الرئيسة \  دراسات  \  الوحدة العربية بين (المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) . . رؤية استراتيجية

الوحدة العربية بين (المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) . . رؤية استراتيجية

27.08.2013
د. عبد التواب مصطفى


د. عبد التواب مصطفى  
مدرس العلوم السياسية بكلية الإعلام
الجامعة الحديثة - القاهرة
مقدمة :
            بين يدى المشهد العربى القائم ، الذى يزداد غموضا وتعقيدا وتراجعا بمُضِى الأيام وتعاقب الانكسارات. . نتساءل: ما جدوى الحديث عن"الوحدة العربية"؟ سواء من جانب بعض أعضاء الجماعة البحثية العلمية أم من جانب بعض النشطاء السياسيين الذين لاتخلو منهم مشاهد الانتفاضات و(الثورات) العربية الراهنة ؟
            هل يُعد هذا الحديث نوعا من نشوة الماضي يرتاح إليه الوجدان العربي الحزين الآخذ فى التردى الى غَيابة اليأس يوما بعد يوم؟ أم هو أحد الأحلام أو الرؤى الرومانسية؟ أم هو حديث عن حقيقة لاتتكشف قوتها وحضورها الكامن في الأمة إلا حين يضغط الخطرعلى الخناق، كما يلاحظ القارىء للتاريخ العربى منذ  نورالدين وصلاح الدين وحتى عبد الناصر؟
               أم كلما ألمت بالأمة العربية بعض الانكسارات الداخلية، أو تهددتها بعض المخاطر الخارجية، تعود الروح القومية فتحركُ أبناء هذه الأمة أو بعضاً منهم، للبحث عن مَخرج من هذه المُلمات، أيا كان ذلك المَخرج: رومانسيا أو براجماتيا.
          إن ترديد هذه التساؤلات فيما مضى (*)  واستمرار تكريرها حتى اليوم يؤكد استمرارية بقاء فكرة"الوحدة العربية"فى الوجدان والضمير والعقل العربى، وهو كفيل بأن يدفعنا إلى الخطوة التالية، ألا وهى دراسة مدى إمكانية الانتقال بهذه(الفكرة) الى حيز الواقع، مستفيدين بمعطيات كل من(المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) فى هذا السبيل
      --------------------------
         (*)  انظر- مثلا -:
-        د.مصطفى عبد الغنى، على هامش ندوة باريس. . الناصرية والقومية، الأهرام(القاهرة)، 2/10/2000.
-   محمد حكمت، الوحدة بين الممكن والمحال. . قراءة في التاريخ تعني المستقبل،فى 5/4/2000                      على                                              http://all4syria.info/newcd/files/c2.html
 
          الذى لايمكن تعطيله أو التنكر له- فى هذا المسار- هو المنهج العلمى؛ لأنه يتعامل مع معطيات واقع الأمة التى يتعلق أبناؤها بهذا الطموح القومى، والقادرعلى الإجابة عن سؤال:متى  / كيف تتحقق تلك الوحدة ؟
          أما الذى هو محل تعطيل أو استخفاف من جانب البعض، فهو المدخل(الرومانسى) الى الموضوع نفسه. فهل تعنى النزعة الرومانسية أو ذلك التعلق العاطفى والوجدانى بالطموح/الحلم القومى الوحدوى العربى نوعا من السراب أو الخيال الخالى من أية جدوى أو فائدة يمكن أن تُسهم فى تحقيق هذا الطموح القومى الكبير؟
           لقد كانت النزعة الرومانسية والتعلق العاطفى(مكونا أساسيا فى بنية الطموح القومى) لدى شعوب وأمم كثيرة استطاعت أن تنجز وحدة قومية متماسكة ناجحة. وإن لم تكن تلك النزعة العاطفية الرومانسية هى العامل الوحيد لإنجازهذه الوحدة أو تلك، فقد كانت ضمانة أساسية لإنجاحها. فهل ينطبق ذلك على مسار"الوحدة العربية" المأمولة ؟
          يأتى فى مقدمة أسباب إعداد هذه الدراسة محاولة اختبار مدى قدرة الإيمان بعقيدة(القومية العربية) على مواجهة موجات التيئيس ومواجهة الاضطرابات أو الهزات العنيفة التى تتعرض لها الأمة العربية حاليا. وذلك من خلال الإجابة عن عدة تساؤلات بحثية. لعل أهمها: إلى أى مدى يمكن أن يضمن تكاملُ البناء الأيديولوجى لعقيدة(القومية العربية) بقاءَ(الفكرة) واكتمالَ(الحركة) لهذه العقيدة السياسية؟ وإلى أى مدى يمكن توظيف كل من(المنهجية العلمية) و(النزعة المثالية/الرومانسية) معاً فى مغالبة هذه الانكسارات العارضة، لتطبيق أيديولوجية(القومية العربية)، وتحقيق الطموح الوحدوى الذى يُعد شأنا ملازما للأمة العربية- ككل الأمم- وإحدى ضمانات بقائها؟ وهل يحول التباين بين طبيعتيهما - المنهجية العلمية والنزعة الرومانسية- دون توظيفهما معا فى هذا المسعى؟ أم يمكن الجمع بينهما، وإلى أى مدى؟
        ومن هنا تتضح أهمية هذه الدراسة وأهدافها.
         تستخدم هذه الدراسة المنهجين التاليين:
         1- المنهج الأيديولوجي: فهو يركز على دراسة/تفسيرتطورالسياسة الدولية من منظور أيديولوجى معين، ويعتبرالوقائع التاريخية ميدانا لإثبات صحة أيديولوجية معينة. ووفق هذا المنهج، فإن نقطة البدء هى التسليم بوجود أيديولوجية معينة تتضمن رؤية لطبيعة التطور التاريخى، ثم يتم رصد تطور السياسة الدولية من منظور تلك الرؤية.(1)
         الى ذلك، فمن المتصور أن يُعد التسليم بوجود أيديولوجية ما - هى هنا القومية العربية - دافعا للعمل على تطبيقها/ترجمتها الى واقع ملموس، حاضرا ومستقبلا، ولايكون مجرد أداة لتحليل وقائع الماضى فحسب.
     -----------------------
1- محمد السيد سليم، تطور السياسة الدولية(القاهرة: دار الفجر الجديد للنشر والتوزيع، 2008)، ص ص 5-6.
 
          كما يتماس(المنهج الأيديولوجى) بقوة مع(التيار المثالى)(2) فى منهاجية دراسة العلاقات الدولية؛ فإذا كان الأول يفترض أن نقطة البدء هى التسليم بأيديولوجية معينة تتضمن رؤية- غالبا مثالية- لطبيعة تطور السياسة الدولية، فإن الآخر يمدنا بالأفكار أو المثاليات الكبرى، التى توصف أحيانا بالرومانسية، للسعى الى تحقيقها.      
         2- المنهج المقارن: يفيد هذا المنهج(3)فى التعريف بأبرز وجوه القوة ونقاط الضعف بكل من(المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) تمهيدا لمعالجة إشكالية الجمع بينهما فى تطبيق(أيديولوجية القومية العربية) وتحقيق الوحدة المأمولة.
          وفى مقدمة متطلبات المقارنة - منهجيا - يأتى الإطار النظرى والمفاهيمى للدراسة.(4)
 
         خطة الدراسة:
          أولا - الإطار النظرى والمفاهيمى.
           ثانيا - توظيف المنهجية العلمية لتحقيق الوحدة العربية.
 
           ثالثا - دور النزعة الرومانسية فى بلورة الطموح القومى.
           رابعا - إشكالية الجمع بين(المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) 
                     لتحقيق الوحدة العربية.
  ---------------
2- أحمد يوسف أحمد و:محمد زبارة، مقدمة فى العلاقات الدولية(القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1989)، ص ص 35-66.
3-  انظر:
-   فاروق يوسف يوسف أحمد، قواعد المنهج العلمى: المناهج والاقترابات والأدوات المنهجية(القاهرة: مكتبة عين شمس، 1985)، ص ص 39- 42.
-   جارول مانهايم  وريتشارد ريتش، التحليل السياسى الإمبريقى- طرق البحث فى العلوم السياسية، ترجمة السيد عبد المطلب غانم وآخرون(الجيزة، مصر: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1996)، ص ص413- 414.
                   -   أحمد نورى النعيمى، السياسة الخارجية(عمان، الأردن: دار زهران للنشر والتوزيع، 2011)، ص ص 121- 125.
4-     عبد الغفاررشاد القصبى، مناهج البحث فى علم السياسة(القاهرة: مكتبة الآداب، 2004)، ص 242.
 
 
المبحث الأول
الإطار النظرى والمفاهيمى للدراسة
 
         يأتى هذا االمبحث فى محورين أساسيين:
         أولا - ظهورأيديولوجية(القومية العربية) وتطورها فى التاريخ الحديث والمعاصر:
           منذ فجر التاريخ، عرفت المنطقة العربية الظاهرة الوحدوية كأهم الظواهر السياسية، التى تتحول فيها المجتمعات المجزأة الى كيانات سياسية موحدة. فعرفت توحيد القطرين فى مصر القديمة، وتوحيد الأراضى العراقية التاريخية. واستمرت هذه الظاهرة تترنح قوةً وضعفاً حتى تجسدت فى التاريخ الحديث والمعاصر فى تجارب وحدوية اندماجية وفيدرالية جزئية ناجحة، وإن كانت على أساس وطنى. نذكر منها وحدة الدويلات السورية 1930 ووحدة المناطق السعودية 1932 ووحدة الولايات الليبية 1963 ودولة الإمارات العربية المتحدة 1971 ووحدة شطرى اليمن 1990.
             نذكر تجارب أخرى قامت على أساس قومى لكنها فشلت وتوارت، مثل الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية 1958 والتى انضمت اليها المملكة اليمنية. والاتحاد العربى الهاشمى بين الأردن والعراق1958، والوحدة بين مصر وسوريا والعراق 1963، ثم بين العراق ومصر1964، واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر والسودان وليبيا 1969، واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسورية وليبيا 1971، والوحدة الاندماجية بين مصر وليبيا 1970، والمملكة العربية المتحدة بين الأردن وفلسطين1972، والجمهورية العربية الإسلامية بين ليبيا وتونس1974، والوحدة الليبية الجزائرية1975، والوحدة السورية العراقية 1978، والوحدة الاندماجية بين سوريا وليبيا 1982، والاتحاد العربى الأفريقى بين ليبيا والمغرب1984. وهذه  التجارب الفاشلة لاتزال موضوعا للبحث والدراسة؛ التماسا لنقطة انطلاق لتجربة جديدة تستفيد من تصويبات مثالب التجارب السابقة، فتأتى- بإذن الله- أقوى وأشمل، لتستوعب التجارب الجزئية الناجحة القائمة وتضم اليها باقى أقطار هذا الوطن العربى الكبير، فى وحدة قومية شاملة محققة الأمل أو الحلم العربى الذى لاينقطع البحث فيه ومن أجله.
            تجدر الإشارة أيضا الى التجارب الكونفيدرالية العربية، سواء ما تم على المستوى القومى كجامعة الدول العربية أم على نطاقات جزئية مثل مجلس التعاون الخليجى 1981 والاتحاد المغاربى 1989 ومجلس التعاون العربى الذى كان يضم مصر واليمن والعراق والأردن 1989. وبينما لم يصمد الثالث وانهار سريعا فإن النموذجين الأول والثانى لايزالان قائمين على تفاوت بينهما فى درجة الفعالية. وتشير تقاريرعديدة الى تحركات جادة لإقامة اتحاد سعودى بحرينى، وإلى خطوات لضم اليمن والأردن والمغرب ومصر إلى مجلس التعاون الخليجى.
            كما كانت هناك تجربة/مشروع تكاملى بين مصر والسودان1974ذهب بذهاب راعييه، أى رئيسى الدولتين: السادات ونميرى.
            وبدرجة أو بأخرى، يمكن اعتبار كل من التجارب المذكورة خطوة على طريق(الوحدة) المأمولة فى ظل أيديولوجية(القومية العربية).
 
       كانت الحركة القومية العربية قد بدأت سرية تُؤلف من أجلها الخلايا فى عاصمة الدولة العثمانية، ثم علنية فى جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقرا لها. واتضحت معالمها السياسية وأهدافها القومية فى المؤتمرالعربى الأول الذى عقد فى باريس 1913. لاحقا، سادت الفكرة القومية العربية أرجاء الوطن العربى، وتبلورت بشكل أوضح مقومات بناء هذه القومية على المستويين الشعبى والرسمى.(5)
         ثم أدت العلاقة الناصرية- البعثية الى تحويل الوحدة العربية من شعار إلى واقع. فبعد عامين فقط من قيام ثورة يوليو1952، كان الاتجاه العربى خطاً ثابتا فى أحاديث عبد الناصر الذى قال فى خطابه بالأزهر- فى الاحتفال بالعيد الثانى للثورة-"إن هدف حكومة الثورة أن يكون العرب أمة متحدة يتعاون أبناؤها على الخير المشترك". ومنذ بدأ الحديث يتردد عن قيام الوحدة كان الحضور القومى لعبد الناصر قد تبلور. وقد وجدت"حركة القوميين العرب"فى الثورة المصرية القوة العربية الوحيدة القادرة على تحقيق الوحدة العربية، ورأت فى قيام الجمهورية العربية المتحدة 1958 نواة للوحدة العربية الشاملة، وعلقت عليها الآمال كطليعة لمستقبل تلك الوحدة.(6)
        عقب فشل الوحدة المصرية السورية 1961 أعادت"حركة القوميين العرب"ترتيب سلم أولوياتها وأهدافها، بحيث تراجعت أولوية الوحدة لتصبح تالية لمهمة تحرير الأراضى العربية، ونادت بإدخال مضامين اجتماعية واقتصادية لفكرة الوحدة. لاحقا، اعتُبر انهيارُ تلك الوحدة سببا مباشرا لهزيمة يونيو1967.ثم رُفع فى القاهرة شعار"الوحدة طريق تحرير فلسطين" وهوما يؤكد أولوية تحقيق الوحدة القومية.( 7 )
      ----------------------------
5-  محمد أحمد خلف الله،"القومية العربية كما ينبغى أن نفهمها"، فى: ساطع الحصرى وآخرون، آراء ودراسات فى الفكر القومى(الكويت: دار العربى، 1985)، ص ص 71-75.   
6-  عبد العال الباقورى،"عبد الناصروالبعث. . الوحدة والانفصال"، فى:عبدالقادرياسين(محرر)، جمال عبد الناصر- رؤية متعددة الزوايا (دمشق/القاهرة: دار الكتاب العربى، 2008)، ص ص196-198. و: د.سامى يوسف أحمد،"عبد الناصر وحركة القوميين العرب"، فى: المرجع نفسه، ص ص 209-217. 
7-     سامى يوسف أحمد،"عبد الناصر وحركة القوميين العرب"، مرجع سابق ص ص209- 217. و: ص ص 612-613.
 
    
          كما فرضت جملة الانكسارات التى شهدتها مسيرة العمل العربى فى العقود الأخيرة ضرورة البحث عن نقطة لاستئناف العمل فى هذا المسعى؛ فبرغم كون التجربة العربية فى العصر الحديث قد ازدحمت بالشعارات الخَلاصية لكنها بقيت فى الوقت نفسه متخمة بالتراكمات السلبية الذاتية، الأمر الذى جدد الدعوة الى مشروع شامل للنهضة والوحدة العربية.(8)
 
          ثانيا - المفاهيم المنهجية والموضوعية للدراسة:
          1- مفهوم المنهجية العلمية:
           يُعرف المنهج العلمى بأنه كيفية اكتساب المعرفة وتنظيمها وفهمها. وفى البحث العلمى السياسى- تحديدا - يتعين البدء بوضع قواعد محددة وقاطعة للتعريف بالواقع السياسى. وذلك من خلال ما يُعرف بـ(التحليل الإمبريقى) الذى يستخدم لغة عامة وموضوعية لوصف هذا الواقع.(9)
         كما يشيراصطلاح(منهج) الى الطريقة التى يتبعها الباحث لدراسة مشكلة ما، أو إلى أسلوب التفكيرالمنظم والكيفية التى يصل بها الباحث الى هدفه. وفى إطارنظرية(التكامل المنهجى) يمكن استخدام أكثرمن منهج للدراسة الواحدة.(10)  

          وإذا كان(العلم) نسقا من المعارف العلمية المتراكمة أو مجموعة من المبادئ والقواعد التي تشرح بعض الظواهر والعلاقات القائمة بينها، فإن(المنهجية العلمية) هى أيضا نسق من القواعد والإجراءات التى يعتمد عليها طريق البحث ويتم بها تحصيل هذا العلم. ومن خلال(الأسلوب العلمي) يعمل الإنسان على تنظيم تفكيره وبرمجته، وترتيب الخطوات المطلوب اتباعها لمجابهة حالة معينة أو مشكلة محددة تواجهه ، بغرض وضع الحلول المناسبة والوصول إلى المعرفة التامة المفيدة المبنية على أسس مدروسة.(11)

 
   -----------------
8- أحمد حلواني،"تقريرعن:مؤتمر تجديد الفكرالقومي والمصيرالعربي" ،المجلة العربية للعلوم السياسية(بيروت)، العدد 21، شتاء 2009 ص ص195- 200.
9- جارول مانهايم  وريتشارد ريتش، م. س، ص ص17-19.
10- فاروق يوسف يوسف أحمد، م. س، ص 35، ص 51.
      و:على الدين هلال(إشراف)، معجم المصطلحات السياسية(الجيزة، مصر: مركزالبحوث والدراسات السياسية، 1994)، ص ص 73-74.    
      11-                           http://www.ergo-eg.com/comm/sr08.pdf
 
        
             تهدف العملية البحثية الى فهم العالم المحيط بنا. وهذا الفهم قد يكون هدفا فى ذاته وقد يكون مقدمة لتوقع التغيرات المقبلة وتطوراتها أو السيطرة عليها والتحكم فى الواقع المحيط بنا. ومن شأن كل ذلك تحقيق الرقى بقدراتنا وإمكانياتنا فى تطويرالعالم والتأثيرفيه.(12)

             ذلك؛ لإن البحث العلمي لم يعُد رفاهية أكاديمية تمارسه مجموعة من الباحثين القابعين في أبراج عاجية، فقد بات يلعب دورا فعّالا في تطوير المجتمعات الإنسانية. وفى صدارة وظائفه الأساسية الإسهامُ في عملية الضبط والتحكم في الظواهر والأحداث والوقائع والأمور والسيطرة عليها وتوجيهها واستغلال النتائج لخدمة الإنسانية. بل إنه يتدخل لحجب ظواهر غير مرغوب فيها، وإنتاج ظواهر مرغوب فيها. وهذا من أهم أهداف التخطيط المبني على المنهج العلمي. كما يسهم فى تطوير المعرفة الإنسانية في البيئة المحيطة بكافة أبعادها وجوانبها، في الطبيعة والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والإدارة والاجتماع وخلافه. ويعمل على إيجاد الحلول للمشكلات المختلفة التي تواجه الإنسان في تعامله مع البيئة التي يعيش فيها.(13)

     وجملةً ، يُسهم البحث العلمي في العملية التجديدية التي تمارسها الأمم والحضارات لخلق واقع عملي يحقق سعادتها ورفاهيتها، ويعمل علي إحياء المواضيع والأفكار وتحقيقها ميدانيا. كما أنه يسمح بفهم جديد للماضي في سبيل انطلاقة جديدة للحاضر ورؤية استشرافية للمستقبل.(14)

 
         2- مفهوم الأيديولوجيةIdeology : تتتعدد دلالات هذا المصطلح فى اتجاهات عدة، غير أن فى مقدمة ما يعنيه هو"أى مذهب سياسى منتظم وشامل، يدعى تقديم نظرية كاملة وعالمية التطبيق للإنسان والمجتمع، ويضع برنامجا للحركة السياسية المبنية على هذه النظرية. فالأيديولوجية تعمل على احتواء كل ما يتعلق بالوضع السياسى للإنسان، وتخلق مذهبا ما، يعمل على التأثير فى تشكيل ذلك الوضع أوتحويله".(15)
 
---------------------
12- عبد الغفار رشاد القصبى، م. س، ص ص12-13.
13-                               http://www.ergo-eg.com/comm/sr08.pdf

   و:ربحي عبد القادر الجديلي، مناهج البحث العلمي، 2011. فى :

www.ao-academy.org/docs/manahij20022011(March 1,2013)
14- الجديلي، م. س.
15- على الدين هلال (إشراف)، معجم المصطلحات، م. س، ص ص 101-102.
 
