الرئيسة \  تقارير  \  سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط .. دوافع التغيير ومحركاته

سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط .. دوافع التغيير ومحركاته

27.03.2023
عماد عنان

سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط .. دوافع التغيير ومحركاته
عماد عنان
نون بوست
الاحد 26-3-2023
تحيا العلاقات الصينية العربية في الآونة الأخيرة واحدة من أكثر محطاتها التاريخية تناغمًا وتعاونًا وتنسيقًا على المستويات كافة، بعدما فرضت بكين نفسها كلاعب محوري وأحد المؤثرين في تشكيل وتحريك بوصلة المجتمع الدولي لما تتمتع به من نفوذ اقتصادي وعسكري أهلها لأداء هذا الدور.
وبعدما كانت معظم الأخبار التي تتطرق إلى الملف الصيني تنحصر في البعد الاقتصادي فقط، تغير الوضع اليوم بشكل كبير، فتصدرت الوساطة الصينية في ملف التقارب السعودي الإيراني شاشات الفضائيات ومنصات المراكز البحثية، ومن بعدها الدور الدبلوماسي الذي تبذله مؤخرًا لتخفيف التوتر في أوكرانيا على هامش الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل أيام إلى موسكو.
فيما زخرت قائمة السوابق بالعديد من المؤشرات منها التأثير اللافت في سوريا واليمن ومصر والخليج، فضلًا عن الانخراط في القضية الفلسطينية بوجه خاص والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام.
نقلة نوعية في توجهات بكين إزاء الملفات السياسية ذات التأثير القوي على الخريطة الدولية، مستندة في ذلك إلى الإستراتيجية الدبلوماسية كأداة ناجعة لتعزيز حضورها على المستوى السياسي بعد سنوات من الجفاء والانزواء لصالح الطموح الاقتصادي والرغبة في الهيمنة على قاطرة الاقتصاد العالمي.
وانتقلت عدوى تلك النقلة المحورية في السياسة الخارجية الصينية إلى منطقة الشرق الأوسط، التي تحتل مكانة كبيرة في قائمة أولويات بكين، لكنها ليست حكرًا على الأولوية الاقتصادية فحسب بحكم ثروات النفط والطاقة التي يتمتع بها هذا الإقليم، متجاوزة ذلك إلى البعد السياسي والثقافي والاجتماعي.
هذا التحول المفاجئ في التوجهات الصينية الخارجية استند بطبيعة الحال إلى التطورات الجيوسياسية التي شهدتها الخريطة العالمية التي أعادت تموضعات الكثير من القوى الدولية، خاصة بعدما نفضت الولايات المتحدة أيديها مرحليًا عن تلك البقعة السحرية من العالم (الشرق الأوسط والخليج)، وما أفرزته جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية من تداعيات، لتجد بكين الفرصة مواتية تمامًا لتعويض الدور الأمريكي، وهي الفرصة التي تشبث بها الصينيون بشكل جيد واستطاعوا إحراز أهداف عدة في شباك الأمريكان رغم أن المباراة لا تزال طويلة.
مرتكزات السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط
تستند الصين في سياستها الخارجية بصفة عامة إلى خمسة مبادئ كانت قد أقرتها عام 1954 مع الهند وميانمار، وتعد المرتكز الأساسي لعلاقات بكين بشتى دول العالم، وهي: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي وعدم الاعتداء المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية بصورة متبادلة والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.
أما على المستوى العربي والشرق أوسطي فتحكم العلاقة مع الصين عدة إجراءات سياسية وقانونية رسمت بشكل واضح ملامح تلك العلاقة ومستوياتها وأبرز خطوطها، أبرزها: "خطة الرؤية والإجراءات" التي تضمنت مبادرة "الحزام والطريق" عام 2015 و"وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية" الموقعة عام 2016، ثم "الإعلان التنفيذي الصيني العربي" عام 2018.
وتتلخص مبادئ بكين في التعامل مع بلدان الشرق الأوسط في ضوء المبادرات الثلاثة السابقة في عدة نقاط: أولها: الابتعاد عن الاصطفاف في التعاطي مع الأزمات والميل نحو عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية بما يجنبها مغبة الوقوع في مستنقع الانحيازات الذي قد يفقدها الكثير من المكاسب.
تحرص الصين على تعزيز التعاون مع الدول العربية والشرق أوسطية وفقًا لمبدأ المنفعة المتبادلة، فلديها حزمة مكتسبات تود تحقيقها من تلك البلدان التي تمثل سوقًا كبيرًا وأحد المسارات المهمة لنجاح مشروع "الحزام والطريق"
ثانيًا: برغماتية التعامل مع البلدان، فلا يهم الجانب الصيني هوية ولا أيديولوجية النظام الذي يحكم في أي بلد، ومن ثم ليس لديه أي مشكلة في فتح قنوات اتصال وتعزيز التعاون مع الجميع دون استثناء، استنادًا إلى الشعارات التي ترفعها الصين على أولوية سياستها الخارجية التي تدعم الديمقراطية واحترام إرادة الشعوب.
ثالثًا: دعم استقرار دول الشرق الأوسط، خاصة تلك التي يوجد بها مصالح صينية كبيرة، فأي هزة محتملة لتلك البلدان قد تعرض مصالحها للخطر، مثلما حدث في ليبيا حين لم تعترض بكين على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1970، الأمر الذي فتح الباب أمام التدخل الغربي، ما ساهم في تعريض مصالح الصين الاقتصادية هناك للخطر، وصولًا إلى تغيير نظام الرئيس معمر القذافي عام 2011، وهو الدرس الذي تعلمه العملاق الآسيوي بشكل جيد ويطبقه في كل الساحات التي يخوض معاركها اليوم.
تعزيز التعاون في ضوء المنفعة المشتركة
تحرص الصين على تعزيز التعاون مع الدول العربية والشرق أوسطية وفقًا لمبدأ المنفعة المتبادلة، فلديها حزمة مكتسبات تود تحقيقها من تلك البلدان التي تمثل سوقًا كبيرًا للمنتجات الصينية وفي الوقت ذاته أحد المسارات المهمة لنجاح المشروع الهائل "الحزام والطريق" وهو المشروع الذي يضع بكين في مقدمة الاقتصاد العالمي، وفي المقابل تجد الدول الشرق أوسطية في العملاق الصيني القوى اللوجستية ذات الحضور والتأثير الدولي الهائل الذي يحقق التوازن في مواجهة العالم أحادي القطبية.
وتوثق الصين الإستراتيجية التي تحدد علاقتها بالدول العربية من خلال ورقتها المنشورة على موقع وزارة الخارجية الصينية التي جاءت تحت عنوان "وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية" واستهلتها بالإشارة إلى الخلفية التاريخية للعلاقات بين الطرفين، تلك العلاقات الممتدة لأكثر من ألفي عام كان عنوانها الأبرز السلام والتعاون والانفتاح والتسامح والتدارس والتنافع والترابح كقيم سائدة في التواصل بين الجانبين.
ويعود تاريخ العلاقات الدبلوماسية الحديثة بين العرب والصين الجديدة إلى الفترة بين عامي 1956 و1990، تلك الفترة التي شهدت استقلال الدول العربية عن الاستعمار الأجنبي، حيث دخل الطرفان حقبة متميزة من التعاون الدبلوماسي، إذ كانت بكين "تدعم بحزم الحركات التحررية الوطنية العربية، وتدعم بحزم نضال الدول العربية في سبيل الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية واستعادة وصيانة الحقوق والمصالح القومية والتصدي للتدخل والاعتداء الخارجيين، وتدعم بحزم القضايا العربية في تطوير الاقتصاد القومي وبناء الوطن، وفي المقابل، قدمت الدول العربية دعمًا قويًا للصين في استعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة وفي قضية تايوان وغيرها".
وخلال العقود الست المنصرمة حقق التعاون الثنائي بين الجانبين قفزات تاريخية اتساعًا وعمقًا، بل بات نموذجًا يحتذى به في تعاون الجنوب - الجنوب، هذا النموذج القائم على التزام الطرفين بالاحترام المتبادل والتعامل على قدم المساواة والإبقاء على أواصر الصداقة والتعاون والشركة مهما كانت عوامل التعرية السياسية التي تشهدها الساحة الدولية، الأمر الذي جعل من فتور العلاقات بينهما مسألة نادرة في تلك الفترة رغم الأزمات والتقلبات التي شهدتها الخريطة الإقليمية والدولية، إلا أن الحرص على المنفعة المشتركة والمكاسب المحققة كان ركيزة التعاون مهما كانت الاختلافات من الزاوية الأيديولوجية.
أولًا: المجال السياسي.. استعرضت الورقة أبرز أوجه التعاون مع العرب في المجال السياسي من خلال عدة زوايا منها التبادل الرفيع المستوى والحفاظ على زخم التبادل والحوار على المستوى الرفيع بين الجانبين الصيني والعربي والتوظيف الكامل لدور اللقاءات بين قيادات الجانبين في إرشاد العلاقات الصينية العربية، كذلك آليات التشاور والتعاون بين الحكومات والتواصل بين الأجهزة التشريعية والأحزاب السياسية والحكومات المحلية بغية توطيد الأسس السياسية لتطوير العلاقات الصينية العربية وذلك على أساس مبادئ الاستقلالية والمساواة الكاملة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، الأمر كذلك بين الحكومات المحلية الصينية والعربية.
ثم تعزيز التشاور فيما يخص الشؤون الدولية والبقاء على التواصل والتنسيق في القضايا الدولية والإقليمية المهمة وتبادل الدعم والتأييد فيما يتعلق بالمصالح الجوهرية والهموم الكبرى لدى الجانب الآخر، كذلك التشارك في صيانة مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وما يتمحور عليه من النظام الدولي والمنظومة الدولية، والعمل على إقامة علاقات دولية من نوع جديد تتمركز على التعاون والكسب المشترك.
كما يعد الملف التايواني والقضايا المتعلقة به من أبرز نقاط الالتقاء بين الطرفين، إذ يثمن الجانب الصيني الالتزام المستمر من الدول العربية والمنظمات الإقليمية بمبدأ الصين الواحدة، وعدم قيامها بتطوير علاقات رسمية أو إجراء تواصل رسمي مع تايوان، ودعمها للتنمية السلمية للعلاقات بين جانبي المضيق وقضية إعادة توحيد الصين.
ثانيًا: المجال الاقتصادي.. حيث تعزيز التعاون من خلال عدة مسارات، أبرزها: "الحزام والطريق" التي تربط الصين بالعرب ودول الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا، كذلك التعاون في الطاقة الإنتاجية، لإجراء تعاون متقدم ومناسب يساهم في زيادة التوظيف ويحافظ على البيئة مع الدول العربية في مجال الطاقة الإنتاجية، ودعم العملية الصناعية في الدول العربية، ثم التعاون الاستثماري وتشجيع ودعم شركات الجانبين على توسيع وتحسين الاستثمارات المتبادلة على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة والتعاون والكسب المشترك، وتوسيع مجالات التعاون وتنويع سبله، وتوسيع القنوات الاستثمارية والتمويلية.
هذا بجانب تعزيز التجارة البينية من خلال دعم دخول مزيد من المنتجات العربية غير النفطية إلى السوق الصينية، ومواصلة تحسين الهيكلة التجارية، والعمل على الدفع بالتطور المستمر والمستقر للتجارة الثنائية وتعزيز التواصل والتشاور بين الجهات الاقتصادية والتجارية المختصة لدى الجانبين الصيني والعربي، كذلك التعاون في مجال الطاقة على أساس المنفعة المتبادلة ودفع ودعم التعاون الاستثماري بين الصين والدول العربية في مجال النفط والغاز الطبيعي خاصة في مجالات تنقيب النفط واستخراجه ونقله وتكريره.
وهناك مجالات تعاون أخرى لا تقل أهمية مثل: بناء البنية التحتية والأساسية والتعاون في مجال الفضاء والتعاون في مجال الطاقة النووية للأغراض المدنية ودعم تبادل فتح فروع والتعاون المهني المتعدد المجالات بين المؤسسات المالية الصينية والعربية، كذلك بناء آليات وأطر التعاون الاقتصادي والتجاري مثل معرض إكسبو الصيني العربي ومعارض أخرى كأطر تعزز الزيارات المتبادلة والتواصل بين حكومات الجانبين الصيني والعربي وشركاتهما.
بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط خلال العام 2022 قرابة 507 مليار دولار أمريكي، مسجلًا رقمًا قياسيًا جديدًا من النمو بزيادة 35.7% مقارنة بعام 2021، ليتصدر الشرق الأوسط قائمة شركاء الصين الكبار
ثالثًا: المجال الاجتماعي.. تحرص الصين على تعزيز علاقتها بالدول العربية من خلال مجالات التنمية الاجتماعية ومنها: الرعاية الطبية والصحية (تعزيز التواصل والتعاون في مجال الطب التقليدي والحديث والاهتمام بالأعمال المتعلقة بعلاج الأمراض المعدية والوقاية منها والوقاية والحد من الأمراض غير المعدية)، التعليم وتنمية الموارد البشرية (تعزيز التعاون في مجال التعليم وتنمية الموارد البشرية مع توسيع حجمه وإيجاد أساليب مبتكرة له وتشجيع الجامعات والمعاهد العليا لدى الجانبين على إجراء بحوث علمية مشتركة في مجالات التاريخ والثقافة والتطبيقات العلمية والدراسات الإقليمية والقطرية المتخصصة وغيرها)، التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، التعاون الزراعي، مواجهة التغير المناخي والتعاون في حماية البيئة والغابات، والعمل بقوة على التواصل والتنسيق بين الصين والدول العربية في إطار "اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ" و"اتفاقية التنوع البيولوجي" و"اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر" وغيرها من الآليات.
رابعًا: المجال الإنساني والثقافي.. من خلال عدة مسارات منها: التواصل الحضاري والديني (تعزيز الحوار بين الحضارات ودفع التواصل بين مختلف الأديان) والتعاون في مجالات الثقافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والإعلام والنشر ومراكز الفكر ودفع وسائل الإعلام لدى الجانبين لتعزيز الحوار والتعاون وتعميق التواصل المهني وتبادل المخطوطات وتدريب الأفراد وتكثيف التواصل بين الخبراء والباحثين من الجانبين والعمل على بحث إقامة آلية طويلة الأمد للتواصل بين مراكز الفكر الصينية والعربية.
هذا بجانب التبادل الشعبي والتواصل بين الشباب والنساء واستكمال آلية مؤتمر الصداقة الصيني العربية وتقديم مزيد من الدعم لجمعيات الصداقة الصينية العربية في الجانبين، وهناك أيضًا التعاون في مجال السياحة والعمل على تبادل ترويج الموارد والمنتجات السياحية وإجراء التعاون السياحي.
خامسًا: المجال الأمني.. وهنا تحرص الصين على تعميق التعاون الأمني وتعزيز تشاركاتها العربية في مجال السلامة من خلال بعض الأدوات من بينها: الدعوة إلى تطبيق مفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام في الشرق الأوسط والتعاون العسكري عبر تعميق التواصل والتعاون في هذا المجال بين الطرفين وتعزيز الزيارات المتبادلة بين القياديين العسكريين لدى الجانبين وتوسيع دائرة التواصل بين العسكريين وتعميق التعاون في الأسلحة والأعتدة ومختلف التقنيات المتخصصة وإجراء تدريبات مشتركة بين القوات المسلحة.
ويأتي في السياق ذاته التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، حيث الرفض القاطع والإدانة للإرهاب بكل أشكاله ورفض ربط الإرهاب بعرق أو دين بعينه ورفض المعايير المزدوجة ودعم جهود الدول العربية في مكافحة الإرهاب، بجانب التعاون في مجالات الشؤون القنصلية والهجرة والقضاء والشرطة، وأخيرًا بذل الجهود المشتركة لتعزيز القدرة على مواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية مثل: دعم جهود المجتمع الدولي في مكافحة القرصنة البحرية ومواصلة إرسال السفن العسكرية للمشاركة في مهام الحفاظ على سلامة الملاحة البحرية الدولية قبالة خليج عدن والسواحل الصومالية وإجراء التعاون لأمن الإنترنت.
الاقتصاد.. بوابة الصين الكبرى للمنطقة
كان الاقتصاد البوابة الصينية الأسرع لتعزيز العلاقات مع المنطقة العربية والشرق الأوسط، إذ يشكل الأخير ركنًا أصيلًا في النمو الاقتصادي للعملاق الصيني خلال السنوات الماضية، وهو ما يفسر الحرص على فرض الاستقرار والأمن في تلك المنطقة الحيوية وعدم جرجرتها نحو آتون الصراعات والنزاعات التي تهدد المصالح الصينية.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط خلال العام 2022 قرابة 507.152 مليار دولار أمريكي، بزيادة 27.1% على أساس سنوي، مسجلًا رقمًا قياسيًا جديدًا من النمو بزيادة 35.7% مقارنة بعام 2021، ليتصدر الشرق الأوسط قائمة شركاء الصيين الكبار، حيث يتفوق حجم التجارة معها على شركاء بكين الثلاث الأكثر حضورًا على الساحة وهم رابطة آسيان (15%) والاتحاد الأوروبي (5.6%) والولايات المتحدة (3.7%).
واستطاعت الصين زيادة حجم استثماراتها في اقتصادات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال الفترة من 2005 - 2019 إلى أكثر من 200 مليار دولار، وفقًا لتقديرات منصة التحليل الجيوسياسي "Mena Pacs" التي أشارت إلى أن 57% من إجمالي تلك الاستثمارات مقسمة بين 3 دول فقط هي السعودية والإمارات ومصر.
ومنذ إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ عن خطط بناء مبادرة الحزام والطريق الاقتصادي والحرير البحري للقرن 21، عام 2013، التي عرفت إعلاميًا باسم "مبادرة الحزام والطريق"، وهي المبادرة التي ربطت الصين بأوروبا عبر آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحزمة من المشروعات المشتركة التي يعود نفعها على الجميع، تعمق التعاون أكثر بين الصين وشركائها في تلك المناطق.
تشير التقارير والإحصاءات، الصينية قبل العالمية، إلى أن الشرق الأوسط والمنطقة العربية كانا لاعبين أساسيين في النمو الاقتصادي الصيني الذي حقق خلال الـ25 عامًا الأخيرة معدلاته الكبرى في التاريخ الحديث
ومع الكشف عن "الإعلان التنفيذي الصيني العربي"، كأحد مخرجات مبادرة الحزام والطريق، الصادر في بكين عام 2018، وقعت 9 دول عربية على وثائق تعاون مع بكين في إطار تلك المبادرة، فيما وقعت 5 دول عربية أخرى على التعاون في مجال الطاقة الإنتاجية، فضلًا عن 7 دول أخرى في المنطقة أصبحت ضمن الأعضاء المؤسسين في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
وتأتي المساعدات الاقتصادية كأحد المسارات المنبثقة عن التعاون الاقتصادي الذي تتخذه الصين مدخلها الأساسي لتعزيز العلاقات مع الشرق الأوسط، حيث قدمت لمصر قرضًا بقيمة 102 مليار دولار عام 2019 لمساعدتها في إنشاء قطار كهربائي للعاصمة الإدارية الجديدة التي يبنيها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقرب من القاهرة، ومن قبلها 106 ملايين دولار كانت قد قدمتها كمساعدات لبلدان المنطقة (91 مليون دولار مساعدات إنسانية وإنشائية للأردن وسوريا واليمن ولبنان و15 مليون دولار لفلسطين)، هذا بخلاف 100 مليون دولار قدمتهم بكين لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الصومال عام 2015.
وتعد الطاقة المجال الأكثر حضورًا في مسار التعاون بين الطرفين، حيث أصبحت الصين المستورد العالمي الأكبر للنفط في العالم عام 2017 لذا كان لا بد من تعزيز هذا التعاون مع دول الخليج تحديدًا، ففي عام 2017 استوردت بكين 8.4 مليون برميل من النفط يوميًا، 3.9 مليون برميل منها من دول مجلس التعاون الخليجي، أي أن نفط الخليج يلبي قرابة نصف احتياجات الصين من هذا المورد الحيوي لضمان النفوذ الاقتصادي للعملاق الآسيوي.
وفي المقابل تعد الصين سوقًا رائجةً للنفط الخليجي وأحد مصادر إنعاش خزائن تلك البلدان، فوفق تقديرات 2018 بلغ حجم صادرات النفط العربي للتنين الآسيوي 107.7 مليار دولار، تتصدرها 3 بلدان في المرتبة الأولى (السعودية بمعدل 29.7 مليار دولار والعراق بمعدل 22.4 مليار دولار وسلطنة عمان بقيمة 17.3 مليار دولار).
وتشير التقارير والإحصاءات، الصينية قبل العالمية، إلى أن الشرق الأوسط والمنطقة العربية كانا لاعبين أساسيين في النمو الاقتصادي الصيني الذي حقق خلال الـ25 عامًا الأخيرة معدلاته الكبرى في التاريخ الحديث، وهو ما جعل هاتين المنطقتين تحت مجهر الاهتمام والعناية لدى صناع القرار في الدولة الصينية، وأحد الساحات التي لا يمكن التخلي عنها بسهولة مهما كانت التحديات.
الدبلوماسية.. إستراتيجية الحضور السياسي
رغم محورية الاقتصاد وسيطرته على إستراتيجية التعامل الصيني مع الشرق الأوسط، فإن ذلك لا يعني الابتعاد بشكل كامل عن المسار السياسي، حتى إن كان من قبيل التمثيل المشرف عبر أدوات الدبلوماسية المختلفة، وقد حرصت بكين على حضورها السياسي في المنطقة لكن بشكل حيادي إلى حد كبير، ممسكة العصى من المنتصف، لتنأى بنفسها عن أي استقطابات تفقدها شريكًا هنا أو هناك في الملفات والأزمات البينية التي تزخر بها المنطقة العربية والشرق أوسطية.
وتشير الباحثة كارول سيلبر، وهي باحثة مساعدة في برنامج "برنامج مؤسسة غليزر" التابع لمعهد واشنطن بشأن
منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط"، إلى أن الصين تتعامل مع دول المنطقة من خلال آليتين رئيسيتين: الأولى: "منتدى التعاون الصيني الإفريقي" الذي دُشن عام 2000 ويضم دول شمال إفريقيا ويجتمع كل 3 سنوات، الثانية: "منتدى التعاون الصيني العربي" المدشن عام 2004 ويضم جميع دول جامعة الدول العربية ويركز أكثر على النزاعات الإقليمية، لا سيما السلام العربي الإسرائيلي.
سيلبر ومن خلال ورقتها البحثية المنشورة على موقع "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، تستعرض أبرز الجهود الدبلوماسية التي بذلتها بكين إزاء بعض الملفات للحفاظ على حضورها في المنطقة العربية والشرق أوسطية، ويأتي على رأسها دبلوماسيتها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث قدمت مقترحًا خلال "مؤتمر مدريد" عام 1991، من خمس نقاط بشأن هذا الصراع، لكنها لم تُشارك في المحادثات، فيما أصدرت نسخًا متطورة من هذا الاقتراح كلما توترت الأجواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين في 2003 و2013 و2021، هذا بجانب إيفادها مبعوثًا خاصًا للشرق الأوسط منذ عام 2002، كما استضافت العديد من الندوات والمؤتمرات الخاصة بهذا الملف مثل "ندوة السلام الفلسطينية الإسرائيلية" التي استضافتها أربع مرات بين عامي 2006 و2021.
وقد التزامت بكين الحياد في تعاطيها مع هذا الملف، وتمحورت معظم الجهود في تخفيف حدة التوتر والحيلولة دون انفجار الموقف والخروج عن السيطرة، وهو التوجه الذي يخدم أجندتها التوسعية ومصالحها في الشرق الأوسط والمرتبطة بشكل كبير بحالة الاستقرار التي تشهدها المنطقة.
أيقنت الصين أن الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط يتطلب المزيد من الانخراط والاشتباك مع القضايا والملفات السياسية الحيوية التي تؤثر بشكل أو بآخر في إعادة رسم خريطة التحالفات والمصالح
وفي سوريا كان حضورها أقوى نسبيًا مقارنة بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، إذ تخلت مرحليًا عن سياسة الحياد لتصطف بشكل نسبي إلى نظام بشار الأسد من خلال اقتراحها الخاص الذي قدمته لحل الأزمة عام 2012 وخطتها المكونة من 5 مبادئ عام 2014 قبل الخطة النهائية التي قدمتها في 2021 التي دعت من خلالها إلى احترام السيادة السورية ومحاربة ما أسمته "الإرهاب"، بخلاف تعيينها مبعوثًا خاصًا لسوريا وهو شي شياويان، الذي يشغل هذا المنصب منذ عام 2016.
وحين اندلعت الأزمة الخليجية القطرية عام 2017 تلك الأزمة التي شرخت الجدار الخليجي المتماسك، تحركت بكين بشكل عاجل لاحتواء الموقف الذي قد يهدد إمداداتها من النفط، وذلك من خلال إيفاد دبلوماسيين للخليج، حيث دعا وزير خارجيتها إلى الحوار من أجل حل الأزمة، فيما تمسكت بسياسة الحياد، مبقية على العلاقات مع كل الأطراف دون تأثر بالتوتر بينهما.
كما بذلت جهودًا دبلوماسية لفرض التهدئة في المنطقة بما فيها تخفيف التوتر بين إيران وخصومها الخليجيين، وفي عام 2018 أعلن وزير الخارجية الصيني السابق، وانغ يي، استعداد بلاده للانضمام إلى الدول العربية في أن تصبح "بانية السلام وميسرة الاستقرار ومشاركة في التنمية في الشرق الأوسط"، وهي الخطوة التي كانت تهدف بها الدولة الآسيوية في أن تكون حلقة وصل بين عواصم النفط الخليجية وطهران، الخطوة التي قادت في نهاية المطاف إلى الاتفاق السعودي الإيراني الذي تم الإعلان عنه مؤخرًا.
مزيد من الانخراط السياسي.. دوافع التحول في السياسات
أيقنت الصين أن الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط يتطلب المزيد من الانخراط والاشتباك مع القضايا والملفات السياسية الحيوية التي تؤثر بشكل أو بآخر في إعادة رسم خريطة التحالفات والمصالح، فإستراتيجية الحياد والاكتفاء بالجهود الدبلوماسية بين الحين والآخر لم تعد كافيةً في ظل السيولة السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة.
وقد مرت الخريطة العالمية بعدة تغيرات كانت دافعًا لبكين لإعادة النظر في توجهاتها الخارجية حيال شركائها الاقتصاديين في منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أبرزها جائحة كورونا (كوفيد 19) وهي الجائحة التي أعادت تموضع القوى الدولية على منصات النفوذ عبر ما عرف بـ"دبلوماسية الأقنعة"، فقد نجح العملاق الآسيوي في لعب دور محوري في احتواء تلك الأزمة من خلال مساعداته الطبية والصحية المقدمة لمعظم الدول العربية، ما عزز من حضوره لدى تلك البلدان، حتى على المستوى الشعبي.
كذلك اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 وما أسفرت عنه من تداعيات كارثية على سوق الطاقة العالمي وتهديد كبريات الاقتصادات الدولية بالشلل التام بسبب نقص إمدادات الوقود التي تأثرت بشكل واضح بسبب الحرب، فضلًا عن الارتفاع الجنوني في الأسعار، وهو ما يتطلب التحرك الفوري لعدم تكرار هذا السيناريو مرة أخرى، من خلال تأمين مصادر الطاقة (وعلى رأسها دول الخليج) عبر تعزيز العلاقات معها بما يحميها من أي متغيرات إقليمية أو دولية.
حين تلاقى الطموح الصيني في تعظيم نفوذه في الشرق الأوسط، مع مصالح دول المنطقة التي ارتأت إيصال رسالة تحذير للأمريكان والمعسكر الغربي، سارع الطرفان لتقريب الخطى لترجمة الطموح والمصالح إلى إجراءات على أرض الواقع
بجانب هذين العاملين كان الانسحاب الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط ورفع الغطاء الأمني عن حلفاء واشنطن الخليجيين، خطوة مغرية لبكين لتعويض هذا الانسحاب وملء الفراغ الأمني الذي أحدثته الولايات المتحدة ولعب دورها بشكل أكثر فاعلية، فكانت الفرصة جيدة بكل المقاييس، ولم تفوتها الصين، كما وجدتها دول الخليج فرصة مواتية لتحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية والخروج نسبيًا عن عباءة التبعية الأمريكية من خلال مزاحمة الإمبراطور الصيني لها في تلك المهمة.
وحين تلاقى الطموح الصيني في تعظيم نفوذه في الشرق الأوسط، مع مصالح دول المنطقة التي ارتأت إيصال رسالة تحذير للأمريكان والمعسكر الغربي، سارع الطرفان لتقريب الخطى لترجمة الطموح والمصالح إلى إجراءات على أرض الواقع، فأبرمت عشرات الاتفاقيات والتفاهمات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين الجانبين، وعقدت العديد من القمم على مستوى رؤساء الدول، لتتشابك العلاقات بسلاسل صعبة الفك، وهو الأمر الذي أزعج واشنطن بشكل جذري وخرجت أصوات من داخل الولايات المتحدة تحذر من استغلال الصين للانسحاب الأمريكي من المنطقة لتعظيم نفوذها على حساب المصالح الأمريكية، ما دفع الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في تلك السياسات ومراجعتها بشكل جذري ومحاولة استعادة هذا النفوذ مرة أخرى.
منعطف جديد من التموضع
بات من الواضح أن نظرة الصين للشرق الأوسط لم تعد كما كانت قبل خمس سنوات، فالجهود المبذولة خلال تلك الفترة تعكس تحولًا كبيرًا في التعاطي والرؤية لأهمية وقيمة تلك البقعة الإستراتيجية من جانب وأدوات الحفاظ علي مصالحها معها من جانب آخر.
أيقنت بكين مؤخرًا أن الحفاظ على مصالحها الشرق أوسطية يتطلب حزمة من الإجراءات على رأسها فرض حالة الاستقرار والأمن ووأد إستراتيجية القطب الواحد التي دفع الخليج ثمنها غاليًا جدًا طيلة العقود الماضية وإحداث حالة من التوازن في معادلات القوى في المنطقة.
كما أن الفراغ الأمني الذي أحدثته أمريكا من المنطقة بانسحابها ومحاولتها إخضاع أنظمة حكم الإقليم لإملاءاتها وضغوطاتها البرغماتية أسال لعاب الصينيين نحو تعزيز النفوذ وتحقيق الحلم القديم في توسعة دائرة الإمبراطورية العالمية إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، يقينًا بأن ضمان التفوق الاقتصادي يتطلب التفوق السياسي والعسكري، وهو ما بدأت تنتهجه الصين مؤخرًا.
ولم يكن الاتفاق التاريخي الموقع بين السعودية وإيران واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد قطيعة 7 سنوات، إلا انتصارًا كبيرًا للدبلوماسية الصينية التي استطاعت من خلال هذا الاتفاق أن تدخل عالم السياسة من باب الكبار، الخطوة التي أوغرت صدر الأمريكان وحليفهم الإسرائيلي وبعض حلفاء المنطقة بلا شك، لكن في المقابل لاقت قبولًا من الكثير من القوى الباحثة عن التوازن والندية في التعامل مع الغطرسة الأمريكية.
في ضوء ما سبق.. فإن التغيرات الجيوسياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين ولعبة الكراسي الموسيقية التي عانت منها خريطة التحالفات الأمنية والعسكرية، توحي بأن الصين سيكون لها دور أكبر في تلك المنطقة التي توليها أهمية إستراتيجية كبيرة، خلال المرحلة المقبلة، وفي ضوء توافر الإرادة والرغبة من الطرفين، بكين والعواصم العربية والخليجية، فإن الشرق الأوسط مرشح للكثير من ملامح التغيير التي في الغالب تخضع لموقعه من الإعراب في حرب المصالح ومعركة النفوذ الكبرى بين الولايات المتحدة والصين.