الرئيسة \  دراسات  \  حول نظرية المقاصد الشاطبية

حول نظرية المقاصد الشاطبية

24.10.2013
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين


حول نظرية المقاصد الشاطبية 1:
مقاصد الشاطبي ثمرة لظروف عصره وصدى لأوضاع مجتمعه
حاول الشاطبي رحمه الله توظيف نظرية المقاصد لإيقاظ أهل الأندلس في عصره، وحاول ابن عاشور توظيفها لإحياء قومه في فترة الاستعمار الفرنسي، وحاول علال الفاسي توظيفها لمقاومة المد الشيوعي في المغرب، وحاولت أحزاب تنتسب للمرجعية إسلامية توظيفها لأخذ نصيبها من الكعكة السلطوية الديمقراطية، كما حاول بها فقهاء السلطة تغطية مداهنتهم في دين الله وتبرير تصرفات الحكام الفاسدة الظالمة ونيل رضاهم، أما العلمانيون واليساريون فيحاولون بها فك الحصار المضروب عليهم من قبل التيارات الإسلامية المعاصرة، ودفع ما يوصمون به من معاداة للدين، فهل لنا أن نتساءل عن مدى شرعية هذه النظرية وتمثيلها للشريعة كتابا وسنة، أو مدى قابليتها للتوظيف المغرض يمينا ويسارا؟
للجواب على هذا التساؤل لابد لنا من استعراض مفاصل هذه النظرية في معناها ومبناها وخط سيرها ومدى نجاعة الاستفادة منها. ونبدأ بشرح المصطلح صياغة واستحداثا واستعمالا، فنقول:
المقاصد جمعٌ مفردُه مقصد، اسم مكانٍ من  فعل:"قصد" مكسورِ عينِ المضارع، والقاف والصاد والدال أصول ثلاثة أولها يدل على التوجه إلى الشيء وإتيانه، والثاني كسر الشيء ومنه القصدة: وهي القطعة من الشيء إذا تكسر، والثالث الإكثار منه كقولهم: ناقة قصيد إذا امتلأت لحما. وما يعنينا هو المعنى الأول الذي يفيد التوجهَ والإتيان. ومنه قوله تعالى: ) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ( لقمان 19، يقال قصدته وقصدت له وقصدت إليه، والقاصد القريب، ومنه قوله تعالى: ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( التوبة 42، ومنه قولهم: بيننا وبين الماء ليلة قاصدة، أي هينة لا تعب فيها. والمقصد بهذا المعنى يقرب من لفظ "المورد" من "ورد" الشيء إذا أتاه وتوجه إليه. ومنه المصطلح المستحدث في الفقه الإسلامي"مقاصد الشريعة"، أي قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء، ومن وضعها للإفهام، ووضعها للتكليف بها، ووضعها لدخول المكلف تحت حكمها.
لقد خطت مسيرة فقه المقاصد أولى خطواتها بعد وفاة الرسول r  بعمليتي القياس والرأي اللتين أثمرتا ما دعاه أبو حنيفة "الاستحسان"، ثم تطور الاستحسان لدى المالكية إلى ما أطلق عليه "المصالح المرسلة" و "المناسب المرسل" و "الاستدلال المرسل"، ثم ابتدع الشاطبي "فقه المقاصد" الذي هو الوجه الثاني للمصالح المرسلة، إذ كاد الإجماع ينعقد على أن مقاصد الشرع هي تحقيق مصالح العباد في الدارين.
وظل هذا العلم الجديد الذي أودعه الشاطبي الجزء الثاني من كتابه"الموافقات"، في زاوية النسيان إلى عصر أحمد بن أبي الضياف الذي تحدث عنه في كتابه "إتحاف أهل الزمان"، ثم الشيخ محمد عبده الذي أعاد إليه الاعتبار سنة 1884، فأوصى تلامذته بدراسته، وتمت طباعة الكتاب محققا وغير محقق، واهتم به المحافظون والمجددون والمتسيبون كل حسب منهجه ومقصده وهواه. فما هي خلاصة هذا المنهج الاستنباطي الجديد لدى الشاطبي؟
يقسم الشاطبي المقاصد إلى قسمين، أحدهما يرجع إلى مقاصد الشرع، والثاني إلى مقاصد المكلف. فالذي يعود إلى مقاصد الشرع أربعة أنواع: ما يعود إلى قصده في وضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضعها للإفهام، وقصده في وضعها للتكليف بها، وقصده في دخول المكلف تحت حكمها.
والذي يعود إلى قصد المكلف في التكليف، بحثه في اثنتي عشرة مسألة، بيّن فيها مقاصد المكلف المعتبرة في التصرفات عبادات ومعاملات، من ضرورة إخلاص النوايا، ووجوب موافقة قصد المكلف ونتائج تصرفاته لأحكام التشريع كلا وجزءا.
أما مقاصد الشرع من وضع الشريعة ابتداء، فقد خصص لها الشاطبي ثلاث عشرة مسألة، وبينها بقوله[1]:"فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه. بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد".
وقولـه[2]: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدهـا في الخلق، وهـذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية".
وقولـه[3]:"لابد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع، لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك".
سار الشاطبي في بحثه هذا على نهج مركّز من التفصيل والتدقيق والتجزئة، في بسط المقاصد وتحليلها وبيان مسالك الكشف عنها، ودرجة حجيتها قطعا وظنا. وقسم المصالح إلى ثلاث درجات أعلاها الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية، بحيث تعد التحسينية مكملة للحاجية ولا تعود عليها بالإبطال، والحاجية مكملة للضرورية ولا تعود عليها بالإبطال، لأن المحافظة على الأصل أولى من المحافظة على التكملة.
وهذه المقاصد عند الشاطبي ثابتة لديه بأصول فقهية قطعية، تضافرت على بيانها أدلة كثيرة، وإن كانت ظنية بالنظر إليها أفرادا فإن اجتماعها يبلغ إلى درجة القطـع.
يقول الشاطبي[4]:"والمستند إليه في ذلك إما أن يكون ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنياً باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها. وأصول الشريعة قطعية حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية. ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا، وهذا باطل. فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية ولابد. فإذا ثبت هذا فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه. فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا، فالعقلي لا موقع له هنا لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية وهو غير صحيح. فلا بد أن يكون نقليا، والأدلة النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال أو لا، فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر فلا يصح استناد مثل هذا إليها لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب. وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء، والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض، ولم يتعيّن أن مسألتنا من المواضع التي جاء بها دليل قطعي".
ويقول أيضا[5]:"وإنما الأدلة المعتبرة هنا، المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي -رضي الله عنه- وجود حاتم، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنه".
ويقول مبينا دليله القطعي الثابت لديه بالاستقراء المعنوي للشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية[6]: "ودليل ذلك: استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفةِ الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم وشجاعة علي - رضي الله عنه -  وما أشبه ذلك، فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة".
هذا وجه القطعية لدى الشاطبي في بنائه الأحكام الشرعية على المقاصد مما[7] "لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع"، وهذا ما يجعل وجهة نظره يشوبها اللُبس، وحكمه الجازم في الأمر يداخله الضعف.
أما النوع الثاني المتعلق بقصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام فقد شرحه في خمسة مسائل حول عروبة الشريعة لغويا، وبنائها على معهود الأميين من العرب الذين يتميز كلامهم بالبساطة في الاستيعاب، وعدم التعمق في التراكيب، والبعد عن التكلف والتقعر، مما يجعل الشريعة عامة يسع الناس تعقلها والدخول تحت حكمها.
والقسم الثالث من الدراسة حول وضع الشريعة للتكليف بها مما بحثه في اثنتي عشرة مسألة، متعلق بقدرة المكلف على ما كُلف به، فإن كان التكليف غير داخل تحت كسب المكلف فطلب الشريعة له مصروف إلى ما تعلق به وإن كان التكليف تحت كسبه فالطلب على حقيقته، وإن كان التكليف مما يشتبه في أمره كالحب والبغض والشجاعة والجبن مما هو داخل على المرء اضطرارا، فإن كان من أصل الخِلقة فلا يُكلف الله نفسا إلا وسعها، وإن كان لهذه الصفات بواعث تدخل في كسب المكلف طولب بالبواعث كما هو شأن الهدية الباعثة على المحبة في قوله r :"تهادوا تحابوا".
والقسم الرابع متعلق بقصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة والامتثال لها، وهو إخراجه من داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا. وقد فرع في هذا القسم عشرين مسألة بيّن فيها بطلان العمل المبني على الهوى، وما هو أصلي من المقاصد الضرورية العينية المعتبرة في كل ملّة وزمان والقائمة على المصالح العامة المطلقة الخاصة بحفظ الضرورات الخمس، وما هو أصلي من المقاصد الكفائية التي لا تقوم الحياة إلا بها كالقضاء والإفتاء والإدارة والحكم. كما قسّم هذه المقاصد إلى ما هو متعلق بالعبادات والأصل فيه التعبد دون الالتفات إلى المعنى ولا تفريع فيه ولا نيابة، وإلى ما هو متعلق بالعادات والمعاملات التي ليس في نفيها أو إثباتها دليل شرعي، كمجمل المحاولات الدنيوية للكسب والتصرف، والأصل فيها الالتفات إلى المعاني وقابلية التفريع والنيابة.  
لقد كان ما كتبه الشاطبي في موافقاته انعكاسا لواقع عصره الآيل في الأندلس للانهيار، ومحاولة من فقيه غيور على دينه وأمته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لاسيما والردة الاضطرارية على الأبواب بتحكم الفساد وضعف الدولة عن مدافعة الصليبي المتحفز على الحدود، وتَقلّص إيمان الغالبية وضمور التزامها بتعاليم الشريعة، فرأى أن يحاول ربط الأمة بمقاصد الدين بعد أن أضاعت ركائز بنائه المتين. إلا أن صوته لم يسمع قط في عصره، وطرد المسلمون أذلة مذعورين، بعد أن تركوا خلفهم ذرية قتل بعضها وتمسح بعضها تحت بارقة السيف. ثم بعد أن نفض الغبار عن الموافقات حاليا، لم يتجاوز تناولها من قبل الفقهاء المعاصرين في أغلب ما كتبوا عنها  عبارات الإعجاب والتقريظ، وكأنها البلسم الشافي لأمراض العصر الذي يشبه عصر سقوط الأندلس، في تحلله من الدين وانفراط عقد وحدته وتغلب الأجنبي على حكامه، لا فرق في ذلك بين الشيخ محمد عبده الذي كان من صميم سياسته مسايرة الأجنبي ريثما تستيقظ الأمة، ومحاولة التوفيق بين الحياة الأجنبية المتغلبة والتخلف الاجتماعي المحلي، ومطاولة الجهل والضعف إلى حين التغلب على أسبابهما ودواعيهما، أو الشيخ الطاهر بن عاشور[8] الذي عاش في بلد طغت عليه معالم التغريب، وأضحت الأمة فيه مهددة في صميم دينها، فلم يجد بدا من الاستنصار بالمقاصد لمطاولة الغزو الأجنبي قبل مصاولته، أو الشيخ علال الفاسي الذي جاهد من أجل استقلال وطنه أكثر من نصف قرن، وبعد أن تحقق الاستقلال، وجد نفسه في مجتمع نخبته على حافة الردة باعتناقها الفكر الماركسي قيما ومبادئاً ومنهج سلوك وعمل، وناله بذلك ضروب من الأذى حتى على يد طلبته في الجامعة، حيث كان كلما جلس على كرسي التدريس وبدأ محاضرته بالبسملة ضجت القاعة بالضحك ورماه الطلبة الشيوعيون بالحصى، فلم تلن له قناة وواصل سعيه مستنصرا بمقاصد الشاطبي لتقريب الشريعة من جيل عاقٍ يغلب عليه التمرد والإلحاد.      
ثم بعد أفول نجم الشيوعية، وظهور الصحوة الإسلامية الحديثة  تلقف نظرية المقاصد دعاة الفكر اليساري والعلماني بدعوى المعاصرة، مستغلين انتساب صاحبها إلى الفقه، ومحاولين توظيفها لإخضاع الشريعة الإسلامية لمقتضيات الليبرالية والحداثة، مما جعل نظرية المقاصد ذريعة لدعوة عارمة إلى التحلل من تعاليم الإسلام، وجسرا لانتحال مصادر منافية للدين تبنى عليها الأحكام، وتؤول إلى إهدار النصوص والتنكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتشريعات الحدود والميراث والعلاقات الزوجية، وهو ما أشار إليه الرسول r  بقوله:"يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء، يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع".
ولعل من أسباب قابلية النظرية للاستغلال والتوظيف كونها ظلت عملا تأسيسيا لم تتناولـه يد التشذيب والتهذيب والنقد البناء، والعمل التأسيسي هذه طبيعته، يحتاج دائما إلى من يواصل البحث والتطوير، ويظل دوما مادة أولية يبنى عليها تحت حاكمية الشرع كتابا وسنة، لاسيما وقد نحا الشاطبي فيما كتب منحى التفصيل والتجزئة والبسط والتحليل، فتوزعت آراؤه واجتهاداته في ثنايا الكتاب بكيفية فوضوية أحيانا، مما مهد للمغرضين سبل انتقاء ما يخدم أهدافهم، واستبعاد ما يعارض توجههم.
هذه الظروف والملابسات التي رافقت ميلاد النظرية أولا، وعملية إحيائها وتوظيفها ثانيا، هي التي حالت دون نقدها وسبرها وتشذيبها ودراستها على ضوء الكتاب والسنة وما يسمح به الحمل عليهما.
إننا مبدئيا مع الشاطبي في نهجه التشريعي الغائي الهادف، لا سيما والحكمة الإلهية واضحة في ذات الكائنات وفي حركتها وفي تكاملها وانسجامها مع مختلف أعضاء الأسرة الكونية ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِين( الأنبياء 16، إلا أن بعض ما احتوته النظرية، وما تلاها من تخريج وتفريع، وما بني عليها من مذاهب مختلة وتوظيف مغرض، إذا عرض على الكتاب والسنة تتجلى حوله مآخذ ينبغي الإشارة إليها والتنبيه عليها كي تحفظ الحرمة لجوهر الدين وتصان أحكامه ومقاصده فلا يلتبس على الناس أمر حالهم ومآلهم.            
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي:
 
حول نظرية المقاصد الشاطبية 2:
بين المقاصد الشرعية والمقاصد الشاطبية
يكاد الدارس لنظرية المقاصد الشاطبية، يلتبس الأمر لديه عند محاولته التمييز بين المقاصد الشرعية الثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وبين ما دونه الشاطبي عنها في كتابه" الموافقات"، لا سيما عند تعريفه للمقاصد، وجنوحه فيها للمذهب الفردي في الفلسفة اليونانية، واضطرابه بين حاكميتها وبين حاكمية النص، وعند حديثه عن مسالك الكشف عنها، وعن حكم المسكوت عنه في الشرع، وازدواجية الموقف من الأدلة، وفهم الشريعة على معهود الأميين، مما نعرض له في المباحث التالية:
1 - تعريف الشاطبي للمقاصد
أول ما يلاحظ أن تعريف الشاطبي للمقاصد غير دقيق، مما يجعل بناءه على أرض هشة، وإن أشار في سياق تعريفه إلى أن المقاصد هي[9] (ما تحفظ به مصلحة الإنسان في الدين والدنيا)، كما حاول أن يميز بين المقصد التكويني والمقصد التشريعي بقوله[10]:"القصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ولا ملازمة بينهما"،  إلا أن هذه التفرقة بينهما منه، تحكمٌ ليس له أصل، فالتشريع نزل لتنظيم تصرفات المخلوق البشري ابتلاء، والمخلوق البشري وجد للابتلاء، والقصد التشريعي بذلك مبني على القصد التكويني ) مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ( الملك 3، نعرف ذلك من نصوص الكتاب المتناثرة في سياقاتها، من ذلك قوله تعالى: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( الذاريات 56، فعمليـة الخلق تكوين يبنى عليه التكليف بالتشريع، كما أن تكوين السماوات والأرض خلق وتسخيرها للإنسان بالنسبة لها تشريع فطرة، يقول تعالى: ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ( إبراهيم 32- 33. ونحن هنا لا نتحدث عن مقاصد غيبية استأثر الله بها في علم الغيب عنده، وإنما عن مقاصد من الخلق والتشريع بينها التنـزيل الحكيم والسنة المطهرة وليس لنا إلا هذا المجال.
كما حاول في المسألة الخامسة تعريف المقاصد بواسطة التمييز بين المصالح والمفاسد، وفصلها من حيث تعلق الخطاب الشرعي بها، وبيّن أن المصالح والمفاسد المبثوثة في الدنيا إنما كانت على سبيل الابتلاء  لقوله تعالى: )وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً( الأنبياء 35، وأن استقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس وإن قلت[11]، ولذلك وضعت على سبيل الامتزاج، فلا مصلحة إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها مشقة أو مفسدة، ولا مفسدة إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من اللطف أو نيل اللذات كثير. فإن كانت المصلحة هي الغالبة فهي مقصود الشرع، وإن كانت المفسدة هي الغالبة فرفعها هو مقصود الشرع[12].
 وهذا التعريف منه للمقاصد غير دقيق ولا يكفي لاستبانة كنه المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة، كما أن تعريفها بمجرد كونها مرجعا ووسيلة لحفظ المصالح يسمح بتعدد المسالك المفضية إلى إهدار النصوص وتسيّب التشريع. فإذا أضفنا إليه قوله[13]: "ونحن إنما كُلفنا بما ينقدح أنه مقصود للشارع لا بما هو مقصوده في نفس الأمر" يكون قد أجهز على النصوص بضربة لازب، وتحول الاستنباط الفقهي تحت حاكمية المقاصد إلى حاكمية ما ينقدح في الذهن، على اختلاف القدرات العقلية والعلمية للمستنبط، مما يفسح المجال للتسيب المطلق وتمزق المجتمع مللا ونحلا ومذاهب وأحزابا.
2 - الفردية في المقاصد الشاطبية
نظر الشاطبي إلى مقصد الشرع في حفظ الضرورات الخمس على أساس فردي، لا على أساس تحفظ به الأمة كاملة، وجميع مقاصد الشريعة لديه- ما تعلق منها بوضعها ابتداء أو إفهامها أو التكليف بها أو دخول المكلف تحت حكمها- خاص بحفظ الضرورات الخمس للفرد، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال على أساس أن حفظ الدين بمعنى التدين الفردي كما يتضح من سياق الدراسة، ومن قوله[14]: "فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمـان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك"، وإن أشار إشارات عابرة إلى وجوب الجهاد على الفرد مع الإمام البَرّ والفاجر. وهذا الاتجاه الفردي في المقاصد يعدّ صدى لما كان سائدا آنئذ في الأندلس، من تداخل قيم أديان مختلفة، وتسربها إلى عادات المجتمع وأعرافه وتقاليده ونظمه، وتمازج ثقافات متنوعة المصادر والاتجاه، تزاوج فيها الفكر الإسلامي بغيره، وتحول بها إلى ناقل للتراث اليوناني، فأضعف هذا الدور ولاءه للإسلام، وموّه على أصالة الشريعة وتميزها، وأضفى على الحياة الأندلسية صباغا يكاد يكون علمانيا في الفكر والتصرف، كما ساهم في بلوَرة هذا الوضع قيام أنظمة للحكم مستبدة على أهلها خانعة لعدوها، مغرقة في الضلال والتفسخ والانحلال، مما سرب اليأس إلى عقول العلماء وقلوب العامة، وألجأهم إلى محاولة التسديد والتقريب بين أحكام الشريعة وبين انحراف الواقع، بمحاولة حفظ الضرورات الخمس للفرد، وإهمال ما له علاقة بالشأن العام الذي هو كيان الأمة ونظام الدولة، وضرورة تنفيذ الأمر الإلهي الخاص بإخراج الأمة الإسلامية للناس. ولعل في إشارة الشاطبي إلى اتفاق الشريعة مع سائر الملل في هذا الأمر[15] ما يوضح مدى تأثير الثقافات الأجنبية في التفكير الإسلامي وتمويهها على النص القرآني الملزم ) لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا( المائدة 48، وما يُفسِّر بدون لُبس هذا الاتجاه الفردي في المقاصد الشاطبية. ذلك أن الفردية مبدأ فلسفي عريق في الفكر الإنساني. والمجتمعات البدائية نفسها كانت فردية التصرف والمقصد، كما أن النظم التي عرفتها بواكير النضج السياسي في اليونان كانت ذات نهج فردي، والفيلسوفان سقراط وأرسطو كانا يعتقدان أن الفرد أساس التصرف الأخلاقي، وأبيقور جعل الفرد وحدة المجتمع وأساسه، والرواقية طورت مبدأ المساواة الاجتماعية في إطار يرى الفرد أساس كل حقيقة وجودية، والمذهب الفردي في الفلسفة عموما يرى أن غاية المجتمع رعاية الفرد والسماح له بتدبير شأن نفسه ضمن نظام ليبرالي يترك الأمور تجري على سجيتها.
ولئن كان الإسلام قد أعطى للفرد حق وعي ذاته ضمن أمة متماسكة ذات رسالة، بما يوازن بدقة متناهية بين الاتجاهين الفردي والجماعي، ويجعل الأفراد ركاب سفينة واحدة تتجه إلى مقصد واضح بيّن، ينجون بنجاتها ويهلكون بغرقها، فإن انفراط عقد الأمة وتسلط الاستبداد، وفوضى الثقافات الوافدة والدخيلة، ساهم في ارتداد النشاط العلمي والثقافي والاجتهادي نحو الفكر الوضعي، أو التأثر به سلبا على أقل تقدير، لاسيما في الأندلس التي كانت سباقة إلى هذا المجال، كما كانت بعد ذلك سباقة إلى السقوط، وكان أهلها بمحافظتهم على ضروراتهم الخمس أكثر سبقا إلى الهجرة والتهجير.
لقد كان الاجتهاد الفكري والفقهي في أول عهد الدولة الإسلامية حرا واقتحاميا، مثلما هو حال دولته عقديا وسياسيا وعسكريا، يعالج المعضلات الحادثة ومرتقبة الحدوث في إطار الكتاب والسنة، بثقة واستعلاء إيمان. إلا أن مجال حرية الرأي والاجتهاد والنهج الاقتحامي أخذ يتقلص بالتدريج إلى أن أصبح الخوف سيد الموقف، الخوف من السلطان، والخوف من العدو الخارجي المتربص، والخوف من الفتنة، والخوف من القمع المعنوي الذي يمارسه وُعَّاظ السلاطين. فأصبح التحرك التشريعي والاجتهادي بذلك حبيس دائرة الفردية، محافظة على النفس والعقل والنسل والمال والتدين الفردي، وكانت مقاصد الشاطبي ثمرة لهذه الظروف وصدى لهذه الأوضاع.               
3 - حاكمية المقاصد وحاكمية النص
قرر الشاطبي أن تكاليف الشرع ترجع إلى حفظ مقاصدها التي هي مصالح العباد في العاجل والآجل، ورأيه هذا منه حكم جازم لا ينازع فيه أحد، لاعتماده على دليل قطعي مستنبط بالاستقراء المعنوي والنظر في أدلة الشريعة الكلية والجزئية[16]. إلا أن هذا المذهب منه غير مسلم بإطلاق، لأنه يؤدي إلى حاكمية معنوية منتحلة على الشريعة نفسها، هي حاكمية المقاصد الشاطبية التي هي حفظ المصالح، على اعتبار أنها غاية الوجود البشري ومصدر تصرفاته، وهو ما  يلغي حاكمية النصوص ويهدرها أو يعود على حجيتها بالإبطال، أو يمهد للانقلاب عليها في أقل تقدير، ويجعل من حقنا أن نسأل الشاطبي عن مدى انتساب هذا الرأي منه للكتاب والسنة، وهل هذا الدليل القطعي الاستقرائي على حاكمية المصالح المرسلة التي هي غاية المقاصد، عرفه الرسول r  وكتمه؟ أو بلغه للمسلمين ونسيه جميعهم؟ أم أنه كان نقصا في الدِين استمر أكثر من سبعة قرون إلى أن جاء الشاطبي فأكمله؟
إن القواعد المستقرأة بالاجتهاد غير المعصوم لا يمكن أن تقف في وجه النص، كما أن الشرع لا يعلل وضع الأحكام بالمصالح الفردية وإن تضمنتها، وإنما يعللـها تعليلا كليا حاكما على جميع العلل الجزئية الواردة، هو الحكمة الإلهية في الابتلاء والاختبار، نصا محكما لا ينازع ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( الذاريات 56 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ( العنكبوت 2 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ( آل عمران 142.
إن العبودية الصادقة لله عز وجل، متمثلة في التعامل الإيجابي مع ضروب الابتلاء والفتن ومكافحة المكاره وعوائق الطريق إلى مرضاة الله، هي المقصد الحقيقي من التكليف الذي يتضمن مصلحة الفرد في الدنيا، كما أرادها الله لا كما يتصورها البشر، ومصلحته في الآخرة التي هي الجنة حسب مشيئة الله وحده لا كما يفترضها العقل البشري. فمصالح الدنيا في مجالها العبادي منضبطة بالنصوص والحمل عليها مطلقا، وفي مجال المحاولات الدنيوية الصرفة جزء محكوم بالشريعة وجزء ترك للعقل البشري حرية التصرف فيه بواسطة الشورى العامة. وينبني على هذا رد ما قرره الشاطبي[17] بقوله:" ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال". ذلك أن هذا الرأي منه مخالف لما نعرفه في الشرع من أن الدنيا مطية للآخرة، ولابد للمطية من أن تتأثر بالاستعمال الذي هو ابتلاء في أصله وطبيعته ) وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( الأنبياء 35 ) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ( آل عمران 146، والتضحية بالمال والنفس والأهل والولد أو الابتلاء بهم من القرب التي يحط بها ذنب أو ترفع بها درجة، وهي مصالح دنيوية لابد من إهدارها أحيانا للفوز بمرضاة الله، وكأن بين بعض مصالح الدنيا ومصالح الآخرة تعارضا وتنافيا هما سر الابتلاء.     
4 - مسالك الكشف عن المقاصد
خصص الشاطبي فصلا هو خاتمة الجزء الثاني من الموافقات لبيان مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة، ووضع سؤالا افتتاحيا للموضوع هو[18]: "بماذا يعرف ما هو مقصود مما ليس بمقصود ؟"، ثم استطرد بتوضيح مناهج عامة الفقهاء في أمر هذه المسالك ولخصها في ثلاثة أقسام هي:
- منهج الاعتماد على ظواهر النصوص وحدها، بأن يقال إن مقصود الشارع غائب حتى يأتينا ما يعرفنا به، وهو طريقة الظاهرية.
- منهج يؤول إلى إبطال الشريعة، وهو على ضربين، مذهب المتعمقين في القياس، الذين لا يلتفتون إلى معاني الألفاظ ولا تعتبر الظواهر والنصوص لديهم إلا بناء على مراعاة المصالح. ومذهب من يدعي أن مقصد الشارع ليس في ظواهر النصوص ولا يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءها، وهو قول الباطنية سلفا وقول الشيوعية السافرة والمقنعة في عصرنا.
- منهج يوازن بين النص والمعنى على وجه لا يخل أحدهما بالثاني، وهو مذهب أكثر العلماء الراسخين.
انتقد الشاطبي المذهب الظاهري الذي يخصص مظان العلم بالمقاصد في الظواهر والنصوص، والمذهب الباطني الذي يؤول إلى إهدار النصوص، واختار طريقا وسطا يجمع بين الظواهر والمعاني على وجه لا يخلّ فيه أحدهما بالآخر، وبناه على أربعة أسس هي مسالك الكشف عن المقاصد عنده، وهي:
1.    تبين المقصد الإلهي من مجرد الأمر والنهي الواردين في النصوص.
2.    اعتبار العلل في الأمر والنهي.
3.  التمييز بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة في الأحكام العبادية والأحكام العادية، إذ لكل حكم مقصد أصلي ومقصد تابع يؤكده، فالنكاح مثلا مشروع للتناسل على المقصد الأصلي، ولطلب السَكن والتعاون والتراحم على المقصد التبعي.
4.  تعرف مقاصد الشريعة من عدم الفعل لا من الفعل، فإن سكت الشرع عن حكم مع وجود دواعيه، يكون هذا السكوت دليلا على أن مقصد الشرع هو عدم ذلك الفعل المظنون بالمعنى الذي يقتضيه. وذلك مثل سجود الشكر على مذهب مالك، حيث سكت الشارع فلم يشرعه مع توفر دواعيه، مما جعل السجود زيادة في الدِين وبدعة.
ويلاحظ على هذه المسالك الشاطبية عدم دقتها في بيان مرجعية الكتاب والسنة بمجموع نصوصهما في العقيدة والشريعة والأخلاق، ما تعلق منها بالدنيا وما تعلق بالآخرة أو جمع بينهما. ذلك أنه قصر في المسلك الأول تعرف المقاصد على أوامر النصوص ونواهيها، وفي النصوص أكثر من الأوامر والنواهي مما يتعرف به على المقاصد تصريحا وتلميحا.
كما قصرها في المسلك الثاني على علل الأحكام في الأمر والنهي، وفي النصوص مما سوى الأمر والنهي علل صريحة ومستنبطة للخلق والمبدأ والمعاد وتنـزيل التشريع ومقاصده وسنن الابتلاء وصراع الحق والباطل.
أما التعرف على المقاصد من ترك التشريع مع توفر دواعيه في بعض الأحوال فينبغي أن يميز فيه بين سكوت الشارع في مجال العبادات مما شرحه الشاطبي محقا ووظفه لمحاربة البدع، وبين سكوته في المجال الدنيوي العام الذي تدعو الحاجة إلى تنظيمه، وهو ما للمجتمع المسلم أن يبث فيه بواسطة الشورى العامة.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الضعف الملحوظ في مسالك الشاطبي، قد تدارك بعضه الشيخ الطاهر بن عاشور إذ صنف المسالك إلى ثلاثة أصناف هي[19]:
1.    الاستخلاص المباشر من تصريحات القرآن الكريم.
2.    الاستخلاص المباشر من السنة المتواترة.
3.  استقراء الشريعة في تصرفاتها من خلال أحكامها المتعددة المتنوعة المشتركة في علة واحدة على أساس أن العلل مجرد مقاصد قريبة لأنها متعلقة بآحاد الأحكام وفوقها مقاصد أعم.
وبهذا الاعتبار تعد المسالك التي أوردها الشاطبي توطئة لما كتبه ابن عاشور ومادة أولية له، وما كتبه ابن عاشور امتدادا وتطويرا لما كتبه الشاطبي في أمر المسالك. إلا أن ما كتب عموما عن المقاصد محتاج إلى مزيد دراسة وسبر وفرز، يجعلها أداة لترقية المجتمع المسلم دون المس بعقيدته أو شريعته، وقبلة لسيره نحو المقصد الأسمى الذي هو إقامة أمر الإسلام ضمن أمة شاهدة ظاهرة.  
5 - حكم المسكوت عنه في الشرع
مجال ما لم يرد فيه حكم شرعي خصص له الشاطبي فصلا كاملا في الجزء الأول من الموافقات[20]، وانطلق فيه من مبدأ "العفو" وضوابط ما يدخل تحته، مستندا في ذلك إلى مقياس سليم يعد الاقتصار به على محال النصوص نزعة ظاهرية والانحلال من النصوص بإطلاق نزعة باطنية وخرقا لا يرقع، والاقتصار فيه على بعض المحال دون غيرها تحكما يأباه المعقول والمنقول.
ثم صنف ما يدخل تحت هذه القضية إلى ثلاثة أقسام هي:
1.  الوقوف مع مقتضى الدليل المعارَض وإن قوي معارضه، كمن يدخل تحت العزيمة وإن توجه حكم الرخصة، أو يدخل تحت حكم الرخصة وإن توجه حكم العزيمة.
2.  الخروج عن مقتضى الدليل من غير قصد أو بتأويل، كمن يعمل عملا على اعتقاد إباحته ولم يبلغه دليل التحريم، أو بلغه دليل التحريم وتأول الإباحة.
3.  ما سكت عنه الشرع فلم يرد في شأنه حكم، وهو بيت القصيد في موضوعنا هذا. ذلك أن المسكوت عنه ليس عفوا بإطلاق وليست أحكامه مستنبطة بإطلاق، إلا إذا اعتبرنا أن جميع أفعال المكلفين داخلة تحت خطاب التكليف، بحيث يعد "العفو"حكما سادسا زائدا على الأحكام الخمسة إيجابا وحظرا وندبا وكراهة وإباحة، فيكون الفعل مخالفة داخلة تحت حكم العفو. ذلك أن خلو بعض الوقائع والحوادث وتصرفات المكلفين عن حكم الشرع يرجع إلى ثلاثة أوجه هي:
o   وجه من العبادات، وهي تامة بينة الأركان، كل زيادة في أحكامها ومبناها بدعة مردودة. وما سكت عنه الشرع في أمرها من خطأ أو نسيان أو إكراه فهو عفو.
o   وجه معاملات فردية أومأت إلى حكمها النصوص المجملة وكليات القواعد، تستفصل أحكام المسكوت عنه فيها تحت حاكمية هذه النصوص واستقراء منها. وفي قسط من هذه المعاملات مجال للعفو بضوابطه.
o   وجه معاملات وتصرفات دنيوية متعلقة بالشأن العام للأمة، لم يرد فيه حكم شرعي، ولكن الله أذن في التشريع له، ضمن الإطار العام لدولة الإسلام الناهضة لتحقيق المقصد الأسمى من إخراجها للناس. والتصرفات في هذا المجال تخطيطا وتشريعا وتنفيذا ليست مخالفة لتدخل تحت حكم العفو.        
6 - ازدواجية الموقف من الأدلة
عندما يستعرض المرء ما كتبه الشاطبي في كتابيه، الموافقات والاعتصام، يلاحظ نوعا من الازدواجية أو الاضطراب في موقفه من الأدلة الشرعية النقلية، ومن منهج استقراء أدلة المقاصد. فهو في المقدمة الخامسة[21] يتمسك بحاكمية النص تمسكا شديدا، ويبين بما لا يدع مجالا للريب أنه إذا تعارض النقل والعقل على المسائل الشرعية، تقدم النقل فكان متبوعا وتأخر العقل فكان تابعا لا يسرح في مجال النظر إلا بمقدار ما يسرحه النقل. ويعلل موقفه هذا بأمور منها أنه لو جاز للعقل تخطي مآخذ النقل لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة. وأن العقل لا يحسن ولا يقبح ولو جاز ذلك له لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهو محال باطل. ثم يؤكد نفس الموقف بقوله[22]: "والثالث أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم". ثم يسير على نفس النهج في"الاعتصام"[23] فيقول:"ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم يقتضيه معنى الأمر، كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي، كان للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير، وهو للإباحة. فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه".
إلا أنه في المنحى المقاصدي يهمش دور النقل لحساب الاستقراء العقلي محاولا توهين ما يعارض منهجه، فيقول[24]: "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق" ثم يقول[25]: "وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد. إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع".
ويقول أيضا[26]: "وعلمها -أي المقاصد- عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك لأن كل واحد بانفراد ظني". ويضيف[27]: "وينبني على هذه المقدمة معنى آخر وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها". ثم يفصل موقفه بوضوح قائلا[28]: "والنصوص النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال من الأحوال أو لا، فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها، لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب، وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء، والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض. ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي".
هكذا يستبعد الشاطبي الأدلة النقلية عن مجال مسالك الكشف عن المقاصد لأنها في نظره إما قطعية الثبوت متنازع في قطعية دلالتها، أو ظنية لا يستند إليها. والشريعة قطعية لابد أن تبنى على قطعي. والقطعي في نظره هو ما يسفر عنه استقراء الأدلة الكلية والجزئية وما تنطوي عليه من الأمور العامة، مما لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض ينتظم من مجموعها القطع. وهذا منه توهين واضح للنصوص وفتح لباب يتيح للعلمانيين والشيوعيين المتدثرين برداء الحداثة والعصرنة الدعوة للتحلل من الدِين وإهدار ما هو معلوم منه بالضرورة.   
هذه الازدواجية في النظر إلى الأدلة، بالتردد بين الأخذ بالنقل الذي عده كله ظنيا في المسألة، أو الأخذ بالاستقراء الذي عده قطعيا، أدت إلى ما لوحظ من اضطراب وخلط وتناقض أحيانا، إذ يبدو الفقيه أحيانا في بعض كتاباته سلفيا متشددا وحرفيا أقرب إلى الظاهرية، وأحيانا في فقه المقاصد مغاليا في الانفتاح المهدر للنصوص.
قد يكون ذلك راجعا إلى كون بدايته السلفية، تأثرت مع الزمن بظروف الأمة وانخفاض مستوى تدينها، وهيمنة الفكر اليوناني المعرب على الثقافة في عصره، وقد يكون بسبب الإحباط الذي تجرعه من فشل محاولاته الشاقة للأوبة بالمجتمع إلى الشريعة وأخلاق السلف، مما حدا به إلى نهج سبيل المقاصد، لما فيها من يسر واستدراج رفيق، وتهدئة للحملة المسعورة التي شنها ضده حكام الأندلس وبطانتهم من الفقهاء السادرين في غفلتهم. مهما كانت المبررات فإن نهجه في فقه المقاصد يعد تحكيما للعقل في النقل، وجسرا للتحلل من الدِين، وسلاحا شاكيا يستخدم في كل عصر لمواجهة الصحوة الإسلامية وتيار الأوبة إلى الإسلام عقيدة ونظاما وشريعة حياة. ذلك لأن منهج الإسلام الحق يجعل أصول الدين وفروعه ومجملاته ومفصلاته وكلياته وجزئياته متلازمة وتحت حاكمية الكتاب والسنة، ولأنه بغير الأحكام الفرعية والجزئيات التعبدية يتحول الدين إلى مجرد شعارات ومبادئ لا جذور لها في الأرض، وبغير المجملات والكليات يكون تعاليم مبعثرة لا توجه حياة ولا تؤطر دولة، وإضعاف النصوص بجعلها ظنية في مقابل تقوية الاستقراء البشري غير المعصوم بجعله قطعيا يتعارض مع مقررات الدين وما هو معلوم منه بالضرورة، كما أن منهج الإسلام في تعبيد الناس لله واستعمارهم في الأرض يقتضي أن تكون مجملات الدين ومقاصده العامة تحت حاكمية الكتاب والسنة مجرد بوصلة للتوجه، أما أحكامه وفروعه فهي موطئ الأقدام على صراط مستقيم، في إطار يخاطب كل مسلم على قدر طاقته ووسعه في قضايا الدين والدنيا، ويوحد كل فرد مع كافة أعضاء مجتمعه ضمن مسيرة يذوب بها الفرد في المجتمع والمجتمع في الفرد، نحو المقصد الأسمى الذي أخرجت الأمة من أجله.    
7 - فهم الشريعة على معهود الأميين
يبني الشاطبي على كون الرسول r  أميا لقوله تعالى: ) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( الأعراف 158، وعلى كون الأمة العربية التي بعث فيها أمية لقوله تعالى: ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( الجمعة 2، عددا من الأحكام منها رشيد ومنها دون ذلك[29]
أول هذه الأحكام أن الشريعة بما أنها نزلت بلسان العرب فلا يكون فهمها إلا بهذا اللسان، وأن خاصية الإعجاز في القرآن وطبيعة اللغة العربية في كون ألفاظها مطلقة وذات معان مقيدة دالة على معان خادمة، يجعل ترجمة القرآن متعذرة. وهذا حق لاشك فيه.
إلا أن دعواه بأن الشريعة الإسلامية أمية لكونها بعثت في أمة أمية، غير سليمة ومردودة لعدة أسباب:
منها أن لفظ "الأمية" مشترك، لا يعني فقط الجهل بالقراءة والكتابة، وإنما يعني أيضا من لا يقر بنبي ولا رسول وكل ما سوى أهل الكتاب من أتباع الديانات الأخرى، وهو معنى قوله تعالى ) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا( آل عمران 20، كما أن وصف النبي r بالأمية مختلف في معناه، ومنهم من يفسر لفظ "النبي الأمي" بكونه ينتسب إلى أم القرى التي هي مكة المكرمة.  
ومنها أن من العرب من كان يعرف القراءة والكتابة قبل البعثة وبعدها، ومنهم من كان يعرف الحكمة ولغات الجوار فرسا وروما وأحباشا بسبب رحلتي الشتاء والصيف للتجارة.
كما أن في دعواه هذه شططا في استخدام المنطق الصوري الذي لا تتطابق أحكامه أحيانا مع الحقيقة والواقع، وحصرا للشريعة في نطاق ضيق محدود هو الأمة العربية، والحال أنها للبشر كافة ) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين( ص 87.
وبما أن الشريعة أُنزلت من لدن عليم حكيم، ومصدرها العلم المطلق العام الشامل، فلا بد أن تحمل ما يناسبها من علم واضعها سبحانه وتعالى، ولذلك يكشف القرآن الكريم لكل عصر وجيل وعلم وبحث أسرارا من الخلق والتدبير معجزة، مما يوضح حقيقة صدوره عن علم وسع كل شيء.
أما دعواه بأن الشريعة ينبغي أن تُفهم على معهود الأميين، لأن رسولها أمي والأمة التي بعث فيها أمية، فجنوح مندفع في الاستقراء غير المنضبط، لا سيما وقد جاء القرآن في جملة مضامينه قابلا للفهم من جميع الخلق جاهلهم وعالمهم، كل حسب قدرته ومدى استيعابه ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ( القمر 22، كما أن أحكامه التكليفية مبنية على مقاييس حسية وعقلية تسع كافة المخاطبين من كل جنس ولون وعصر ومستوى حضاري وثقافي، وإلا لما كانت ملزمة لهم وحجة عليهم جميعا، ولتعذر الامتثال لها وتطبيق أوامرها ونواهيها، والاعتبار بما ورد فيها من مواعظ وحكم، وحقائق علمية في النفس والكون والآفاق. كما أن التطور العلمي المعاصر أكد إعجاز القرآن في انبنائه على العلم المطلق، إذ كل المعلومات الواردة فيه يفهمها الفرد العادي البسيط بما يكفي لتثبيت إيمانه وقيامه بتكاليف دينه، ويفهمها العالم المتخصص بما يفتح له آفاقا في العلم والإيمان.
وبما أن معهود كل أمة راجع إلى أسلوب معيشتها بداوة وحضارة،  ليونة وخشونة، علما وجهلا، فإن هذا يقتضي منه أن تفهم الشريعة على معهود البداوة والخشونة والجهل، بسبب أمية العرب وبداوتهم وخشونتهم، مما يتنافى مع شمولية الدين للجميع وتميزه بالرفق واليسر ودعوته إلى الرقي والعلم والتحضر؛ وعلى مفهوم جنس العرب، مما يهدر الأخوة الإنسانية لتحل محلها مفاهيم العرقية التي تجعل الإسلام دينا للعرب وحدهم. كما أن هذا الرأي يؤدي إلى أن ينشأ في المجتمع المسلم ثلاثة أديان، دين النخبة المثقفة المبني على المقاصد وطرق الكشف عليها، ودين الملتزمين بالكتاب والسنة، ودين العامة المبني على الجهل ومعهود الأميين، أو دين الحضري المبني على الإفراط في الليونة والرفق، ودين البدوي المغرق في الخشونة والشدة، وهذا كله غير صحيح.
وأخيرا فإن ضرورة فهم الشريعة على معهود الأميين يعود أيضا على منهج الشاطبي في الكشف عن المقاصد بالإبطال، لأنه ليس على معهود الأميين بساطة وعفوية وعدم تعقيد. فهو مبني على الاستقراء ملاحظة ومقارنة وتجريدا وتعميما وتقعيدا، ولا يستطيع القيام بهذه العمليات العقلية إلا من أوتي رسوخا في الشريعة أصولا وفروعا وأدوات فهم، وفي مختلف العلوم الرافدة فلسفة ومنطقا وكلاما وجدلا.
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي:
حول نظرية المقاصد الشاطبية 3
تكامل المقاصد وتراتبها بين النص الشرعي والتأويل الشاطبي
لاشك أن أوامر الشريعة ونواهيها ونظمها تسير في اتجاه يحقق مقاصد متعلقة بوجود الإنسان في الأرض، وأن مقاصدها مرتبة على أساس تصاعدي يخدم البسيط فيه المركب والجزئي منه الكلي. والعمل الفقهي استقراء واستنباطا في ميدان العبادات والمعاملات والتشريع المأذون فيه، وتدبير الشأن العام يبقى عملا مختلا ناقصا إذا لم يؤسس على اعتبار المقاصد الشرعية وتحريها في بناء الأحكام ووضع القواعد، متناسقة متكاملة يعضد أدناها أعلاها من أسفل السلم إلى قمة المرقاة. ذلك لأن الدين الإسلامي نفسه كائن حي متحرك نحو غاية سامية ذات منهج رشيد، جسده الأمة الشاهدة وأعضاؤه مؤمنوها، وروحه العقيدة والتصور الإيماني السليم، وخطواته الشريعة الربانية ومقصده إتمام النور الإلهي، وغايته تحقيق العبودية المؤدية إلى مرضاة الله عز وجل.
ولئن قصر الشاطبي مقاصده على حفظ المصالح الضرورية للفرد بحاجياتها وتحسيناتها فإن نقطة الضعف في نظريته أنه لم يصغها في قاعدة عامة تستوعبُ جزئياتِ التشريعات وكلياتِها، وتَضبِط التوَجُّهَ النفْعيَّ الفردي في النهج الشاطبي وتَكْبَحُ جِماحَه، تحت حاكميةِ ناظمٍ واحد يعصِمُها من التسيُّب والفوضى والانحرافِ ويأخذ بها إلى تحقيق المقصد الأسمى للخلق والتكليف، وأنه بذلك لم يستوف المقاصد الغائية لوجود الإنسان ونزول القرآن، فأضحى منهجه ناقصا مبتورا، لأن المحافظة على المصالح الفردية ليست إلا أداة من أدوات تحقيق المقصد الأسمى من الوجود البشري. فإن عادت المصالح الفردية بالإبطال على المقصد الأسمى أهدرت المصالح الفردية وثبت المقصد الأسمى.
لقد مَثَّلَتْ نظريةُ الشاطبيِّ هذه، بما حَوَتْهُ من نَزْعَةٍ فرديةٍ واتجاهٍ نفعيٍّ براغماتي انتكاسةً لا يُستهانُ بها في مسيرةِ الاجتهاد الفكري الإسلامي الذي كان في مبدأ أمرِه اقتحامياً حرا يعالِج مستجداتِ الحياةِ بثقةٍ واستعلاءِ إيمانٍ وإنكارٍ للذات، واستشرافٍ لمقصدِ الله في خلْقِ الإنسانِ وتكليفِه من خِلال نصوصِ الكتاب والسنة.
ولئن حاول الشاطبيُّ ومن جاء بعده أن يُثْبتوا أن المقاصدَ هي نفسُ المصالح التي تُحْفَظ بها الضروراتُ الخمسُ، وتؤدِّي إلى سعادةِ الدنيا والآخرة، وأن تكاليفَ الشرْع غايتُها حفظُ مصالحِ العباد في العاجل والآجل، فإنهم بذلك قد ساهموا في تَبْريرِ انطواء المسلمين على مصالحِهم الخاصةِ وأمنِهم الذاتيِّ على حسابِ أمنِ أمتِهم وقوتِها ومنعتِها ونِدِّيَتِها للأممِ غيرِها، وتَحَوُّلِهِمْ إلى أبقارٍ مُعّدَّةٍ للحَلَبِ لا تنطحُ ولا ترمَحُ.
كما أن هذا المذهبَ للشاطبي في جعْلِه تكاليفَ الشرعِ ترجِعُ في مُجمَلها إلى حفظِ المصالح، يؤدِّي إلى تكريسِ حاكميةٍ منتحَلَةٍ على الشريعةِ هي حاكميةُ المقاصدِ الشاطبيةِ على اعتبارِها غايةَ الوجودِ البشري ومصدرَ تصرفاتِ الإنسان، وهو ما يُلْغي حاكميةَ النصوص ويُهدِرُها ويعودُ على حجِّيَتِها بالإبطال، أو يمهِّد على أقل تقدير للانقلابِ عليها كما فعل الطوفي ومن سار على نهجه ممن يعاصرنا، علمانيين وليبراليين وبعض الإسلاميين.
إن أخطرَ ما في هذا الاتجاه هو خلطُه المصالحَ بالمقاصد، والشريعةُ لم تتنزلْ لمصلحة دنيوية محضَة، وإن تضَمَّنَتْهَا ويَسَّرَتْها ووَفَّرَتْها في حدودِ ما يساعدُ على تحقيقِ المقصدِ الأصلي للدين.
وقد كان هذا الخلطُ بين المقاصد والمصالح بدايةَ الانزلاق في مباحث هذا الفنِّ المستحدَثِ، الذي هَمَّشَ دورَ النَّقْلِ ووَهَّنَهُ لحساب الاستقراءِ العقلي الذي يُعَدُّ لدى الشاطبي قطعيا، والصوابُ أن مجملاتِ الدينِ وما يُسْتَنْبَطُ من استقراءِ الأدلةِ الكليةِ والجزئيةِ وما تنْطوي عليه من الأمورِ العامة، يجب أن يبقى تحتَ حاكميةِ نصوصِ الكتاب والسنة، لأن أحكامَهما هي موْطِئُ الأقدامِ على صراطٍ مستقيم، وبدونِهما يتحولُ الدينُ إلى مجرَّدِ شعاراتٍ جوفاءَ ومبادئ لا جذور لها، وهو ما يُحاولُ علمانيو العصرِ وأشباهُهُم تكريسَه في مجتمع المسلمين.
لذلك أصبحَ حتما وواجبا فكُّ هذا الارتباطِ التعَسُّفيِّ الحالي بين المقاصد والمصالح، لاسيما وحفظُ الضرورات بحاجياتها وتحسيناتها هو مجردُ مصالحَ في التَّدَيُّنِ، وليس مقاصدَ للدِّين.
إن اعتبارها مقاصدَ للدين يُعَدُّ نقصاً منه وبتراً لمسيرته وتمويها على غائِيَةِ وجودِ الإنسان ونزولِ القرآن وفرضِ التكاليف. وليست المصالحُ الفردية إلا أدواتٍ للإنسان مسخرةً لمساعدته على تحقيق المقصدِ الأعلى الذي خُلِقَ له، فإن عادتْ على هذا المقصدِ بالإبطال أُهْدِرَتْ.
ومن رحمة الله ولطفه وحجِّيةِ تنـزيلِه، أنْ جعلَ هذا المقصدَ الأسمى في غير حاجةٍ إلى تَنَكُّبِ طُرُقِ علْمِ الكلامِ والمنطقِ، أو استقراءِ المجملاتِ والكليات والقواعد، مما يَنوءُ به العقلُ الفِطريُّ العادي؛ وإلا لكان محلَّ خلافٍ واختلاف وأخذٍ وردٍّ وجدالٍ يعصِفُ بوضوحِه وقوةِ إلزامه.
لقد جعل الله تعالى مقصدَه الأسمى الذي يسع جميع المصالح الفردية ويكبَح جماحَها، صريحاً بينا واضحا في قوله عز وجل:)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا( الفتح 28. فالمقصدُ من إرسال الرسل بالبينات والتشريعات هو صيرورةُ الإسلام مستعلياً على سائر الأديان قاهرا لعدوانها؛ ومن الظهور أن تكون حجتُه وبراهينُ صدقه قائمةً، وقوةُ دفاعه عن نفسه ماديا ومعنويا متوفرةً، وأمةُ الإسلام قويةً متماسكة مكينَةً، كما قال تعالى : )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ( النور 55.
إن تحقيقَ وعدِ الله هذا هو المقصدُ الواضح البيِّن من القرآن والسنة، الذي نَدينُ به ونسيرُ على هديه؛ ونحنُ لا نتحدثُ عن مقاصد غيبيةٍ استأثَرَ اللهُ بعلمها، وإنما عن مقاصد أخبر بها الوحي، هي غايةُ التكوين والتكليف؛ إذ التكوينُ والخلقُ مقدمةٌ للتكليف والابتلاءِ كما قال تعالى: )الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (  الملك 2، ووضعُ الشريعةِ وسيلةٌ للتكليفِ وأداةٌ دقيقةٌ للابتلاء، والابتلاءُ طريقُ إخراجِ الأمة الشاهدةِ التي هي قاطرةُ السيرِ إلى المقصد الأسمى حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدين لله، و هي التجسيدُ الحيُّ المُتَحَرِّك لمقْصِد الله في إتمامِ نورِه، يقول تعالى:
ـ ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(  آل عمران 110 .
ـ ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 .
ـ ) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 .
هذه الأمة التي يسري في أوصالها روحٌ من أمر الله هو القرآنُ الكريم )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ( الشورى 52، ويوجِّهُها الدينُ الذي ارتضاه الله لنفسه فيما رواه عنه نبيه r  بقوله: (إن هذا الدين ارتضيتُه لنفسي ولن يصلُح له إلا السخاءُ وحسنُ الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه) [[30] ] ، هي الأمةُ التي أقسم الرسول r  على قيامها بقوله:(والله ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ ...) الحديث [[31] ] ".
في هذا السياق، ونحو هذا الهدف النبيل والمقصد السامي الذي تندرج تحته كلُّ المصالحِ الجزئية وتخدُمه، تأتي النصوصُ الحاضَّة على الوحدة ولزومِ سبيل المؤمنين وعدمِ التفرُّق في الدين والترابطِ والتعاون والتكافلِ ولزوم الجماعة؛ وليس المقصدُ حفظَ الضرورات من أجل أن يُذْهِبَ الناسُ طيباتِهم في الحياة الدنيا ويَقْضوا أعمارَهم طاعمين كاسين خانعين.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا مطيةً للآخرة وطريقا قاصدا إليها، واختار الدينَ بتكاليفه ومقاصده سفينةَ النجاةِ للوصول إلى مرضاته وجنته، فجعله وحدةً متكاملةً مُتراصَّةً، وحلقاتٍ متماسكةَ العُرَى لا يشِذُّ عنها إلا من ضلَّ وشَقِيَ وسَفِهَ نفسَه.
تبدأ هذه الحلقات أولَ أمرِها انبعاثا من العقيدةِ على نهج نبوتها الخاتمة، ثم تنطلقُ في اتجاهِ قِبلتِها المُقدَّرة ومَقْصِدِها الرباني، في فَلَكِها المرصودِ منضبطةً غيرَ قابلةٍ للتفكُّكِ والانحراف، تشريعاً نصيا وشورويا ينظم حياةَ الإنسان ويُزوِّدُها بضرورات مواصلةِ السعيِ والقدرةِ على المسير، ثم مجتمَعاً قويا بِنُظمِه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصناعية والعلمية والعسكرية، ثم أمةً شاهدة، تسعى لإقامة الدين كله حتى لا تكون فتنة.
إن المقصدَ من وجودِ الإنسان في الأرض بنصوص الكتاب والسنة هو أن يكون الدين كلُّه لله، والوسيلةُ إلى ذلك قيامُ الدولة الشاهدة، على نظمٍ متينة في مجال تدبيرِها العام، ولا يتحقق هذا الهدفُ إلا ببناء المجتمعِ القوي وتنشئةِ أفرادِه على أسسٍ سليمة، وتجنيدِهم لما خُلِقوا له، أقوياءَ شجعانا صامدين اقتحامِيِّين محفوظي الدينِ والعقل والنسل والعرض والمال موفوري الكرامةِ والحرية والحقوق.
بذلك ترتسم أمامنا بكل وضوح دورةُ المقاصدِ الشرعية في فَلَكِها منسجمةً مع سائر خلق الله عز وجل، في مسيرةِ الكونِ وما فُطِرَ عليه ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يس 40، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ الزمر5. وتلك هي القاعدةُ التي تستوعبُ الدينَ كلَّه بتشريعاته وجزئياتِه وكلياته. المصالحُ الفرديةُ منبعثةٌ من التشريعين النصيِّ والشورويِّ وخادمةٌ للمصالح العامة، والمصالحُ العامة امتدادٌ لنفس التشريعين وفي خدمةِ منهج تدبيرِ الِشأن العام، ومنهجُ تدبير الشأنِ العامِّ لِبناءِ الدولةِ الشاهدة، والدولةُ الشاهدةُ لإقامةِ الدين كلِّه. ولعل الرسمَ البياني التالي يلخِّصُ هذا التصورَ ويوضِّحُه ويُقَرِّبه:
 


[1] الموافقات 1/15
[2] الموافقات 2/3
[3] الموافقات1/17
[4] الموافقات2/32
[5] الموافقات 1/14
[6] الموافقات 2/34
[7] الموافقات 2/33
[8] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من كبار فقهاء المالكية في تونس عاش مابين 1296و1393هـ (1879-1973م ) له كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية.
[9] الموافقات 2/4
[10] الموافقات 2/19
[11] الموافقات 2/30
[12] الموافقات2/16
[13] الموافقات 2/20
[14] الموافقات 2/4
[15] الموافقات 1/15
[16] الموافقات 1/14 ، 2/32 ،2/34
[17] الموافقات 1/25
[18] الموافقات 2/273
[19] مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص136
[20] الموافقات 1/112
[21] الموافقات 1/53
[22] الموافقات 2 / 261
[23] 1 / 36
[24] الموافقات 1/14
[25] الموافقات 1/14
[26] الموافقات 1/15
[27] الموافقات 1/16
[28] الموافقات 2/32
[29] الموافقات 2/46
[30]  - المعجم الأوسط 8-  375
[31] - مسلم