الرئيسة \  مشاركات  \  قراءةٌ في قرار الاِنسحاب الروسي من سورية

قراءةٌ في قرار الاِنسحاب الروسي من سورية

19.03.2016
د. محمد عادل شوك




على الرغم من ميل الاستراتيجية الأمريكية إلى نظرية التحكُّم بالأطراف لنيكولاس سيبكمان الهولندي؛ فإنَّ نظرية السيطرة على القلب لهال فورد ماكندر البريطاني ما تزال موضع اهتمام عندهم.
 و تتمثَّل في أنَّ مَنْ يسيطر على أوروبا الشرقية، تسهل عليه السيطرة على المنطقة الرئيسية ( قلب العالم: الشرق الأوسط )، ومَنْ يسيطر على المنطقة الرئيسية يمكنه أن يحكم أطراف العالم.
و تمثِّل سورية عقدة المواصلات فيها، و من غير الوارد أن تدع الولايات المتحدة أحدًا يمدُّ يدَه إليها من غير رضاها.
تلكُمْ هي المُنطلقات التي يُمكن أنْ نقرأ بموجبها أبعاد التدخُّل الروسي في سورية ابتداءً، ثمّ انتهاءً بالانسحاب منها، وَفْقَ ما أعلنَه بوتين مساء الاثنين ( 14/ 3/ 2016م ).
لقد نظرَ بوتين إلى سياسة اليد الليّنة، التي تتسمُ بها سياسة أوباما في عموم الملفّات الخارجيّة؛ فظنَّها تراجعًا و انكماشًا عن المناطق الحيويّة لأمريكا، التي ما تزال ممسكة ببيرق القطبيّة الأحاديّة في العالم.
لقد تركت أمريكا الرفيقين: بوتين و لافروف لجملة من السقطات التي أحاطت بسياستهما في المنطقة، منها:
1ـ أنّ غضّ الطرف عن تدخّل روسيا في سورية في ( 30/ 9/ 2015م )، لم يكن أكثر من تفريغ لشحنة فائض القوة، التي ما تزال تحتفظ بها من الخزين السوفياتي، بعد إفراغ قسم منها في شرق أوكرانيا.
2ـ سقوطها أخلاقيًا عند مناصري ثورات الشعوب، و عند شريحة كبيرة من العالم الإسلامي السُّني، الذي يراها تصطف مع إيران الطائفية، بوجه أغلبية شعبية ( سُنية ) ضدّ نظام أقلّوي ( طائفيّ ).
3ـ قيامها بأدوار وظيفية تنأى أمريكا بنفسها عنها لاعتبارات عِدّة، منها:
ـ إشهار العصا الغليظة بوجه فصائل الثورة، التي أدارت أمريكا ظهرَها لها، بعد عبثها بأوراق الحلّ التي كانت ترتبها لمرحلة ما بعد الأسد، و هي الرسالة التي وصلت بعض مضامينها للدول الحليفة لها، فأمسكَتْ عنها الدعم المادي و اللوجستي، في ذات الوقت الذي كانت فيه روسيا تعصرها عصرًا شديدًا.
ـ تبنّي الرؤية الأمريكية في تقسيم المنطقة إثنيًّا و طائفيًّا، من خلال إعلان الفَدرَلَة في سورية، و هي سقطة كبيرة بحق بوتين، حيث تتنافى مع عقيدته السياسية تمامًا، و هو الأمر الذي استثمرته تركيا أيَّما استثمار في زيارة حملت داوود أوغلو إلى طهران، نتج عنها تعميق شقّة الخلاف الروسي الإيراني، و تباين الرؤى في حلحلة الملف السوري، بتصريحات كانت غاية في الوضوح على لسان روحاني، إلى جانب زيادة حجم التبادل التجاري من عشرة مليارات إلى ثلاثين مليار دولار.
ـ تهميش الدور الإيراني كحليف للأسد، ممسك بالورقة السوريّة لوحده، و في ذلك إرضاء للحلفاء الخليجيين، الذين باتوا و إيران على الطاولة نفسها في اتخاذ القرارات الإقليميّة.
4ـ لقد تركت أمريكا هامشًا من التحرّك لحلفائها التقليديين، لتوهين قوى روسيا، فتفهمت إسقاط تركيا طائرةَ السوخوي 24، و هو ما نتج عنه خدش كبرياء بوتين، الذي لم يدخر جهدًا في صبّ جام عضبه على حواضن الثورة السورية، و جعلتْ شركات النفط الأحفوري تسكت عن الخطوة السعوديّة، في تدني أسعار النفط إلى ما دون الثلاثين دولارًا، الأمر الذي انعكس سلبًا على الاقتصاد الروسي، و كان من الأسباب المهمّة وراء إعلانه هذا الانسحاب.
5ـ لقد توقّع الروس أنّ ثلاثة أشهر، ستكون كافية كي تؤتي ضرباتها الجوية أُكلها، ولكنهم اكتشفوا أنَّه لا توجد قوات قادرة على إمساك الأرض، سواء من النظام أو حلفائه الطائفيين، و مع ذلك يخرج بشار و بعض مسؤوليه بتصريحات ذات سقوف مرتفعة، استثمارًا لما تحقّق من تغيير موازين القوى في الآونة الأخيرة بسبب كثافة الضربات الجوية لمناطق الثوار، من غير الإيفاء بتعهداته التي قطعها لبوتين في أثناء الزيارة الليلية الشهيرة لموسكو في ( 20/ 10/ 2015م ) بالسير وفق رؤيتها للحل.
6ـ لقد خشي بوتين من غض الطرف الأمريكية، عن مساعي دول التحالف الإسلامي، لإرسال قوات بريّة إلى سورية لمحاربة داعش، و قد بدأت تباشيرها تتجسَّد في دفعها شرقًا في ريف حلب الشمالي الشرقي بمساندة مدفعية تركيا الواضحة، و كذلك من خلال القصف الأردني لمعبر التنف لمؤازرة كتائب من الجيش الحر؛ الأمر الذي سيجعل من ورقتها غير ذات جدوى، ولاسيّما بعد افتضاح أمر الخبراء، و الضباط و الجنود الروس، الذين يتولّون إنتاج الطاقة و تأمين نقلها، من شرق سورية حتى تصل إلى القلمون مرورًا بتدمر.
فعلى ما يبدو أنّ بوتين بات يخشى من ارتدادات الأمر على الداخل الروسي، بعدما اتضح لكثير من المراقبين حجم الورطة التي أدخل فيها الأمريكان بوتين، ولاسيّما أنّ الانتخابات البرلمانية في روسيا على الأبواب، في ( 9/ 2016م )، وسط وضع اقتصادي و اجتماعي مقلقين له، و هو يخشى أن تنعكس سلبًا عليه.
إلى جانب تفاهمات نفطية جمعتها مع السعودية و فنزويلا، احتضنَتْ الدوحة لقاءها الأول في ( 16/ 2  )، و نتج عنه ارتفاع برميل النفط إلى أربعين دولار، و هناك اجتماع موسّع مزمع في ( 17/ 4 )، و لا تريد روسيا أن تفوّته من أجل نظام لم تعُد تُجدي معه كثرة محاولات التعويم، و آخرها محاولتها هي.
إنّ قرار الانسحاب وفق كثير من القراءات، سينعكس إيجابيًّا على موقف فصائل الثورة السورية، المحليّة منها على وجه التحديد، و قد أعطى وفدَها المفاوض في جنيف دفعةً نحو الأمام؛ جعلت وفد النظام مأزومًا بشكل غير خاف على كثير من المراقبين.
و هذا الأمر يتطلّب منها مزيدًا من التنسيق على شتى الصُعُد؛ تحسبًا لنتائج التفاهمات حول الملف السوري، بين الدول صاحبة النفوذ، في قادم الأيام.