الرئيسة \  تقارير  \  ما سقط مع سقوط الأسد

ما سقط مع سقوط الأسد

18.12.2024
عيسى الشعيبي



ما سقط مع سقوط الأسد
عيسى الشعيبي
 العربي الجديد
الثلاثاء 17/12/2024
كان سقوط نظام الأسد (الأب والابن) سقوطاً مدوّياً بالمعايير كلّها، أسمع رجعه السوريين والعرب وكلّ من في أذنه وقر، وغشى المشهد الزلزالي العنيف، الذي فاقت درجته في مقياس ريختر السياسي، الأبصار والقلوب والأذهان، وأزاغ الرؤى عمّا رافق الانهيار من ارتدادات، وما تلاه من تداعيات وتحوّلات، تعاقبت في شكل حلقات في سلسلة من الانتكاسات والخسارات الاستراتيجية، التي تلاحقت على الفور، وامتدّت في نطاق أشمل من الرقعة السورية، وكان دويّ صفّارات إنذاراتها لا يقلّ حدّةً عن دوي واقعة هروب بشّار الأسد تحت جنح الظلام، الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر مليّاً، وتكثيف الضوء على مفاعيل تلك الخسائر والانهيارات المضاعفات الجارية بعد على قدم وساق.
القائمة هذه طويلة، يحتاج حصر بنودها إلى صبر جميل، ويتطلّب جهداً جهيداً، وأحسب أن ما يتصدّرها مكتوب بالبنط الأحمر العريض، وهو خسارة آل الأسد، ومعهم الزمرة التي حكمت الأكثرية بالحديد والنار، نصف قرن وأكثر، وثانيها سقوط دولة الأمن المتوحّشة، وأقبية التعذيب الرطبة، والمعتقلات السرّية. كما كان حتمياً سقوط جمهورية الصمت والترهيب والإسكات، ودولة "الشبّيحة"، فضلاً عن سقوط أول "جملوكية" عربية توءم كوريا الشمالية (رئاسية بنظام حكم سُلالي)، وانهيار جيش هرب سابقاً من الجولان ولبنان، واليوم من حلب وحمص والشام، تحت قيادة الأب والابن، اعتاد الهرولة، ولم يُحسِن المواجهة مع العدو ذات مرّة.
إلى جانب ذلك، سقطت التحالفات الهجينة مع المليشيات الطائفية، وسقطت دولة الكبتاغون، ومافيات النهب والسلب والتسلّط والفساد والاستبداد، وبرلمان الأرغوزات، وخرقة الدستور المفصّل في مقاس وليّ عهد أبيه بشّار، وعَرِّجْ على البراميل المتفجّرة والسلاح الكيماوي، فضلاً عن أزعومة الانتخابات والاستفتاءات والحزب القائد والإعلام الخشبي التافه، والتغوّل على البلاد والعباد.
ولعلّ الخسارة التي لا توازيها الخسائر السابقة كلّها، هي خسارة هيبة المنزلة المنتزعة بالقوة الغاشمة، بعد تحطيم تماثيل الأب والابن، وتمزيق صورهما، في شتّى المدن السورية، بما في ذلك القرداحة مسقط الرأس، وكانت أشدّها هولاً حرق ضريح مؤسّس الدولة التسلّطية، حيث زعم مريدوه وأركان حكمه، مثل وزير دفاعه الأبدي مصطفى طلاس، الذي ملأ صدره بأوسمة معارك لم يخضها، أن الانقلابي على رفاقه في الحزب القائد، هو الشخصية التاريخية العظيمة الثالثة، التي ترقد في الثرى السوري، إلى جانب خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، فإذا بها اليوم تستباح أمام العدسات، وتُهان من دون احترام لحرمة الأموات (مع الأسف!)، فبدا هذا الحريق بمثابة إعلان رمزي عن موت حافظ الأسد مرّة ثانية.
أمّا على الصعيد الخارجي، فقد أدّى سقوط الأسد إلى سقوط المشروع الإمبراطوري الإيراني، وانغلق "الكاريدور" البرّي بين طهران وبيروت، وصار الهلال الشيعي محاقاً بعد أن غمر معظم المشرق العربي، وانقضى العصر الذهبي للطائفة التي علت في أربع عواصم عربية، وسقطت أكذوبة الممانعة وديماغوجية "وحدة الساحات"، كما أدّى سقوط الأسد إلى اهتزاز الأرضية السياسية تحت أعمدة القواعد الروسية، وفقدت موسكو مبرّر الوجود في بلد حاربت فيه حكّامه الجدد بضراوة نحو ثماني سنوات، وذهبت لعبة أستانة، ومناطق خفض التصعيد، أدراج الرياح.
وفي المقابل، صعد نجم الرئيس التركي طيّب رجب أردوغان، وبدا صانع أهداف نظيفة في مرمى الخصوم، وقوّة دفع كامنةً وراء هذا الانقلاب في المعادلات والتوازنات الإقليمية، فيما نتج عن هذا التحوّل الذي أبهج السوريين بحقّ، أضرار جانبية متفاوتة الأهمية، إن لم نقل شديدة السمّية، لعلّ في مقدّمها استغلال دولة الاحتلال حالة الفراغ الناشئ بالعدوان والتوسّع، واستهداف المقدرات العسكرية السورية، وسط التبريرات الأميركية السقيمة ذاتها عن حقّ الدفاع عن النفس، أمّا ثاني الأضرار، فماثل في حرف الأبصار والاهتمامات عن حرب الإبادة الجماعية الجارية في غزّة، وحدّث ولا حرج عن انخفاض وزن النظام الرسمي العربي، ومعه إيران، لصالح اللاعبين الإقليميين الاثنَين، تركيا وإسرائيل، فيما ثالثهما الاستفراد أكثر بلبنان، وربّما شنّ هجوم وشيك على إيران.
أخيراً، عن جدارة واستحقاق تامّين، نال نتنياهو وصمة مجرم حرب أشِر، وبات طريد العدالة الدولية، غير أنه بعد تكشّف أهوال مسلخ صيدنايا لكبس جثامين المعتقلين المغدورين، اتضح أن مقترف حرب الإبادة الجماعية مُجرَّد تلميذ صغير في أكاديمية الأسد لفنون الإجرام والإخفاء القسري والتعذيب.