الرئيسة \  مشاركات  \  رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا

17.10.2022
الدكتور محمد بسام يوسف



بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف


بسم الله الرحمن الرحيم
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا

حين ينشط الثوار، فإنهم ينشطون بنفسٍ يملؤها الأمل بالنجاح والفوز والنصر.. لكن حين لا تحمل الأماني الإحساسَ بثقل الواجب وما يحتاجه من تضحيات.. فإنّ بعضَ هؤلاء الأبناء تنحني نفوسهم أو تنكسر، تحت صدمة المعوّقات التي تُعرقل حركتهم ونشاطاتهم ومشروعهم الحق، فتتراخى وتيرة أعمالهم، أو يغادرون الصفوف قانطين مُحبَطين مُستسلمين لنتائج الامتحان الذي يمرّون به!.. وهل المعوّقات قليلة في طريق الحرية والتحرير؟!..
مَن منا لا يتشوّق للانتصار؟!.. ومَن مِن أبناء الثورة السورية لا يَحِنّ إلى نصرٍ عزيزٍ كريمٍ، يهبه الله عزّ وجلّ للعاملين في سبيله وحده لا شريك له؟!..
إنّ مشروعات التغيير وترسيخها ونشرها واستمرارها.. تحتاج إلى نوعٍ من الرجال، ثقيل القيمة، عظيم الهمّة، يحلو لهم الموت على طريق التحرّر من الاستبداد والعبودية لغير الله عزّ وجلّ، ويعملون لهدفٍ واضحٍ بعيداً عن الشعور بالعجز، وعن استبعاد النصر.. فالمخلصون الثابتون على الحق لا يشغلهم إلا تأدية رسالة، مع السعي لنيل رضى الله عزّ وجلّ في الدنيا والآخرة.
عندما يتهاوى أصحاب النـفوس الهشة، الذين يَضيقون ذرعاً بالصبر ويضيق الصبرُ بهم، لا يثبت في صفوف العاملين تحت لواء التحرير إلا أبناء العقيدة الصافية والنفوس المتينة الصلبة، الذين تُبنى على أكتافهم الأمم، وتُحمَل على كواهلهم رفعة الأوطان والشعوب.. فهؤلاء وأمثالهم، يكون جهادهم وبذلهم أغلى عندهم من حياتهم، وتكون أهدافهم أثقل في نفوسهم من أرواحهم، ويكون مصير وطنهم وأمّتهم وشعبهم شغلهم الشاغل!..
*   *   *
لقد أخبرنا القرآن العظيم في محكم آياته، أنه حين استيقظ الإيمان في نفوس بني إسرائيل، وانتفضت العقيدة في قلوبهم، واشتاقوا لقتال عدوّهم.. طلبوا من نبيّهم أن يجعلَ لهم مَلِكاً يقودهم لمواجهة أعدائهم في سبيل الله عزّ وجلّ، وذلك بعد أن ضاع مُلْكُهُم، وذلّوا لعدوّهم الذي استباح أرواحَهم وأبناءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، فذاقوا الويل، وضاعت مقدّساتهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..) (البقرة: من الآية246).. لكنّ نبيّهم خشي ألا يثبتوا على هذه الحال الإيمانية الجديدة المشرقة، فسألهم: (.. قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا؟!..) (البقرة: من الآية246).. فأجابوه بالحجة المقنِعة وبشكلٍ قاطع، بأنهم سيقاتلون في سبيل الله لـِمَحْوِ العار الذي لحق بهم: (.. قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا؟!..) (البقرة: من الآية246).. لكن بعد أن كُتِبَ عليهم القتال، فأصبح فرضاً عليهم.. بدأت صفوفهم تختلّ، فنقض معظمهم العهدَ، ونكصوا بوعدهم: (.. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)!.. (البقرة: من الآية246).. فتساقط الكثيرون منهم في أول امتحان، بمجرّد تلبية طلبهم وفرض الجهاد عليهم، فوصفهم سبحانه وتعالى بالظالمين، لأنهم عرفوا الحق وحادوا عنه، وعرفوا الباطل وتخاذلوا عن مواجهته، وتولّوا عن طريق الجهاد الذي طلبوه في ساعة (فورةٍ)، فظلموا أنفسهم، وخذلوا نبيّهم، وخانوا طريقَ الحق الذي تخلّوا عنه لصالح الباطل!.. وكان هذا هو التمحيص الأول لصفوفهم!..
ثم بعث الله عزّ وجلّ لهم مَلِكاً –بناءً على طلبهم- وطلب منهم نبيّهم أن يُطيعوه ويلتزموا بأمره ويقاتلوا تحت لوائه.. لكنهم تقاعسوا، واستنكروا أن يكونَ (طالوت) هو الملك المنتَظَر، لأنهم يرون –حسب عقليّتهم القاصرة- أنهم أحقّ منه بالـمُلْك، فهو ليس من سلالة الملوك الذين يدينون لهم بالوراثة، وكذلك ليس من أصحاب المال والجاه، فلم يقبلوا به: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال؟!..) (البقرة: من الآية247).. فبيّن لهم نبيّهم أنّ الله سبحانه وتعالى قد اصطفى (طالوتَ) عليهم، لامتلاكه ميّزاتٍ أهّلته أن يكون مَلِكاً مُنقِذاً لهم، سينقذهم مما هم فيه من الذلّ والضياع، فقد منحه الله عزّ وجلّ قوّةً في الجسم، وسعةً في العلم والعقل، وهما الأمران الأساسيان الضروريان لأيّ زعيمٍ أو قائدٍ يريد أن يواجه عدواً ظالماً وباطلاً عاتياً، ثم ذكّرهم بأنها مشيئة الله وإرادته أولاً وآخراً: (.. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: من الآية247).
*   *   *
بعد أن أعدّ الملكُ (طالوت) الجيشَ للجهاد في سبيل الله، سار به، وهو يعلم أنّ أساس النجاح في الحرب هو: الطاعة، لاسيما الطاعة على إهدار الشهوات في سبيل تحقيق أمر الله عزّ وجلّ، ورغب (طالوت) أن يختبِرَ ذلك فيهم، فقال لهم بعد سيرٍ طويلٍ شاق: نحن مُقبِلون على نهر، فلا تشربوا منه إلا بمقدار ما يملأ الكف، أي يشرب كل منهم قليلاً من الماء فحسب.. لكنّ معظمهم شربوا ما يحلو لهم، ولو استطاعوا ابتلاع النهر كله لما قصّروا!.. عاصين بذلك أوامر مَلِكهم وقائدهم (طالوت): (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ..)!.. (البقرة: من الآية249).. فأصدر الملك القائد (طالوت) أوامره، أوجب بها مغادرة الجيش، على كل مَن شرب زيادةً عما سمح لهم به، لأنّ مَن لم يلتزم بالتعليمات، فقد أخفق في امتحان الطاعة لقائد الجيش.. وكان هذا هو التمحيص الثاني للصف!..
وعندما سار (طالوت) بمن بقي معه من الجيش، فزع بعضهم من ضخامة جيش العدوّ (جالوت)، وخافوا على دنياهم وأنفسهم، لأنهم يريدون نصراً هيّناً ليّناً سهلاً، وقالوا: لا قدرة لنا على مواجهة هذا الجيش العرمرم، فلنعد إلى حيث كنا، فهؤلاء قوم كثيرون أقوياء، ونحن قليلون ضعفاء!.. لكنّ المؤمنين الصادقين منهم أعلنوا رفضهم مغادرة الجيش أو التخلّي عن مواجهة العدوّ، حتى النصر أو الشهادة في سبيل الله، لأنهم كانوا يقيسون الأمور بمقياسٍ آخر، مقياس المؤمن الموقن أنّ النصر من عند الله عزّ وجلّ وحده، يمنحه لمن يشاء من عباده الصادقين المؤمنين الثابتين على الحق، الذين لا تهزّهم كثرة العدوّ ولا وطأة مؤامراته، ولا القوى التي تسنده وتدعمه، ولا الخذلان الذي يواجههم به مَن حَوْلَهم:
(.. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: من الآية249).
وهكذا، غادر الصفَّ فوج آخر من المواربين المتخاذلين، ولم يبقَ إلا الصابرون المؤمنون المجاهدون في سبيل الله حَقّ جهاده، الذين يستمدّون القوّةَ من الله عزّ وجلّ وحده، لأنهم يعلمون أنّ ميزان القوى ليس في أيدي الأعداء أو أحدٍ من البشر، وإنما بيده سبحانه وتعالى وحده، فطلبوا النصر من اليد التي تملكه وليس من الأيدي المزيَّفة الواهمة التي لا تملكه!.. فكان ذلك هو التمحيص الثالث للصفّ والجيش.
*   *   *
لم يبقَ في الصفّ أو الجيش إلا الفئـة القليلة الـمُمَحَّصة الواثقة المؤمنة الصابرة، الثابتة على الحق على الرغم من كل ما أحاط بها من إرجافٍ وعوامل إحباط.. هذه الفئة التي لم تزلزلها كثرة العدوّ ولا قوّته، هي التي توجّهت إلى الله عزّ وجلّ، خالقها، وربها، ومُدبِّر أمرها وأمر كل شيءٍ في هذا الكون، طالبةً منه النصرَ والفوز والدعم والتأييد: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250).. إنها الفئة الربّانية التي قرّرت –بإذن الله- مصيرَ المعركة الفاصلة، بموازين السماء لا بموازين الأرض، بعد أن أعدّت ما تستطيع من عدّةٍ وعتاد: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه..) (البقرة: من الآية251).. فكانت نهاية الملك الجبار الـمُرعِب الظالم (جالوت) الذي أفزع أقوياء الرجال وأشدّاءهم.. كانت على يد الفتى الصغير (داود) بإذن الله: (.. وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251).
*   *   *
بذلك، فقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى، أن يُعلِّمَ الفئةَ المؤمنةَ، في كل زمانٍ ومكان، أنّ الجبابرة الذين يُرهِبون الناسَ ويستبدّون بهم ويقمعونهم، هم أضعف الناس عندما يشاء الله عزّ وجلّ أن يقهرَهم، على أيدي الفئة المؤمنة الطاهرة، فلم تكن نتيجة الصراع بين قوم طالوتٍ وقوم جالوتٍ حدثاً تاريخياً عابراً، وإنما هي سنّة من سنن الله عزّ وجلّ في أرضه.. فهل نتعلّم، ونتدبّر، يا أبناء الثورة السورية المبارَكَة، المنتصرة بإذن الله الذي لا ناصر سواه؟!..