الرئيسة \  تقارير  \  عندما تقتل الحكومات المدنيين‏

عندما تقتل الحكومات المدنيين‏

02.11.2022
ستيفن ر. شالوم‏‏

Untitled 6

عندما تقتل الحكومات المدنيين‏

ستيفن ر. شالوم‏‏* – (فورين بوليسي إن فوكَس) 27/10/2022

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الغد الاردنية

الثلاثاء 1/11/2022

‏إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا ليست سوى ثلاث من العديد من الحكومات التي استهدفت المدنيين عمدًا في جهودها لكسب الحروب.‏.. على سبيل المثال، تأكد في الآونة الأخيرة أن عملاء إسرائيليين قاموا بصب قوارير تحتوي على بكتيريا التيفوئيد في إمدادات المياه في مدينة عكا العربية، مما تسبب في انتشار المرض في شكل وباء، وحدوث بعض الوفيات. وعزت تقارير أعدها “ضباط ومسؤولون إسرائيليون السهولة التي سقطت بها عكا في أيدي ’الهاغاناه‘ جزئيا إلى الإحباط الناجم عن الوباء”.‏

* *

على مدى القرون كان المدنيون دائمًا ضحايا لجرائم حرب مريعة. في بعض الأحيان كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. ولكن في كثير من الأحيان تم استهدافهم بشكل مباشر لأغراض التطهير العرقي، أو الانتقام، أو حرمان الثوار من قاعدة المؤيدين، أو ترويع حكومة ودفعها إلى الاستسلام.‏

‏وفي الآونة الأخيرة، تم تأكيد وقوع حدَثٍ تاريخي آخر من هذه الفظائع. في العام 1948، استخدمت القوات الإسرائيلية الحرب البكتريولوجية -التي نشرت مرض التيفوس وبكتيريا الزحار- ضد السكان العرب في فلسطين من أجل تشجيعهم على الفرار ولمنعهم من العودة إلى قراهم.‏

هل يمكننا تصديق مثل هذه الادعاءات؟ من المؤكد أن اتهامات الحرب البيولوجية غالبًا ما توجه كجزء من حملات التضليل. على سبيل المثال، ادعت روسيا عندما غزت أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام أنها كانت تحاول تأمين مختبرات الحرب البيولوجية في أوكرانيا التي أنشأتها الولايات المتحدة (ربما في محاولة لتكرار الأكاذيب التي أطلقتها الولايات المتحدة سابقًا بشأن أسلحة الدمار الشامل عندما قامت واشنطن بغزو العراق في العام 2003. وقد تم‏‏ فضح ‏‏الادعاءات الروسية ودحضها تمامًا على الرغم من تضخيمها من قبل ‏‏تاكر كارلسون‏‏، ‏‏والمدونين الصوتيين اليمنيين، و”غراي زون”‏‏‏ ‏وغيرهم من ‏‏المدافعين عن بوتين‏‏). (1)‏

لكن الأدلة المتعلقة بالاستخدام الإسرائيلي للعوامل البيولوجية ضد المدنيين الفلسطينيين جاءت من أرشيف الحكومة الإسرائيلية نفسها، ومن المذكرات والرسائل والمقابلات ذات الصلة كما جمعها في مقال علمي مؤرخان إسرائيليان تمتعان بالاحترام في مجالهما: بيني موريس وبنيامين ز. كيدار. وكان موريس، الأستاذ الفخري في جامعة بن غوريون، أحد المؤرخين الجدد الأصليين الذين تحدوا أساطير الحكومة الإسرائيلية. وعلى الرغم من أنه انتقل بشكل حاد إلى اليمين في العقدين الماضيين، إلا أنه لم يتراجع عن أي من النتائج التي كان قد توصل إليها سابقًا. وكيدار أستاذ فخري للتاريخ في الجامعة العبرية في القدس، ونائب الرئيس السابق للأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات.‏

في دراستهما التي نشرت في المجلة الأكاديمية المحترمة “دراسات الشرق الأوسط” ‏‏Middle East Studies‏‏، أظهر موريس وكيدار أن القوات الإسرائيلية خططت لنشر بكتيريا المرض في إمدادات المياه العربية. وقد بدأ العملية شخصيًا الجنرال يغائيل يادين، رئيس العمليات ورئيس الأركان العامة بالنيابة للقوة العسكرية الإسرائيلية الرئيسية، “الهاغاناه”، “بلا شك بإذن من بن غوريون”. وقام موشيه ديان، مسؤول الشؤون العربية في هيئة الأركان العامة في الهاغاناه، شخصيًا بتسليم البكتيريا لضباط الهاغاناه في جميع أنحاء البلاد. وصب عملاء إسرائيليون قوارير تحتوي على بكتيريا التيفوئيد في إمدادات المياه في مدينة عكا العربية، مما تسبب في انتشار المرض في شكل وباء، وحدوث بعض الوفيات. وعزت تقارير أعدها “ضباط ومسؤولون إسرائيليون السهولة التي سقطت بها عكا في أيدي ’الهاغاناه‘ جزئيا إلى الإحباط الناجم عن الوباء”.‏

ولم تقطع العملية ككل شوطًا بعيدًا. في غزة، أسر المصريون عميلين إسرائيليين متورطين في العملية. وفي بعض المناطق، رفض الضباط الإسرائيليون اليساريون التعاون. ولكن، بشكل عام، وجدت القوات الإسرائيلية وسائل أخرى لتنفيذ تطهيرها العرقي للفلسطينيين. باستخدام الإرهاب والعنف، تمكنوا في نهاية المطاف من طرد نصف السكان.‏

يذكر موريس وكيدار بالتفصيل المدى الذي ذهب إليه المسؤولون الإسرائيليون في محاولة إخفاء أفعالهم، في دليل على أن هولاء المسؤولين كانوا على دراية بطبيعة جرائمهم. فبعد كل شيء، قبل عقدين من هذه العملية، كان بروتوكول جنيف قد حظر الاستخدام العسكري للعوامل البكتريولوجية. وما تزال إسرائيل واحدة من عدد قليل من الدول التي ترفض التوقيع على‏‏ حظر جديد للأسلحة البيولوجية‏‏. وقد ‏‏استخدمت عوامل بيولوجية‏ ‏مرات عدة لمحاولة اغتيال أعدائها. وبطبيعة الحال، واصلت إسرائيل مهاجمة المدنيين الفلسطينيين ومنازلهم، مما جعل حياتهم بائسة إلى أقصى حد ممكن، كجزء من أجندتها‏‏ للتطهير العرقي‏‏ من أجل دعم بناء دولة يهودية تفوقية.‏

حالات أخرى لحكومات تستهدف المدنيين‏

‏لم تكن إسرائيل هي الحكومة الوحيدة التي تستهدف المدنيين. في حربها في الهند الصينية، أطلقت الولايات المتحدة العنان لمستوى غير مسبوق من المتفجرات والمواد الكيميائية في الريف الفيتنامي، ليس من أجل تدمير جنود العدو أو الأهداف العسكرية بقدر ما هو لطرد السكان من قراهم حتى لا يكونوا متاحين لدعم الجبهة الوطنية للتحرير. وكما قال الأستاذ في جامعة هارفارد، ‏‏صموئيل هنتنغتون، ‏‏في ‏‏مجلة “فورين أفيرز”‏‏في العام 1968، فقد تسبب القصف الأميركي في “عملية تمدين قسري”. وكتب:

“بطريقة غائبة عن الأذهان، ربما تكون الولايات المتحدة في فيتنام قد عثرت على الإجابة عن ’حروب التحرر الوطني‘. لا تكمن الاستجابة الفعالة في السعي إلى تحقيق نصر عسكري تقليدي، ولا في المذاهب والحيل الباطنية لحرب مكافحة التمرد. بدلاً من ذلك، سيكون التمدين والتحضر والتحديث القسريين هما اللذان يخرجان البلد المعني بسرعة من المرحلة التي يمكن فيها لحركة ثورية ريفية أن تأمل في توليد قوة كافية للوصول إلى السلطة”.‏

وبالمثل، في سورية،‏‏ استهدفت روسيا عمدًا‏‏ المرافق الطبية كوسيلة لطرد السكان الذين كانوا يدعمون المتمردين.‏

‏وفي حالات أخرى، كان الهدف من قصف المدنيين هو التسبب في قدر هائل من البؤس بحيث يضطر العدو إلى الاعتراف بالهزيمة. وخلال الحرب العالمية الثانية، لم تكن ‏‏دريسدن ‏‏وهيروشيما هدفين عسكريين، لكنّ تدميرهما كان يهدف إلى إجبار الحكومتين، الألمانية واليابانية، على التوالي، على الاستسلام.‏

‏الأعمال الروسية في أوكرانيا اليوم

في أوكرانيا اليوم، عانى المدنيون العالقون خلف الخطوط الروسية من عنف مروع كجزء من جهود موسكو لإخضاع السكان. ومع ذلك، بدأ الروس بدءًا من تشرين الأول (أكتوبر) في إطلاق الصواريخ والطائرات من دون طيار ضد أهداف مدنية في جميع أنحاء البلاد، في هجمات مصممة صراحة للتسبب في معاناة هائلة للسكان في الفترة التي تسبق قدوم فصل الشتاء.‏

وفي ندوة نقاشية بثها التلفزيون الرسمي الروسي، شرح مشرعان روسيان ‏‏بصراحة‏‏ منطق الهجمات. واتفق الرجلان، وكلاهما عضو في حزب “روسيا الموحدة” الحاكم الذي يتزعمه بوتين، على أن موسكو يجب أن تركز على قطع إمدادات الكهرباء عن أوكرانيا حتى لا يتمكن شعبها من الحصول على التدفئة أو المياه الجارية أو الأغذية المبردة. وقال أحدهما، أندريه غوروليوف، النائب في مجلس الدوما: “إن غياب الكهرباء يعني غياب المياه، وعدم وجود ثلاجات، وغياب المجاري… بعد أسبوع واحد من انقطاع جميع الكهرباء، سوف تسبح مدينة كييف في ’الخـ…‘ عذرًا على تعبيري. سيكون هناك تهديد واضح بحدوث وباء”.‏

ولدى تعرضه للضغط من مشارك آخر في الندوة، والذي قال إن روسيا يجب أن تهاجم الجيش الأوكراني بدلاً من هذا، رد غوروليوف بالقول:‏

‏”إذا لم يكن لديك ماء، ولا تصريف صحي، فإننا نستشرف تدفق اللاجئين نحو الحدود الغربية، أليس كذلك؟ لأنه سيكون من المستحيل البقاء على قيد الحياة، لا توجد تدفئة، ولا ماء، ولا صرف صحي، ولا أضواء. لا يمكنك أن تطهو الطعام، ولا يوجد مكان لتخزين الطعام، ولا توجد طريقة لنقل الطعام، والنظام النقدي لا يعمل وما إلى ذلك. كيف يعيش المرء في بلد لا يعمل فيه شيء. إذا لم تكن هناك وظائف، فمن سيدفع لأي أحد؟‏”.

باختصار، إضافة إلى عمليات القتل اليومية، ‏‏والتعذيب،‏‏ ‏‏والإخفاء ‏‏والاغتصاب‏‏ في المناطق المحتلة‏‏، ومع ‏‏عمليات النقل القسري ‏‏للمدنيين إلى روسيا، بما في ذلك “‏‏تبني‏‏” آلاف الأطفال هناك، فضلاً عن الهجمات على ‏‏قوافل المساعدات المدنية ‏‏التي وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها “دليل آخر على تجاهل روسيا المطلق لأرواح المدنيين في أوكرانيا”، والهجمات‏‏ العشوائية‏‏ على المدن، تهدف روسيا الآن إلى جعل الحياة اليومية للسكان المدنيين لا تطاق.‏

‏هذه الهجمات على البنية التحتية المدنية الحيوية هي‏‏ جرائم حرب‏‏. وعلى حد تعبير منظمة العفو الدولية، فإن:‏

“استهداف روسيا للبنية التحتية المدنية الأوكرانية غير قانوني. إن الروح المعنوية للسكان المدنيين ليست هدفًا مشروعًا، وتنفيذ هذه الهجمات لغرض وحيد هو ترويع المدنيين هو جريمة حرب. ويجب محاسبة جميع المسؤولين عن إصدار الأوامر بشن هذه الهجمات الإجرامية وارتكابها. ومع تكثيف روسيا جهودها لإرهاب المدنيين في أوكرانيا، يجب على المجتمع الدولي أن يستجيب على وجه السرعة وأن يدين هذه الهجمات الشنيعة”.‏

‏الخبر السار هو أن ‏‏السجل التاريخي‏‏ يشير إلى أن حملات القصف الإرهابية نادرًا ما تنجح. أما الخبر المروع فهو أن آلافا عدة أخرى من المدنيين قد يموتون في أشهر الشتاء المقبلة بسببها.‏

ومع ذلك، عند إدانة هذه الهجمات المروعة على المدنيين، من المهم أن نضع في اعتبارنا أن كل أوكراني -مدنيًا كان أو جنديًا- يموت نتيجة للغزو الروسي الظالم هو ‏‏ضحية لجريمة حرب‏‏. ولو لم يأمر بوتين قواته بدخول أوكرانيا بشكل غير قانوني وغير أخلاقي، لكان كل الأوكرانيين الذين حملوا السلاح دفاعًا عن النفس وقتلوا ما يزالون على قيد الحياة. إن وفاتهم أيضًا هي جرائم فظيعة؛ جرائم تستحق أشد أشكال الإدانة.‏

‏*ستيفن روسكام شالوم Stephen R. Shalom‏‏: هو أستاذ‏‏ العلوم السياسية‏‏ في ‏‏جامعة ويليام باترسون؛ ‏‏حيث يدرِّس منذ العام 1977. وهو كاتب في القضايا الاجتماعية والسياسية ومساهم في منشورات ‏‏Znet ‏‏و”اليسار الديمقراطي”‏‏. وهو عضو في هيئات تحرير “‏‏نشرة العلماء الآسيويين المعنيين” ‏‏و”مجلة ‏‏السياسة الجديدة”‏‏.‏ حصل‏‏ على درجة البكالوريوس ‏‏من‏‏ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا‏‏،‏‏ ودرجة الدكتوراه‏‏ في العلوم السياسية من ‏‏جامعة بوسطن‏‏.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: When Governments Kill Civilians

‏هامش المترجم:

(1) ‏‏‏”تاكر كارلسون الليلة”: عنوان البرنامج الحواري السياسي الليلي الذي يقدمه تاكر سوانسون ماكنير‏‏ كارلسون،‏‏‏‏ (ولد في 16 أيار/ مايو 1969). وهو مقدم برامج تلفزيونية أميركي ‏‏ومعلق سياسي‏‏ ‏‏محافظ‏‏ ومؤلف استضاف هذا البرنامج الحواري السياسي‏ على محطة “‏‏فوكس نيوز” ‏‏منذ العام 2016.‏ عمل في الكتابة للكثير من المنشورات وفي التحليل السياسي واستضافة البرامج الحواري محطات أو المشاركة كضيف فيها.

“غراي زون” Grayzone هو موقع إخباري من أقصى اليسار ومدونة أسسها وحررها الصحفي الأميركي ماكس بلومينتال Max Blumenthal. وكان موقع الويب، الذي تم إنشاؤه في البداية باسم مشروع “غراي زون”، تابعًا لشركة “ألتر-نيت” AlterNet قبل أن يصبح مستقلاً في أوائل العام 2018.