الرئيسة \  مشاركات  \  غطرسة فرنسية بإمتياز...!!

غطرسة فرنسية بإمتياز...!!

04.09.2016
الدكتور عبد القادر حسين ياسين


شارك آلاف الأشخاص في الشهر الماضي في مسيرة صامتة في ضاحية كليشي سو بوا ، شمال شرق باريس ، في ذكري مرور عام علي مقتل شابين مغربيين تسبب في اندلاع أعمال شغب وعنف استمرت ثلاثة أسابيع في ضواحي المدن الفرنسية. وتصدر الموكب أسرتا الشابين اللذين ماتا صعقاً بالكهرباء أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة داخل محول كهربائي. وسارت الأسرتان ومحاموهما ورئيس بلدية المدينة الاشتراكي وراء لافتة حملها شبان من جمعية "ما بعد الكلمات" ارتدوا قمصانا بيضاء كتب عليها "الموت سدى"
كان منظر وزير الداخلية (الذي وصف المتظاهرين ب "الحثالة" ، وقال أن معظمهم من "اللصوص" و "القوَّادين")  وهو يفرّ من مطر الحصى المنهمر عليه وعلى سيارته مؤثرا‍ . فقد تبخرت جميع المظاهر الرسمية والبروتوكولات ليتحول المشهد إلى مشهد شعبي يليق بأي حارة من حارات المدن الفلسطينية التي تشهد يوميا  تراشقاً بالحجارة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي... كنت سأتعاطف مع وزير الداخلية الذي أهين ، ولكن...
في القرن التاسع عشر ، حين أهين القنصل الفرنسي بالجزائر في عهد الداي حسين ، اتخذت فرنسا الحادثة ذريعة لاحتلال الجزائر ثأرا لكرامتها، فمسحت كرامة الشعب الجزائري وشعوب أخرى لأكثر من قرن من الزمان.
وفي سورية حين ضاعت قطة ضابط فرنسي في السويداء، تسبب ذلك في اعتقال العشرات من القادة والزعماء السوريين وبهدلتهم بصورة مزرية ...  وحين اعتقلت فرنسا ضيفاً لاجئاً إلى مضافة سلطان باشا الأطرش ، ضاربة عرض الحائط بالعادات والتقاليد العربية ، أشعلت نار الثورة التي سبقت الثورة السورية الكبرى .
مشكلة فرنسا أنها "قلب أوروبا الثقافي"، ولكنها لم تحظ عبر تاريخها بسياسي يعكس مستواها الحضاري العريق...  كان نابليون بونابرت أحد طغاة العالم ، ولوثت يداه بدماء مئات الآلاف من ضحايا الشعوب.. وبعد نابليون لم يتسلم سدة الحكم شخص لامع أبدا، باستثناء الجنرال شارل ديغول الذي استمد بريقه من كفاحه في الحرب العالمية الثانية ...
أليست مفارقة؟‍
إذا كانت الغطرسة الألمانية نابعة من الإحساس بالظلم التاريخي والإذلال الذي تعرضت له الأمة الألمانية بعد التوقيع على "اتفاقية فرساي" ، فإن الغطرسة الفرنسية تعود إلى أن فرنسا لم تنتصر مرة على الإنجليز بسبب مغامرة قادتها التاريخيين وتهورهم .
وتتمثل غطرسة فرنسا ، شانها في ذلك شأن غيرها من الدول الاستعمارية ، أنها لا تحترم ثقافات الشعوب (وخاصة شعوب العالم الثالث) ، ولذلك غيرت فرنسا الواقع الاجتماعي والثقافي للشعوب المستعمرة  (بفتح الميم) ، بعكس بريطانيا ، الإمبراطورية الاستعمارية العجوز، التي كانت أذكى وأخبث حين لم تكن مهتمة بتغيير الواقع الاجتماعي والثقافي لمستعمراتها .
في "العصر الذهبي" للحضارة الإسلامية اجتاح العرب العديد من الدول ،  ولكنهم  لم يحتقروا ثقافة أي شعب باستثناء  ما خالف عقيدتهم، فترجموا كتبهم وتناقلوا أخبارهم وآدابهم بكثير من الاحترام ..
بلغ من استهانة الزعماء الفرنسيين بالعرب والاستخفاف بمشاعرهم أن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران زار المقابر اليهودية في فرنسا حاملا العلم الإسرائيلي ... 
وباستثناء الجنرال ديغول ،  اعتاد المسؤولون الفرنسيون أن يزنوا كلامهم بميزان الصائغ ، حينما يتعرضون لقضية سياسية أو ثقافية تمس إسرائيل .
في مقابلة أجرتها معه شيكة " Euronews"  قبل يومين ، وصف وزير الإعلام الفرنسي المتظاهرين الذين يشكل المغاربة والجزائريون والسنغاليون أغلبيتهم الساحقة ب "الهمجيين" "Sauvage "  [كذا...!!]
ربما يعتقد بعض الفرنسيين أن التراشق بالحجارة في "بلد النور والعطور" ، واستعمال الأصبع الوسطى لاستفزاز الشرطة عملا همجياً... ولكنه   في رأييي المتواضع   أقل همجية من تزوير التاريخ، ومن كذبة أو أسطورة يراد لنا أن نصَدقها كل يوم.
حين تصمت "لو موند" و "فيغارو" وحتى "نوفيل أوبزرفاتور" اليسارية  صمت المقابر عما يعانيه "الهمجيون" المغاربة والأفارقة  من تفرقة عنصرية وإذلال يومي، وحرمان من الحقوق الثقافية والسياسية التي يكفلها الدستور الفرنسي،  فلا بأس من بلاغة الحجارة ...
وبعد ؛
قبل ألف عام من ولادة  الكاتب والفيلسوف  الاجتماعي الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) ،  مؤلف "العقد الاجتماعي" الذي وضع فيه الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها مجتمع العدل والمساواة ، قال إسماعيل بن القاسم المعروف ب "أبي العتاهية :
"يا من يعيبُ وعيبهُ متشعبٌ     
كمْ فيكَ من عيبٍ وأنتَ تعيبُ"!!