أنه ممثلٌ للحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من أمام أو من وراء، فانعدمت لغة الحوار وسادت سياسات الإقصاء وغابت لغة السياسة. وآل هذا كله إلى انفصال عن الواقع، وإلى غياب الاستجابة للمسائل التي كان يطرحها، ومن بينها المسألة التي نحن بصددها.
إن من أهمّ تجليّات هذه الأيديولوجيّات، تراجع الهُويّة الوطنيّة والهُويّة القوميّة، وهو تراجع محمول على إرساء سياساتٍ تمييزيّة، وإثارة عصبيّاتٍ فرعيّة ما قبل وطنيّة، عمّق من شأنهما الاستبدادان؛ السياسيّ والدينيّ، وما يطلق عليه أمين معلوف: “الهُويّات القاتلة”، تجسّد بصورةٍ جليّة في سائر أرجائنا العربيّة، وساد الانتماء الأعمى هذه العصبيّات التي أخذت تضيق أكثر فأكثر، مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها، ومع انحدار الحكم الوطنيّ، وكانت النتيجة ليس فحسب في اندحار الوحدة، وغياب الاشتراكية، وارتداد الإسلام؛ إنّما في ذلك المسار من التردي والانحدار، الذي وسم مسيرتنا طوال أكثر من خمسة عقودٍ مضت، وأوصل بلداننا إلى هذه الحالة من الدمار. ولا يبدو أن أحدًا من هذه التيارات، على الرغم من فداحة المشهد، قام بمراجعة ذات معنى، تعيد ارتباطنا بالواقع، وتجعلنا أكثر قدرة على الاستجابة للمسائل التي يطرحها علينا من جديد، بغضّ النظر عن المراجعات الفردية التي يمكن أن تكون قد جرت هنا أو هناك.
ومن أجل إعادة تأسيس الحالة الوطنية المتشظّية؛ فإنه يبدو أن مقولات ومفاهيم من قبيل: “الدولة، المجتمع، الهُوية، المواطن، والمواطنة” تحتلّ أولوية سلّم الحوار.
 
خامسًا: حول الهُوية
في مسألة إعادة بناء الهُوية التي نحن بصددها، وانسجامًا مع روح الثورة وتطلّعاتها، علينا الإقرار أنّ الإنسان الفرد هو محور الكون، وهو مقصد الوجود، والحرية هي جوهره وهي ماهيته أيضاً. وبهذا المعنى؛ فإن الحرية الملازمة للذات الإنسانية، وللذات الفردية، هي المصدر الطبيعي لتشكّل الهوية، وهي المدخل الطبيعي أيضًا لتشكّل الحريات الأخرى، التي تتأسس عليها الهُوية الجمعية. وبعبارة أخرى؛ إذا كانت الحرية صفة أساسية وجوهرية للإنسان الفرد؛ فإن المجال العام لا ينفصل، تحت أي وصف كان، عن مصدره الحقيقي، مجال الفرد الخاص.
نلاحظ هنا كيف كان انتماؤنا إلى “التقدم” و”الثورة” و”العالم” انتماءً زائفًا، وكيف آل بنا هذا الانتماء الزائف إلى سيادة الاستبداد والتسلط، الداخلي والخارجي معًا، الذي دمّر الحريات الفردية والجمعية، وبدّد مشروع هُويتنا، وبالتالي كيف تحوّل الكائن الإنساني الفرد، الذي هو محور الوجود وغايته، إلى كائن مهمش، وإلى ذات مهشّمة غائبة عن الوجود.
الهُوية، في الحصيلة، وفي المآل، هي اختيار؛ اختيار على صعيد الفرد، واختيار على صعيد المجتمع، وهي في حالة اختيار مستمر، وفي طبيعة الحال؛ لا يمكن للاختيار أن يتحقّق إلاّ في أجواءٍ من الحرية، فما ينتجه الفرد، وما يصنعه لنفسه، هو ما يشكل هُويته، وما ينتجه المجتمع وما يصنعه، هو ما يشكل هُويته أيضًا، والهُوية هنا؛ -إن على صعيد الفرد أو على صعيد المجتمع- في حالة صيرورة دائمة، وفي حالة تشكّل مستمر.
والتقدم والانفتاح على العالم والاندراج في التاريخ، لا يمكن أن يتحقق إلا مع مفهومٍ صائرٍ للهُوية، أيّ مع مفهومٍ يقطع مع المفهوم الذي يعدُّ الهُوية جوهرًا ثابتًا ومستقرًا في لحظة من التاريخ؛ فالأيديولوجيا السلفيّة العقيديّة -دينية كانت أم غير دينية- لديها نصّ مطلق، ولديها عالم مكتملة صورته، وفي هذا تجد هُويّتها.
فهناك من يحدّد مفهوم الهُويّة، بالعودة به إلى الأصل القوميّ أو قسرها عليه، وهناك من يعود به إلى الأصل الدينيّ، أو المذهبيّ، أو الجنسيّ.. إلى آخر ما هنالك من الهُويّات “الضيّقة”، أو “القاتلة” بحسب أمين معلوف، وليس من شكٍّ في أن هذه الجوانب جميعًا تشكّل عناصر من هويّة الإنسان الفرد، لكنّها لا تستنفد هويّته، إلا إذا عددنا الهُويّة ناجزةً مستقرّة،ً وثابتةً لا تحول ولا تزول!
الهُويّة، في مآلها الأخير، هي الإعلاء من شأن الإنسان الفرد بما هو ذات مستقلّة وحرة، والهُويّة في اللغة مشتقّة من الضمير “هو”، ويشير مفهوم الهُويّة واقعيًا إلى ما يكون عليه هذا الإنسان الفرد أو ذاك، أي من حيث تشخّصه وتحقّقه في ذاته، وتميّزه عن غيره. وهو وعاء الضمير الجمعيّ، ومحتوىً لهذا الضمير في الوقت عينه، بما يشتمل عليه من قيمٍ وعاداتٍ ومقوّماتٍ، تكثّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة.
والمفهوم الضيّق للهويّة، سواء أحلناه على أصلٍ قوميٍّ أو دينيٍّ أو مذهبيٍّ.. الخ، هو تشييئ للذات الإنسانيّة، وتنكّر لحريّة الفرد، واستقلاله وجدارته واستحقاقه، وهو، بالتالي، إقصاء للآخر على الصعيدين الاجتماعيّ والسياسيّ، بل إعدام له.
والذي يختزل الهُوية إلى انتماء واحد، متحيّز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، ويؤسس للاستبدادين السياسي أو الديني، ويستنهض الهُويات الفرعية ما قبل الوطنية، ويعمل على إقصاء الآخر المختلف، ويتنكر لإنسانيته وجدارته واستحقاقه، هو الذي يكرّس ويعمّق التحاجز الاجتماعي، ويحوّل الناس إلى قتلةٍ أوانتحاريين، أو إلى أنصارٍ للقتلة والانتحاريين، وهنا تكون العصبيات، والهُويات الجزئية ما قبل الوطنية، عاملًا من عوامل النزاع والاضطراب الاجتماعي، وتوليد حروب التدمير الذاتي، ومن المؤكد أنّ العنف ينمو عندما نعمّق إحساسًا حول هُويّة، دينيّة أو مذهبية أو إثنيّة، ونزعم أنها فريدة. إنّ رفض الآخر المبني على هذا الإحساس، لا بل كراهيته أيضًا، هو -غالبًا- أحد أسباب إثارة النزاعات والمواجهات الطائفيّة وسواها، وعندما نتأمل الصراعات القائمة حولنا وبين ظهرانينا؛ سيتبيّن لنا أن من أهم المصادر التي تغذّي هذه الصراعات؛ الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفًا مؤسّسًا على الدين أو المذهب أو العنصر.
 
سادسًا: خاتمة وخلاصات
بعد فشل تجاربنا، الاشتراكية والقومية والإسلامية، وبعد هزيمتنا المدوية في مواجهة عدونا الخارجي، وبعد صعود الأصوليات: هل ننجح في ردّ الاعتبار للفكرة الليبرالية، كنظرية محورها الفرد الحر، بغضّ النظر عن مواصفاته وتعييناته؟ وبالتالي؛ هل ننجح في جعل حرية الفرد مقدمة طبيعية، لمجتمع يحوز نمط حياة ونمط عيش مختلفين؟ هذا رهان، إذا فشلنا فيه فسوف نغذّ السير أكثر في ظلامنا الدامس.
نلمس جميعًا أن السوريّين، في معظمهم، يتطلّعون إلى وقف الحرب، والعبور إلى نظامٍ سياسيٍّ جديد، يكفل لهم وحدة بلدهم وحريّته واستقلاله، ويتطلّعون إلى نظامٍ يعبر بهم إلى مستقبلٍ آمنٍ، يعيد الاعتبار إلى سورية، وإلى شعبها، بعد التداعيات الرهيبة الّتي آلت إليها هذه الحرب، وبخاصّةٍ على صعيد النسيج المجتمعيّ الوطنيّ.
لهذا:
1- ليس للسوريين مخرج من هذا كلّه سوى في نظام وطنيّ ديمقراطيّ، بعيدًا من جميع أشكال المحاصّات، الطائفيّة والإثنيّة، الّتي لا تتيح لهم العبور إلى مستقبلٍ آمنٍ، لا بل يُخشى أنها سوف تؤول بطبيعتها إلى وضعٍ تصير فيه التداعيات الطارئة، التي آلت إليها هذه الحرب، حالةً دائمة.
2- سوف يحتاج السوريون إلى مرحلةٍ انتقاليّة، لا يعلمون إلى متى سوف تمتدّ، من أجل حلّ مسألة الهُويّات المتنافسة والمتنازعة وتحقيق السلم الاجتماعيّ.
3- ليس للسوريّين، سبيل يسلكونه لحلّ هذه المسألة إلّا في العمل على تكريس نظامٍ يعيد الاعتبار للمواطن الفرد، ويصون الحريّات الأساسيّة، الفرديّة والعامّة، ويحفظ الحقوق المدنيّة والسياسيّة للسوريّات والسوريّين كافّةً، دون تمييزٍ على أيّ أساسٍ كان، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم بأشكالها المختلفة.
4- في ظلّ نزاع الهُويّات القائم اليوم، ومع ما أوصلت سياسات الهُويّة السوريين إليه، وكذلك الحرب التي عصفت بهم، من تفكّكٍ مريعٍ للنسيج الوطنيّ، أصبحت سورية في حاجةٍ ماسّةٍ إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ، ينقلها إلى الحالة الوطنيّة الأرحب. وإذا كانت هذه الحاجة تستدعي من السوريّين تنظيم حوارٍ وطنيٍّ واسع، وإطلاقه، لإنجاز هذا العقد الاجتماعي المأمول؛ فمن المؤكد أن بناء الدولة الوطنيّة الحديثة والمجتمع الديمقراطيّ التعدّديّ، يشكلان حجر الزاوية في هذا العقد الذي يطمحون إليه.
5- تبرز في هذا السياق مسألة علمنة الدولة والمجتمع، بوصفها مهمّةً راهنة، وهي في الوضع السوريّ الراهن، ممكنة التحقّق من دون المساس بجوهر الأديان والعقائد والمذاهب.
6- وإذا كان السوريون يتطلّعون في هذا العقد الذي يطمحون إليه إلى الخلاص من الاستبدادين السياسيّ والدينيّ؛ فلا سبيل أمامهم إلاّ الذهاب إلى علمانيّةٍ بالمعنى الّذي يحرّر الدولة من مرجعيّاتها الدينيّة، ومن هيمنة رجال الدين، ويحرّر الدين من تدخّل الدولة في شؤونه. وهكذا يعود الدين ليأخذ حيّزه المجتمعيّ الطبيعيّ، وتعود الدولة بوصفها دولة مواطنين أحرارٍ متساوين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة.