الرئيسة \  دراسات  \  ثقافة حديثية ميسرة – 13

ثقافة حديثية ميسرة – 13

16.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

الجرح
اللهم سلّمنا وسلّم منّا وسلّم بنا يا كريم..
والجرح أن يقال في الراوي قول، يُنال فيه من ديانته واستقامته وأمانته ومروءته، أو يُقال فيه قولٌ، يقدح في ضبطه ووعيه، فينسبه إلى غفلة أو نسيان أو ضعف ذاكرة إن كان يروي من حفظ، أو اضطراب كتاب إن كان يروي من كتاب.
وأبدؤكم بفائدة أولى، نصوا عليها متضمنة في سياقات متعددة فغابت عن الأذهان، وأراها تحتاج إلى إشهار وتقديم. ألا وهي أن الراوي المجروح في دينه وأمانته ولاسيما إذا تمادى الجرح إلى نسبته إلى تعمد الكذب، أو لا مبالاته بالرواية عن الكذابين، يختلف حاله وحال ما يرويه عن الراوي المجروح بضعف ذاكرته أو قلة ضبطه أو اضطراب كتابه، فتأمل هذا واحفظه، وهذا له انعكاس بعدُ على الحديث المروي، وكيف يتعامل معه المحدثون..
يقول لك: حكم المحدث على الحديث: ضعيف، نعم ضعيف، ولكن كم هو الفرق بين حديث يؤتى من رجل مشبوه مدع قليل أمانة، وحديث يؤتى من رجل يحاول ولكن لا تسعفه ذاكرته؟؟!!
لاشك أننا نضع الأول في دائرة "السخط والمقت" ونضع الثاني في دائرة الشفقة والعطف. وأننا نحلّق على حديث الأول بالدائرة الحمراء أو البرتقالية، وعلى حديث الثاني بإشارة استفهام كبيرة نرجو أن يكون له متابع أو مساند أو شاهد ، أو نجعل منه – الحديث – متابعا أو مساندا أو شاهدا. فاحفظ هذا ولا تنسه.
وهذا باب من العلم سنصير إليه –إن شاء الله – عند بحث العمل بالحديث الضعيف.
المهم في علم الجرح أن نميز بين المجروحين، مجروح الأمانة ومجروح الضبط، حتى في موقفنا العاطفي.
ثم أثني عليكم بقولهم: "الجرح مقدم على التعديل..!!"
لأقول وهذه قاعدة شديدة العموم، يطلقها أرباب الصنعة لعلمهم بمدلولها، أما أن ُتحمل كسيف في أيدي بعض "البغاة" يسقطون به كل عباد الله الصالحين، فهذا أمر من المنكر الذي لم يرتضه عالمٌ رضيّ.
ولأعيد صياغة القاعدة بطريقة أكثر ضبطا وأكثر تفصيلا سأقدمها لكم بالطريقة التالية: "كل جرح مبين مفسر معلل مقبول أو متفق عليه مقدم على التعديل المبهم"
يدخل معنا في السياق مصطلحان: المبهم والمفسر، وكلاهما يستعمل في الجرح وفي التعديل.
المبهم: أن يقول الجارح : ضعيف أو متروك، دون بيان السبب، وأن يقول المعدل : ثقة أو ثبت دون بيان السبب.
المفسر: أن يقول الجارح ضعيف أو متروك أو ساقط الحديث لأنه.... وأن يقول المعدل ثقة عدل ولا صحة لما يقال عنه، أو يشاع عنه فينقل التهم التي أثارها الجارح وينفيها أو يفندها. أما أن يُطلب من المعدل أن يذكر أسباب التعديل، فهذا أمر لا يحاط به.
إذن أولا لا يقبل الجرح على إطلاقه. هذا واحد
ثانيا -ويقبل الجرح المبين بذكر إحدى النقائص أو العيوب مبينة مفسرة.
ثالثا- وإذا اجتمع في الراوي جرح وتعديل، نظر في حجة الطرفين، وقبلت الحجة الأقوى، وإن تساوتا قدم التعديل على الجرح.
وإذا كان الجرح في الرجل المجهول، فلا يُقبل فيه، ولكن يجعلنا نتوقف في قبول حديثه. ويبقى الحديث وراويه تحت قبة إشارة الاستفهام.
بقيت عندنا في هذا الموضوع نقطتان..
الأولى من ثبتت إمامته من علماء الأمة لا يقبل فيه طعن..
 من ثبتت إمامته من علماء هذه الأمة، لا يؤثر فيه جرح ولو مفسرا. وهذا من أهم الأمور وأخطرها في عصر الظلمات الذي نعيش.
وهناك جمهرة من أئمة المسلمين هم العدول لا ينال منهم جرح جارح. بل يقال في الواحد منهم: هو البحر يضيع كل ما يُلقى فيه. ولو أخذنا بقاعدة: الجرح مقدم على التعديل على إطلاقها، لما سلم من أئمة المسلمين أحد. وهذه الجمهرة من علماء المسلمين هي لسان الميزان، تقول ولا يقال فيها ، بل ويهدر كل ما يقال فيهم. وكان بعض الأئمة يتأثم أن يروي ما قيل في مثل هؤلاء.
 وما أرقى الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عندما ألف في تراجم الرجال. قال وهناك طبقة من العلماء أجللتهم عن أن أترجم لهم في كتابي، مثل الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام البخاري ...!!
إن دواعي قول البشر ببعضهم كثيرة ومتكاثرة، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متشدد، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متعصب، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متعنت، وبعضهم يدفعه إلى القول اختلاف مذهب أو بلد أو يبلغه عن صاحبه قولا لا يدركه أو يظن فيه ظنا فيحققه، من غير بينة. ومن هنا قالوا لا يقبل الطعن في أئمة المسلمين وعدوا رجالا سموهم بأسمائهم، وأعدكم بهم في قابل الأيام إن شاء الله..
والنقطة الثانية: وتأملها فهذه قويمة ولذيذة أيضا ترد الروح..
ولا يقبل قول كل جارح ولو كان الجارح من الأئمة في حق إمام...
 يا الله ما أقوم هذا المنهج الذي يشهد واضعوه على أنفسهم، فيشهد التلميذ على شيخه والتابع على متبوعه..
فهذا الإمام السبكي ينتقد شيخه الإمام الذهبي فيقول عنه: كان مع غاية توازنه وورعه، يحط على الأشاعرة والصوفية..!!
وقالوا ولا يقبل كلام الإمام الثوري وهو إمام حق في الإمام أبي حنيفة!!
ولا يقبل قول ابن أبي ذئب وهو حجة في الإمام مالك!!
ولا يقبل قول ابن معين وهو إمام حجة في الجرح والتعديل في الإمام الشافعي..!!
وهكذا تجد هذه القاعدة المكملة للقاعدة السابقة، فحتى عندما يصدر القول في حق إمام يبقى القول محمولا على بشريتنا وضعفنا في كل حال..
يقول الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ "كلام الأقران بعضهم ببعض لا يُعبأ به. ولاسيما إذا لاح لك إنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد – قال زهير أو لاختلاف بلد- رجع القول إلى الإمام الذهبي فقال: ولا ينجو منه – يقصد العصبية والحسد – إلا من عصمه الله تعالى..
وما زال للقول في الجرح بقية فنتابع...
وأحب أن أشير أنني نقلت في هذا المقال نصوصا كثيرة من مدونة عندي محفوظة من كتب أصحاب الشأن
 فجزى الله أصحاب الفوائد خير الجزاء ورحم الأحياء منا والأموات..
لندن: 14 رمضان/ 1443
15/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي