سورية في البراغماتية الإيطالية
19.01.2025
بشير البكر
سورية في البراغماتية الإيطالية
بشير البكر
العربي الجديد
السبت 18/1/2025
قال وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، في زيارته دمشق يوم العاشر من يناير/ كانون الثاني الحالي، كلاماً مختلفاً، لم يسبق أن تردّد على لسان زائر غربي للعاصمة السورية بعد التحوّل الجديد. تحدّث وكأنه يرد على تصريحاتٍ صدرت عن وزير خارجية فرنسا ووزيرة خارجية ألمانيا في زيارتهما المشتركة سورية، والتي حملت قدراً كبيراً من الشروط والتعليمات والتوجيهات، لما يجب أن يفعله، ولا يفعله، قادة سورية الجدد، الذين أطاحوا بأحد أكثر الأنظمة وحشية. وبدلاً من أن يبادرا إلى دعم وتشجيع بلد مدمّر وشعبٍ منكوب، أعطيا لنفسيهما الحقّ في استخدام خطاب استعلائي، لا يصلح للتعامل بين الدول، بل صار من الماضي، وانتهى مفعوله مع عهود الوصاية على خيارات الشعوب التي خسرت فرنسا من جرّائها استثمارها التاريخي في قارّة إفريقيا، الذي دام عدة قرون.
تحدّث الوزير الإيطالي بلغة العارف جيداً بتاريخ منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي حضرت فيه سورية، على الدوام، في الثقافة والفكر والتجارة والحروب وتبادل المصالح والمعارف. واعتبر الوزير سورية دولة غنية بالتاريخ والروابط مع أوروبا. ولم يكن لهذه النظرة أن تصدُر إلا من موقع إدراك أن البيئة المتوسّطية غير مستقرّة في الاتجاهين، بسبب غياب آليات للتعاون والتنسيق، ولا يمكن لذلك أن يجري إلا على أساس من الندية والتعاون القائم على الشراكة بين الضفتين، وهو المبدأ ذاته الذي كان هدف الاتحاد الأوروبي في مرحلة التسعينيات، لإقامة تكامل متوسّطي بنّاء، يحترم خصوصيات الدول في الضفة الجنوبية، ومساعدتها على تجاوز التحدّيات الاقتصادية والتنموية، بما يخدم الاستقرار السياسي، والحوكمة الرشيدة، وبناء تجارب محلية، تحول دون حصول حروبٍ وموجات هجرة داخلية وخارجية. ويجدُر هنا التذكير بمبادرة برشلونة لعام 1995، التي وضعت أسساً لعلاقات إقليمية جديدة، تمثل نقطة تحول في العلاقات الأوروبية المتوسطية، وهدفت لبناء علاقات جوار جغرافي بكل ما يحمله من أبعادٍ ثقافية وأمنية واقتصادية، وكانت تطمح لتأسيس منطقة مشتركة للسلام والاستقرار، عبر تعزيز حوار في حوض البحر المتوسط، يراعي الخصوصيات الجغرافية والتاريخية والثقافية بين الضفتين.
اختار الوزير الإيطالي خطاباً مغايراً للذي صدر عن نظيره الفرنسي ونظيرته الألمانية، من حيث الشكل والمضمون، فهو لم يتحدّث بفوقية أو يضع إملاءاتٍ وشروطاً مسبقة، وبرهن من خلال أسلوبه ولغته عن تفهّم عميق للحالة السورية الصعبة، وما تمليه الملفّات المشتركة من ضرورات لمساعدة هذا البلد المدمّر، كي يتمكّن من بناء مؤسّسات الدولة، التي تنهض بواجباتها المحلية والخارجية، وبدا صارماً في مسألتين مهمتين. الأولى، رفع العقوبات التي جرى فرضها على نظام الأسد البائد، والتي سقطت، منطقياً، مع سقوطه، واعتبر بقاءها عائقاً لمواجهة المصاعب الكثيرة. والثانية، بدء مسار فوري للعلاقات الثنائية، وقد وجّه دعوة لوزير الخارجية السوري لزيارة إيطاليا، من أجل إطلاق ورشة عمل إيطالية سورية مشتركة، على أساس تعهد روما بأن تكون جسراً بين سورية ودول الاتحاد الأوروبي.
عندما يقول الوزير الإيطالي إن بلاده جاهزة للقيام بدور الوسيط بين أوروبا وسورية، وتشجع مرحلة جديدة تتسم بالإصلاح، يترك وقعاً مختلفاً عن تصريحات الوزيرة الألمانية التي صرّحت، في أثناء الزيارة، بأن بلادها لن تقدّم الأموال لما وصفتها بـ"المجموعات الإسلامية". ويبرُز هنا نهجان مختلفان: الأول منفتح يتّجه إلى التعاون المتكافئ، والثاني ينحو إلى فرض الوصاية، في محاولة لاستثمار الأوضاع الصعبة الناجمة عن الدمار الكبير الذي خلّفه حكم عائلة الأسد المديد، من أجل فرض أجنداتٍ غرضها إضعاف سورية، ومصادرة قرارها المستقل، وتحويلها إلى دولة تابعة، تتلقّى التعليمات من بعض الدول الغربية.