الرئيسة \  دراسات  \  ثقافة حديثية ميسرة -3

ثقافة حديثية ميسرة -3

02.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

المحدث وقطعة البزل، والمجتهد المطلق والصورة الكلية المركبة.
وأكتب بغير لغة أهل الاختصاص، لأيسر أمرا على جمهور بخطابهم باللغة التي اعتادوا..
وما زلنا في طريقنا لإقرار حقيقة "أن ما كل حديث صحيح يعمل به، ويبنى فقه الأحكام الخمسة عليه" وهي حقيقة قد تبدو مرة على بعض أصحاب الطعوم، ولذا نمضي إليها برفق ولين...
تحدثنا عن "المجتهد المطلق" وقلنا إنه العالم الفذ السابق في كل ميادين العلوم الشرعية، ولو أردت أن أعيد لكم وصفه باختصار لقلت هو: العالم المتكلم المفسر المحدث الأصولي الفقيه الفرضي النظّار . جمع من كل العلوم الشرعية مبادئها ودقائقها ومضامينها وغايتها، وجمع إليها كل ما يلزمه في طريق فهمه كل العلوم المساعدة من لغة ونحو وصرف وبيان...
ونصير الآن إلى تعريف المحدث وبيان دوره ومكانته ووجوب الاعتراف بدوره وفضله. وما أظن يبغض رواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مغشى على بصره، مطموس على قلبه. أعاذني الله وإياكم من النفاق.
والمحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنضرة الوجوه ، دعوة تذكرك بقول الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يعي مقالته -حديثه- فيحفظه وينقله على وجه نقل العلم، وإشاعة البر.. "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلغّها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..." حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره.
وهو من أجمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الثناء على الرواة المحدثين. وبدعاء سيدنا رسول الله ندعو: اللهم نضّر يوم الفزع الأكبر وجوهوهم، ورد عنهم كيد من يكيدهم..
نذكر المحدثين عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمتلئ قلوبنا إجلالا ومهابة وإكبارا وحبا وولاء ، سمعوا فوعوا وحفظوا ثم رووا فأدوا، ثم سهرت طبقات منهم الليالي الطوال حتى غربلت ونخلت وصنفت وبوبت وقدمت للأمة خير زاد ، فجزاهم الله عنا وعن حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم خير الجزاء..
المحدثون هم أولئك الطبقة من رجال الأمة وعلمائها الذين أفنوا أعمارهم، وأذهبوا نور أبصارهم، في تتبع أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفواه الرجال، يرحلون في طلب الحديث الواحد، مئات بل آلاف الأميال، ليسمعوا رواية من صاحبها الأقرب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ليجمعوا ما رووا فيرووه، وإن كانوا من أهل التصنيف فيبوبوه ويصنفوه.
وغاية عمل المحدث رضي الله عنه أنه يجمع الحديث باذلا الجهد في التأكد من سلامة سنده ومتنه واستيفائه شروطا يقتنع المحدث بها، فيضعه في سياق يراها تليق به أو يليق بها.
ولا شك أننا مطالبون بالتبيان أن في المحدثين من اقتصر علمه على علم الحديث رواية، أو رواية ودراية، وفيهم من تجاوز ذلك إلى علوم أخرى فأتقنها وتقدم بها. وإنما حديثنا هنا على جمهرة الرواة والمحدثين.
واختلف العلماء في تعريف الراوي والمحدث، وأكثروا، ولا ضير في الاختلاف في تحديد التعريف، إذا صار أمره إلى بيان. فقد قال الأولون "لا مشاحة في الاصطلاح" وعنوا أن للإنسان أن يستخدم المصطلح العلمي فيحدد مراده منه مع البيان.
وحين نذكر في سياقنا المعرفي هذا لفظ الراوي فإنما نريد تلك الطبقة من الصحابة ومن يليهم من الرجال والنساء الذين أولوا اهتماما في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدوا الرواية على وجهها مشافهة أو مكتوبة في مذكراتهم الشخصية حتى صارت تلك الروايات إلى المحدث. الذي جمع وبوّب وصنّف.
والمحدث في التعريف الذين نعتمد - وهذا لا يلغي ما اعتمد الآخرون- هو الرجل الذي جمع بين يديه ما تيسر له من الأحاديث فغربل ونخل - وفق منهج - ثم بوب ثم صنف وأخرج ذلك للمسلمين في كتاب محفوظ تحت عنوان "الصحيح أو السنن أو المستدركات أو المسانيد"
ونعتقد أن لقب المحدث أولى بمن جمع الأحاديث من أفواه الرواة فصنفها، وأثبتها. وأن إطلاق وصف المحدث على غير هذا من العلماء المشتغلين بالحديث يصح بمعاني كثيرة منها كثرة المحفوظ، ومنه الانغماس في الاشتغال بهذا العلم الشريف...
بقي أن أصير بكم إلى المقارنة بين دوري المحدث والمجتهد المطلق الذي سبقنا إلى الحديث عنه بين يدي السياق..
المحدث هو من يقدم القطعة الصغيرة المفردة من اللوحة الكبيرة المركبة، والمجتهد المطلق هو من يبحث عن مكان هذه القطعة في اللوحة الكبيرة حيث تحتل مكانها بانسجام تام.,
وبين هذا وذاك تعترض طريق القطعة المفردة إلى مكانها في بنيان الشريعة المرصوص عوائق وعقبات قد لا تكون منها في ذاتها، وإنما في ظروفها عندما قيلت، وفي مقترناتها من أشباه ونظائر. وكل ذلك باب من العلم فريد، يعيه المجتهد أكثر مما يعيه المحدث المستقل والفقيه المستقل. وهذا يسلمنا إلى علل وأسباب، تجعل المجتهد يتوقف في إعمال الحديث وإن صح سنده، وصح متنه على السواء..
موضوع يستحق العود إليه والعود أحمد..
لندن : سلخ شعبان/ 1443
1/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي