الرئيسة \  تقارير  \  قصة ثلاث مدن : نفاق واشنطن بشأن "النظام الدولي القائم على القواعد"

قصة ثلاث مدن : نفاق واشنطن بشأن "النظام الدولي القائم على القواعد"

15.02.2023
الغد الأردنية

قصة ثلاث مدن : نفاق واشنطن بشأن "النظام الدولي القائم على القواعد"
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الثلاثاء 14-2-2023
قد يكون المرء في الواقع راغبًا في تأمل فكرة أن ثمة بعض القيمة التي ينطوي عليها “النظام الدولي القائم على القواعد” الذي تروج له إدارة جو بايدن -فقط لو أن مثل هذا الشيء كان موجودًا بالفعل ويتم تطبيقه بالتساوي على جميع المخالفين.
لكن “القواعد” المشار إليها لا هي شيء تم الاتفاق عليه، ولا هي مدفوعة بأي إجماع دولي واسع، وهي لا تعدو أن تكون مجرد خدعة يتم استغلالها لتعزيز مصالح الولايات المتحدة وأقرب حلفائها.
وفي الواقع، غالبًا ما يتم تجاهل “القواعد”، كما هي، لتمرير السلوك السيئ الذي تمارسه الولايات المتحدة وأصدقاؤها.
إذا كانت “القواعد” تهدف حقًا إلى وضع قيود على التفاعلات العنيفة بين الدول، فلنفكر للحظة فقط في السجل الفعلي للولايات المتحدة في هذا الصدد.
تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن الدول الأخرى تعتبر الولايات المتحدة، وبهامش كبير، أخطر دولة في العالم.
ولا يستند هذا الحكم إلى الذكريات التاريخية لهيروشيما وناغازاكي فحسب، بل يستند أيضًا إلى حرب فيتنام، والإطاحة بالأنظمة “اليسارية” المزعومة في أماكن مثل إيران وتشيلي وغواتيمالا.
وكانت التدخلات المسلحة على نطاق أكبر أو أصغر من السمات المعتادة لمبادرات الولايات المتحدة في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية منذ الحرب الإسبانية الأميركية.
في وقت أقرب، اندلعت الحرب العالمية على الإرهاب، التي أُطلق لها العنان على العالم بأسره بناءً على إدانة الولايات المتحدة لدول لم يُنظر إليها على أنها لا تسير على الخط الأحمر الذي رسمته واشنطن لتحديد ما يشكل إرهابًا.
وقد أدى ذلك إلى تدخلات عسكرية لا طائل من ورائها، وفاشلة في نهاية المطاف في أفغانستان والعراق، وليبيا، والصومال، حيث توفي، حسب بعض التقديرات، ملايين المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر، واستطاعت الولايات المتحدة نفسها الاستمرار في شن الحرب وإدامتها من خلال طباعة تريليونات الدولارات في ما هو بشكل أساسي عملة ورقية مسطحة، ومراكمة ديون هائلة، فيما سينعكس على الداخل حتما قبل مرور طويل وقت.
نظام القرن الحادي والعشرين
في أفغانستان، وكذلك في اليمن والعراق، انخرطت الولايات المتحدة في اغتيالات مستهدفة وعمليات قتل لمدنيين باستخدام الطائرات من دون طيار.
لعل الجانب الأكثر إثارة للقلق في جميع أعمال العنف التي بدأتها الولايات المتحدة هو أنها لا توجد قواعد فعلية تمكن مشاهدتها، باستثناء المهرجين “بلينكن- بايدن- أوستن” في واشنطن الذين يستشهدون بتهديدات لا أساس لها قادمة من دول غير قادرة فعليًا على إلحاق أي ضرر مثل إيران، أو دول مثل روسيا والصين اللتين لم تكن لديهما أي نية في السابق لمواجهة العملاق العسكري الأميركي.
وهكذا، تكون واشنطن هي القلب النابض للسياسات التي خلقت الاضطراب في جميع أنحاء العالم، بينما تعمل أيضًا على جلب الناس أقرب إلى “ساعة يوم القيامة” التي قد تأتي في حال نشوب حرب نووية.
وكل هذه المواقف هي حرفيًا من أجل لا شيء؛ من أجل قضية سيئة تدعم نظامًا استبداديًا فاسدًا في بلد لا توجد فيه ديمقراطية وبلا خروج واضح من المسار الانحداري.
وقد أصبح واضحاً نفاق أولئك في البيت الأبيض والكونغرس، وكذلك في وسائل الإعلام السائدة، الذين بلغ تهورهم في المغامرة بأرواح وثروات مواطنيهم بطريق مبلغًا يعز حرفيًا عن التصديق.
إذا كانت واشنطن هي الأولى من بين المدن الثلاث التي أفكر فيها، فمن المؤكد أن موسكو يجب أن تحتل المرتبة الثانية، لأنها تقع على الطرف المتلقي لنفاق الولايات المتحدة، حيث يتم اتهامها بالانحراف عن خط “النظام الدولي القائم على القواعد” بغزوها أوكرانيا قبل عام تقريبًا.
لكن روسيا ترى الأمور بشكل مختلف. وقد جادل الكرملين بأنه سعى مرارًا وتكرارًا إلى التفاوض على تسوية مع أوكرانيا بناءً على مسألتين أساسيتين يدَّعي أنهما تهددان أمنه القومي وهويته.
الأولى هي إخفاق أوكرانيا في الامتثال لاتفاقات مينسك 2014-2015 التي منحت قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي لمنطقة دونباس، وهي منطقة يقطنها بلا منازع سكان من أصل روسي، مثلها مثل شبه جزيرة القرم.
في الآونة الأخيرة، زلق لسان المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، فأفصحت عن عدم وجود أي نية من الأساس للامتثال لاتفاقية مينسك، مما يعني أن الأمر برمته كان بمثابة تمثيلية لتمكين أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، وإذا لزم الأمر، محاربة روسيا.
وفي الواقع، تم تجاهل الاتفاقات منذ البداية، حيث استخدمت الميليشيات الأوكرانية والعناصر المسلحة الأخرى المدفعية لقصف منطقة دونباس، مما أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 15.000 شخص معظمهم من الروس، وهو رقم يبدو أن مصادر مستقلة أكدته.
كانت المسألة الحيوية الثانية المهمة للأمن القومي بالنسبة لموسكو تتعلق بخطط عرض عضوية “الناتو” على أوكرانيا، الأمر الذي من شأنه في حال تحقيقه أن يضع تحالفًا عسكريًا معاديًا متفوقًا على أعتاب روسيا.
وقد أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارًا وتكرارًا ملاحظات عن أن كلتا القضيتين قابلتان للتفاوض، وأنه كان على زيلينسكي الموافقة فقط على إبقاء بلاده “محايدة”، أي غير مرتبطة بأي تحالف عسكري، واحترام بعض الحكم الذاتي المعقول لمنطقة دونباس.
ويقال إن الولايات المتحدة وبريطانيا هما اللتان دفعتا أوكرانيا إلى رفض أي من وكل المطالب الروسية، في محاولة لبدء حرب استنزاف باستخدام أرواح الأوكرانيين لزعزعة استقرار حكومة بوتين وتقليل قدرتها على معارضة الهيمنة الأميركية والغربية.
وهناك بالطبع القصة التي في الخلفية، وهي أن الولايات المتحدة كانت تتدخل منذ فترة طويلة في أوروبا الشرقية على الرغم من تعهدها بعدم الاستفادة من تفكك الاتحاد السوفياتي لتوسيع الناتو شرقاً. وكانت الولايات المتحدة قد أحدثت “تغييرًا للنظام” في أوكرانيا في العام 2014، بهدف الإطاحة بحكومة صديقة لموسكو.
ولكن في هذه الحالة الأخيرة، شكل الانخراط المتزايد للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في القتال تطورًا خطيرًا للغاية، أدى إلى تصعيد الصراع وتحويله إلى ما يمكن أن يصبح تبادلًا نوويًا مدمرًا.
ويود المرء أن يرى هدنة فورية تبدأ لوقف القتال تعقبها مفاوضات جادة للتوصل إلى تسوية للنزاع الإقليمي. ولكن، بطبيعة الحال أوضحت الولايات المتحدة، التي قدمت لزيلينسكي أكثر من 100 مليار دولار من المساعدات، أنها غير مهتمة بالتوصل إلى تسوية تفاوضية ما لم يكن بوتين مستعدًا كخطوة أولى لبناء الثقة بالانسحاب من جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. وبعبارة أخرى، يجب عليه أن يستسلم.
وهكذا، فإن تحديد ما إذا كانت موسكو قد انتهكت “النظام الدولي القائم على القواعد” يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعريف المرء للتهديدات. في الحد الأدنى على الأقل، تصرفت واشنطن بالتأكيد بشكل أسوأ بكثير من تصرفات روسيا خلال الأعوام العشرين الماضية، الأمر الذي يؤكد أن “القواعد” هي في الأساس قصة خيالية محبوكة لتناسب مؤلفيها.
وأخيراً، ستكون مدينتي الثالثة التي يجب الانتباه إليها هي القدس، العاصمة المزعومة لدولة إسرائيل. ونظرًا لأن الدولة اليهودية هي إما أقرب حليف لواشنطن أو، كما يعتقد الكثيرون، الذيل الذي يهز الكلب في البيت الأبيض بالفعل، فمن المفيد النظر في سلوكها لفحص ما إذا كانت الولايات المتحدة تطبق معيارًا موحدًا على الصديق والعدو على حد سواء عندما تفرض عقوباتها على المتهمين بمخالفة القواعد.
إذا كان المجتمع الدولي يعتبر الولايات المتحدة أخطر “قوة عظمى”، فيجب اعتبار إسرائيل الدولة المارقة الأبرز بين الدول الأصغر ذات التركيز الإقليمي. وتصل سيطرتها على البيت الأبيض والكونغرس ووسائل الإعلام الوطنية في الولايات المتحدة إلى حد يجعلها لا تُحاسب على أي شيء. في الآونة الأخيرة، كان هناك هجوم شنه جنود إسرائيليون على مخيم للاجئين الفلسطينيين في جنين بالضفة الغربية، قُتل فيه عشرة عرب.
وردًا على ذلك قتل مسلح فلسطيني سبعة إسرائيليين بالرصاص في القدس قبل أن يقتل نفسه. وفي حديثه من المكتب البيضاوي، رأى الرئيس بايدن أنه من المناسب فقط ذكر الهجوم الفلسطيني المضاد، قائلاً إنه “كان هذا هجومًا على العالم المتحضر”.
بل إنها لم تتم الإشارة مطلقًا إلى الهجوم الإسرائيلي الأول الذي أسفر عن مقتل عشرة فلسطينيين، ما يعني أن الفظاعات الإسرائيلية التي تقتل فلسطينيين لا تزعج العالم المتحضر الذي يعيش فيه بايدن.
وفي عرض آخر للبيت الأبيض، يوضح أين تكمن أولوياته، أدى إطلاق جندي إسرائيلي النار في العام الماضي على الصحفية الأميركية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة إلى دعوة خجولة من البيت الأبيض إلى إجراء تحقيق، على الرغم من أن بايدن وشركاه اشتروا بشكل علني كذبة الحكومة الإسرائيلية عن أن مصرع الصحفية كان حادثة، من المحتمل أن تكون ناجمة عن إطلاق نار كثيف من قبل “إرهابيين فلسطينيين” في المنطقة، وهذا غير صحيح.
ولا يتوقع أحد أي رد فعل حقيقي ضد سياسة إسرائيل القائمة على مبدأ “أطلِق النار أولاً”، من الكونغرس، الذي أبعد الأسبوع قبل الماضي عضوة الكونغرس إلهان عمر من “لجنة الشؤون الخارجية” لأنها اعتُبرت “معادية للسامية” بسبب انتقادها لسلوك إسرائيل.
وفي المقابل، أشارت وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أنها لن تتعاون مع أي تحقيق في سلوكها، واختفت قصة أبو عاقلة منذ ذلك الحين.
كما قتلت إسرائيل أيضًا مواطنين أميركيين آخرين من دون أي عواقب، بمن فيهم راشيل كوري، و34 بحارًا على متن السفينة البحرية “يو إس إس ليبرتي” في العام 1967.
ولم يسبق من قبل أن قتلت حكومة أميركيين، فقط لتكافأ بهدية قدرها 3.8 مليار دولار من دافعي الضرائب الأميركيين كل عام. كما أشارت حكومة الدولة اليهودية مؤخرًا إلى أن سياسة إطلاق النار التي تنتهجها ضد المدنيين الفلسطينيين ومؤيديهم الأجانب لن يتم تعديلها.
والجنود ورجال الشرطة الإسرائيليون الذين يقتلون الفلسطينيين، الذين يوصفون بشكل روتيني بأنهم “إرهابيون”، لا يتم التحقيق معهم أو مقاضاتهم أبدًا، وفي بعض الحالات تتم الإشادة بهم في وسائل الإعلام والترويج لهم.
ويبدو أن السيطرة الإسرائيلية على أجزاء كبيرة من الحكومة الفيدرالية الأميركية تزداد فحسب.
في مؤتمر صحفي عقد في الأسبوع قبل الماضي، رفضت وزارة الخارجية الأميركية التأكيد أن إسرائيل تمارس احتلالًا غير مشرع لأجزاء كبيرة من فلسطين، كما لم تعترف بامتلاك إسرائيل ترسانة نووية.
يشبه سجل إسرائيل في التعامل مع جيرانها إلى حد ما النمط الأميركي في تطبيق القواعد، على الرغم من أن إسرائيل نادرًا ما تتكلف عناء تبرير سلوكها.
بل إنها بدأت حربًا كبرى في العام 1967، هاجمت فيها جميع جيرانها، بعد أن اشتكت، كذبًا، من أنهم كانوا “يهددونها”، وبعد ذلك استولت بشكل غير قانوني على أراضيهم واحتلتها.
وهي تقصف سورية حاليًا بشكل منتظم وتهاجم إيران ولبنان والفلسطينيين في غزة. كما اغتالت علماء وفنيين إيرانيين.
وقامت إسرائيل بغزو واحتلال جنوب لبنان وسهلت ارتكاب مجزرة بحق الفلسطينيين المقيمين في المخيمات هناك.
ولم تهاجم أي من سورية أو إيران إسرائيل، أو حتى هددت بفعل ذلك، لكن إسرائيل تصر على الادعاء بأنها مهددة وتحاول إقناع بايدن بالانضمام إليها في مهاجمة الإيرانيين.
وتعمل الحكومة اليمينية المتطرفة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشكل خاص على تصعيد الضغط على الفلسطينيين من خلال اتخاذ إجراءات تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي، من دون خروج حتى صرير صغير عن البيت الأبيض.
كما تتزايد عمليات هدم المنازل ومصادرة الممتلكات ونشر نقاط التفتيش وغيرها من المضايقات على مدار الساعة ضد الفلسطينيين، مع توسع الإسرائيليين في احتلالهم للضفة الغربية.
بل ويفكر بعض الإسرائيليين أيضًا في شيء أعظم؛ في شكل من الإبادة الجماعية، عندما يتعلق الأمر بجيرانهم الفلسطينيين. وقد اقترح عضو برلماني إسرائيلي يميني بارز ما قد يود هو والعديد من زملائه أن يروه يحدث للفلسطينيين الباقين.
دعا زفيكا فوغل، عضو الائتلاف الحاكم، إلى شن “حرب نهائية” ضد الفلسطينيين “من أجل إخضاعهم بشكل نهائي”، بعد صدور إدانة دولية لاقتحام وزير الأمن، إيتامار بن غفير، للمسجد الأقصى بالقدس الشرقية المحتلة، وهي خطوة إضافية غير قانونية تهدف إلى تأكيد السيطرة الكاملة على الوصول إلى الأماكن الإسلامية المقدسة.
وردّ فوغل على الانتقادات قائلاً في مقابلة إن سياسة إسرائيل في شن الحرب مع الفلسطينيين “كل سنتين أو ثلاث سنوات” لم تعد جيدة بما فيه الكفاية، وأنها يجب أن تكون هناك حرب أخيرة “لإخضاعهم مرة واحدة وإلى الأبد. وسوف يستحق الأمر ذلك لأن هذه ستكون الحرب الأخيرة…”.
إنها، إذن، قصة ثلاث مدن. ثمة موسكو تخوض حربًا لها على الأقل سبب منطقي، حتى لو أن المرء، ويجب عليه، أن يعارض التدخلات المسلحة بين دولتين متجاورتين.
وقد لاقت العملية الروسية معارضة من الولايات المتحدة التي صعّدت الحرب بلا هوادة وأنتجت حالة يمكن أن تكون مدمرة لجميع أشكال الحياة على هذا الكوكب.
كما أن واشنطن هي أيضًا المنافق الأكبر في اللعبة من حيث أنها تصرفت بشكل أسوأ بكثير من موسكو على مدار الأعوام العشرين الماضية.
وهناك القدس (أو تل أبيب إذا فضل المرء ذلك). ثمة إسرائيل وحشية هي الأبرز والأكثر جدارة بتأمل كيفية فوزها بالجائزة لكونها الأسوأ بين الجميع على الإطلاق في جرائمها الوحشية وجرائم الحرب التي ترتكبها، من دون أن تتلقى حتى مجرد توبيخ من واشنطن أو جو بايدن بشأن انتهاكاتها لـ”النظام الدولي القائم على القواعد” نفسه.
*الدكتور فيليب إم جيرالدي Philip M. Giraldi: هو المدير التنفيذي لـ”مجلس المصلحة الوطنية”، وهي مؤسسة تعليمية معفاة من الضرائب، تسعى إلى اقتراح سياسة خارجية أميركية، قائمة أكثر على المصالح، في الشرق الأوسط.