الرئيسة \  تقارير  \  سوريا والدعوة للحفاظ على مؤسسات الدولة!

سوريا والدعوة للحفاظ على مؤسسات الدولة!

12.02.2025
د. عدنان سيف



سوريا والدعوة للحفاظ على مؤسسات الدولة!
د. عدنان سيف
الجزيرة
الثلاثاء 11/2/2025
في مشهد درامي لأحد المسلسلات العربية، يمر أحد المواطنين بجوار نقطة أمنية، وبعد تجاوزها يدعوه رجل الأمن أن يعود ثم يقوم باستجوابه، إلى أن يأخذ منه بعض ما لديه، ثم يأتي الضابط المسؤول بعد سماع ارتفاع الأصوات أثناء التجاذب، فيشتكي المواطن إلى الضابط تصرفات رجل الأمن، ولكن دون جدوى حيث أكد الضابط على سلامة تصرفات صاحبه.
هذا المشهد الدرامي يجسد واقع الحال في العلاقة بين مؤسسة من أهم مؤسسات الدولة والمواطنين ودورها في المجتمع، في عهد الدكتاتورية، كما كان عليه الوضع في سوريا.
بالمقابل هناك مشهد آخر لإمام مسجد بعد الثورة يطلب من التجار تخفيض الأسعار رحمة بالمواطنين، لأن النسبة – تقدر بـ30٪- التي كانوا يدفعونها لأجهزة الأمن على الحواجز الأمنية لم تعد تدفع. هكذا كان حال المواطن السوري مع أهم مؤسسة في البلد: المؤسسة الأمنية.
بعد كل ثورة أو تغيير كبير في حكم أي بلد، مثل سوريا اليوم، يحتدم النقاش عن مؤسسات الدولة وضرورة الحفاظ عليها من الاندثار والعبث. ويبرر ذلك بأن هذه المؤسسات هي من مكتسبات الشعب التي يجب حمايتها. من جملة المؤسسات التي عادة ما تذكر، الخدمة المدنية، الشرطة، الصحة، التعليم، وغيرها. ولكن ما حقيقة هذه المؤسسات؟ بل، وما هي "المؤسسة" أصلًا؟
في أفغانستان ما بعد الاحتلال الأميركي في 2003، قامت أميركا وحلفاؤها بتبني برنامج إصلاحي ضخت فيه بلايين الدولارات من أجل الإصلاحات الهيكلية لبناء دولة مستقرة، مبنية على سلطة القانون مع إدارة تكنوقراطية. إلا أن شيئًا من ذلك لم يتحقق
تاريخ غير مشجع
قبل الإجابة عن هذا السؤال، نستعرض بعضًا مما كتبه الباحثون المهتمون في موضوع الإصلاحات المؤسسية في الدول النامية، لعلها تكون مفتاحًا لباقي نقاشنا هنا.
في كتابه عن الإصلاح المؤسسي "محدودية الإصلاح المؤسسي في التنمية"، يستعرض البروفيسور مات أندروز تجربة أكثر من 140 دولة خضعت لشروط البنك الدولي للقيام بإصلاحات مؤسسية ما بين الفترة 1999 و2013، ويستنتج أنه رغم الحديث عن ذلك، والالتزام باستحداث تغييرات جذرية في مؤسسات كثير من الدول، فإن النجاح كان ضئيلًا، وفي بعض جوانبه لم يصل إلى نسبة 40٪ من المنشود على أحسن حال، مما يثير التساؤل لدى كثير من الباحثين والمهتمين: لماذا تبدو التغييرات المؤسسية صعبة المنال؟
للتوضيح، يذكر أندروز تجارب بعض الدول، منها ما هو في أسفل قوائم مؤشرات التنمية – مثل أفغانستان بعد 2003- أو الأرجنتين التي تعتبر متوسطة الدخل، خلال الفترة من 1989 إلى 2008.
ففي أفغانستان ما بعد الاحتلال الأميركي في 2003، قامت أميركا وحلفاؤها بتبني برنامج إصلاحي ضخت فيه بلايين الدولارات من أجل الإصلاحات الهيكلية لبناء دولة مستقرة، مبنية على سلطة القانون مع إدارة تكنوقراطية. إلا أن شيئًا من ذلك لم يتحقق.
وكان، كما أصبح معلومًا فيما بعد، انهيار تلك الدولة وتبخرها كأن شيئًا لم يكن. بالنسبة للأرجنتين، فقد كان الدافع للإصلاحات المؤسسية فيها هو التدهور الاقتصادي وارتفاع الديون، حيث عقد الرئيس في حينها كارلوس منعم، اتفاقًا مع البنك الدولي للحصول على قروض، مع الالتزام بإصلاحات هيكلية، وفعلًا تم القيام بسن القوانين اللازمة وإجراءات أخرى مثل خصخصة جزء كبير من القطاع العام، وغيرها.
وقد أدت تلك الإجراءات لنتائج إيجابية في أول الأمر حيث تدفق الاستثمار الخارجي وبدأ ينتج عنه مؤشرات إيجابية، إلا أن الأرجنتين، ومع حلول 1999 بدأ الوضع فيها يتفكك، مما اضطر الرئيس حينها – نستور كيرشنر إلى الاستنجاد مرة أخرى بالبنك الدولي في عام 2003.
وبالرغم من تدخل البنك والسير في إصلاحات جديدة متفق عليها، فإن ذلك لم يعمر طويلًا إذ تكرر نفس التدهور مع حلول عام 2006.
دول أخرى يستشهد بها مات أندروز، مثل بنين، وجورجيا والنيجر، حيث كانت الإصلاحات إما مشروطة خارجيًا أو مستحدثة داخليًا، ولكن معظمها لم يحقق النجاح المنشود.
ويعزو ذلك إلى عاملين هامين:
أولًا، معظم "وصفة" الإصلاحات التي يتم التفاوض عليها مع الجهات الخارجية المشترطة – مثل البنك الدولي- عادة ما تكون غير مناسبة لوضع البلد، وإنما تلبي شروط المانح، التي تشمل: نظام حكم صديق للسوق، حوكمة منضبطة، وإجراءات حكومية حديثة ورسمية.
ثانيًا، يتم تبني الإصلاحات من قبل حكومات مضطرة لغرض بعث "الإشارات الإيجابية" للجهات الخارجية من أجل الحصول على الدعم، على المدى القصير. أما على المدى الطويل فقد تهدد تلك الإصلاحات مصالحهم، ولذا لا يستمرون بها.
السمة الرئيسة لمثل هذه المنظمات هي العضوية لمجموعة من الأشخاص الذين يعملون معًا لتحقيق هذا المنتج؛ تشمل الأمثلة: البلديات، والمصانع، ومنظمات المجتمع المدني، والمدارس والمستشفيات وغيرها
ما المقصود بالمؤسسة؟ أو المؤسسة: عناصرها وعامل التغيير فيها
هذا النوع من الإصلاحات، بالنسبة للدول الخارجة من ثورة وصراع منها بالذات، يأتي – وكما أشرنا في مقال سابق- في إطار وصفة عامة تبناها المجتمع الدولي الغربي ضمن ما سمي "بإجماع واشنطن" وبناء الدولة الليبرالية.
ولكن، عودة على السؤال الجوهري الذي طرحناه في البداية، ما المقصود بـ "المؤسسة"؟ يذكر علماء الاجتماع والاقتصاد والقانون، أمثال مات أندروز، وريتشارد سكوت، ورويستن جريين وود، أن المؤسسة هي: "سلوك اجتماعي مسلم به ومتكرر، ومدعوم بأنظمة معيارية وفهم إدراكي يعطي معنى للتبادل الاجتماعي، وبالتالي يمكن إعادة إنتاج النظام الاجتماعي ذاتيًا". بتعبير آخر، يقترح سكوت بأن "المؤسسة تتألف من ثلاثة عناصر:
تنظيمية [قوانين ولوائح].
معيارية [أعراف ومعايير سلوك].
ثقافية- معرفية [إطارات ونماذج عقلية/ذهنية]".
الذي يجب أن يثير الانتباه هنا، هو الفرق بين تعريف المؤسسة والمنظمة، حيث يحصل الإرباك والتداخل بين المعلقين، فالمنظمة بالمقارنة، هي إجراء مخطط ومنسق وهادف من جانب البشر لبناء أو تجميع منتج ملموس أو غير ملموس مشترك.
وتبقى السمة الرئيسة لمثل هذه المنظمات هي العضوية لمجموعة من الأشخاص الذين يعملون معًا لتحقيق هذا المنتج؛ تشمل الأمثلة: البلديات، والمصانع، ومنظمات المجتمع المدني، والمدارس والمستشفيات وغيرها. وهنا يمكن القول إن قصد من يقول بوجوب الحفاظ على مؤسسات الدولة، لربما يقصد شقها التنظيمي. أما الجانب المؤسسي ففي كثير من الحالات يجب أن يعاد النظر فيه، بل ربما يجب أن يهدم ثم يعاد بناؤه.
لنبدأ أولًا من القمة، على مستوى الحكم، ففي بحث أجراه كاتب المقال عن الحالة التونسية بعد الثورة، كان من اللافت والواضح التغيير الذي حدث على المستوى السياسي، إذ إن ثورة الياسمين لم تغير أفراد الحكومة التي كانت قائمة قبل الثورة فقط، وإنما "منطق" النظام أو عقيدة الحكم فيه، إذ كان التحول من منطق الدولة الدكتاتورية، المتسم بـ "خدمة الحاكم"، حيث تكون علاقة الناس والمنظمات والمؤسسات فيه مؤطرة بالخوف، وتوخي السلامة، والمصلحة الشخصية، كان التحول إلى منطق الدولة الديمقراطية، والتي تتسم بأهمية المواطنة والمشاركة الديمقراطية والفخر بالانتماء. كان واضحًا أن كل القوى الثورية والسياسية عملت على بناء نظام ديمقراطي تعددي من أول أيام الثورة.
إذا ما قارنا حال تونس، بالوضع الذي لا يزال يتشكل في سوريا، فالواضح فيه هو مكافحة الظلم الذي تمثل بنظام الأسد الدكتاتوري، حيث كان الكفاح عسكريًا نظرًا لبشاعة النظام، سوى أن معالم النظام الجديد لم تتضح بعد، حتى نجزم أنه قد تم الانتقال من منطق الدولة الدكتاتورية إلى الديمقراطية أو الدينية.
الذي يهمنا هنا، عند الإشارة إلى منطق الدولة، هو أن "الروح" التي تسري في كل مفاصلها بعد ذلك تكون تبعا لذلك المنطق. فإذا كان الوزير همه الأول هو "السلامة"، و"الفائدة الشخصية" من خلال خدمة "الديكتاتور"، فذلك غالبًا ما سينسحب على معظم هياكل الدولة ومؤسساتها، وسيكون العامل الوحيد الذي يألفه من يعمل في نظام من هذا النوع هو إرضاء "الزعيم"، وبعد ذلك يمكن له أن يعمل ما يحلو له. فالشرطي الذي يقف على حاجز في منطقة ما، سيقوم بإذلال المواطن وسحبه إذا تطلب الأمر إلى المخفر ثم السجن.
أما إن كان المنطق هو "المواطنة" و "المشاركة الديمقراطية" فسيكون الأمر معكوسًا تمامًا، إذ ستصبح البوصلة التي ترشد الوزير، أولًا، هي كسب رضا المواطن، لأنه من خلال ذلك فقط يمكن أن يخدم "الزعيم" الذي سيخضع لانتخابات دورية ويحتاج إلى رضا المواطنين، وكذلك الشرطي، فلن يتعدى على المواطن بغير حق، لأن ذلك سيتسبب له في المحاسبة من قبل مرؤوسيه، حيث إن الجميع يسعى لإرضاء المواطن الذي بيده سحب الثقة من الحكومة.
هذا من الناحية النظرية التقريبية طبعًا، والذي ذكرناه هو لتقريب مفهوم المنطق، أو ربما بوصف أدق "العقيدة" التي تسود في النظام الحاكم، وتسري في أجزائه.
ومن هنا نأتي للحديث عن المؤسسات والتعريف الذي ذكرناه ابتداء. فالمؤسسة، كما أجمع العلماء والباحثون هي "طريقة حياة"، وهي أسلوب الحياة المعتاد والذي لا يستدعي تفسيرًا أو نقاشًا.
