الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لا أمن في أوروبا إلّا في استقرار المشرق

لا أمن في أوروبا إلّا في استقرار المشرق

16.01.2017
مصطفى كركوتي


الحياة
الاحد 15/1/2017
لو حصرنا الكلام في الجغرافيا فقط، لكان أمراً بديهياً أن تصبح سورية والعراق الغارقان في حرب متوحشة، وإيران مع ما تمثله من مشاريع تخريبية تهدد الإقليم، دولاً مجاورة للاتحاد الأوروبي في ما لو وافقت دوله على طلب عضوية تركيا الانضمام إلى الاتحاد. ولعل هذه المخاوف بين الأسباب التي تجعل الأوروبيين يترددون في قبول الطلب التركي المتكرر منذ عقود و "المماطلة"- وفق الرئيس رجب طيب أردوغان- في مفاوضات العضوية التي انطلقت قبل عشر سنوات. أضف إلى ذلك "هلع" الأوروبيين من انضمام دولة الغالبية العظمى من سكانها (نحو 79 مليوناً) من المسلمين، فضلاً عن اتساع الهوة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بين شمالها "الإسطنبولي" الأكثر تطلعاً نحو أوروبا وجنوبها الأفقر والأقرب إلى المشرق. وكان رئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كامرون قد قال قبل تصويت بلاده على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي إنه لا يرى احتمال انضمام تركيا الى الاتحاد "قبل عام 3000".
فتركيا، عدا كونها ثاني أهم عضو (بعد ألمانيا) في حلف الناتو، هي، في نظر أوروبا منذ الخمسينات، تلعب دوراً حيوياً كونها "منطقة عازلة" بينها وبين المشرق، تمتص الصدمات والتهديدات المختلفة القادمة من الشرق.
الآن، وأمام حالة مستعصية يمثلها المستنقع السياسي، يدخل هذا المشرق نفقاً من العذاب الأبدي والتمزق الأهلي، على خلفية فراغ ناجمٍ عن انسحاب أميركي معلن من أزمات المنطقة الراهنة تعمل إيران بقواتها المختلفة وميليشيات مذهبية متعددة الجنسيات على ملئه بشراسة ومن دون رادع.
إذا كانت الولايات المتحدة برئيسيها المغادر والمقبل لا ترى في أتون المشرق ما يهدد مصالحها، فماذا عن أوروبا التي لا بد أن تجد ما يقلقها في استدارة أردوغان نحو روسيا للتنسيق في شأن المشرق والتفاهم على تقاسم النفوذ في ساحته السورية. وإذا كان أمن أوروبا يرتهن باستقرار تركيا، ومن خلاله، باستقرار المشرق، هل يمكن لدول الاتحاد الأوروبي أن تلعب دوراً حيوياً وفعالاً إيماناً منها بأن الاستقرار السياسي والأمن الجماعي والسلام الشامل في هذه المنطقة هي عناصر أساسية لمنفعة أكثر من 500 مليون من سكانها، بالإضافة إلى تركيا؟
يجب على هذه الدول أن تقول صراحة إن ما تفعله إيران وروسيا هو تخريب مباشر غير مسبوق لنسيج مجتمعي وتدمير لإمكان قيام أنظمة تمثيلية عادلة تحترم الحريات وحقوق الإنسان وتوفر سبل الحياة لشعوب المنطقة، وبالتحديد في سورية والعراق واليمن. فانعدام الاستقرار في المنطقة يهدد مباشرة أمن أوروبا، ومن هذا المنطلق تنتظر شعوب المنطقة أن تتحرك دول أوروبا لمواجهة هذا الخطر الداهم، وترفع صوتها ضد الفوضى العارمة والتوحش غير المسبوق والتغيير الديموغرافي الخبيث. ويفترض أن لا يقتصر الدور الأوروبي على المشرق فحسب، بل يجب أن يشمل مصر وشمال أفريقيا للارتباط الوثيق بين هذه الدول وأوروبا من كل النواحي.
صحيح أن ثمة صعوبات جوهرية تعاني منها أوروبا وقد يتحجج بعض سياسييها بأن لديهم ما يكفي من مشاكل كي يهتموا بمشاكل الآخرين. ولكن هذه الحالة تنم عن قصر نظر استراتيجي خطر لأنه في مثل هذا النوع من الأزمات وانعدام الأمن والاستقرار في المنطقة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، يأخذ التاريخ منعطفات جديدة لا تكون واردة في حسبان أصحاب القرار. سيكون من سوء حظ المنطقة العربية برمتها أن يتجاهل الأوروبيون مشاكلها العديدة والمعقدة، إذ إن مثل هذا التجاهل سينعكس سلباً على المشروع الأوروبي نفسه. في النهاية، ما هي أهمية أوروبا أخلاقياً وإنسانياً إن لم تسهم في وضع قواعد ملموسة وعملية لمساعدة شعوب المنطقة للخروج من هذا المستنقع، إذ إن مثل هذا الدور يعزز الهوية الجمعية للاتحاد الأوروبي على المسرح الدولي. أوروبا لاعب رئيسي في أزمات العالم، ومشاكل المنطقة في مقدمها، أو هكذا يجب أن تكون، لا سيما في فراغ مرعب تملأه قوى ظلامية ومتخلفة عن العصر ومتطلباته، إذ ينتظر سكان المنطقة بمكوناتهم المتعددة من أوروبا القلقة أن تنتقل إلى دائرة الفعل وألا تكتفي بالأقوال.
لقد مضى على ما عُرفَ بـ "الربيع العربي" في المنطقة ست سنوات تقريباً انتهت بالمزيد من البؤس والاضطراب والحروب، ما عدا تونس إلى حد ما. ولا شك في أن تصاعد العنف في المنطقة يحمل معه عناصر تهدد استقرار أوروبا نفسه، ما يستدعي ضرورة أن تقوم دولها بسرعة باتخاذ الإجراءات اللازمة في شكل جماعي، بما في ذلك التدخل المباشر عندما يتطلب الأمر ذلك، وعدم انتظار الولايات المتحدة للتحرك لأنها لن تفعل ذلك. وإذا كانت شعوب المنطقة في حاجة ماسة إلى من ينقذها من جحيم اللحظة الراهنة التي لا يبدو أن ثمة نهاية لها، فعلى أوروبا أن تكون متفاعلة مع المنطقة في شكل مباشر من دون أن تلعب دور الشرطي الدولي أو الإقليمي، كما فعل المحافظون الجدد في عهد إدارة جورج بوش الابن في العراق. فالمنطقة عاجزة عن تقديم حلول محلية لمشاكلها الكونية المنشأ، وانسحاب أميركا منها يقدم لأوروبا فرصة نادرة لتعزيز أمنها في مساعدة المنطقة على استعادة استقرارها ووضع سياسات منهجية لإعادة البناء والتنمية تحترم حقوق الجميع في مجتمعاتها المتعددة الإثنيات.
تجارب السنوات الست الماضية من سورية إلى مصر وتونس، وإلى حد ما منطقة الخليج، بيّنت أن أسباب الانتفاضات تعود في الغالب إلى غياب التمثيل والعدالة بالإضافة إلى انتشار الفساد. من أجل هذه الأسباب، على أوروبا أن تتدخل لدى الحكومات للمساعدة في خلق الظروف السياسية الضرورية التي تستطيع من خلالها الأقليات والمجموعات المهمشة وجحافل العاطلين عن العمل من الشبان الخريجين التعبير عن حقوقهم بعيداً عن العنف. هذه المهمة لن تنجح إلا إذا تمكنت الدول الأوروبية من ضمان احترام الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية. فالانتقال إلى حالة تعزيز المجتمع المدني وتحميل الحكومات مسؤولية خرق حقوق الإنسان وإخماد طموح إيران التخريبي في الإقليم، شروط أساسية لضمان الاستقرار في المنطقة. ولأن هذه الأخيرة تتشارك مع أوروبا الفضاء نفسه، فاستقرارها هو الضامن للأمن الأوروبي.