الرئيسة \  دراسات  \  ثقافة حديثية ميسرة -14

ثقافة حديثية ميسرة -14

18.04.2022
زهير سالم




زهير سالم*

معجم مصطلحات المحدثين..
وسيظل يَبْهرنا ويُبْهرنا هذا العلم المنيف برواده وأساطينه، ونحن نتابع عطاءات الجهابذة من الرجال العظام الذين قاموا عليه.
وحتى القرن العشرين تقريبا تنبهت مدارس النقد الأدبي حول العالم إلى أنّ لكل أديب أو شاعر أو مبدع، معجما خاصا، وألفاظا خاصة، واستعمالات خاصة لمفردات اللغة، العامة والاصطلاحية، وأنه ينبغي للناقد الذي يسبر أعماق الفنان، أو يستطلع آفاقه، أن ينتبه إلى معجم هذا الشاعر، أو هذا الفنان، وأن ينتبه إلى طريقة تأتيه في استعمالاته لمفردات اللغة، كما يستعمل الساحر قبعته أو عصاه..
ولكننا الآن ندرك أن علماء مصطلح الحديث من رجال أمتنا قد سبقوا إلى ذلك أكثر من عشرة قرون..
نحن الآن نذكر أقسام الحديث ومصطلحاته. نحفظ متن البيقونية أربعة وثلاثون بيتا، تقرب لنا هذه المصطلحات، ثم نقرأ شرحها بشرح الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى أو غيره من أهل العلم، فنظن أننا قد استوفينا!!
عنوان مهم من عناوين إعجاز القرآن الكريم. هو وفرة المصطلحات الشرعية الخاصة به، وتمكنها وانتشارها حتى تغلب أحيانا على الأصل اللغوي للكلمة...
استحضر ذلك عندما تذهب إلى كتب الفقه، فيقول لك الفقيه: الزكاة : لغة : النماء. وشرعا....الحج لغة القصد: وشرعا... الجهاد لغة: بذل الجهد: وشرعا...وهكذا ستجد منظومة من المصطلحات القرآنية قد شكلت البنيان العملي للغة هذا الدين الخاصة به. لعلها تحتاج إلى الإفراد والتتبع.
في تاريخنا الثقافي الثري أكثر من معجم للمصطلحات الثقافية والفكرية لعل أكثرها انتشارا معجم التعريفات للشريف الجرجاني/ القرن الثامن. يقدم لك حدودا وتعريفات لأغلب المصطلحات الشرعية والعلمية والصوفية السائدة في عصره.
ونعود..
نشأ علم الحديث رواية ودراية..
واشتغل به رجال؛ رواة ومحدثون ونقاد. وفرضت لغتُه نفسها على المشتغلين به. ولو سألنا أنفسنا الآن من هو المبدع الذي وضع مصطلحات: الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والمتصل والمقطوع والمعضل ، والموقوف والمرفوع، والمرسل والمتصل، والشاذ والمنكر والمعلول والمسلسل..؟؟ بل من وضع مصطلح الجرح والتعديل ومصطلح العدل والضابط والثقة والثبت والليّن ومن قالوا فيه : ليس بشيء، ولا يُنقل عنه...؟؟
سؤال علمي لو طرحناه لما وجدنا جوابا دقيقا غير أن نقول: إن الذي وضع هذا المصطلحات وأقرها وتداولها وعمل عليها هو "العقل الجمعي" للمشتغلين في رواية الحديث الشريف وجمعه، من جيلي التابعين وتابعيهم من خير القرون. اقترحوا المصطلحات (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ) وسموا كل أنواع الحديث الشريف بشتى مراتبه، وجعلوا هذه الأسماء عناوين للاختصار. فإذا قال لك: شاذ ، علمت أن راويه ثقة خالف الثقات. وإذا قال لك منكر: علمت أن راويه ضعيف قد خالف الثقة. أو لعله قد خالف من هو أوثق منه.
محط مقالنا اليوم أن هذه المصطلحات أول ما وضعت وأقرت وتم تداولها لم تكن تجري على ألسنة المحدثين، وفي مصنفاتهم؛ بمعنى واحد. بمعنى أن هذه المصطلحات لم تصدر عن مجمع علمي موحد. ولم تنشر بمعناها المحدد الدقيق في جريدة رسمية تحدد أبعادها. ومن هنا تعددت استعمالات أصحاب الشأن لها، وصرنا بحاجة إلى نقاد من طبقة علمية أكثر استشرافا وتدقيقا تخبرنا ماذا يريد الإمام أحمد مثلا عندما يقول حديث منكر، أو عن راو إنه منكر الحديث!! وماذا يريد الإمام البخاري عندما يقولها، وكلا الرجلين إمام؟؟
لا نستطيع في هذه المقالة الثقافية أن أمضي بكم في طريق الاستقراء أو الاستقصاء، وسأكتفي بعرض نماذج من اختلافات المحدثين في استعمال المصطلحات التي تتعلق بالجرح والتعديل خاصة. حتى لا يظن ظان أن هذا العلم لين الجانب على المتكئين على الأرائك. وإنما يؤتى هذا العلم في هذا العصر من فريقين من الناس؛ الأول فريق يستسهل ضرب أحكام الشريعة ببعضها، بانتزاع الأحاديث الشريفة من سياقاتها الشريفة واستخدامها كأداة للإغراب أو الإنكار على الناس. وفريق صعب عليهم الرقي فقالوا هذا حصرم فأنكروا السنة الشريفة التي هي في حقيقتها طود لا يرام.
في الاحتياطات اللفظية في علم الجرح والتعديل يحذرون مثلا من قولهم: فلان كذاب، وهي من أقسى التهم كما ترون. أن يتعثر بها إنسان. ويقولون لا بد لهذا الوصف من بيان. وأن هذا الوصف قد يطلقه الراوي ويقصد به الخطأ . وهذا جار في اللسان العربي. ولذلك قالوا لا بد من البيان أو التبين عند الوصف بالكذب. هل يريد الواصف مجرد الخطأ ، أو حقيقة الكذب. ويستشهدون على ذلك العربي كذب سمعي، أي ظننت أني قد سمعتُ. وكذب بصري أي ظننت أنني قد رأيت.
أنموذج آخر في التغاير في استعمال المصطلح..
 كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول في الحديث أو في الراوي "فيه نظر" أو "في حديثه نظر" أو "في أحاديثه نظر" فيشير إلى أن الحديث أو الراوي إلى الضعف ما هو، فإذا قال في الراوي "منكر الحديث" أو "حديثه منكر" قصد من لا تحل الرواية عنه. أو ما لاتحل روايته. أي هو عنده إلى الموضوع أقرب. بينما نجد الإمام أحمد رحمه الله تعالى يطلق لقب "المنكر" ويحقق المحققون في قصده فإذا هو يطلقه على الحديث الفرد الذي لا متابع لراويه. وهو على ذلك من درجات الضعيف.
ثم انظر إلى تعريف الجمهور للحديث المنكر: راو ضعيف يخالف الثقات. أو من هو أوثق منه. فتحصل لنا في المنكر ثلاثة أقوال من غير تتبع مني، ولا استقصاء
منكر الحديث عند البخاري : راو لا يحل الرواية عنه، وحديث لا تجوز روايته.
منكر الحديث عند الإمام أحمد: راو متفرد في الرواية لا أحد يتابعها، وهو يُغرب عن غيره من الرواة، ويغرد منفردا.
منكر الحديث عند الجمهور: الراوي الدون يخالف من هو أوثق منه، فردا كان أو مجموعة ثقات..
 أردت فقط أن أبين أن اختلاف المصطلحات في أذهان أو على أقلام المحدثين، يؤدي إلى اختلاف الأحكام. وأردت أن أؤكد أن جهابذة المحدثين من أساطين هذا العلم تنبهوا لذلك وعرفوه ودققوا فيه. وأعطوه حقه من الاعتبار ليبقى حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محاطا بالحفظ..
وأمثلة ذلك كثيرة في كتب المحدثين فقد عرف فريق من المحدثين بالتشدد في التعديل وعن آخرين الإفراط في الجرح، وأحيانا يسبق وصف "الضعف" إلى وصف الراوي إذا ذكر من هو أوثق منه. وهكذا تجد أن جهابذة المحدثين يتتبعون المحدثين في كتبهم فيحذرونك من قبول تضعيف هذا أو توثيق ذاك، وكثيرا ما ينسبون ذلك إلى إفراط أو تفريط أو حمل على سياق كلام.
وخلاصة هذه المقالة: أن أحكام الجرح والتعديل لا تؤخذ من تقريرات أفراد. وإن كانوا علماء أثباتا، وإنما تؤخذ من نتاج "العقل الجمعي" لجهابذة هذا العلم الذين تتبعوا ودققوا، وعرفوا كل لفظ أو وصف صدر عن واحد منهم بحقه وعلى حقيقته. ومن هنا تجد في عناوين هذا العلم موضوعات متباينة في محاولة جادة قاصدة لجمع شتات الأحكام على الرجل، وغربلتها وتدقيقها، واعتماد ما هو أقرب إلى الحق منها.
خلاصة مقالنا اليوم: لا تتسرع بنقل ألفاظ الجرح والتعديل. إلا بعد الاستيفاء والتتبع والتأكد ..وكن دائما متجردا كأنك قاضٍ
مقالنا القادم: حول الجرح بالبدعة، فما هي البدعة وما هو الموقف من المبتدعين..
لندن: 16/ رمضان/ 1443
17/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي