الرئيسة \  تقارير  \  تحويل الاحتلال إلى لعبة

تحويل الاحتلال إلى لعبة

29.12.2022
صوفيا غودفريند

تحويل الاحتلال إلى لعبة
صوفيا غودفريند‏* – (تيارات يهودية)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الاربعاء 28-12-2022
أزلنا أنا ‏‏وأصدقائي‏‏ العصابات عن أعيننا وشرعنا في التعرف إلى محيطنا. كنا في غرفة فحص في المستشفى مليئة بالمعدات الطبية المحطمة التي عفا عليها الزمن، ومزينة بصور للمسجد الأقصى وخريطة لخطة الأمم المتحدة لتقسيم إسرائيل/ فلسطين من العام 1948.
وعلى مكتب في الزاوية، عاد جهاز حاسوب قديم إلى الحياة فجأة وبدأ في تشغيل مقطع فيديو للممثل ليئور راز، في شخصية قائد وحدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلية التي يلعب دورها في سلسلة “نتفليكس” التلفزيونية الناجحة “فوضى”**‏‏.
وأبلغَنا راز بأننا في “مستشفى الشفاء”؛ أكبر مستشفى في قطاع غزة. وكان نشطاء “حماس” قد زرعوا قنبلة كيماوية في المبنى ستنفجر في غضون 60 دقيقة.
وكانت مهمتنا هي العثور على السلاح ونزع فتيله قبل أن يقضي على كل إسرائيل. وقال لنا راز: “مصير البلاد بين أيديكم”.‏
في مستشفى الشفاء الحقيقي، تزدحم الممرات دائمًا بالناس المحتاجين إلى الرعاية.
وقد أدى القصف الإسرائيلي المتكرر والحصار المستمر منذ 15 عامًا إلى إصابة المنشأة ‏‏بنقص في الموظفين والإمدادات‏‏.
أما هنا، فكنا نتنقل بين غرف مهجورة، ونستمع إلى أصوات إطلاق نار وصراخ بعيد باللغة العربية تتدفق من مكبرات صوت رديئة.
ولإكمال مهمتنا، كان علينا حل عدد من الألغاز: الأرقام المكتوبة على شفرات مروحة السقف قدّمت كلمة المرور لجهاز حاسوب قام بدوره بعرض مقطع فيديو للاحتفال بعيد ميلاد المستشفى الأربعين؛ وفتح الرقم 40 خزانة كشفت عن مفتاح، والذي فتح بدوره مكتبًا طبيًا قلبناه رأسًا على عقب بحثًا عن المزيد من الأدلة.
ولم نر أحدًا باستثناء ثلاث قصاصات من الورق المقوى بالحجم الطبيعي لأشخاص ملتفين بالكوفيات والحجابات، كامنين خارج النافذة مباشرة.
وقد انحنوا بعد أن صوب أحد أصدقائي وأطلق النار عليهم مرارًا من مسدس هوائي.‏
‏كنا في “غرفة الهروب” المأخوذة عن ثيمة مسلسل “‏‏فوضى”‏‏، وهي نتيجة تعاون بين منتجي فيلم الإثارة بثيمة مكافحة الإرهاب -الذي سيبث موسمه الرابع والأخير على محطة “نتفليكس” في كانون الثاني (يناير) 2023- وصاحب حقوق البث الإسرائيلي للمسلسل “نعم إسرائيل” YES Israel.
ومنذ افتتاح “الغرفة” في العام 2018، ظلت في موقعها نفسه بين مطعم للبيتزا وآخر للفلافل في شارع اللنبي، وهو طريق تاريخي ومزدحم دائمًا في وسط تل أبيب، مما يجذب إليها تدفقًا مستمرًا من المراهقين الإسرائيليين والسياح اليهود الذين يدفعون 120 شيكلاً (35 دولارًا) لكل فرد ليتنكروا في زي عملاء إسرائيليين منتشرين في قطاع غزة.
ليست هذه “الغرفة” سوى المظهر الأكثر شعبية لاقتصاد الترفيه الإسرائيلي الجديد الذي شرع في التبلور في أواخر العام 2010، والذي يقدم للمستهلكين مذاقًا في شكل ألعاب للحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين.
