اخر تحديث
الخميس-01/08/2024
موقف
زهيرفيسبوك
رؤية
دراسات
مشاركات
صحافةعالمية
قطوف
جديد
مصطلحات
رسائل طائرة
الثورة السورية
حراك الثورة السورية
حدث في سورية
نساء الثورة السورية
اطفال الثورة السورية
المجتمع السوري المدمر
شعارات الثورة السورية
ثلاث سنوات على الثورة
أيام الثورة السورية
المواقف من الثورة السورية
وثائقيات الثورة السورية
أخبار سورية
ملفات المركز
مستضعفين
تقارير
كتب
واحة اللقاء
برق الشرق
وداع الراحلين
الرئيسة
\
مشاركات
\ صراع الحضارات أدبياً
صراع الحضارات أدبياً
25.02.2014
د. أحمد محمد كنعان
بين الحين والآخر أعود إلى دفاتري القديمة ، أبحث في مكتبتي عن قصة أو رواية أو ديوان شعر يسرّي عني بعض الغضب الذي يعتريني كلما سمعت نشرة للأخبار عن الوضع المأساوي في عالم اليوم ، الذي باتت تتحكم بمصائره أمم كبيرة في إمكانياتها المادية ، صغيرة في أخلاقها التي بلغت درجة من الانحطاط لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ .
وبينما كنت أفتش اليوم في زوايا مكتبتي القديمة الجديدة امتدت يدي إلى رواية فريدة كان لها يوم أن نشرت لأول مرة عام
1966
وقع الصاعقة في الأوساط الأدبية ، لما اتصفت به من رصانة في السرد ، وبناء فني جديد
على الرواية العربية ، وهي رواية تحكي حكاية الصراع بين الحضارات الذي أصبح منذ أواخر القرن العشرين وحتى اليوم شاغل الناس ، ومالئ الدنيا ، سياسياً وفكرياً وأدبياً .
وبالرغم من أن نخبة من الروائيين الكبار قد سبقوا إلى طرح هذه الإشكالية الحضارية إلا أن هذه الرواية عالجتها بأسلوب أدبي جديد ، تلك هي رواية
"موسم الهجرة إلى الشمال"
للأديب السوداني المبدع
"الطيب صالح"
، تلك الرواية التي صنفها النقاد بين أفضل مائة رواية نشرت في القرن العشرين ، وهي عمل أدبي مدهش ، يأخذك في دوامة من السحر الفني والفكري ويصعد بك إلى آفاق عالية من
الخيال الروائي العظيم ، وتشعر وأنت تلتهم سطورها بطرب حقيقي لما فيها من غزارة شعرية ونفحات فلسفية
تذهب بك بعيداً في رحاب الأسئلة المصيرية المحيرة ، وكيف لا وهي رواية تعالج
مشكلة حضارية ذات بعد تاريخي عميق الأثر في العلاقة بين الشرق والغرب !
ومعلوم أن عدداً من كبار الأدباء العرب قد سبق أن عالجوا هذه الإشكالية ، منهم توفيق الحكيم في روايتـه
"عصفور من الشـرق"
، ويحيى حقي في
"قنديل أم هاشم"
، وسهيـل إدريـس في
"الحي اللاتيني"
، وعالجها من الأدباء الإنكليز شكسبير في
"عطيل"
، والفرنسي ألبير كامو في
"الغريب"
، وغيرهم ، وتحكي لنا هذه الأعمال الأدبية الكبيرة حكاية الصراع المزمن الذي بدأت بوادره قبل ألف عام تقريباً بين شخصيات آتية من الشرق وشخصيات آتية من الغرب ، فهي أعمال أدبية تحكي
ثنائية الأضداد التي قال عنها الأديب الإنكليزي "روديارد كبلنغ" ذات يوم :
الشرق شرق ، والغرب غرب ، ولن يتلقيا
. وسماها الأمريكي "صموئيل هنتنغتون" قبل سنوات
"صراع الحضارات"
، وهذا لا يعني بالضرورة أن الطيب صالح من أنصار الرؤية السلبية لعلاقة الحضارات بعضها مع بعض كما قدمها الآخرون ، بل تبدو روايته هذه أشبه بنداء شجي من الأعماق للخلاص من عقم العلاقة بين الحضارات ، ودعوة ملحة إلى محبة الإنسان لأخيه الإنسان أينما وجد على ظهر هذه البسيطة ، ذلك الأمل الذي يبدو عصياً على التحقيق ، على الأقل حتى يومنا الحاضر .
وقد قدمت كل من الروايات التي أشرنا إليها آنفاً رؤيتها الخاصة لكيفية مواجهة هذا الصراع التاريخي بين الشرق والغرب ؟ وكيفية معالجتها والتصرف فيها ؟ وطرح كل منها جملة من الأسئلة الحائرة : فهل تترك
شعوب الشرق ماضيها كله وتستسلم للحضارة الغربية المهيمنة اليوم على العالم وتذوب فيها وتقلدها تقليداً كاملاً
؟ أم ترجع هذه الشعوب إلى ماضيها فتلوذ به وترفض الحضارة الغربية جملة وتفصيلاً وتعطيها ظهرها وتنكرها
إنكاراً لا رجعة فيه ؟ أم تتخذ موقفاً آخر ؟
وما هو هذا الموقف ؟
تلك هي المشكلة المحورية التي تعالجها هذه الروايات من زوايا مختلفة ، إلا أن رواية الطيب الصالح قاربتها من زاوية جديدة أشد حساسية ، وأرهف حساً
، حيث كان
"الجنس"
عنصراً أساسياً من عناصر الحدث في الرواية ، لكن المؤلف وظفه توظيفاً فنياً بارعاً دون إسفاف ولا إثارة للغرائز ، للتعبير من خلاله عن فاجعة سوء التفاهم بين الأمم .
وتتركز العقدة الأساسية في الرواية حول علاقة "مصطفى سعيد" بطل الرواية القادم إلى لندن من الخرطوم ، وزوجته "جين مورس" اللندنية التي ألقاها القدر في طريقه ليكون فيها هلاكه وهلاكها ، فكأن العلاقة بين هذين الزوجين تلخص علاقة الشرق بالغرب ، قالت له في لحظة مكاشفة تحمل الكثير من الرمز :
"هذه الليلة لك أنت وحدك ، أنا انتظرتك منذ وقت طويل"
فيما يناجي مصطفى سعيد نفسه قائلاً :
هذه الليلة ليلة الصدق والمأساة .
ويقتلها !
فما الذي أدى بهذين الزوجين إلى هذه النهاية المفجعة التي تبدو وكأنها تلخص مصير علاقة الشرق بالغرب ؟ يجيب مصطفى سعيد :
"غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثومة مرض فتاك ، العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل"
يقول مصطفى سعيد ذلك في إشارة مضمرة إلى واقع الصراع بين الشرق والغرب الذي مضى عليه زهاء ألف عام كانت حافلة بالمواجهة ، ويؤكد بطل الرواية هذا المعنى مرة أخرى وهو يتذكر ثلاث نساء انتحرن من أجله ، فتاتين هما آن همند ، وشيلا غرينود ، وسيدة متزوجة هي إيزابيلا سيمور ، لكنه لا يدان بانتحارهن ، إذ يتولى الدفاع عنه في المحكمة أستاذه :
"ومضى بروفسور ماكسويل يرسم صورة فريدة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل في لحظة غيرة وجنون ، روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين ، قال لهم إن آن همند وشيلا غرينود كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أم لم تقابلاه .. مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه ، هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد لكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام" .
ويعلل مصطفى سعيد مسلكه هذا بمسلك الأوروبيين التاريخي ضد أمته ، ويحس نفسه غازياً جاء ليرد للأوروبيين الصاع صاعين ، فهو يقول في نوع من كشف الحساب التاريخي معهم :
"البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود ، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم ، إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان ، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام ، نعم يا سادتي ، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيلاً ، عطيل كان أكذوبة"
.
ويؤيد برفسور ماكسويل فستركين هذا المسلك من مصطفى سعيد معللاً إياه بجرثومة العنف الموروثة في الحضارة الأوروبية التي تشربها أبناؤها على مر العصور ، ونلاحظ أن موقف مصطفى سعيد اتخذ مظهراً سلبياً في البدء مع النساء الثلاث اللواتي انتحرن من حبه ، ثم تجلى بمظهر إيجابي حين قتل زوجته التي لم تكن الغيرة وحدها هي الدافع إليها ، وإنما ذلك الحقد التاريخي الذي عبر عن نفسه بتلك العلاقة المأزومة بين الزوجين !
أما كيف تجمع لدى مصطفى سعيد كل هذا الحقد التاريخي فالجواب هو أنه كان يمتلك ذاكرة جماعية تاريخية عبرت عن نفسها خلال محاكمته على قتل زوجته ، نجد ذلك في تعبيره عن شعوره تجاه المحلفين :
"أنا احس تجاههم بنوع من التفوق ، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي ، وأنا فوق كل شيء مستعمِر (بكسر الميم) إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره ، حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهعو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة عطبرة ، قال له : لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطا رأسه ولم يقل شيئاً ، فليكن أيضاً ذلك شأني معهم ، إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، وقعقعة سنابل خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس"
فالذاكرة الجماعية لكل عربي تحمل في أعماقها عن العنف الأوروبي صور إحراق قرطاجة على يد الرومانيين ، وما تلاه من استعمار استمر ألف عام للعرق السامي ، إلى أن حرره العرب على طول شواطئ المتوسط ، مثلما يحمل ذكرة مائتي عام من تدمير الحضارة العربية على أيدي الصليبيين ، ثم الاستعمار البرتغالي فالبريطاني والفرنسي للأرض العربية ، ولم يغادر هذا الاستعمار البغيض أرضنا إلا بعد أن غرس الورم الصهيوني في قلب الوطن العربي !
