الرئيسة \  تقارير  \  عقود وامتيازات وهدايا .. هل مولت وكالات الأمم المتحدة نظام الأسد؟

عقود وامتيازات وهدايا .. هل مولت وكالات الأمم المتحدة نظام الأسد؟

01.11.2022
عمران عبد الله

Untitled 2

عقود وامتيازات وهدايا .. هل مولت وكالات الأمم المتحدة نظام الأسد؟

عمران عبد الله

الجزيرة

الاثنين 31/10/2022

منذ أبريل/نيسان 2011، خضع النظام السوري والدائرة المقربة من رئيسه بشار الأسد لحزَم عديدة من العقوبات الدولية، تزايدت وتيرتها طوال العقد المنصرم، لكنها لم تنجح في وقف حمام الدم في البلاد. وبخلاف دعم حلفائه، أُثيرت العديد من الشكوك حول استخدام النظام السوري أموال منظمات دولية ومانحين دوليين لتجنب آثار العقوبات ودعم المجهود الحربي للحكومة.

ويناقش هذا التحقيق استخدام الحكومة السورية موارد وكالات تابعة للأمم المتحدة، وبينها منظمتا الصحة العالمية والأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ووكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، رغم أن أغلب موارد هذه المنظمات مصدرها الحكومات الغربية نفسها التي فرضت العقوبات على النظام.

وأظهرت وثائق ورسائل أن مكتب منظمة الصحة العالمية أساء إدارة ملايين الدولارات، ووزعت مديرة المكتب الأممي أكجيمال ماغتيموفا على المسؤولين الحكوميين هدايا فخمة، ومنحت عقودا لسياسيين حكوميين كبار، بينما دفعت وكالات الأمم المتحدة عشرات الملايين من الدولارات في عقود مع شركات مرتبطة بأفراد مدعومين من الحكومة السورية تمت معاقبتهم بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وفقًا لتقريرين منفصلين صدرا قبل أيام.

منظمة الصحة العالمية في دمشق

ادعى عاملون في مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا أن رئيستهم (التي غادرت منصبها نظريا في مايو/أيار الماضي بعد منحها إجازة) قدمت هدايا لمسؤولين حكوميين سوريين؛ شملت أجهزة كمبيوتر وقطعا نقدية ذهبية وسيارات فارهة، كما أخفقت في إدراك مدى خطورة الجائحة داخل سوريا، وعرّضت كثيرين للخطر نتيجة انتهاك إرشادات منظمة الصحة.

وتظهر أكثر من 100 وثيقة سرية ورسالة ومواد أخرى -حصلت عليها وكالة أسوشيتد برس الأميركية، وكشف عنها قبل أيام- أن مسؤولي منظمة الصحة العالمية أبلغوا المحققين أن الدكتورة أكجيمال ماغتيموفا تورطت في سلوك إداري مسيء، وضغطت على موظفي المنظمة لتوقيع عقود مع مسؤولي الحكومة السورية.

وأثارت الشكاوى التى قدمها ما لا يقل عن 10 من العاملين تحقيقا داخليا كبيرا منذ سنوات وصفته المنظمة بأنه "مطول ومعقد"، خاصة بالنظر لسياسات المنظمة السرية وحماية الموظفين، واشترك في بعض أجزاء من التحقيق أكثر من 20 محققا.

وطلبت الجزيرة نت تعليق المكتب الإعلامي لمنظمة الصحة العالمية في دمشق حول هذه التهم، ولم تتلقَ ردا حتى نشر التقرير، ورفضت ماغتيموفا (وهي طبيبة تركمانستانية الأصل) الرد على الادعاءات بحقها "بسبب التزاماتها كموظفة" في المنظمة الأممية، ووصفت الاتهامات "بالتشهيرية"، حسب تعبيرها.

وكان انتخاب سوريا عضوا في المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية منذ منتصف عام 2021 ولمدة 3 سنوات أثار ردود فعل ناقدة كثيرة.

ويعمل محققو منظمة الصحة على موضوعات عديدة، بينها اتهامات -وجهها أحد موظفي مكتب سوريا في رسالة شكوى موجهة للمدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس- تتعلق بتوظيف ماغتيموفا "أقارب غير أكفاء لمسؤولين (سوريين) حكوميين، بمن فيهم متهمون بارتكاب عدد لا يحصى من انتهاكات حقوق الإنسان".

وكانت ميزانية مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا تبلغ نحو 115 مليون دولار العام الماضي لمعالجة القضايا الصحية في بلد تمزقه الحرب، حيث يعيش 90% من السكان في فقر، بينما يحتاج أكثر من نصفهم إلى مساعدات إنسانية.

وأشارت الرسائل إلى أن ماغتيموفا "قدمت خدمات" لكبار السياسيين في سوريا، بالإضافة إلى الاجتماع سرا مع شخصيات بالجيش الروسي، مما قد يشكل انتهاكا محتملا لحياد منظمة الصحة العالمية كمنظمة تابعة للأمم المتحدة.

وتضمنت الاتهامات -الواردة في وثائق داخلية مسربة ورسائل بريد إلكتروني- تساؤلات حول أولويات إنفاق أموال المانحين للمنظمة الأممية في ظل إدارة ماغتيموفا.

واتهم موظفون بمكتب دمشق رئيستهم بإهدار موارد مخصصة لمساعدة أكثر من 12 مليون سوري في حاجة ماسة إلى المساعدات الصحية، في حين أنفقت أموالا على حفلة بفندق فاخر في دمشق شارك فيها وزير الصحة السوري بعد حصولها على جائزة من جامعة تافتس الأميركية، في وقت لم يتلق فيه إلا أقل من 1% من السكان السوريين جرعة واحدة من لقاح كورونا، حسب تقرير الوكالة.

وادعى مسؤولون في مكتب دمشق أن ماغتيموفا تورطت في كثير من العقود المشكوك فيها، وشملت صفقة نقل ومواصلات منحت بموجبها ملايين الدولارات لمورد متعاقد تربطها به علاقات شخصية.

واشتكى ما لا يقل عن 5 موظفين من أن ماغتيموفا استغلت أموال منظمة الصحة العالمية لشراء هدايا لوزارة الصحة وغيرها، ولم يتسنَّ التأكد من صحة هذه المزاعم من مصدر مستقل.

وقال كثير من موظفي منظمة الصحة العالمية إنهم تعرضوا لضغوط لإبرام صفقات توريد إمدادات أساسية، مثل الوقود، مع شخصيات نافذة في الحكومة السورية، وذلك بأسعار عالية.

وقال تقرير لموقع "فويس آوف أميركا" إن ماغتيموفا كانت تعيش في جناح فخم للغاية في فندق "فورسيزونز" بدمشق، الذي فُرضت على مالكه عقوبات أميركية وبريطانية، وأضاف الموقع أن التقديرات تشير إلى أن الأمم المتحدة أنفقت 70 مليون دولار (في الفندق) منذ عام 2014.

ويملك الفندق رجل الأعمال سامر فوز المقرب من نظام الأسد والمدرج اسمه ضمن عقوبات أميركية عام 2019 بدعوى استفادته من "فظائع الصراع السوري" ودعمه لنظام الأسد.

ونقل الموقع الأميركي عن رسائل تعود ليناير/كانون الثاني الماضي، وتتضمن شعورا بالقلق بخصوص التناقضات بين "كميات أدوية غير مطابقة للفواتير" تم فحصها في مشروع صحي بشمال سوريا، ولم يكن موظفو المشروع حاصلين على تدريب طبي، وكانت هناك عناصر أساسية مفقودة مثل الكراسي المتحركة والعكازات وأجهزة السمع، وكان المبنى المستأجر لتخزين هذه المستلزمات فارغا.

وقال مدير شؤون الصحة العالمية في مركز التنمية العالمية في واشنطن خافيير غوزمان إن الاتهامات الأخيرة المتعلقة بماغتيموفا "مقلقة للغاية"، ولكن من غير المرجح أن تكون استثناء.

وفي مايو/أيار الماضي، أفادت وكالة أسوشيتد برس بأن الإدارة العليا لمنظمة الصحة العالمية أُبلغت عن اعتداء جنسي خلال تفشي فيروس إيبولا في الكونغو 2018-2020 ، لكنها لم تفعل شيئًا يذكر لوقفه؛ ووجدت لجنة لاحقة أن أكثر من 80 عاملا تحت إشراف منظمة الصحة العالمية استغلوا نساءً جنسيا.

وفي يناير/كانون الثاني، أفادت وكالة أسوشيتد برس بأن الموظفين في مكتب غرب المحيط الهادي التابع لمنظمة الصحة العالمية قالوا إن مدير المنطقة استخدم لغة عنصرية لتوبيخ الموظفين وتبادل معلومات لقاح فيروس كورونا الحساسة بشكل غير صحيح مع وطنه اليابان. وفي أغسطس/آب، عزلت منظمة الصحة العالمية المدير من منصبه إلى أجل غير مسمى بعد أن أثبت تحقيق أولي بعض المزاعم.

وقال غوسمان "من الواضح أن هذه مشكلة منهجية؛ فهذا النوع من الادعاءات لا يحدث فقط في أحد مكاتب منظمة الصحة العالمية بل في مناطق متعددة".

وإذ دمرت سنوات الحرب السورية النظام الصحي في البلاد، فإن السكان السوريون (الذين بقوا في البلاد) يعتمدون بشكل متزايد على المساعدة الصحية الدولية؛ ومع ذلك يثير وجود منظمة الصحة العالمية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية اتهامات بأن مساعداتها يتحكم فيها نظام الرئيس بشار الأسد، الذي يخضع لعقوبات غربية، وفي بلد يعيش فيه أكثر من نصف سكانه خارج مناطق سيطرة حكومة دمشق.

اليونيسيف والأونروا

وبالتزامن مع التقارير المتعلقة بمنظمة الصحة العالمية، أصدر البرنامج السوري للتطوير القانوني، ومرصد الشبكات السياسية والاقتصادية تقريرا مفصلا حلل عقود مشتريات الأمم المتحدة في سوريا، استنادا إلى المعلومات الإخبارية مفتوحة المصدر والجريدة الرسمية السورية وبيانات مرصد الشبكات.

وخلص التقرير -بعد تحليل أكبر 100 مورد للأمم المتحدة في سوريا في عامي 2019 و2020 من قبل المنظمتين غير الحكوميتين- إلى أن ما يقرب من نصف العقود المشتراة خلال هذين العامين كانت مع موردين متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان أو ربما استفادوا منها، بما في ذلك منح عقد بقيمة مليون دولار من قبل وكالتي اليونيسيف والأونروا الأمميتين لشركة "صقر الصحراء" التي يملكها فادي صقر القيادي في ميلشيا الدفاع الوطني المقرب من الأسد، مقابل ملابس ومواد مكتبية وإلكترونيات وغيرها.

واشتهرت بشكل خاص بإعدام عشرات السجناء معصوبي الأعين عام 2013 ودفنهم في مقبرة جماعية بالقرب من العاصمة السورية في ما عُرف "بمجزرة التضامن".

وأشار التقرير الجديد أيضا إلى تلقي شركة "فيرست كلاس" (First Class) المملوكة لنزهت مملوك ابن مدير مكتب الأمن القومي علي مملوك، أكثر من 370 ألف دولار من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2020.

وذكر التقرير أيضا تلقي شركات أخرى مملوكة لشخصيات مقربة من النظام -مثل شركتي البرلماني السوري بلال النعال ومحمد حمشو (الخاضع لعقوبات أميركية وأوروبية)- مبالغ كبيرة مقابل خدمات لوجيستية وخدمات إدارة وتنظيم، فضلا عن توظيف أقارب شخصيات مقربة من النظام في مؤسسات أممية في دمشق.

وأفاد تحقيق سابق لصحيفة "غارديان" البريطانية -نشر في أغسطس/آب 2016- بأن منظمة الصحة العالمية أنفقت أكثر من 5 ملايين دولار لدعم بنك الدم الوطني السوري، الذي تسيطر عليه وزارة الدفاع السورية، بينما دفعت اليونيسيف أكثر من ربع مليون دولار لجمعية البستان التي يملكها ويديرها رامي مخلوف ابن عم الأسد.

وأكد التقرير أن وكالتين أمميتين كانتا في شراكة مع جمعية الأمانة الخيرية السورية (وهي منظمة تترأسها قرينة الأسد التي تخضع للعقوبات الأميركية والأوروبية) التي يبلغ مجموع إنفاقها 8.5 ملايين دولار.

وذهب ما يقرب من ربع العقود التي حصلت عليها الأمم المتحدة خلال عامي 2019 و2020 إلى شركات مملوكة أو مملوكة جزئيًا لأفراد خاضعين للعقوبات من قبل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بقيمة إجمالية تبلغ نحو 68 مليون دولار.

وسلط التقرير الضوء على 7 قضايا تخص عمليات الشراء الأممية، شملت استفادة منتهكي حقوق الإنسان منها، والتعاقد مع أفراد وكيانات خاضعين للعقوبات، وعدم تحديد الوسطاء، والاعتماد على العقود الكبيرة بدل إفساح المجال للمنافسة وتقليل مخاطر الاحتكارات، ونقص الشفافية، واحتواء الفساد، والفشل في حماية الموظفين.

وطالب التقرير الأمم المتحدة بفحص الموردين المتعاقدين مع وكالاتها، والتزام الشفافية في كيفية إنفاق الأموال، وطالب الدول المانحة بدعم مراقبة كيانات الأمم المتحدة لسياسات الامتثال لحقوق الإنسان، خاصة في ظروف الاحتكار في قطاع معين أو الانتهاكات الجسيمة المستمرة.

وقال الباحث البارز في برنامج التطوير القانوني السوري إياد حامد لوكالة أسوشيتد برس "عمليات وكالات الأمم المتحدة لا ترقى إلى مستوى العناية الواجبة الكاملة"، "إنهم يعتمدون أيضًا على التحقق من الملكية القانونية للشركة بدل ملكية المستفيد النهائي للشركة".

واتهمت جماعات معارضة الحكومة السورية وشركات لها بإيقاف المساعدات أو سرقتها من العائلات في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو التلاعب في أسعار الصرف لتعزيز خزائن الدولة.

ويقول مدير برنامج سوريا في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية كرم شعار لأسوشيتد برس "نحن ندرك أنه لا يمكن توصيل المساعدات في سوريا بالمجان". ويردف "السؤال بالنسبة لي هو: كيف يمكننا تقليل هذه التكلفة إلى أدنى حد؟"

ويتابع "أعتقد أنه من الثابت الآن أن تكلفة ممارسة الأعمال التجارية من خلال الأمم المتحدة في سوريا التي يسيطر عليها النظام هي الأعلى إلى حد بعيد مقارنة بالمساعدات التي تقدمها المنظمات الأخرى في المناطق المختلفة".

وأضاف شعار إنه بينما لا يمكن في بعض الحالات توجيه المساعدات إلا من خلال وكالات الأمم المتحدة، فيجب على الدول المانحة تحويل التمويل إلى المنظمات غير الحكومية الدولية التي تلتزم بالعقوبات، لا سيما تلك المفروضة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا.

وأوضح شعار أنه "بينما تقول الأمم المتحدة إنها لا تلتزم بالعقوبات أحادية الجانب، فإن المنظمات غير الحكومية مسؤولة أمام البلدان التي يوجد بها مقرها".

وأثيرت أسئلة عديدة طوال السنوات الماضية حول جهود وكالات الأمم المتحدة في سوريا، وأشار تقرير سابق لمجلة "فورين أفيرز" إلى أن قدرة الحكومة السورية على سرقة الجهود الإنسانية تحتم ضرورة قيام الأمم المتحدة بإصلاح نظام تقديم المساعدات لديها، "بما يتحدى الدول ذات السيادة إذا كانت تعلن الحرب على فئات من سكانها".

وأشار التقرير إلى أن من المهم على وجه الخصوص تحقيق هذا الإصلاح في الوقت الحالي، قبل أن تقوم سوريا بتكرار تكتيكاتها المدمرة و"الناجحة" في إعادة توجيه الأموال عبر التماسها الجديد المتعلق بمساعدات إعادة الإعمار.

وخلال تفشي مرض شلل الأطفال عام 2013، التزمت منظمة الصحة العالمية ومقرها دمشق الصمت طوال شهور، في حين أنكرت الحكومة حدوث تفشٍّ للمرض، حسب المجلة الأميركية.

وأثبتت المنظمات غير الحكومية السورية التي تعمل عبر الحدود من تركيا أن شلل الأطفال عاد إلى سوريا، وأجرت حملة تطعيم جماعية ناجحة. ومع ذلك، فإن عواقب قيام المنظمات غير الحكومية بتقديم مساعدات إنسانية فعالة خارج سيطرة الأسد أدى في أبريل/نيسان 2014 إلى طرد منظمة غير حكومية، هي "ميرسي كوربس" من دمشق.

وتعود جذور مشاكل الأمم المتحدة في سوريا إلى السنوات الأولى للحرب؛ فعندما بدأ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في ربيع عام 2012 الحشد لتقديم المساعدات إلى سوريا، أصرت الحكومة السورية على أن تتمركز كافة عمليات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في دمشق.

واستعان النظام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/182، وهو أساس ولاية مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، الذي ينص على أنه "ينبغي تقديم المساعدة الإنسانية بموافقة البلد المتضرر"، وأن "الدولة المتضررة لها الدور الأساسي في استهلال تقديم المساعدات الإنسانية وتنظيمها وﺘﻨﺴﻴقها وﺗﻨﻔﻴﺬها داﺧﻞ أراﺿﻴﻬﺎ".

واحتاج مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى الوصول لذلك قبل شروط الأسد. وسرعان ما تدفّق نحو 216 مليون دولار من المساعدات الإنسانية إلى البلد، وهو مبلغ ارتفع إلى ما يزيد على 3 مليارات دولار سنويا في السنوات اللاحقة.

ومع إطلاق عملياتها في دمشق، تشكلت مجموعة من المشاكل للأمم المتحدة، وسمح ذلك لنظام الأسد بالسيطرة على جهود الإغاثة. وتطلب وزارة الشؤون الخارجية السورية من كافة الوكالات الإنسانية التوقيع على اتفاق مع الشريك الرسمي للحكومة "الهلال الأحمر العربي السوري"، كما تحظر الزيارات الميدانية من دون إذن من الهلال الأحمر السوري.

وتم ربط الهلال الأحمر منذ فترة طويلة بجهاز الدولة السوري، وتلاشت أي إشارة إلى استقلاله بعد عام 2011، عندما علقت الحكومة انتخابات الهلال الأحمر لأجل غير مسمى وطردت أعضاء المجلس المستقلين والموظفين المؤهلين.

ووفقا لمتطوعي الهلال الأحمر السابقين الذين تحدثت إليهم الصحفية آني سبارو (كاتبة مقال فورين أفيرز)، فإن عملاء المخابرات تسربوا إلى المنظمة كمتطوعين، وأضحت السياسة غير الرسمية الجديدة للهلال الأحمر بعد هذه التغييرات تمييزية، وأي موظف أو متطوع ينتهك هذه القواعد كان مصيره التعذيب وحتى القتل.

ولم يكن هناك مجال للشك في دور الحكومة وهي تصدر تأشيرات انتقائية لموظفي المنظمات الإنسانية الدولية، وتفضيل رعايا الدول الحليفة مثل السودان، وتفرض رقابة صارمة على توزيع المساعدات والإمدادات الطبية، التي لا تحجبها فقط عن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة -مثل إدلب- ولكن أيضا عن المناطق التي كانت تحت الحصار في السابق لكن تحكمها حاليا القوات الحكومية مثل الغوطة الشرقية.

ويقول تقرير المجلة الأميركية إن نظام الأسد تمكن من إعادة توظيف الأموال الدولية لتحقيق غاياته الخاصة، مشيرا إلى أن جهود الإغاثة في سوريا تضمنت تدفقات هائلة من الأموال، خاصة بالنسبة لبلد يعاني من شلل اقتصادي بسبب سنوات من الحرب.

ويشير تقرير غير منشور من قبل المركز السوري لبحوث السياسات على سبيل المثال إلى أنه في عام 2017 كان إجمالي النفقات الإنسانية للمجتمع الدولي في سوريا -بما في ذلك مصادر الأمم المتحدة وغير الأمم المتحدة للتمويل- يعادل نحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد. وأدرك النظام في بداية الحرب أن حجم هذا الجهد سيطغى على قدرات الهلال الأحمر؛ ونتيجة لذلك أنشأت الحكومة عام 2013 لجنة الإغاثة العليا، وهي وكالة مكلفة بتنسيق طلبات الأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية مع الوزارات الحكومية الرئيسية والفروع المختلفة لقوات المخابرات.

وتتطلب أي عملية تسليم للمعونات من الهلال الأحمر موافقة لجنة الإغاثة العليا، مما يسمح للحكومة بالتحكم في من يتلقى الإغاثة ومكانها وزمانها. وفي عام 2016، كان الحصول على رسالة تيسير لإيصال المساعدات عبر لجنة الإغاثة العليا من دمشق يتطلب توقيع وزﯾر اﻟﺻﺣﺔ اﻟﺳوري وﻣوظﻔﯾن ﻣن اﻟﻘوات اﻟﺟوﯾﺔ ووكالات الاﺳﺗﺧﺑﺎرات اﻟﻌﺳﮐرﯾﺔ، وهي دلالة على الدور الذي تلعبه هذه الوكالات منذ مدة طويلة في توجيه مسار الجهود الإنسانية.

وتخضع كل من وزارة الصحة ورؤساء القوات الجوية والاستخبارات العسكرية لعقوبات بريطانية وأميركية وأوروبية.

وبالإضافة إلى السيطرة على المساعدات، تقوم الحكومة بالسيطرة على أجزاء كبيرة من التمويل الإنساني لدفع ثمن المجهود الحربي وملء جيوب المسؤولين. تبدأ عملية الامتصاص من ضريبة تفرض على مرتبات جميع موظفي الإغاثة، تتراوح بين 5% للموظفين الوطنيين الأقل أجرا إلى 20% للموظفين الدوليين.

ويقول التقرير إن أفضل تقدير هو أن ما بين 2 و18% فقط من مساعدات الأمم المتحدة تصل بالفعل إلى السوريين المحتاجين. علاوة على ذلك، من النادر أن تذهب تلك المساعدات إلى من هم في أمس الحاجة إليها؛ أي السوريين الذين يعانون في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وغالبا تكون تحت الحصار. وبدلا من مساعدة المدنيين المعرضين للخطر عززت معظم المساعدات الحكومة السورية.

وتكمن المفارقة الحزينة في أن القوى الدافعة وراء العقوبات ضد الحكومة السورية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة) كانوا أيضا أكبر ممولي الاستجابة الإنسانية التي قوّضت تلك العقوبات.

المصدر : الجزيرة