 
       3- مفهوم القومية  Nationalism :
           هى عاطفة أو أيديولوجية الارتباط بأرض معينة أو بوطن معين، وبمصالح هذا الوطن أو تلك الأرض. كذلك، هى النظرية التى مؤداها أن كل دولة لابد وأن تقوم بالارتكازعلى أمة، وأن كل أمة لابد وأن تُشكل فى دولة. وهذا يعنى محاولة استخدام الحركة السياسية من أجل تحقيق الشخصية القومية.( 16) إذن، تُعد(القومية) أيديولوجية، أى مذهبا سياسيا منتظما وشاملا، يَدعى تقديم نظرية كاملة وعالمية التطبيق للإنسان والمجتمع ويضع برنامجا للحركة السياسية المبنية على هذه النظرية.
         وعليه، فإن الأيديولوجيات تتعدد، وتكون "الأيديولوجية القومية" إحداها .
4-    مفهوم"الأيديولوجية القومية":
           كمفهوم حديث وكفكرة سياسية واجتماعية، ظهرت(القومية) بشكلها العلمى الدقيق فى أوربا فى أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وقد تبلورت - على أوضح صورة - فى الثورة الفرنسية بأفكارها ومثلها وتشريعاتها وشعاراتها. ومن فرنسا انتقلت الى أقطار أوربية عديدة بطريق التأثير الفكرى أولا. ثم انتقلت الفكرة القومية الى أمتنا العربية مع بدايات القرن العشرين. وقد جاءت الصياغة العربية لمفهوم"القومية"ترجمةً للمصطلح الأجنبى"Nationalism". وهنا يجدرالانتباه الى انتهاء هذا المصطلح بالمقطع "ism" إذ فيه معنى العقائدية والفعالية فى آن واحد. فالقومية ككل المذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المنتهية بهذه الحروف فى اللغة الإنجليزية"ism"  فيها معنى التمسك الإيجابى بعقيدة، مع الجد فى الدعوة اليها والعمل من أجلها.(17)
          تتألف"الأيديولوجية القومية"من أفكارعن طابع الأمة، وعن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعن رسالتها فى العالم، وعن مهمة الدولة وواجبات الأفراد تجاه الأمة. كما أن جُماع التقاليد والمصالح والمثل العليا السائدة فى أمة ما كثيرا ما تسمى"الطابع القومى" وبعضها متصل بفكرة الأمة، ومنها تتكون"الأيديولوجية القومية"و"التطلعات القومية". بل إن "الأيديولوجية القومية" تتناول الطابع الخاص للأفراد وبخاصة فى البلاد التى يخضع فيها الفرد كلية للأمة. فحتى أكثر الأمورخصوصية، والتى يبدو لنا أنها لاعلاقة بينها وبين الشرف القومى أوالعظمة القومية، مثل العلاقات بين الآباء والأبناء أوبين الرجل وزوجته، تنظمها الأيديولوجية القومية".(18)
           -------------------   
16- المرجع السابق، ص 148.
17 - عبد الرحمن البزاز،"دفاع عن العروبة"، فى: ساطع الحصرى، مرجع سابق، ص ص 81 -82.
18- فردريك هرتز، القومية فى السياسة والتاريخ(القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011)، ص 55، ص 26، ص 51، ص 57.
 
          كذلك، تمتد"الأيديولوجية القومية"الى العلاقات الدولية. ففى الدول الديمقراطية المسالمة - مثلا- تتبلور الأفكار الخاصة بعلاقاتها الدولية طبقا للمعايير المعترف بها فى السياسة الداخلية بتلك الدول.(19)
        5-  مفهوم أيديولوجية(القومية العربية Nationalism  Arab):
            تأتى أيديولوجية(القومية العربية) كأحد تطبيقات مفهوم"الأيديولوجية القومية"أى على نطاق(الأمة) العربية فحسب. وهنا ينبغى الوقوف على دلالة مصطلح/مفهوم(الأمة).
          6- مفهوم الأمة Nation : هومفهوم جزئى مرتبط بفكرة القومية. كما تعتبر الأمة جزءا من مفهوم الدولة القومية. وبرغم عدم وجود تعريف فنى للأمة، فإن أى تعريف إجرائى لها ينطوى على الإشارة الى أى مجموعة من الأفراد، يتبلور شعورها بالهوية المشتركة المبنية على قدر من الاستمرارية التاريخية والتجانس الثقافى والارتباط الجغرافى بمكان بذاته.(20)        
          ويعد الشعور القومى أقوى عامل فى السياسة الحديثة، وأقوى من أى مذهب سياسى آخر؛ فقد تحطمت تحت وطأة هجماته امبراطوريات كبرى، وقامت باسم القومية حروب وثورات غيرت خريطة العالم، ولم تستطع المصالح الاقتصادية ولا الأخلاق ولا الدين أن تحد من اندفاع هذا التيار.(21)
           تقتصر معظم تعريفات الأمة على المعايير التى تميزها عن الأمم الأخرى مثل اللغة أو المدنية أو الدين أو الجنس أو الحقوق التاريخية أو الحدود الطبيعية أو المصالح الاقتصادية، ولكن ليس بينها ما هوالضرورى- وحده- ضرورة مطلقة لتأليف الأمة. وإذا كان تكوين فكرة صحيحة عن الأمة لابد أن يُدخل فى الاعتبار جوانبها المتعددة ، فإن العامل الأساسى هو الوعى القومى؛  فبدون قدر كاف من هذا الوعى لاتوجد الأمة.(22)               
          وهنا يجب التنبيه الى ما يلتبس على البعض أو يتعمده آخرون حين لايفرقون بين"الوعى القومى"و"النزعة القومية". فإن الوعى القومى هو الشعور القومى"المسالم"، أما النزعة القومية فهى الشعور القومى العدوانى أو الروح العدوانية القومية أو الوطنية المتطرفة أو الشوفينية.(23)
         ---------------------------
19- المرجع السابق، ص ص 59- 61.
 20- د.على الدين هلال (إشراف)، معجم المصطلحات، م. س، ص ص 181.
21- فردريك هرتز، م. س، ص 6.  
22- المرجع السابق، ص ص 13- 14.
23- المرجع السابق، ص ص 43- 44، و: ص 325.
        7- مفهوم(العروبة): لايوجد هذا المصطلح فى قواميس اللغة العربية بالمعنى الذى تفهمه الجماهير العربية اليوم، فهو مصطلح حديث أو تعبير مستحدث أو صيغة بديلة لمفهوم(القومية العربية). وأغلب الظن أنه ترجمة للمصطلحين Arabism / Panarabism. ولاشك، فإن فى هذه الصيغة من"الديناميكية"ما لانحسه فى أى صفة أو نسبة أخرى مشتقة من لفظ(عرب).(24)
          برغم ذلك، ظهرت فى السنوات الأخيرة نظرية/دعوة الى(العَوْربة). يقول دعاتها إنها تختلف عن العروبة التى تُعد- فى رأيهم- مجرد الانتماء الى الأمة العربية، بينما يعدون(العوربة) فكرة قائمة على ضرورة الحركة- فى مواجهة العولمة- من خلال إيجاد تكتل عربى قوى يستطيع مواجهة ما يتعارض مع مصالحه من العولمة. ذلك التكتل ليس سياسيا الآن ولكنه اقتصادى تجارى مجتمعى ثقافى.( 25)
    8- مفهوم (النزعة الرومانسية) فى السياسة:                   
           ظهرت الحركة الرومانسية فى القرن التاسع عشر كقوة أساسية فاعلة ومؤثرة فى المجتمعات الأوربية وكردة فعل موازنة فى مواجهة المسرفين فى(العقلانية). وقد نما الفكر الرومانسى فى الفن والحياة فى عصر الاستنارة كتيار سفلى فى أول الأمر تحت سطح من العقلانية، ثم تمرد على سيطرتها مع الوقت. وفى حين كان العقلانيون يبالغون فى الدعوة الى تحرير عقل الفرد من أغلال الماضى تاق الرومانسيون الى حرية الخيال والعواطف والانفعالات وكرسوا سعيهم فى أول الأمر لإصلاح الشعر، ثم وُجه بعد ذلك ضد متواضعات المجتمع أيضا ثم امتد أخيرا الى السياسة. وأصبح(روسو) هو لواء الرومانسية السياسية التى بدأت كمذهب ثورى ثم تحولت الى قوة محافظة. تنطوى هذه النزعة على تمرد من الشباب ضد الشيخوخة وعلى رد فعل من المثقفين ضد المتواضعات المجتمعية/المدنية، وعلى حنين الى النعيم المفقود وإلى المستقبل الأفضل.( 26)
            ------------------------
24- د.عبد الرحمن البزاز، م. س ، ص 82- 84.
     و:د.عبد الله عبد الدائم، العروبة وآلام المخاض، فى:ساطع الحصرى، مرجع سابق، ص ص 80- 82.
  25- التفاصيل فى:د.ناصر الأنصارى، العوربة فى مقابل العولمة- عناصر لنظرية جديدة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002).
26-  فردريك هرتز، م. س، ص 400.
              و:جيمس تريفيل، لماذا العلم (الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 2010)، ص ص 105- 108.
              و:كرين برينتون، تشكيل العقل الحديث (الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 1984)، ص ص 60-75. و: ص ص 149-159.
 
        
           تنتهى هذه المعالجة المفاهيمية بهيئتها المنطقية المتنامية تلك، الى مايلى:
1-  الإدراك/التسليم بوجود(أيديولوجية القومية العربية) كعقيدة سياسية تعبر عن الحضارة العربية فكريا وحركيا، وفى إطارها تبدو(الوحدة العربية) فكرة مثالية كبرى ينبغى أن يسعى لتحقيقها أبناء الأمة العربية.
2-  أن التسليم بوجود أيديولوجية(القومية العربية) أو(العروبة)، بما يشيران اليه من معانى العقائدية والفعالية فى آن، يوجب ضرورة الجد فى الدعوة الي هذه الأيديولوجية والعمل من أجلها حتى  تتحقق فى معناها الأكمل، وهو(الوحدة العربية).
3-  ان البناء الأيديولوجى لعقيدة(القومية العربية) على درجة من التكامل والتماسك تضمن بقاءَ(الفكرة) واكتمالَ(الحركة) لهذه العقيدة السياسية؟ إذ يتوفر لبناء هذه الأيديولوجية من الأسس الفكرية- التى أسهبت دراساتٌ عديدة فى رصدها وشرحها- ما يحفظ للفكرة الوحدوية توهجها وللأمل فى انجازها بقاءً وتواصلا.
       