فعندما تسأل: "لماذا يطلب الشرطي الرشوة؟" يكون الرد: "لأن الأمور هكذا، فالكل يرتشي". وعندما تسأل: "لماذا مدينتكم نظيفة؟"، يأتي الرد: "لأننا لا نطيق التلوث". هذه هي المؤسساتية التي يشير إليها العلماء، وليست منظمة الشرطة التي تقهر المواطن، أو منظمة البلدية التي لا تهتم بنظافة المدينة ومتابعة ذلك.
أثناء دراستي للحالة التونسية خلال الفترة 2011-2018، كان الوضع جليًا بأن تحولًا كبيرًا قد طرأ على المستوى السياسي – من منطق الدولة الدكتاتورية إلى منطق الدولة الديمقراطية، إلا أنه كان واضحًا أيضًا أن الخدمة المدنية ومؤسسات أخرى كان لايزال يعشعش فيها منطق الدولة الدكتاتورية، ولعل هذا يبرر انسجامها – بل تلاحمها – مع المنحى الدكتاتوري الذي طرأ على المستوى السياسي في تونس منذ 2021.
وهنا نعود إلى عنوان هذا المقال: عن أي مؤسسات نتحدث؟ فالمؤسسة، كما أسلفنا، ترتكز على النظم واللوائح، والعادات والممارسات، ثم الأطر والنماذج المفهومية والعقلية.
هذه الركائز تترسخ وتتغير بترسخ وتغير أربعة عوامل: (1) منطق المؤسسة؛ (2) مجموع أعضاء المؤسسة؛ (3) حدود المؤسسة؛ (4) الترتيبات العلائقية بين المؤسسة وبيئتها. ولكي نقرب فهم المرتكزات والعوامل المذكورة، دعونا ننزل ذلك على مؤسسة من أهم المؤسسات، وهي مؤسسة الشرطة.
مع زوال الديكتاتور الذي كان باسمه يعمل هؤلاء الشرطة هل يمكن لمؤسسة الشرطة القائمة ذاتها أن تتقمص عقيدة ومنطقًا جديدًا بين عشية وضحاها يسود فيها منطق "خدمة المواطن والحفاظ على سلامته وأمنه؟" كل البحوث تشير إلى صعوبة ذلك
منطق مؤسسة الشرطة
من الواضح جدًا في سوريا، وكما شاهدنا من خلال العديد من الأمثلة التي أبرزها الإعلام، أن العقيدة، أو المنطق السائد قبل الثورة الذي كان لمؤسسة الشرطة هو خدمة النظام، وليس المواطن.
كان فرد الشرطة فيها يعمل على ابتزاز المواطن وجمع الإتاوات من الناس والتجار. فأيًا كان موقع ذلك الشرطي، أكان في نقطة أمنية، أو على بوابة مطار دمشق أو أي مصلحة أخرى، كانت علاقة المواطن به هو الخوف، ومحاولة تجنب الاحتكاك به ما أمكن.
فمع زوال الديكتاتور الذي كان باسمه يعمل هؤلاء الشرطة هل يمكن لمؤسسة الشرطة القائمة ذاتها أن تتقمص عقيدة ومنطقًا جديدًا بين عشية وضحاها يسود فيها منطق "خدمة المواطن والحفاظ على سلامته وأمنه؟"
كل البحوث تشير إلى صعوبة ذلك. إذإن ركائز أي مؤسسة، وكما أسلفنا تتكون من اللوائح والقوانين، والعادات والتقاليد، وكذلك الأطر الفكرية والمعتقدات.
فلو أن مؤسسة الشرطة أبقت على مكوناتها وقامت الحكومة بسن قوانين ولوائح جديدة، فكيف يمكن تغيير عادات وتقاليد أفرادها المعتقين، والأصعب هو كيف يكون تغيير الصورة الذهنية لديهم حول دور الشرطي؟
في مشهد لإجراءات تخرج فوج جديد من الملتحقين بمؤسسة الشرطة الجديدة في كلية الشرطة بدمشق، كان قائد التدريب يؤكد على أفراد الشرطة الجدد بأن دورهم أولًا هو "الحفاظ على الأمن وحماية الناس ورفع المظالم". فكان من الواضح أن روحًا جديدة يتم نشرها بين أفراد الشرطة الجدد، وإن كان بعضهم من أفراد الشرطة المنحلة. وهنا يأتي دور العوامل الأخرى.
من شروط التغيير في المؤسسات أن يتم تغيير كبير في عضويتها، وبالذات في قيادتها، ممن يحملون التوجه الجديد ويؤمنون بمنطقها الجديد
أعضاء المؤسسة
يعتبر الأفراد المكونون للمؤسسة حملة منطقها وعقيدتها. وأن أي تغيير داخلي يعتمد على درجة الالتزام بالعادات والتقاليد المطلوبة، ويحمل تصورًا مناسبًا عن دور مؤسسة الشرطة في المجتمع: تصورًا يكرس منطق "الشرطة في خدمة الشعب" وليس النظام؟
من تجارب الكاتب الشخصية، عند وصوله لأحد مطارات الدول التي صار فيها تغيير "سلمي" أثناء الربيع العربي، وأثناء تفتيش الحقائب، بعد أن رأى الضابط المسؤول بعض الهدايا وهي عبارة عن شوكولاتة، ما كان منه إلا أن صرح بأنه يحب ذاك النوع من الشوكولاتة، وأقبل زميله ليقول نفس الشيء، ثم ثالث. وكان من الواضح أنهم يريدون "رشوة"، عندها قلت لهم هذه هدايا معدة بأسماء أصدقاء، وأنا زائر في بلدكم. دون جدوى من محاولاتي، أخذوا ما يريدون وذهبوا.
نفس المطار كان يشكو من سوء المعاملة فيه كثير من المسافرين، ونشرت كثير من قصص المعاناة في ذلك المطار على وسائل التواصل. اللطيف في الأمر أن من شعارات الثورة تلك هو الحفاظ على المؤسسات. لكن المواطن العادي، صاحب التوقعات العالية من الثورة كان يجد نفس المعاملات من قبل أفراد المؤسسات التي يتعامل معها في البلد – قبل وبعد الثورة. فلا غرابة إذًا لعدم تحرك الشارع عندما أطيح بتلك التجربة "الثورية".
ولذا فمن شروط التغيير في المؤسسات أن يتم تغيير كبير في عضويتها، وبالذات في قيادتها، ممن يحملون التوجه الجديد ويؤمنون بمنطقها الجديد. وإلا، وكما يقال: "تعود حليمة لعادتها القديمة". قصة أخرى ترويها إحدى السوريات على وسائل التواصل من حمص. تقول إن رجال "الهيئة" – يعني رجال الأمن الجدد- دقوا الباب وطلبوا تفتيش المنزل بحثًا عن السلاح المنفلت، ثم دخلوا البيت وفتشوا ولم يجدوا شيئًا، وبعدها سألوا صاحبة البيت هل هناك أي سلاح تعرف عنه، فردت أنه لو كان هناك سلاح لباعته واشترت به الدواء الذي تحتاجه.
عندها ترك رجال "الهيئة" المنزل، وما هي إلا فترة قصيرة حتى عادوا محملين بالدواء الذي كانت تحتاجه صاحبة البيت.
ففي مثل هذه التصرفات، من قبل أعضاء المؤسسة الأمنية الجديدة، تصبح الشرطة في خدمة الشعب. عندها يمكن لأي قوانين ولوائح جديدة أن تعضد بعادات وممارسات مساعدة من قبل أعضاء المؤسسة الجدد.
اتساع حدود مؤسسة الشرطة مثلًا، يكون من خلال تكوين تحالف أمني واسع تشارك فيه قطاعات مختلفة من خلال مجالس تشاركية تهتم بـ" خدمة المواطن والحفاظ على سلامته وأمنه" على مستويات مختلفة البلدية، المدينة، المحافظة، والبلد عمومًا
حدود المؤسسة
لكل مؤسسة حدود، لكنها غير حدود المنظمة. فحدود المؤسسة مرتبطة بمنطقها، وهي بالنسبة لقوات الأمن – كالشرطة – "الحفاظ على الأمن وحماية الناس ورفع المظالم". وبالتالي فمسؤولية "حفظ الأمن " يشترك فيها قطاعات واسعة؛ المواطن عليه مسؤولية (الالتزام بالنظام والتبليغ بالمخالفات)، ومؤسسة التعليم عليها مسؤولية (نشر الوعي بضرورة المحافظة على الأمن)، والتجار عليهم مسؤولية، وأئمة المساجد عليهم مسؤولية، والبلديات تشارك بالمسؤولية، وهكذا. فكلما قام طرف من هذه الأطراف بمسؤوليته قل العبء على أجهزة الأمن وتعزز الأمن في المجتمع.
إذًا، فاتساع حدود مؤسسة الشرطة مثلًا، يكون من خلال تكوين تحالف أمني واسع تشارك فيه قطاعات مختلفة من خلال مجالس تشاركية تهتم بـ" خدمة المواطن والحفاظ على سلامته وأمنه" على مستويات مختلفة: البلدية، المدينة، المحافظة، والبلد عمومًا.
هذا التشارك الموسع يعزز الالتزام بالقانون والالتزام بالعادات والممارسات المطلوبة ويولد ويكرس فهمًا عميقًا لدور المؤسسات الأمنية في " الحفاظ على الأمن وحماية الناس ورفع المظالم". وكلما بقيت "المنظمة" الأمنية وحدها دون إحاطتها بتحالف مجتمعي، كانت أكثر عرضة للاختلالات في منطقها، وممارساتها وتصورها لدورها.
الترتيبات العلائقية
لكل مؤسسة بيئتها، وقد أشرنا أعلاه بالنسبة لحدود المؤسسة وما تشمله، وتتكون بيئة مؤسسة الشرطة – مثالنا هنا- من أصحاب المصالح لديها. فمن أصحاب المصالح من يكون شديد الاهتمام بالمؤسسة وعالي التأثير عليها، مثل وزارة الداخلية، وربما وزارة الدفاع؛ ومن أصحاب المصالح من يكون عالي التأثير لو أراد ذلك ولكنه غير معني بها، مثل وزارة الصحة؛ ومنها من قد يكون قليل التأثير عليها ولكنه مهتم بها، مثل بلدية المدينة، ومن أصحاب المصالح من قد يكون قليل التأثير عليها وغير معني بها.
فمن المهم جدًا أن تكون الترتيبات العلائقية بين مؤسسة الشرطة وأصحاب المصالح المؤثرين عليها والمهتمين بها حية ومنظمة ومستدامة. فقوة هذه الترتيبات العلائقية ضمن حدود المؤسسة الواسعة تجعل مهمة "الحفاظ على الأمن وحماية الناس ورفع المظالم" ليست ممكنة وحسب، وإنما وفق منطق المؤسسة الذي تعارف عليه المجتمع وتعزز الصورة الذهنية المطلوبة لرجل الأمن؛ رجل الأمن الذي يعمل المواطن على التلاحم معه لا الفرار منه وتحاشيه.
من التجارب الناجحة في التغيير المؤسسي
تجربتان حديثتان للتغيير المؤسسي في مؤسسة الشرطة البريطانية، إحداهما حققت نجاحًا والأخرى إخفاقًا، ربما تفيد الإشارة إليهما هنا لمزيد من تقريب المفهوم.
التجربة الناجحة نسبيًا تخص مؤسسة الشرطة في أيرلندا الشمالية، والتجربة التي لم تلقَ نفس النجاح، وهي محاولة التغيير في مؤسسة شرطة لندن. (مؤسسات الشرطة في بريطانيا غير موحدة، ولكل مقاطعة مؤسستها المستقلة). بالنسبة لأيرلندا الشمالية، كانت تشكل مؤسسة الشرطة فيها جزءًا من نظام الدولة التي ثار عليها الأيرلنديون الكاثوليكيون لكونها طائفية ولا تعبر عن اهتماماتهم، بل وتمارس الظلم والتسلط عليهم.
ومن ضمن اتفاقية سلام "الجمعة العظيمة" بين بريطانيا والجيش الجمهوري الأيرلندي، برعاية أميركية وبمشاركة لجمهورية أيرلندا والاتحاد الأوروبي، من ضمنها – بل أساسها فيما يخص مؤسسة الشرطة- أوصت مفوضية باتن بـ: تغيير منطق المؤسسة من شرطة لخدمة التاج البريطاني إلى شرطة لشعب أيرلندا الشمالية، وأن كل المجندين الجدد يكون منهم نسبة 50٪ من السكان الكاثوليك، وأن تكون حوكمة المؤسسة تشاركية من خلال مجالس على مستويات مختلفة تمثل كل أصحاب المصلحة في المجتمع. وتبدو نتائج التغيير مشجعة، بعد مرور 15 سنة على تطبيقها.
أما مؤسسة الشرطة في لندن، وبالرغم من كل التحقيقات التي نتج عنها توصيات بتغييرات جذرية لمكافحة العنصرية والفساد، وكان آخر هذه التحقيقات ما قامت به البارونه كيسي.
بالرغم من تشخيص المشاكل البنيوية والمتجذرة في المؤسسة، والحاجة إلى تغييرات جذرية فيها تعادل ما حصل في مؤسسة الشرطة في أيرلندا الشمالية، فإن التوصيات الفعلية لم تمس منطق ولا عضوية المؤسسة، ولا حتى ترتيباتها العلائقية. ولذلك ما زالت مؤسسة الشرطة في لندن تعاني من نفس التحديات.
قد يكون التغيير المؤسسي على مستوى "المنطق"، و"العضوية" و"الحدود" و"الترتيبات العلائقية" أليمًا في البداية، إلا أن فائدته طويلة الأمد. بمثل هذ التغيير يمكن بناء مؤسسات أمنية وصحية وتعليمية وفق قوانين ولوائح تضبطها قوة قضائية رادعة
إصلاح المؤسسات قد يحتاج إلى عملية جراحية
خلاصة القول هنا، فإن عملية إصلاح المؤسسات المحورية في أي مجتمع يمر بتغيير جذري، مثل سوريا اليوم، لا بد أن تعالج جوانب جوهرية في تلك المؤسسات. وأن رفع شعار "المحافظة على مؤسسات الدولة" قد يبدو جذابًا، إذ يوحي بالاستمرارية وتحجيم الاضطراب، إلا أن ذلك إنما يجعل التحول شكليًا في أحسن الظروف، ولا يلبي تطلعات المجتمع الثائر إلى روح وممارسات جديدة تحقق الأهداف التي ضحى في سبيلها المجتمع كثيرًا.
نعم، قد يكون التغيير المؤسسي على مستوى "المنطق"، و"العضوية" و"الحدود" و"الترتيبات العلائقية" أليما في البداية، إلا أن فائدته طويلة الأمد. بمثل هذ التغيير يمكن بناء مؤسسات أمنية وصحية وتعليمية وفق قوانين ولوائح تضبطها قوة قضائية رادعة، وممارسات وسلوك يضبطهما أصحاب مصالح ومجتمع واعٍ، وأطر وتصورات ذهنية يضبطهما ضمير حي. ثم إن عمليات التغيير الكبرى، من المهم ألا تكون انتقائية، فيحصل التغيير في مؤسسة دون أخرى، فكل المؤسسات في نهاية الأمر تتشابك مع بعضها وتؤثر على بعضها البعض، وإلا ستصاب الدولة بما يشبه الشلل والإعاقة.
ولك أن تتخيل – مثلًا- المؤسسات الأمنية التي تحتاج أن تعيش منطقًا جديدًا يعتمد على أعضاء يتمتعون بروح "الحفاظ على الأمن وحماية الناس ورفع المظالم"، ولكن مؤسسات التعليم باقية على عهدها القديم تنتج أفرادًا وفق مناهج قديمة لا تعبر عن تلك الروح الجديدة؛ فكيف سيكون التكامل؟
إن المؤسسات التي يحتاج إليها مجتمع يتوق الى الأمن والرفاه والازدهار، كما هو واضح في الحالة السورية اليوم، هي مؤسسات تنتج له أفضل الخدمات؛ فهي تجعله آمنًا في سربه، معافى في بدنه، إذا اضطر للتعامل مع أجهزة الأمن تجعله هو محور الاهتمام، وإذا أراد أن يؤسس شركة تسعى المؤسسة المعنية أن تيسر له ذلك بأسرع وقت وأقل تكلفة، وإذا جاء مستثمر أجنبي يجد كل المساعدات التي تمكنه من تحقيق هدفه دون تعرضه للمماطلة وأمواله للنهب والضياع. مؤسسات كهذه، في بلد كسوريا اليوم لا شك تحتاج لأكثر من مجرد عملية ترميم، تحتاج إلى إعادة بناء وفق مرتكزات تعبر عن روح الثورة، لتكون بيئة مؤسساتية حاضنة لطموحات الشعب وتطلعاته.