هذه الذاكرة الجماعية تتجلى في سلوك مصطفى سعيد حقداً تاريخياً غير واع حيناً ، وحقداً تاريخياً واعياً حيناً آخر عبر النساء الإنكليزيات اللواتي مررن في حياته ، فنجده حين لقائه مع إحداهن يصف مشاعره على النحو التالي :
"وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا ، مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال"
وقد تكرر منه هذا التوصيف وألحت عليه مرة أخرى صورة اللاشعور الجمعي فصور نفسه بصورة تاريخية حين تعرف على آن همند ، تلك الفتاة الغنية التي كانت تدرس الأدب ، فقد ركضت نحوه وهو يلقي بعض الأشعار على الجمهور الذي تحلق حوله في حديقة عامة ، وطوقته بذراعيها وقبلته ، وقالت له باللغة العربية :
أنت جميل تجل عن الوصف ، أحبك حباً يجل عن الوصف"
فيجاريها ، ويرد عليها قائلاً :
"وأخيراً وجدتك يا سوسن ، إنني بحثت عنك في كل مكان ، وخفت ألا أجدك أبداً ، هل تذكرين ؟"
فقالت بعاطفة لا تقل عن عاطفته حدة :
"وكيف أنسى دارنا في الكرخ في بغداد على ضفاف نهر دجلة أيام المأمون ؟ أنا أيضاً تقصيت أثرك عبر القرون ولكنني كنت واثقة أننا سنلتقي"
، فهذا اللقاء بينهما لم يكن مناسبة لملء الفراش ، بل كان مناسبة للقاء تاريخي بين الشرق والغرب عمره ألف عام !
وقد تكرر التعبير عن هذا اللقاء لكن بصورة مفجعة حين كاشفته زوجته جين مورس بمشاعرها نحوه قائلة :
"أنت بشع ، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك"
وأكدت ذلك مرة أخرى قائلة :
"أنا أكرهك حتى الموت"
على الرغم من أنها ظلت ثلاثة أعوام تطارده قبل أن تقبل الزواج منه ، وحتى بعد الزواج ظلت متأبية عليه شهرين كاملين دون أن تمنحه نفسها ، وحين حدث ذلك لم يحدث في بيته بل في حديقة عامة على مرأى من قومها كأنما لتشهد القوم على جريمته ، ويرد مصطفى سعيد على هذا الموقف العدائي تجاهه والذي يرى فيه تعبيراً عن رفض المجتمع الأوروبي له ، فيقول :
"وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران ، أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام"
وبالفعل يفي بقسمه فيتزوجها ، ثم يقتلها ، فلا غرابة إذن أن نسمع أستاذه البروفسور ماكسول فستركين يقول لهيئة المحاكمة في مرافعته عنه :
"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى ، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها لتثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة"
!
فهل أراد الطيب صالح من هذه النهاية المأساوية بين الزوجين أن يؤكد حتمية الصراع بين الشرق والغرب كما فعل الروائيون الذين سبقوه إلى مقاربة هذه الإشكالية الحضارية ؟ أم أراد شيئاً آخر ؟ في تقديري أن الطيب صالح أراد شيئاً آخر ، فهو بتقديمه هذه الصور المتقابلة ، والمشاعر المتضاربة ، والمواقف الصريحة المتبادلة بين شخوص روايته ، يريد منا أن ننظر إلى هذه الإشكالية الحضارية بين الشرق والغرب بأكثر من عين ، ومن أكثر من زاوية ، بغية الوصول إلى علاقة مثمرة بين الطرفين ، تكون أكثر جدوى ، وأكثر واقعية ، علاقة تقوم على التفاعل الخلاق بيننا وبين الآخر ، لكن دون تفريط بملامح هويتنا كما يؤكد الراوي في أكثر من موقف ، وبذلك يمكن أن نرتقي إلى تحقيق وجودنا المعاصر الذي باتت الحضارة الغربية مهيمنة عليه ، لعلنا نستعيد مكاننا تحت الشمس من خلال تفاعلنا مع هذه الحضارة تفاعلاً واعياً ، كما فعل أصحابها ذات يوم حين تفاعلوا مع حضارتنا فحققوا حضارتهم ... أم ماذا ؟
___________
Kanaan.am@hotmail.com