ويمكن للإسرائيليين الآن استضافة ‏‏مواقع خارجية والتواجد في قواعد عسكرية وهمية (هي أيضًا امتداد لعنوان بروتوكول الإنترنت، IP، ‏‏الخاص بـ”فوضى”‏‏)، وإقامة ‏‏حفلات‏‏ الـ”بني ميتزفه”، (البلوغ اليهودي)، في ميادين الرماية العسكرية، وإرسال أولادهم إلى ‏‏المعسكرات الصيفية التي تعمل تحت ثيمة “مكافحة الإرهاب 101”. ‏‏
ويشتري المراهقون ‏‏ألعاب الفيديو‏‏ التي تعيد إنشاء غرف قيادة الجيش الإسرائيلي خلال حرب “يوم الغفران”، أو ‏‏إسقاط القنابل على غزة عبر أحد التطبيقات‏‏.
وليست “غرفة ‏‏الهروب” المستلهمة من سلسلة “فوضى‏”‏ الوحيدة من نوعها: هناك بعض الغرف الأخرى التي توفر للزوار فرصة ‏‏للعب دور عملاء الموساد‏‏ الذين يتم إرسالهم “لتحييد” تهديد ما في سورية، أو ‏‏تخريب المنشآت النووية‏‏ في إيران.
على الرغم من أن طلب المستهلكين على الألعاب الحربية المنقحة، التي تعيد صياغة أهوال الاحتلال وعرضه كشكل من أشكال الرد الانتقامي، ارتفع في فترة بدا فيها أن واقع الحكم العسكري يتراجع من الحياة اليومية للإسرائيليين، استمر “اقتصاد التجربة” العنيف هذا في جذب الزبائن في لحظة من التوتر وإراقة المتصاعدين: كان العام 2022 ‏‏هو الأكثر قتلًا‏‏ للمدنيين الإسرائيليين منذ العام 2008؛ حيث قتل 27 شخصًا في هجمات، بينهم 17 داخل إسرائيل و10 في الضفة الغربية.
(تشير التقديرات إلى أن الإسرائيليين قتلوا أكثر من ‏‏ستة أضعاف هذا العدد من الفلسطينيين في الفترة نفسها؛‏‏ وقد قُتل من الفلسطينيين في الضفة الغربية في العام 2022 عدد أكبر مما قُتل منهم في أي عام منذ 2005).
كما أن السياسة العرقية القومية اليمينية في إسرائيل آخذة في الصعود، حيث ‏‏يدعو‏‏ المسؤولون المنتخبون الجنود إلى إطلاق النار على الفلسطينيين بسبب إلقاء الحجارة، ‏‏ويشجعون‏‏ القصف غير المقيد للمدارس والمستشفيات في غزة.
‏بينما يصبح تمجيد العنف أكثر انتشارًا باطراد، يعكس اقتصاد الترفيه العسكري المزاج الوطني الإسرائيلي ويعززه. وقد أخبرني محمد علي الخالدي، أستاذ الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك الذي ‏‏كتب‏‏ عن سلسلة “‏‏فوضى”‏‏، في رسالة بالبريد الإلكتروني، أن التجارب مثل “غرفة الهروب” تشكل الوعي الثقافي والسياسي، وتبني روايات متعصبة يَظهر فيها الاحتلال الإسرائيلي كمسألة بقاء لا مراء فيها من الناحية الأخلاقية.
وأضاف الخالدي: “إنها تعمل على تبرير عنف الدولة الإسرائيلية في العالم الحقيقي”.
‏هذه الطبيعة للسيناريوهات التي تقسم الأشياء إلى أبيض- و-أسود هي التي تجعلها جذابة للمستهلكين بشكل خاص. ويقول آفي يسخاروف، وهو عميل سري سابق تحول إلى مراسل حربي وشارك في إنتاج سلسلة ‏‏”فوضى‏‏” مع راز: “لم نتوقع أن يشاهد الكثير من الناس برنامجًا يتناول الصراع.
معظم الإسرائيليين لا يهتمون. لا يهتمون بالصراع”. وربما يعود جزء من جاذبية البرنامج، كما اقترح، إلى أنه أعاد تصور مكافحة الإرهاب والعمل الاستخباراتي -الذي هو في الواقع عالي التقنية ومنخفض المخاطر بالنسبة للعملاء الإسرائيليين الذين يطلقون طائرات من دون طيار عبر أحياء قد لا تطؤها أقدامهم أبدًا- كاختبارات تناظرية للذكاء والجرأة: عملاء “‏‏فوضى”‏‏ يندمجون في الأراضي المحتلة، ويتواصلون عبر الهواتف المحمولة بدلاً من استخدام أدوات القرصنة التي لا تقتحم أجهزة المستخدمين المستهدفين بلا استئذان.