                                       المبحث الثانى
                     توظيف المنهجية العلمية لتحقيق الوحدة العربية
            يقتضى المنهج العلمى فى التفكير - لمعاجة ظاهرة سياسية اجتماعية كظاهرة الوحدة - قراءة الواقع الموضوعى بهدف الوعى بالقوى الأساسية الفاعلة فى العملية الوحدوية، ولقياس مستوى تطور تلك القوى والعلاقات بينها، وتحديد اتجاه حركته، ومعرفة القوى الحليفة المؤقتة والثابتة، والقوى المعادية، وفهم طبيعة اللحظة التاريخية المحلية والدولية، التى تشكل الإطار الذى تُطرح فيه قضية الوحدة، والتماس الخطوات العملية الراشدة على طريق تحقيقها، وضرورة رصد أهم مواقع الخلل أو مكامن الضعف فى الفكر الوحدوى العربى القائم، وهذه تمثل جانبا من جملة الأخطاء التى أدت الى فشل تجارب الوحدة العربية حتى الآن.(27)
            ----------------------
27- راجع:
- حامد خليل،"قصور العامل الذاتى"، فى:الندوة الفكرية الأولى حول الوحدة العربية، حزب البعث العربى الاشتراكى، دمشق، 24-27شباط/فبراير 1986، ص ص 435- 440.
- أسمهان شريح،"إخفاقات تجارب الوحدة العربية"، مجلة صامد(عمان، الأردن)، تموز/يوليه2011، ص ص 85-103.
- د.نديم البيطار، الفكر الوحدوى- نقد عام، مجلة الوحدة(الجماهيرة الليبية)، عدد7، نيسان/ابريل 1985، ص ص 7-14.
 
        يمكن أن تتم هذه القراءة على مستويات ثلاثة:
        المستوى الأول- القراءة الإمبريقية/الميدانية، وهذه تجريها المؤسسات البحثية، فتكشف عن المؤشرات/المعطيات السلبية التى يمكن أن تعوق العمل المشترك على المسار الوحدوى، وعن المؤشرات/المعطيات الإيجابية التى يمكن أن تعزز العمل المشترك على المسار نفسه.
        كشفت بعض تلك القراءات عن العديد من المؤشرات السلبية على تردى الأوضاع العربية: اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا وتربويا، الى الحد الذى جعل عمرو موسى-الأمين العام الأسبق للجامعة العربية- يعلن أن العرب قد وصلوا الى مرحلة"تهدد بغرق السفينة العربية". وبات الكثير من المحللين يتساءلون: العرب. . الى أين ؟( 28)  
         الى ذلك، مؤشرات الفشل/الموت السريرى لبعض نماذج العمل العربى المشترك، فقد (نامت) القمة المغاربية ما يقارب عشر سنوات في الجزائر، إذ تأجلت عدة مرات ثم"إلى أجل غير مسمى". ثم أصبحت(شأنا غربيا)أوروبيا وأميركيا أكثر منها شأنا مغاربيا!!!( 29)
 
          وغير ذلك هناك الكثير من المؤشرات السلبية التى يمكن أن تظهرها القراءة الإمبريقية / الميدانية للواقع العربى، وهذه مجرد أمثلة للوقوف على أهمية توظيف المنهجية العلمية فى قراءة الواقع السياسى ..
        على الجانب الآخر، تكشف القراءة ذاتها عن العديد من المؤشرات الإيجابية الدافعة لمسيرة العمل العربى المشترك فى الاتجاه الوحدوى. من هذه المؤشرات ما يُعتبر أرضا ممهَدة للوحدة القومية المأمولة. تتمثل هذه الأرض الممهدة فى بعض التجارب الوحدوية الجزئية القديمة والحديثة التى يمكن توسيع دائرتها، خاصة ما يبدى منها رغبته فى ذلك.     

         لقد كسرت التجاربُ الوحدوية- التى تحققت فى التاريخ العربى المعاصر- تلك القاعدة  التى ألصِقت بالعرب طويلا والقائلة "بأن العرب اتفقوا على ألا يتفقوا".( 30 )

 
            -----------------
  28-عمرالحسن،"العرب. . الى أين؟"، شؤون خليجية، عدد 60 (لندن: 2010)، ص ص 6- 8.          

29 - أحمد السميعي،"حلم الشعوب وغياب الديمقراطية: مشروع الوحدة المغاربية بين الآمال والأهوال"، فى:

http://www.alwihdah.com/fikr/fikr/2010-04-26-1066.htm((April 30, 2010)

محمود النادى،"الوحدة العربية بين الحلم والواقع". فى:  30-

http://kenanaonline.com/users/MASCENTER/posts/139018(July 28, 2010).                     
 
           يعنى ذلك أن تحقق هذا الحلم القومى جزئيا فى بعض الأقاليم الفرعية بالعالم العربى يؤشر على(عدم استحالة) تحقيق الحلم القومى الشامل يوماً ما، آخذين فى الاعتبار الافادة من التجارب الوحدوية المعاصرة من خارج المنطقة العربية.( 31 )
         كانت ولا تزال دول الخليج- مثلا- داعما أساسيا للجامعة العربية في إطار تحقيق الحلم القومي الذي هو هاجس كل الشعوب العربية، وقد تنبهت تلك الدول إلى أن قيام منظومة خليجية اقتصادية وسياسية تتوحد فيها مصالح هذه الدول قد يؤسس لما يلفت أنظار العرب إلى ضرورة إعادة النظر في نظام جامعتهم وسياساتها. وقد تكون هذه المنظومة بآلياتها الواقعية نواة حقيقية لهذا التصحيح. وقبول طلب انضمام الأردن لمنظومة التعاون ودعوة المملكة المغربية للانضمام بلا أي ضجيج وبهذه الدينامية الواقعية يكشف عن سر نجاح تلك الآلية، كما يكشف عن واقعية رؤية هذه المنظومة لكل ما يعزز من قوتها ويمنحها أفقاً أوسع للتعاون اقتصاديا وسياسيا. وهي رؤية تؤكد أيضا حقيقة التزام الخليجيين بإطارهم العربي وعدم انكفائهم على ذاتهم كدول متشابهة في أنظمتها وشعوبها وفي اقتصاداتها. وهي بالنتيجة خطوة حكيمة من قادة التعاون لعلها تسجل أهمّ رسالة للأمة العربية وهى أن طريق الوحدة الحقيقية يبدأ من هنا.(32)      
           كذلك فإن قواعد التاريخ فى العلاقات العربية- العربية تسمح بالذهاب فى اتجاه التوثيق والتقوية الى أبعد حد/أفق، أى الوحدة أو الاتحاد، ولاتسمح بالسير فى الاتجاه المضاد إلا الى مدى محدود. ولن يجد السائر فى الاتجاه المضاد إلا أبوابا موصدة أو مفتوحة الى جهنم! مما يُكسب(شعرة معاوية) متانة مستمدة من تلك القواعد، فقد استمرت هذه العلاقات وتحت أى ظرف تتمتع بحد أدنى مما يمكن تسميته "خط الرجعة" سواء على مستوى العلاقات الثنائية أم العلاقات الجماعية.(33)
     --------------------------------
31-  انظر:
-عمر الضبياني،"الوحدة العربية حلم الامة"، فى:
http://www.alwahdawi.net/news_details.php?sid=3784(November 23, 2011).
              -  صالح عبد الرحمن المانع،"حلم الوحدة الخليجية"، فى: http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2012/5/736635.html(May 19, 2012)                 
             -  رعد الحافظ ،"في الذكرى العشرون للوحدة الألمانية / دروس وعِبّرْ"، فى: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=230878(October 3, 2010)

فهد السلمان،"الوحدة العربية تبدأ من هنا"، فى: - 32

http://www.alriyadh.com/2011/05/13/article632190.html(April 7, 2012)
  33- يونان لبيب رزق، قراءات تاريخية على هامش حرب الخليج (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005)، ص ص 56- 57.
 
            المستوى الثانى- قراءة البعد الفكرى للعمل العربى المشترك، والتى تكشف عن عدة مؤشرات/معطيات منها السلبى ومنها الإيجابى. ولعل أهم المؤشرات/المعطيات السلبية:
1-غياب المنهجية العلمية فى الفكر القومى العربى القائم:
             لقد انشغل الفكر القومى العربى طويلا بالقصد الوحدوى وضرورته دون وعى علمى كاف بالطرق الموضوعية لتحقيق دولة الوحدة. واكتفى بالحديث عن الوحدة كنتيجة حتمية لوجود قومى واحد. كما أنه اتسم بالتبشيرية و(الشطحات) الميتافيزيقية. وظل يعمل منفصلا عن الواقع وقوانينه وينطلق من(الأوهام) والتصورات فحسب، ويعتمد الحذلقة اللسانية والعبارات المنمقة والخيال الجامح. ولأن الفكر التبشيرى هذا لايدرس التاريخ والاجتماع فهو فكر(ترف وتفكه).(34)
          كما يرتب البعض على غياب منهج التفكير العلمى وسيطرة الفكر التبشيرى الذاتى الطوباوى- القائم على الخيال- ما يصفونه بالقصور الفكرى ويضعونه فى صدارة الأوجه الرئيسية لـما يعُرف بـ(قصورالعامل الذاتى لدى الجماهيرالعربية).(35)
        لذا، فإن الإنسان العربى المعاصر يحتاج فى واقعه إلى الوعى العقلى والأخذ بمنطق التحليلات ذات الطابع العلمى الواقعى؛ للتقليل من الإفراط فى الاتجاه اللاعقلى.(36)          
       وضمن مقومات وخطوات إقامة الكيان العربى المنشود، ينصح الرمز العروبى الكبير- قسطنطين زريق- بالابتعاد ما أمكن عما أسماه(الخيال المخدر والرومانطيقية المائعة)؛(37) فقد كان فى مقدمة أسباب انهيار الوحدة المصرية السورية قيامها- وكذلك غيرها- على أسس عاطفية فحسب.(38)
2 - ميل العقلية العربية الى التفسير التآمرى:
              لايزال قطاع كبير من العقلية العربية يميل الى توظيف نظرية المؤامرة فى تفسير عمليات التغيير السياسى بسبب موروثها الثقافى وميلها الى الغيبية أكثر من ميلها الى السببية وإلْفها العيش طويلا فى دور(المفعول به) أمام القوى الاستعمارية.(39)
       ----------------
34- أسمهان شريح، م.س. وللتفاصيل:د.نديم البطار، م.س، ص ص 7-14.
35- حامد خليل،"قصور العامل الذاتى"، مرجم سابق، ص ص 435- 440.
36- محمد إبراهيم الفيومى،"فى نقد العقل العربى المعاصر"، الأهرام(القاهرة)، 16/11/2000.
37-السيد يسين،"المساءلة النقدية للممارسات العربية"، الأهرام(القاهرة)، 16/11/2000.
38-  من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة . نشر الكترونى، فى:
    April 5, 2012). http://ar.wikipedia.org/wiki
39- يونان لبيب رزق، قراءات تاريخية ، مرجع سابق، ص ص 109- 116.
 
3 - سيطرة حالة(الشيزوفرينيا السياسية) على الحياة العربية:
             استمرت معظم الأنظمة العربية تغذى الدعوة القومية نفاقا وليس استجابة لدواعيها؛ حفاظا على(الشرعية) فى بعض الأحيان وركوبا للموجة فى بعضها الآخر حتى إن ذاكرة هذه النظم قد شابها تناقض مرير بين ماتظهره وماتبطنه، فباتت تسلك نحو أهدافها الوطنية طريق القومى والوحدوى، حيث المثاليات القومية جميعها تصبح غطاء لكل سلوك منفلت ومتطرف فى القطرية. وقد وصلت المأساة أقصاها حينما أعلنت دولة سيادتها على الأخرى تحت غطاء القومية. ومن ثم بات ضروريا تحديد معالم الطريق التى بها يمكن تجاوز حال الشيزوفرينيا السياسية التى تكاد تسيطر على الحياة العربية وتثير حالة من عدم التسامح مع الآخر العربى، على حساب الرابطة القومية.(40)      
        وتكشف القراءة ذاتها- فى البعد الفكرى للعمل العربى المشترك - عن عدة مؤشرات إيجابية لعل أهمها هو(وفرة) الأسس الفكرية لبناء أيديولوجية القومية العربية والتى أسهبت - كما سبق- دراساتٌ عديدة فى رصدها وشرحها، إذ يتوفر لتحقيق الوحدة العربية من الأسس الفكرية ما لايتوفر لغيرها مثل(الوحدة الأوربية) أو(الوحدة الأفريقية). وهوما يًعد محددا إيجابيا يضمن للوحدة- حتى لو أتت بقرار غير صحيح من الناحية الشكلية أو الإجرائية- أن تجد طريقا قابلة للسير عليها برغم ما بها من عثرات.
                كما أن ما يُثار من تخوفات بشأن احتمال تعرض الهوية الوطنية لمفارقة بين التزويج والتفتيت وأثر هذين التهديدين على الهويات الوطنية وإعادة ترتيب انتماءات الإنسان العربي ما بين الدائرة الوطنية والعربية والإسلامية، خاصة بعد بروز قوى سياسية جديدة أغلبها ذات مرجعية إسلامية(41) هى تخوفات مردود عليها بما هو مقرر فى التراث والعقيدة الإسلامية بشأن مكانة(الوطن/الوطنية) ومكانة(العرب/العروبة) وواجب المسلم نحو وطنه وقوميته.(42)
              -------------------
40- صلاح سالم،"معالم على طريق تجديد الفكر القومى العربى"، مجلة شؤون عربية(القاهرة)، شتاء 2004، ص ص 126-132.
41- مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية ، مستقبل النظام العربي في ضوء صعود قوى سياسية جديدة ، (تقرير) عن الندوة التى نظمها المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية يوم ١٨ يناير ٢٠١٢، تحت عنوان "مستقبل النظام العربي في ضوء الثورات الشعبية .. وصعود قوى سياسية جديدة ". على :
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12366/article/4482.html(January 31,2012)
42- عبد الغنى عماد،"مراجعة لكتاب: رالف م. خوري، عزام باشا. . مصري اعتنق القومية العربية"، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 20 (بيروت: 2008)، ص ص 172- 174.
 
          المستوى الثالث - القراءة فى مدى حضور العقيدة القومية ودرجة الإيمان بإمكانية تنفيذها، لدى الرأى العام العربى أو قادة هذا الرأى. فإن أية محاولة للوقوف على مستوى هذا الحضور أو درجة ذلك الإيمان تكشف عن تباين واضح بين فريق المتنكرين لهذه الوحدة اليائسين من إمكانية تحقيقها، وفريق المؤمنين بهذه العقيدة القومية/الوحدة العربية الساعين لتحقيقها.   
         يرصد فريق المتنكرين لفكرة الوحدة العربية، اليائسين من إمكانية تحقيقها، العديد من الأسباب التى يرونها كفيلة باستحالة تحقيق تلك الوحدة العربية، بل يعتبرها بعضهم وهماً أو حلما تبخر، وذلك فى ضوء ما يصفونه بالواقع الرديء والمحبط والمملوء بالتناقضات وعوامل الانقسام والتفتيت.(43)
         ----------------------

43- انظر:

- الوحدة العربية. . هل تبخر الحلم؟! ، رؤية تحليلية، فى:
http://www.asharqalarabi.org.uk/paper/s-ruiah-w-a5.htm(February 2, 2012).
    -  باسم الجسر،"إلى أين وصل حلم «الوحدة العربية» بعد قرن؟"! فى :
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=577982&issueno=11550#.UWU64GdbenA(July 13, 2010).                                  
  -  فتحي الحبّوبي،"الإنسان العربي بين الأحلام الجميلة وإكراهات الواقع الرديء"، فى:
                 http://nasiriyah.org/ara/post/30487(April 5, 2013).
 -    حسن محمد طوالبة،"حلم الوحدة في عصر التفتيت"، فى:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=267597(July 17, 2011).
  -  فاضل  فضة،"شعار الوحدة العربية بين الحلم والواقع المحبط"، فى:
  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=19126(April 8, 2012).                  
                                                                                
    - أحمد كمال الدين،"القمة الاقتصادية تفتح الملف مجدداً. . الاختلافات السياسية والاقتصادية وإسرائيل أسباب فشل تحقيق الحلم العربي"، فى:
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=170483&issueNo=1130&secId=15(January 1, 2011).
  - غيرالد بات،"الانقسامات المستمرة تجعل الوحدة العربية حلما"، فى :
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2012/10/121023_egypt_arabs.shtml(October 23, 2012).
           على الجانب الآخر، يرى المتفائلون، المتمسكون بالعقيدة القومية، أن مجرد التعلق بالحلم القومى الوحدوى هو أخف وطأة من الكابوس التفتيتى الجاثم على صدر الأمة حاليا.( 44)           
          ويرون أن"الوحدة العربية"لا تزال على قيد الحياة وأن القومية العربية - على الرغم من الهزائم المتكررة التى لحقت بها وعلى الرغم من المحاولات التى بُذلت لخفض توقعات الناس لها إلى مجرد"أحلام يقظة" أو"يوتوبيا"ماضوية - قد نجت من الموت، لأنها عوَّلت على الكتلة الشعبية وليس على الحكومات، فقد تبين أن الشعوب العربية تتوق للوحدة الجامعة، ليس في مستوى مفهومها النخبوي الذي يعني التقارب والتعاون في حدوده الرسمية الشكلية فحسب، ولكن الوحدة التي تنسجم مع رغبة الجماهيرفي المُضي قُدُمَاً ومَعَاً، في مواجهة كل التحديات الماثلة التي لا يمكن حلها إلا على أساس العمل المشترك.( 45)

           ثم إن الجهود المجتمعية والشعبية المتعلقة بالحلم العربى لاتزال متواصلة، وتعمل فى مسارات متعددة أدبية وفنية ورياضية وغيرها. وهى مهما تكن قليلة أو متواضعة لكنها موجودة.(46)

            بل إن أمر المطالبة الشعبية بالوحدة العربية قد وصل الى قاعات المحاكم بشكل رسمى، إما على مستوى الأمة العربية كلها وإما على مستوى الاتحادات الإقليمية. ففى منتصف يوليو2000 نظرت إحدى محاكم القاهرة دعوى تتهم الحكام العرب بالتقصير فى إقامة هذه الوحدة، مستندة الى ما آلت اليه حال الأمة العربية من ضعف وهوان بسبب تفرقها واختلافها. وفى الوقت نفسه كان النائب العام فى الجزائر ينظر دعوى أخرى عُرفت بقضية(اتحاد المغرب العربى) تتهم حكام دول المغرب العربى بالعجز عن تحقيق حلم الجماهير المغاربية فى بناء اتحاد مغاربى فعال وقوى. وغير هذين النموذجين هناك الكثير من الدعاوى الشعبية فى المشرق العربى. الأمر الذى ينم عن درجة من الوعى القومى العربي.(47)
           -----------------
44 - أحمد الشيخ،"الاتحاد العالمي للشعراء العرب - حلم يتحقق.. و أمل يتدف" !، فى:
 http://www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=32222(April 25, 2013).
      45-  الصادق الفقيه،"الثورات العربية ومخاض الوحدة الطويل"، فى:
http://studies.aljazeera.net/issues/2011/07/20117236422374902.htm(July 23, 2011).
   46- محمد عبد الشافى،"شباب الكشافة العرب: حلم الوحدة مازال ممكنا"، فى:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=1016136&eid=948(September 7, 2012).

             و: الشباب الليبي،"العملة العربية الموحدة حلم مالي موحد في ظل واقع سياسي مجزأ"، على:              

http://mypage.traidnt.net/P-1108-5572(May 7, 2012).                                                   
   47-مصطفى عبد الغنى،"الوحدة العربية بين العولمة ومحكمة الاستئناف" ،الأهرام(القاهرة)،17/7/2000.
             فى الاحتفال بالذكرى الرابعة والخمسين  للوحدة المصرية السورية- 28/ 2/2012- أكد اتحاد"المحامين العرب"بندوته تحت عنوان"الوحدة العربية ومخاطر التقسيم"أن الوحدة العربية هى مكمن عزة الأمة ونهضتها وهى الحصن والمناعة وهى الأمل والرجاء وجزء من فكرنا وعقيدتنا، وبها سيتحقق التكامل السياسى والاقتصادى والاجتماعى بين أبناء الأمة، وعليها تنكسر كل مشاريع الهيمنة والسيطرة والتبعية. ثم فى الذكرى الحادية والخمسين للانفصال أكد اتحاد المحامين العرب فى بيانه- 25/ 9/2012- أنه رغم مرارة الانفصال وآثاره السلبية على مستقبل الأمة العربية فإن الجماهيرالعربية تؤكد كل يوم أن حلم الوحدة سوف يبقى ما بقيت هذه الجماهير، فلا حاضر حقيقيا ولا مستقبل لهذه الأمة بغير الوحدة؛ فهى الوعاء السياسى والاقتصادى والاجتماعى للأمة وهى المستقبل الحقيقى لجماهيرها فى الحرية والاستقلال والتقدم. 
         إذن وأخيرا، تستطيع المنهجية العلمية- من خلال قراءة الواقع السياسى العربى وتحليل معطياته - أن تضع أمام صانع القرار السياسى القومى كافة المؤشرات الإيجابية والسلبية المتعلقة بهذا الواقع ومدى جهوزيته للبدء فى تأسيس الوحدة العربية الشاملة. لكن هل تكفى هذه المنهجية العلمية وحدها؟ أم لابد- إلى جانبها- من وجود(حلم/نزعة رومانسية/ارتباط شعورى/تعلق وجدانى) بهذا المشروع ليتم إنجازه؟ فتكون تلك(النزعة الرومانسية الوجدانية) أو ذلك الحلم بمثابة القاطرة أو نقطة الجذب التى تتعلق بها أو تسعى فى الوصول اليها الجهود الوحدوية لأبناء الأمة.
المبحث الثالث
أهمية النزعة الرومانسية فى بلْورة الطموح القومى
        يتأثر الطابع القومى بالفكر فى صورة الشعر والفن، بل إن تأثير مثل هذه العوامل يكون عادة أقوى بكثير جدا من تأثير الفلسفة.( 48) ولاشك فإن أى رسالة فنية أو أدبية لاتخلو من نزعة رومانسية، كمكون أساسى فى بنية هذه الرسالة التى تخاطب الشعور/الوجدان القومى لتؤثر فيه أو لتعيد تشكيله فى بعض الأحيان. وعليه، فلا معنى لـ(اتهام) أصحاب الفكر القومى العروبى الوحدوى- أوغيرهم من أصحاب العقائد القومية الأخرى- بأنهم (رومانسيون)؛ فإن رومانسيتهم هذه ليست نقيصة فيهم بل إنها قيمة مضافة لديهم وملكة إبداعية تلعب دورا أساسيا فى تشكيل(الحلم) القومى لديهم، وتُحرك- بدرجة ما- نزعة التغيير الرامية الى تحقيق(الأفكار المثالية الكبرى) وعلى رأسها وحدتهم القومية.
        إن(الحلم) بمستقبل أفضل لأى أمة هو أحد مكونات(الفكرة أو الأيديولوجية القومية) لدى أبناء هذه الأمة. ولا يمكن التهوين من شأن(الحلم)؛ فهو جملة المُثُل العليا والمقاصد المنشودة- لهذه الأمة- التى يتم التعبير عنها فكريا: دينيا وأدبيا وفنيا. ولم تخلُ الأيديولوجيات القومية الكبرى فى أوربا من هذا المكون/العنصر، أى(الحلم)، بل إن كبار المفكرين القوميين هناك لم يترددوا فى التصريح بأن(الرومانسية) كانت فى مقدمة عوامل بناء الفكرة/العقيدة القومية لديهم.
          48- فردريك هرتز، م. س، ص 325.
 
           فى ألمانيا، برغم أن المفكرين الرومانسيين لم يكونوا زعماء الحركة القومية الصاعدة ولم يكن لهم نفوذ كبير على الرأى العام فى المسائل السياسية، فقد أسهموا فى تكوين أيديولوجية صارت فيما بعد أساس(النزعة) القومية. وكان الإسهام الرئيسى للفكر الرومانسى فى بناء الأيديولوجية القومية الألمانية متمثلا فى وصف وتأكيد الفردية القومية- التميز- ومقارنتها بالقوميات الأخرى. وكان أهم أصحاب النظريات السياسية والاقتصادية الرومانسية الألمان هو آدم موللر الذى نُشرت كتاباته 1931. وفى بريطانيا بلغ الفكر الرومانسى ذروة قوته وبهاءه عند توماس كارلايل الذى كان قد تأثر كثيرا بالرومانسيين الألمان. وقد لقيت أفكاره رواجا أكبر خارج بريطانيا، واستُخدمت فى بلاد أخرى بواسطة دعاة القومية فى صياغة أيديولوجياتهم. وكان جيسسبى مازينى(1805-1872) الذى يعد من أكثر شخصيات عصر البعث الإيطالى سحرا وتتقارب فلسفته مع فلسفة الميتافيزيقيين الألمان- خاصة نيتشه وهيجل- قد تأثر أيضا بالرومانسية الألمانية والفرنسية تأثرا كبيرا جدا فى صياغة أفكاره، ثم كرس حياته كلها لتحرير إيطاليا وتوحيدها. وكانت الضرورة الأولى لتحقيق خطط مازينى هى الاستقلال القومى.( 49)  
            كذلك، كان الحلم القومى واحدا من أبرز مقاصد كبار شعراء الأمة العربية وكتابها فى التاريخ الحديث والمعاصر والراهن، غير غافلين عن ربطه بمعطيات واقع الأمة. على سبيل المثال، كان الشاعر الفلسطينى برهان بن أحمد راغب الدجانى(1920- 2000) من المؤسسين لحركة القوميين العرب ومن أوائل الداعين لإنشاء السوق العربية المشتركة(1941) وكان يراها المدخل الواقعي للوحدة العربية.(50)
49- - المرجع السابق، ص ص 400- 438.
         و: لوك. هيوم. روسو، العقد الاجتماعى، ترجمة عبد الكريم أحمد (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011)، صفحتا: 5 ، 30.   
50 – للتفاصيل، راجع:
     - سليمان إبراهيم العسكري،"السقاف.. الشاعر المعلم.. رائد الوعي القومي"، مجلة العربى(الكويت)، نوفمبر 2010، فى:
http://3arabimag.com/SubjectArticle.asp?ID=2946(April 5, 2013).                                    
     و: سيد إبراهيم آرمن،"جيل الشعراء الرواد في دولة الکويت"، فى:     

http://www.diwanalarab.com/spip.php?article21440(April 5, 2013).                                                       

و:  http://www.alfikralarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=1290(April 5, 2013).                                              http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=1439(April 5, 2013).
            ولم يكن الزعيم القومى جمال عبد الناصر وحده الذى قال لأم كلثوم إنها نجحت فيما فشل فيه القادة العرب، فإن كبار رموز التوجه والعمل القومى العربى من السياسيين كانوا مدركين لأهمية المكون الفنى -الرومانسى والوجدانى- فى الفكرة القومية.(51)
               وكما غنَّى/توحد الفنانون من أقطار العالم العربى منذ نصف قرن بأوبريت(وطني حبيبي يا وطني الأكبر) فقد شدا أبناؤهم وأحفادهم اليوم بأوبريت(الحلم العربى)منطلقين من إحساسهم القومى دون تكليف من جانب أى مؤسسة إعلامية أو فنية حكومية.
           ظهر الأوبريت الأول مع ولادة الجمهورية العربية المتحدة 1958، حيث انطلقت الأغاني الوطنية مرحبة بهذا الإنجاز الذي كان حلماً للكثير من العرب، وقام بتلحين هذا الأوبريت الفنان الراحل محمد عبد الوهاب عام 1960  والذى كان من المرحبين بهذه الوحدة، وقام بالغناء فيه نخبة من فناني العصر الذهبي في مصر والوطن العربي، وقد نجح هذا النشيد لتناوله مفاهيم شاملة مثل الوحدة العربية، وعدم تحيزه لنظام سياسي معين ، ولم يذكر اسم أي زعيم عربي. ثم ظهر الثانى 1998 واشترك فيه عدد من المغنين العرب المشهورين ليعبروا عن طموح الشعوب العربية فى الوحدة المأمولة أيضا.
           بل إن هذا الحس الرومانسى الحالم المتفائل كثيرا ما خالط كتابات بعض المحللين السياسيين، ورأوا أن مآل الكابوس التفتيتى الحالى فى المشهد العربى هو إلى زوال؛ تأسيسا على أن التباين بين الأقطار العربية فى البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسواها كان ولايزال تباينا نسبيا محدودا لأنه- فى غالبه- صناعة غريبة، وسيظل أمرا عارضا مهما ظل الاستعمار يجتهد فى حراسته وتكريسه، ويمكن تعجل نهايته بتكثيف جهود العمل الوحدوى ومواصلته. ثم إن قضية(وحدة الأمة العربية) هى قضية حياة ومصير، أى قضية سياسية تتجاوز قضية التباين والتشابه وغيرها مما تناولته الدراسات الاجتماعية. هذا، الى جانب أنهم لايرون فى هذا التباين إلا تنوعا فى إطار الاتساق وتكاملا فى إطارالوحدة ومصدرا للخصب والثراء، وأنه أشبه باللونيات والألحان الفرعية التى تغذى اللحن الأصيل أوالأساسى. ولايحيل هذا التنوعَ الى تصارع وشقاق إلا واقع التجزئة هذا واستمراره.(52)
         ومنذ ما يزيد على تسعين عاما، أحصى المفكر الوحدوى الأمير شكيب أرسلان مائة مشروع استعمارى لتقسيم العالم العربى. لكنه برغم ذلك كان يبدى تفاؤلا كبيرا بإمكانية تجسيد حلم الوحدة العربية، مستندا الى أن العرب أمة كاملة تتوفر لها جميع العناصر التى يتطلبها بناء كيان الأمم من الناحيتين السياسية والاجتماعية، ومشترطا تمسك العرب بقوميتهم وشخصيتهم، وغرس الفكرة فى الأذهان، ونبذ الخلافات الشخصية.(53)
51-  سداد جواد التميمي،"ام كلثوم وشعراء عرب و الوحدة ألعربية"، على :
http://www.akhbaar.org/home/2011/06/111424.html?print(April 5, 2013).
52- محمد محفوظ،"التجارب الوحدوية المعاصرة - سورية ومصر"، فى: الندوة الفكرية الأولى، مرجع سابق ، ص184.
53- عبد الودود شلبى، الإسلام وخرافة السيف(القاهرة، دار الخليج، 1987). ص ص 138- 239.
        حاليا، يدعو الكاتب المصرى أنيس الدغيدي(1960 -   ) مؤسس حزب الوحدة والإبداع، إلى تحقيق الوحدة العربية الشاملة لإقامة الولايات المتحدة العربية. ولاختيار هذا الكاتب - مثالا- دلالة ؛ فهوحائز على تقدير أفضل كاتب عربي عام 2004 وتحتل بعض كتبه المركز الأول كأعلى توزيع ضمن قائمة الكتب العشرة الأولى في العالم العربي وأعلى توزيع ضمن20 مليون على مستوى العالم. وتلقى مؤلفاته اهتماما سياسيا أمريكيا وأوروبيا خاصا؛ حيث تناقش مؤلفاتِه وتتابعها بشكلٍ غير تقليدي وكالة المخابرات الأمريكية والقيادة السياسية الأمريكية.(54)
       الخلاصة: كما تأثر الطابع القومى بالشعر والفن لدى الأمم الألمانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية وغيرها، وكما كان للفكر الرومانسى إسهام رئيسى فى بناء أيديولوجياتهم القومية، حتى أصبحت الضرورة/الغاية الأولى لخطط المفكرين الرومانسيين لديهم هى تحقيق الاستقلال القومى وتحرير تلك الأمم وتوحيدها. . فإن الظاهرة نفسها لم تغب عن الأمة العربية، إذ كان ولايزال للشعر والفن والنزعة الرومانسية دور فى بلورة الحلم/الطموح القومى العربى الوحدوى. 
المبحث الرابع
إشكالية الجمع بين (المنهجية العلمية) و(االنزعة الرومانسية)
لتحقيق الوحدة العربية
         بعد الوقوف على أهمية المكون(المثالى/الرومانسى) فى بلورة الأيديولوجية القومية والطموح القومى، يُثار التساؤل عن مدى إمكانية توظيف هذا العنصر/ المكون فى تطبيق هذه الأيديولوجية، وبيان أوجه التباين والتكامل عند توظيف كل من المدخل الرومانسى والمنهج العلمى، فى المسعى نفسه .
     مدى تكاملية(المنهجية العلمية) مع(النزعة الرومانسية) فى تطبيق الأيديولوجية القومية:  
     إذا كانت السمة الرئيسية لـ(المعرفة العلمية) أنها تتعامل مع ظواهر معيشة اجتماعيا وإنسانيا، وأنه يمكن التعبير عنها بمجموعة من المؤشرات الكيفية والكمية، وأن بحثها ينطلق من تحديد مشكلة ما، ومن تحديد لمجموعة من الفروض أو الأسئلة البحثية المرتبطة بها(55) فإن هذا لايتوفر لـ(الحلم) الذى تغلب عليه أو تخالطه(النزعة الرومانسية) ، غير أن جوهر هذه النزعة الرومانسية هو التوق الى الأفضل والتمرد أو الثورة على الأوضاع المعيشة واقعيا. وهنا تكمن أواصر العلاقة الوثقى التى تربط بين الاقترابين المذكورين؛ فحتى يتحقق الحلم/الرؤية المستقبلية(وضمنها المكون الرومانسي) لابد من خطوات مدروسة وخطط دقيقة مبنية على وصف الواقع السياسى وتحليله، وهو ما يوفره(المنهج العلمى).
                                         - 54                  http://ar.wikipedia.org/wiki(April 5, 2012).  
    55- على الدين هلال،"العلم والمنهج العلمي"، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 16، (بيروت: 2007، ص ص 4- 5.
       
         كذلك فإن النمط المثالى Ideal Type- وهو أداة منهجية علمية- يكتسب صفته المثالية من كونه بناءً تصوريا يخلقه العقل . ولأن هذا النمط لايقف عند مجرد وصف الواقع بكل تفصيلاته، وإنما يلعب عنصر التصور- فضلا عن إبداع الباحث - دورا مهما فى صياغته ، أى صياغة هذا النمط ، رغم استناده الى أساس واقعى(56) ، وهذا يؤكد أن العنصر التصورى/الإبدعى هو مكون أصيل فى بناء الفكرة/المثال/النمط الذى يتم إعداده للقياس عليه أو محاكاته، أو تطبيقه فى الواقع. الأمر الذى يبرهن على مدى الحاجة الى المكون التصورى/الإبدعى فى المنهجية العلمية. ولاشك، فإن هذه المضامين - التصور/الإبداع - هى جوهر الخيال والحلم والفكرة الرومانسية.          
          وبرغم أن الجانب الأكبر من المنهجية العلمية ينصب على قراءة الواقع وتحليله، فلايزال جانب من هذه المنهجية يتمثل فى(التيار المثالى فى منهاجية دراسة العلاقات الدولية) الذى يمدنا بـ(الأفكار المثالية الكبرى) من أجل السعى لتحقيقها، ولاتزال التصورات المثالية تبين لنا ما ينبغى أن يكون عليه المجتمع الدولى.  يعنى هذا أن ظهور تيارات أخرى فى منهاجية دراسة العلاقات الدولية، كالتيارات الواقعية والسلوكية، لم ينف عن التيار المثالى صفته العلمية، فقد ظل يحتفظ بهذه الصفة، وإن ضاقت دائرة توظيفه. ( 57)    
           وإذا كان بعض من كتبوا عن(أزمة الأيديولوجيا) قد رأوا أن التيار/المنهج المثالى غير قادرعلى تحليل الظروف الواقعية، وأنه يعيد تكريس المفاهيم المثالية، السائدة أساسا فى المجتمع العربى الذى يُعد"موطن"المناهج والأفكار والمفاهيم المثالية،(58) فإن هؤلاء قد جانبهم الصواب إذ جعلوا التيار المثالى فى مواجهة مع التيار الواقعى، بينما لكل من التيارين وجهته وغايته وأدواته، دون مواجهة أو مقابلة، بل إنهما قد يتكاملان فى بعض الدراسات. 
        أيضا، يمكن الرد على هؤلاء بسؤالهم: أفلا يكفى هذا التيار/المنهج المثالى أنه يصون ويحرس، أو يكرس ويثبِّت (الأفكار والمفاهيم المثالية) فيكون التعلق بها دافعا الى محاكاتها وتطبيقها، ودافعا الى تغيير الواقع الى الأفضل، أو لتكون تلك المفاهيم معيارا يقاس اليه الواقع، فنتبين- ونحن نحلل هذا الواقع بأحد المناهج الواقعية - مدى جهوزية هذا الواقع للسير فيه، وكيفية التعامل مع معطياته، ومدى صحة ما اتُخذ بشأنه من قرارات، أو رُسم له من سياسات؟!
 ------------------
 56- عبد الغفار رشاد القصبى، م. س، ص 250.
57- للتفاصيل، راجع:أحمد و: زبارة، م. س، ص ص 35-66. و: د.أحمد يوسف أحمد، محاضرات فى(نظرية العلاقات الدولية) لطلبة السنة التكميلية - مرحلة الدكتوراة بقسم العلوم السياسية - جامعة القاهرة،1997.
58- سلامة كيلة، إشكالية الحركة القومية العربية(دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 1991)، ص ص  68 -69.
 
        
         ثم إن أنصار المدرسة السلوكية- فى شكلها المتعسف- حين دعوا فى الخمسينيات من القرن السابق الى إنشاء"علم سياسة خال من القيم" والى الابتعاد عن الانحيازات الفكرية والقيمية، فإن دعوة هؤلاء لم تلق قبولا لدى جمهرة الباحثين فى الدول النامية- ومنها المنطقة العربية- الذين رأوا فى تلك الدعوة تخليا من الباحث عن مسؤوليته الاجتماعية والسياسية. بل، لقد أدرك أساتذة العلوم السياسية فى الغرب محدودية هذه الدعوة وقصورها.(59)
          إن النزعة الرومانسية لاتعنى تغييبا للوعى أو انسلاخا من الواقع، بل إنها تنطلق بأصحابها الى أفق أرحب ومناخ أنقى؛ ليصفو الفكر وتتضح الرؤية ويقوى الأمل وترتسم الخطوات نحو ترجمة الحلم(المعيش) الى واقع معيش أيضا. ولا ينكر القارىء لتاريخ الحضارة الإنسانية أن أكبر انجازاتها - فى كل جوانبها - بدأت خيالا/ أفكارا/ أحلاما بما هو أفضل، وتوقا إليه وتعلقا به، ثم عملا من أجله. (60)
          لقد كون الفلاسفة والمؤرخون وجهات نظر عديدة، فيما يتعلق بالصلات بين الفكر والحياة، وفيما يتعلق بدور(الأفكار) فى صناعة(السياسات). وإذا كانوا قد غالوا قديما فى الحديث عن دور الأفراد فى توجيه مصير الأمم، ففى العهود الحديثة هناك إدراك متزايد لتأثير القوى الاجتماعية الجماعية، وهو ما يعنى الاعتراف بأثر الانفعالات/العواطف/ والمصالح معاً. وقد أثبت علماء الاجتماع الحديثون أن كلا من(برامج الأحزاب) و(نظريات كبار المفكرين) تتحدد- الى درجة كبيرة- ببيئتها الاجتماعية، وبالأوضاع التاريخية الخاصة بها. بيد أن القوى العقلانية واللاعقلانية- الوجدانية- متشابكة، كقاعدة عامة، بحيث لايكاد يمكن فصلهما. إن(العالِم) يحاول أن يضع الحقيقة فوق أعز مُثله العليا ومصالحه الجوهرية، ولكنه لاينجح - تماما ودائما - فى القضاء على التحيز. و(الداعية/المفكر) يستخدم الفكر والمعرفة كأدوات للدفاع عن أهدافه المتصورة. ونوع تفكيره يُسمى عادة(أيديولوجية) لتمييزه عن التفكير العلمى غير المتحيز. وفى حالات كثيرة لايكون الفرق إلا فى الدرجة، ويصعب تحديد الحد الفاصل.(61)
 
         -------------
59-على الدين هلال،"علم عربيّ للسياسة أم مدرسة عربية في علم السياسة ؟"، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 12(بيروت:2006 )،  ص 4.
               و:ديفيد ب. رزنيك، أخلاقيات العلم(الكويت: المجلس الوطنى  للثقافة والفنون والآداب، 2005)، ص ص 31- 60.
               و:محمد مختار الزقزوقى، الأخلاق والسياسة(القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1998)، مواضع عدة .
  60- لطفى السيد عبدالعظيم،"الخيال العلمى فى مناهج البحث"، الأهرام (القاهرة) ،26/8/2000.
 61- فردريك هرتز، م. س، ص ص 322- 323.
 
        كما أن النظرة المتفائلة للمسقبل، والتى تُعد خاصية أو ملمحا شعوريا وجدانيا فريدا لدى بعض الأفراد دون غيرهم، هى- أيضا - مكون أساسى فى الفكرة الرومانسية، التى يتمتع بها هؤلاء. بيد أن هذه التفاؤلية ليست مقصورة على(الشعراء) الرومانسيين فحسب، بل كثيرا ما يتحدث عنها ويستند اليها كبار القادة والزعماء(الرومانسيين) الحالمين بمستقبل أفضل لشعوبهم، والحالمين  بنهضة أمتهم ثم وحدتها.
          وبرغم جملة التحديات التى تواجه الوطن العربى فى القرن الحادى والعشرين، وبرغم أن استشراف مستقبل الوطن العربى يشير إلى مزيد من التشرذم والانقسامات والتبعية للخارج من ناحية، وبرغم أن سيناريو تقسيم الدول العربية الى دويلات وكنتونات سياسية هو سيناريو يؤرق دعاة القومية العربية، فإن الطموح فى الانتقال الى سيناريو أكثر تفاؤلا لم يغب، مع إدراك المتعلقين بهذا السيناريو أنه يتطلب إحداث نقلة نوعية على صعيد أنظمة الحكم؛ لتصبح نظما ديمقراطية تدين فى تبعيتها للشعب، وتقوم على مبادىء الكفاءة والشفافية وسيادة القانون.(62) وهاهى تلك النقلة قد حدثت ولو بشكل جزئى، بعد انتفاضات/ثورات الربيع العربى، وبات من الممكن توظيفها والبناء عليها ، بعد تجاوز التعثر الذى تشهده مراحل التحول الديمقراطى فى بلدان تلك الانتفاضات/الثورات .
 
          أخيرا، فالوحدة العربية - شأنها شأن المشاريع التاريخية الكبرى - بحاجة إلى حاضن قوي لها، يملك القدرة على صيانتها، وبحاجة إلى أن يكون قيامها تعبيراً عن سيرورة تاريخية. بمعنى أنه لايكفي أن يكون الحلم عاصفاً، والحضور قوياً لفكرة الوحدة في الضمير الجمعي للأمة، من دون توفير مستلزمات القوة، بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ففي تجربة الوحدة بين مصر وسوريا كان هناك غياب لعاملين أساسيين في تحقيقها: الأول هو أنها لم تكن حاصل سيرورة تاريخية، ولم تأت استجابة لتراكم نضالي منظم متجه نحوها، والثاني هو غياب الحاضن الاجتماعي القادر- بقوة ثقله الاقتصادي والسياسي - على التأثير في معادلة التوازن لمصلحة مشروع الوحدة ذاته.(63) ومنذ أن تحررت بلاد العرب من الاستعمار أو الوصاية أو الحماية التي رزحت تحت نيرها، كانت محاولات الوحدة العربية فاشلة؛ لأنها لم تراعِ إلا العاطفة وحدها في توجهها نحو تحقيق هذه الوحدة، الأمر الذى يبرهن على ضرورة توفر كل من الأسباب الموضوعية- وفق المنهجية العلمية- والأسباب الوجدانية أى النزعة الرومانسية، وتكاملية توظيف هذين المدخلين لتحقيق الوحدة العربية.   
          ----------------
      62-حسن حمدان العلكيم،"التحديات التي تواجه الوطن العربي في القرن الحادي والعشرين:دراسة استشرافية، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 19 (بيروت: 2008)، ص ص 75- 108.
                و:جمال زهران،"مراجعة لكتاب: أحمد إبراهيم محمود(وآخرون)، حال الأمة العربية 2006-2007:أزمات الداخل وتحديات الخارج"، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 18 (بيروت: 2008)، ص ص 179- 182.
 63  - يوسف مكي،"الوحدة واستعادة الحلم والوعي"، فى http://www.arabrenewal.info/2010-06-11-14-11-19/20166(March 3, 2012)                                                     
           الى ذلك، يجب ألا نغفل عن حقيقتين قاطعتين فى هذا الشأن: تتعلق أولاهما بضرورة وجود الإرادة السياسية الراغبة فى انجاز(الحلم/الطموح القومى بالوحدة). وتتعلق الثانية بضرورة إدراك أن تحقيق هذا الحلم/الطموح القومى بالوحدة قد أصبح ضرورة حياة للأمة العربية وبقاء النظام العربى.
           فهل حان وقت استيعاب هاتين الحقيقتين ؟
           لقد كتب وبحث الكثير من المفكرين العرب والمراكز المتخصصة في أمر الوحدة، وهناك الكثير من الأفكار والأدبيات لتحقيقها، ولكنها كلها لم تُترجم الى خطط عملية قابلة للتحقيق؛ وذلك لعدم وجود إرادة سياسية للتخلي عن بعض الامتيازات القطرية لصالح الوحدة العربية التى طال انتظارها .كذلك، وفى ضوء التقرير- الذي أعده مركزدراسات الوحدة العربية؛ بعنوان:"استشراف مستقبل الوطن العربي"، والذي نُشر في شهر فبراير عام 2010م- هناك سيناريوهات تنتظر الوطن العربي في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين:"أول هذه السيناريوهات هو استمرار الحال الراهن وهو ما سيقود إلى الانهيار الكامل، وثانيهما: قيام صيغ تعاون إقليمي سرعان ما تنهار هي الأخرى إذا لم تتجه إلى الوحدة، وثالث تلك السيناريوهات: قيام وحدة اتحادية تضمن للعرب استقلالهم ونهضتهم، تحققها كتلة تاريخية من كل تيارات الأمة الرئيسية(قومية وإسلامية ويسارية عروبية وليبرالية وطنية)، تجتمع حول مشروع نهضوي عربي".(64)
          إن تأمل المخاطر المتوقعة إذا تحقق أحد السيناريوهين الأولين يملى علينا ضرورة بذل أقصى الجهد سعيا لتحقيق السيناريو الثالث؛ ليس لأنه يمثل الحلم/الطموح القومى العربى المأمول فحسب، بل لأنه أيضا بات يمثل ضمانة بقاء وضرورة حياة لهذه الأمة.                 
        تخلص هذه الدراسة الى ما يلى:
          أولا- تُعد(الوحدة العربية) فكرة مثالية كبرى ينبغى أن يسعى لتحقيقها أبناء الأمة العربية. كما ينبغى إدراك أن التسليم بوجود أيديولوجية(القومية العربية) أو (العروبة)- بما يشيران اليه من معانى العقائدية والفعالية فى آن- يوجب ضرورة الجد فى الدعوة الي هذه الأيديولوجية والعمل من أجل تحقيقها فى معناها الأكمل أو هيئتها المثلى:(الوحدة العربية).
         ثانيا- فى سبيل تحقيق هذه الوحدة، تستطيع المنهجية العلمية- بأدواتها المختلفة - أن تضع أمام صانع القرارالسياسى القومى كافة المؤشرات الإيجابية والسلبية المتعلقة بالواقع السياسى، والمعرفة بأهم معطياته، وهو ما يُوقِف متخذ القرار على مدى ملاءمة هذه المعطيات لأن تكون قاعدة للانطلاق منها الى الأفق المرجو- تحقيق الوحدة- ومدى دفع / إعاقة هذه المعطيات لمسيرة الانطلاق تلك.
              -------------

  64- أحمد بن محمد العامري،"الوحدة العربية.. حلم أمة"، فى:

http://www.alroya.info/ar/citizen-gournalist/citizen-journalist-/43349(November 7, 2012).                          
        ثالثا- كما تأثر الطابع القومى بالشعر والفن لدى الأمم الألمانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية وغيرها، وكما كان للفكر الرومانسى إسهام رئيسى فى بناء الأيديولوجيات القومية لتلك الأمم حتى أصبحت الغاية الأولى لخطط المفكرين الرومانسيين لديهم هى تحقيق الاستقلال القومى وتحرير تلك الأمم وتوحيدها. . فإن الظاهرة نفسها لم تغب عن الأمة العربية، إذ كان ولايزال للشعر والفن والنزعة الرومانسية دور فى بلورة الحلم/الطموح القومى العربى الوحدوى. وتُعد هذه(النزعة الرومانسية) بمثابة القاطرة أو نقطة الجذب التى تتعلق بها أو تسعى فى الوصول اليها الجهود الوحدوية لأبناء الأمة.
          رابعا- لاغنى عن توظيف كل من(المنهجية العلمية) و(النزعة الرومانسية) معاً، لتحقيق الطموح القومى الكبير، أى(الوحدة العربية)؛ فهذان المدخلان متكاملان، وليسا متنافرين. وما يغيب عن أيهما من نقاط القوة يتوفر لدى الآخر. إن المنهج العلمى واقعي، ويستند فى وصفه وتحليله للواقع السياسى الى أدوات منهجية محكمة، ويقدم قياسات ومؤشرات دقيقة، لكنه قد يكون مُحبِطا أو مُيئسا، إذا كشف عن أوضاع متردية أو مؤشرات سلبية بدرجة ما، فتكون - حينئذ - (الفكرة/النزعة) الرومانسية المتفائلة/الحالمة هى المبددة لهذا اليأس أو الإحباط ، والحافزة ضمن- أو فى صدارة- عوامل أخرى على استمرار جهود تحقيق الحلم/الطموح القومى، أو-على الأقل- لتحفظه فى وجدان أبناء الأمة وضمائرهم، ولتحول دون موته أو تلاشيه.
          خامسا- إن النزعة الرومانسية دائمة التوهج فى قلوب أبناء الأمة وأذهانهم، ويمكنها أن تسهم - مرحليا - فى تشكيل العديد من الأحلام والطموحات القومية الأخرى . لعل فى صدارة تلك الطموحات القومية، الحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن الدولى، لمجموعة الدول العربية، وإنشاء سوق عربية مشتركة، وتوحيد نظم التعليم والقضاء فى العالم العربى، وتنفيذ مشروع قومى لتعريب العلوم، وإعداد غطاء نووى عربى. وما الى ذلك.
           سادسا ضرورة القبول بالتدرج فى تحقيق الطموح العربى الأكبر/ حلم الوحدة، وتجاوز مسألة (هيئة / شكل) التعاون فى بدء مسيرة العمل المشترك ، فالمهم أن يكون هناك بدء للتحرك فى هذا الاتجاه.
                     يُعاد ترجمة خامسا وسادسا