الرئيسة \  مشاركات  \  فرن حارتنا

فرن حارتنا

07.12.2020
المهندس هشام نجار




حلقة الدكتور فيصل القاسم القادمة ستناقش مأساة الطوابير في سوريا ، والحقيقة ان مأساتنا مع هؤلاء الحكام ليست حديثة ولكن عصابة الأسد جعلتها سياسة ثابتة حتى لايفكر المواطن الا بحبة الأسبرين و جالونة المازوت وليتر البنزين وجرة الغاز و أمبير الكهرباء ماعدا خبزه وطعامه وشرابه .. أعيد عليكم مأساة الشعب السوري منذ عام ١٩٦٣ حتى وصلت إلى اقصاه في عهد العصابة الأسدية .. إنها قصة : فرن حارتنا.
أعزائي القراء ..
في عام 1963 كان إنقلاب ٨ آذار الذي أتى بحكم حزب البعث في بداياته، وكان هناك تحمساً لدى الشباب البعثيين والذين أطلقوا على أنفسهم "الرفاق التقدميين" مقتبسين لقبهم من القاموس الشيوعي السوفيتي والذين إحتلوا مقاعدهم في الصفوف الأمامية أن يطبقوا تجارب الإتحاد السوفيتي السابق علينا تماماً كما تجرى التجارب الطبية على الحيوانات الصغيرة في المختبرات .
عينت القيادة هلال رسلان محافظاً لمدينة حلب بين الفترة 12/8/1963 وحتى 17/12/1963 ، وخلال هذه الفترة القصيرة قلب مدينة حلب رأساً على عقب فلم يترك شيئاً في حلب إلا وأممه وإليكم هذه القصة من وحي تلك الأيام.
قبل وصول هلال رسلان لم تكن مدينة حلب تعاني من أية أزمة ،كنت أستيقظ بأكراً إلى فرن حارتنا حيث لا أحتاج لإنتظار الدور فلم يكن هناك دور ولا طابور فألقي على الشغيلة تحية الصباح:
صباح الخير أبو أحمد.. صباح الخير ياشباب.. أبو أحمد تلاته كيلو خبز من بعد أمرك … فيجيب الرجل : مو تكرم أبو ياسين من شواربي…
ياحسن توصى ب "أخوك "أبو ياسين, فالتفت إلى حسن وأقول له ضاحكاً: دير بالك تسمع كلام معلمك أبو أحمد بدي الخبزات من بيت النار مو من شوارب معلمك , ويضحك الجميع، أحمل الخبز الطازج منشوراً على جريدة و كأنه الورد الجوري وأتسلى بالاستمتاع بإلتهام رغيف كامل قبل أن أصل البيت.
قال لي حسن في أحد الأيام :يا أستاذ هشام لاتتعذب وتجي على الفرن كل يوم أنا بأمرك, الساعه سته بالظبط الخبزات بكونوا عندك في البيت وباخود على كل كيلو زيادة نص فرنك يعني كيلو الخبز بسبع فرنكات باخود منك سبع فرنكات ونص فأجيبه:تكرم دقنك ومعهم حبة مِسْكْ ...
ودارت الأيام كما تقول أم كلثوم وصار المحافظ هلال رسلان فأمم مدينة حلب بأكملها وصار ينزل إلى المدينة بلباس العمال تارة وبلباس الفلاحين تارة اخرى، ليفهم أبناء المدينة أن الثورة هي ملك للعمال والفلاحين فاللباس كان كافياً برأيه للإقناع ،علماً بان العامل كان يصله خبزه الى بيته طازجاً كل يوم، والفلاح لم يكن بحاجة إلى فرن المدينة ، فخبز التنور في قريته لايقايض عليه. وانقطع الطحين عن الأفران لعدة اسابيع , وبدأنا في البيت بحملة بحث عن الخبز اليابس ولما قضينا عليه، بدأت الوالدة رحمها الله تطبخ لنا البرغل كل يوم بدلاً عن الخبز مع وجبة اخرى، ولما خشي والدي رحمه الله من تأميم البرغل على يد السيد المحافظ، قام بحركة بارعة بتموين عشرين كيلو غرام من البرغل.
ولما أذاعوا لنا بياناتهم بأن الخبز متوفر في الأفران المؤممه أسرعت إلى الفرن صباح اليوم التالي لأحجز خبز العائلة ، ولكن فاجأني طابور طويل أمام الفرن فوقفت في آخره . ابو احمد صاحب الفرن الطيب لم يعد موجوداً وحل محله الأستاذ رشيد موظف حكومي له عقده بين حاجبيه ضرورية لفرض سلطته، أما العمال فبقوا في (وظائفهم) فهذه تعتبر إكرامية لهم. كنت اقيّم تحركي باتجاه بوابة الفرن بالسنتيمترات وأنظر ورائي فأجد الطابور يتمدد إلى الخلف بتسارع مخيف،ولم يكن هذا المشهد السلبي هو الوحيد الذي تغير بين عشية وضحاها بل إختلاف أبناء الحارة بين بعضهم بسبب الدور ومشاكل الطابور وهذه مأساة أخرى بعد أن كانوا جيران وحبايب، اما المأساة الحقيقيه فكانت (اجمل المآسي) حيث تقف إحدى السيارات ذات الصفة الرسمية وينزل منها سائقها المجند مخترقاً كل الصفوف ليصل إلى الأستاذ رشيد "المدير العام " الجديد لفرن الحارة مطالباً إياه بلغة الآمر الواثق :ستة كيلو للعقيد مصطفى، فيجيبه الأستاذ رشيد:أمر سيادتك وبدقيقة واحدة ينهى (الجنرال) مهمته وينطلق بسيارة العقيد الى بيته اولاً يسلم تلاتة كيلو الى زوجته أم محمود ثم يكمل مشواره الى بيت العقيد ليسلم باقي العهدة.
كان هذا المشهد يمر من أمامنا وأهل الطابور مندهشين بصمت وكأن على رؤوسهم الطير، ثم نلتهي بحالنا لنرَ كم بقي لنا حتي نصل إلى منصة "المدير العام" , وما أن نتفاءل قليلاً حتى تقف سيارة اخري باين عليها النعمة ، مرسيدس سوداء بستائر مسدلة على النوافذ ولكن لم يتقدم هذه المرة أي شخص باتجاه إدارة الفرن، وإنما إستخدم سائقها الزمور للفت نظر قيادة الفرن ثم فتحت نافذة السيارة وأمتدت منها كف بخمسة أصابع مفتوحة فُهِمَ منها طلبه.ركض حسن إلى السيارة بخمس كيلو خبز حسب الطلب ,كان هذا المنظر مالوفاً ففي كل خمس دقائق كان المسؤولون يمتعوننا بسياراتهم الجميلة أمام الفرن حتى حفظنا عن غيب أرقامها. تعودت على ذلك وتعودت على ضياع الحصة الأولى في الكليه بسبب شعار الفرن للعمال والأرض للفلاح والأسوأ أننا تعلمنا على نوعية مختلفة من الخبز ذو طعم مختلف منقطاً ببقع صغيرة خضراء لم نعرف سرها حتى الآن , ولكن حمدنا الله على أن التجربة لم تستمر فأنهت الحكومة مهمة السيد المحافظ بتاريخ 17/12/1963 فاغلق باب مكتبه وأخذ أمواله وثروته بعد أن خلع لباس الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين ولم نعد ندري عنه شيئاً ثم بدئ بالبحث من جديد عن رسلان جديد.