وفي “غرفة الهروب”، يقفز الزبائن بالمثل إلى خط قص يتم فيه تقديم الأبطال الإسرائيليين على أنهم يواجهون مواقف صعبة حيث كل شيء على المحك -بدلاً من ممارسة السيطرة على الفلسطينيين من خلال القوة العسكرية
وكما يقول يسخاروف، ‏‏فإن سلسلة “فوضى” ‏‏تحظى بشعبية لأنها مثيرة. ويسأل: “ما الذي تفضل مشاهدته؟”، عرضًا عن عملاء مخابرات يجلسون مع حواسيبهم؟ “أم عرضًا لطرفين مُتحاربَين -أحدهما فلسطيني والآخر إسرائيلي؟”.
انطلقت بدعة ‏‏”غرف الهروب”‏‏ قبل عقد من الزمان في الولايات المتحدة، حيث أظهر المستهلكون حرصًا على دفع مئات الدولارات ‏لمحاربة الزومبيات، الأحياء-الأموات آكلي اللحم،‏ أو إخراج ‏‏قطارات هاربة عن مساراتها‏‏، أو -في أحد ‏‏الأمثلة ذات الثيمة اليهودية في بروكلين‏‏- مطاردة معادين للسامية عازمين على تنفيذ مذبحة ضد اليهود.
وقد وصل هذا الاتجاه ‏‏إلى إسرائيل‏‏ في منتصف العشرية الثانية من القرن، وسرعان ما اتخذ طابعًا عسكريًا مميزًا. في ذلك الوقت، كان قد تم استبدال العنف ضد الانتفاضة الثانية بوعود السياسيين بـ”‏‏تقليص الصراع‏‏” من خلال الاستفادة من ‏‏الابتكارات في مجال الحرب التكنولوجية، من‏‏ بين أمور أخرى.
وعلى الرغم من أن انتشار الكاميرات البيومترية والطائرات من دون طيار لم يخفف من وحشية الاحتلال من منظور الفلسطينيين، فإنه سمح للعديد من الإسرائيليين بأن يتجاهلو بسهولة أكبر ما كان يتكشف على الجانب الآخر من الجدار الفاصل.
وقد تم نشر عدد من الجنود في المناطق الفلسطينية أقل من أي وقت مضى، في حين تسرب قدر أقل فأقل من العنف عبر الخط الأخضر.
في “‏‏لقطات: عنف الدولة أمام الكاميرا في إسرائيل/فلسطين‏‏”، تصف عالمة الأنثروبولوجيا، ريبيكا شتاين، كيف اختفى الاحتلال تدريجيًا من الخطاب السياسي والحياة اليومية الإسرائيليين خلال هذه السنوات -وهو محو كتبت شتاين أنه “يرقى إلى اتفاق ضمني داخل المجتمع الإسرائيلي السائد، برعاية الدولة، على إبقاء الاحتلال العسكري بعيدًا عن الأنظار”.
‏مع مرور العقد الماضي، سعت الأجيال الشابة من اليهود الإسرائيليين إلى استهلاك روايات الثقافة الشعبية وتجارب المستهلكين عن احتلال استمر في بناء الوعي الوطني الإسرائيلي، حتى بينما كان يختفي عن الأنظار.
في مقابلة أجريت معها مؤخرًا، جادلت شتاين بأن هذه الأشياء تستمد شعبيتها من قدرتها على جعل الاحتلال مستساغا للمستهلكين الإسرائيليين، الذين عمدوا إلى اغتنام فرصة “الانخراط في العنف العسكري بطرق خاضعة لرقابة عالية، بحيث لا يرتد في شكل نقد للمجتمع الإسرائيلي وسياسة الحكومة”.
‏ولعل المثال الأكثر نجاحًا على هذا الاتجاه هو ‏‏مسلسل “فوضى”‏‏، الذي أصبح موضوعًا لضجة عالمية منذ اللحظة التي عُرضت فيها حلقته الأولى على “نتفليكس” في العام 2016.
في ‏‏تغطيتها للموسم الأول من المسلسل‏‏، جادلت ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز‏‏” بأن البرنامج قدم شكلاً غير حدسي لفكرة الهروب، وربطت نجاحه برغبة الإسرائيليين في “زيارة أماكن والتعامل مع مواضيع يتجنبونها عادة -ثم العودة إلى ديارهم بأمان بضغطة زر”.
وعلى الرغم من أن المسلسل يجلب الاحتلال إلى غرف معيشة المشاهدين‏‏، إلا أن‏‏ جاذبيته قد تكمن في جعل انتهاكاته تبدو وكأنها أكثر بُعدًا: يمكن للجمهور “النظر عبر الجدار الفاصل إلى بعض من أبشع الجوانب… ثم التراجع إلى بر الأمان بينما يواسون أنفسهم بأن كل شيء شاهدوه كان غير حقيقي فقط”.
ومثل “غرفة الهروب” التي ستستله المسلسل لاحقًا، ‏‏يقول النقاد إن ‏‏”فوضى”‏‏ يقلل ‏‏من وحشية‏‏ الحكم العسكري الإسرائيلي ويختزله إلى مصدر ‏‏للترفيه المنقوع بالأدرينالين‏‏. أبطاله الناشطون الأمنيون الخاصون هم أبطال يرتدون قمصانًا ضيقة بياقات على شكل V وسراويل جينز كالحة، وينعمون بحياة جنسية مذهلة ويقومون بعمليات إنقاذ متكررة وجريئة لمدنيين إسرائيليين.
ويصور المسلسل خصومهم الفلسطينيين على أنهم متطرفون يحركهم الانتقام الشخصي بدلاً من التحرر الوطني.
(عندما عُرض المسلسل على “نتفليكس”، شجبه القادة الفلسطينيون لـ”حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” ‏‏بسبب تمجيده‏‏ جرائم الحرب الإسرائيلية، ودعوا الجمهور إلى عدم مشاهدته).‏
من السهل أن نرى كيف يمكن أن يصبح هذا النهج للاحتلال أساسًا لتجربة لعب للمستهلك على طريقة “غرفة الهروب” المستوحاة من “‏‏فوضى”‏‏.
لكنّ الحكم العسكري الإسرائيلي كثيرًا ما يتسم بعدم ‏‏تناسق متسع‏‏ في القوة العسكرية، بحيث يشمل عددًا قليلاً جدًا من “المحاربين”، على الأقل بالمعنى الذي يعنيه يسخاروف.
لا الجنود الذين ‏‏يراقبون الطائرات من دون طيار التي تعمل بطاقة الذكاء الاصطناعي‏‏ وهم يجلسون في أمان القواعد العسكرية المحصنة، ولا أولئك الذين يطلقون النار على المدنيين العزل، ينطوون على شبه كبير بأبطال هذه المحاكاة الشائعة للحرب.
ومع ذلك، تأخذ بعض أجزاء “غرفة الهروب” عناصرها من الواقع الحقيقي: في العام 2014، أسقطت إسرائيل قنابل ‏‏على بعد ياردات من “مستشفى الشفاء” الحقيقي في غزة‏‏، في انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بالحرب.
وفي الرد على الإدانة الدولية، ‏‏ادعت‏‏ إسرائيل أن حماس تتخذ من المستشفى مقرًا لقياداتها. ولم يتم تأكيد ذلك أبدًا، لكنه شكل سابقة؛ في السنوات التي تلت ذلك، استهدفت الغارات الإسرائيلية ‏‏مرارًا وتكرارًا المرافق الطبية‏‏ في جميع أنحاء غزة، ‏‏مما أدى إلى إضعاف‏‏ نظام طبي كان يعاني بشدة مسبقًا وهو يحاول رعاية الآلاف الذين شوههم القناصة الإسرائيليون وجولات القصف الجوي. ‏
‏في عالم الخيال في “غرفة الهروب”، تسابقتُ أنا وأصدقائي مع عقارب الساعة. وبحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى الغرفة الأخيرة، لم يكن قد تبقى لنا سوى بضع دقائق قبل أن يتم إطلاق القنبلة على إسرائيل.
وفي محاولة أخيرة لإنقاذ البلاد، وجه الجيش الإسرائيلي إلينا أمرًا بالشروع في عملية تفجير محكمة وتدمير المستشفى والحي المحيط المكتظ بالسكان بدلاً من تعطيل القنبلة.
وتولى قائدنا العد التنازلي للثواني على مكبرات الصوت. وتعالت أصوات الطلقات النارية والصراخ البعيد.
وأخيرًا، تمكنا من كسر الشفرة، وحثَّنا قائدنا على الفرار قبل انفجار المستشفى. هرعنا إلى ضوء غرفة الاستقبال، وتعالى صوت انفجار كتمه الباب الذي كان ينغلق خلفنا.‏
*صوفيا غودفريند Sophia Goodfriend: تكتب عن المراقبة المؤتمتة والحقوق الرقمية من تل أبيب. وهي مرشحة لنيل الدكتوراه في جامعة دوك.