سوريا : من اللا دولة إلى الدولة
26.12.2024
محمد السكري
سوريا : من اللا دولة إلى الدولة
محمد السكري
سوريا تي في
الأربعاء 25/12/2024
عززت البنى الحوكمية السورية التي تشكّلت خلال سنوات الثورة السورية، خاصة في الخمسة أعوام الأخيرة، قدرة السوريين على التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة مختلفة عما كانت عليه سابقًا. تم ذلك بوجود ضوابط حاكمة للحالة السورية وتراجع نفس التمرد على المؤسسات مقارنةً بما بدأت عليه الثورة السورية، التي تدرجت من مطالب الإصلاح إلى إسقاط النظام كمنظومة ودولة، وعودتها للحفاظ على مؤسسات الدولة كطريق أصوب نحو بناء الدولة السورية الجديدة.
برز في هياكل المجتمع السياسي السوري المعارض ضعف أدوات الضبط والالتزام بالمرجعيات القانونية، في ظل ميل الأعضاء إلى التمرد على حساب الاستثمار في الجهود والوقت. وقد أفضت هذه الحالة إلى انقسامات داخل المعارضة والأحزاب السياسية، مما أدى إلى ظهور ظاهرة "عدم قدرة السوريين على العمل الجماعي". هذا الطرح البحثي لم يُعالَج كما يجب بموضوعية، بل كانت معالجته الوحيدة أقرب إلى صيغة أيديولوجية أفقدت السؤال والنص معناه.
استلهمت تلك القوى حركة التمرد باعتبار أدوات الثورة السورية صالحة لكل البنى والمؤسسات، من دون مراعاة ضرورات السياق والمرحلة. وقدمت بذلك الانتظام على التمرد، والالتزام بالقواعد والأطر القانونية والدستورية على حساب نكثها، طالما أن تلك القواعد نفسها تضمن الانتقال والتغيير، بما في ذلك تغيير القواعد نفسها.
ولعل قوى المعارضة السورية بالغت في تبني الديمقراطية كأداة للنضال خلال مرحلة غياب الدولة، وخاصة في أولى نماذج المعارضة، عندما جعلت الانتخاب يتم على فترات لا تتجاوز الثلاثة أشهر. في حين أن الديمقراطية بحاجة إلى إسناد قانوني ومن أهم أدواته وجود سلطة رادعة تمنع تجاوز القانون وتحافظ عليه. إذ إن فهم الحرية من مدخلات القانون أمر جوهري؛ فقد يكون من الصعب فهم الحريات خارج إطار القانون. كذلك، فإن عدم القدرة على تطبيق القانون يؤدي إلى حالة من الفوضى. وقد كانت كيانات المعارضة أقرب إلى الفوضى منها إلى الانتظام والتنظيم، خاصة تلك التي تشهد انتخابات حرة. بينما أثبتت التجربة أن البنى التي غابت عنها الانتخابات كانت أكثر نجاحًا واستقرارًا.
ومن أكبر التحديات التي واجهت هذه الأجسام السياسية استحضار مبررات وأسباب الثورة إلى داخل بنيتها، بالرغم من أن حالة تشكّلها ووجودها وسلوكها مختلفة جذريًا عن حالة نظام الأسد. فقد كان نظام الأسد يمنع أي حالة انتخاب وقبول ورفض وحريات عامة، كما كانت تغيب عن أجهزته المتطلبات الحوكمية التي تتطلب حدًا أدنى من الديمقراطية. وعلى النقيض، حضرت الديمقراطية في بعض أجسام المعارضة.
لذا، من المهم التفريق بين حالة الانتخابات الصورية التي كانت غالبًا مشهدًا سياسيًا تتبناه أجسام المعارضة السورية التقليدية، وبين تلك الانتخابات المقبولة التي تتوفر بها معايير التوافق والتوازن كما هو الحال في العديد من الأجسام المدنية والنقابية السورية.
في النموذج الشكلي، جعلت المعارضة التقليدية "الديمقراطية" أداة مفرغة من سياقها ومحتواها، قابلة للاستثمار فقط لإرضاء إدارة الرأي العام المتعطش لنموذج ديمقراطي. بينما، وعلى الرغم من تحقيق النموذج المدني لمعايير الانتخابات الحقيقية، إلا أنه لم يكن كافيًا لتحقيق الاستدامة. مما أدى إلى اندثار بعض الأجسام المهمة. وغالبًا ما كانت مؤشرات اندثار الأجسام هي بدء تشكّل أخرى موازية تكون أكثر ضعفًا وتشتتًا وهشاشةً، وتعيد تكرار ذات السيناريو أو حلقة "الفناء الذاتي" في مفاضلة الديمقراطية المتشددة على القانون، أو ما يمكن تسميته "الانقلاب على الصندوق" الذي يعتبر من مفرزات القانون والديمقراطية نفسها.
يشي ذلك بتشكّل سلوك وممارسات يمكن تفسيرها على أنها رفض للسلطة بأي شكل، مع الميل نحو حالة اللا سلطة. وهذا ما يمكن تسميته بـ"عقدة السلطة" أو "عقدة المركز" التي صنعها الأسد في عقول السوريين. جعل ذلك أي سلطة قائمة تبدو وكأنها سلطة الأسد بالضرورة. ومن هنا، جاءت المقارنات المستمرة بالأسد داخل البنى السياسية أو المدنية المختلفة خلال الثورة. وقد تسبب ذلك في عراقيل عديدة أمام تطور التجربة المؤسساتية السورية على حساب مؤسسات الأسد، مما جعل الموازنة بين الديمقراطية والقانون واحدة من أصعب التحديات التي واجهتها المؤسسات السورية خلال فترة الثورة.
كان الميل نحو الديمقراطية المتطرفة ("Radical democracy")، التي لا تعير اهتمامًا للضوابط والقوانين وتضع الحريات الفردية فوق القانون، على حساب الديمقراطية المسؤولة ("Responsible democracy")، التي توازن بين القانون والمصلحة العامة والحريات الفردية، من أبرز التحديات.
انطلاقًا من هذا التفكيك التطبيقي والنظري للواقع المؤسساتي السوري خلال الثورة والواقع الجديد بعد انتصار الثورة السورية، تمثّل دعوة "أحمد الشرع"، قائد العمليات العسكرية في سوريا، للانتقال من حالة الثورة إلى حالة الدولة، إدراكًا جيدًا لتموضع المؤسسات خلال الثورة، ومنهجيات عملها، وميلها لعدم الانضباط، وتشكيل أجسام موازية بناءً على الخلافات المتنوعة. كما ترسم هذه الدعوة شكلاً من أشكال التنازل المطلق عن الأدوات القديمة وتبني أدوات جديدة تجعل منهجيات السلطة الضابطة للمشهد والمصلحة العامة هي السائدة على حساب الانقسامات وعدم الالتزام والاحتكام للدولة والسلطة.
يعني ذلك ضرورة صنع سلطة جديدة قادرة على احتكار العنف ومنع الانقسامات المؤسساتية، وعدم السماح بالانقلاب على المؤسسات أو النظام السياسي الجديد، طالما أنه يحقق معايير الديمقراطية المسؤولة ويضمن الحريات العامة. فالسلطة يجب أن تكون مبنية على عقد اجتماعي، أساسه تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم لصالح الدولة والمصلحة العامة، مع منع البلاد من الدخول في نفق الفوضى نتيجة اضطراب علاقة السلطة بالشعب.
مع ذلك، لا يمكن تحقيق هذه السلطة التي تتبنى عقلية الدولة دون تدرج صحيح وسليم في عملية الانتقال السياسي، وصولاً إلى تحول حقيقي يشارك فيه كافة السوريين. فخلق سلطة من دون تدرج صحيح وشفاف سيؤدي إلى نشوء "سلطة أمنية" مشوهة بدلاً من "سلطة سياسية شرعية" بمعنى ("Legitimate Authority").
بمجرد أن تتشكل السلطة الشرعية بمعناها السيادي والشرعي، أي أنها تحقق التوازن بين سيادة الدولة وشرعية السلطة المستمدة من الشعب السوري، يصبح من الضروري التنازل عن أدوات التمرد السابقة لصالح تعزيز الالتزام والمسؤولية الوطنية، ودعم مؤسسات الدولة الجديدة، والاندماج مع واقع النظام العام، مع احترام سيادة القانون والمؤسسات.
هذا التسليم لا يعني القبول بالأمر الواقع، وإنما دعم التحول السياسي وصولاً إلى تشكّل السلطة السياسية الجديدة بناءً على معايير الانتقال المقبولة لدى الشعب السوري. وبمجرد تحقق هذا الانتقال، تضمن السلطة حرية الناس. فالسلطة التي تضمن الحريات يجب الحفاظ عليها والالتزام بضوابطها، بدلاً من الانقلاب عليها أو إضعافها. لأن نجاحها يعني المضي قدمًا نحو نموذج "الديمقراطية الراسخة" ("Stable Democracy").