الرئيسة \  مشاركات  \  مات الوزير .. وبقيت القصيدة !!

مات الوزير .. وبقيت القصيدة !!

08.02.2024
د. محمد رفعت زنجير




مات الوزير .. وبقيت القصيدة !!
بقلم: د. محمد رفعت زنجير
***
ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة سبط ابن التعاويذي الآتي:
" ... وكان وزير الديوان العزيز شرف الدين أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد بن إبراهيم التميمي وزير الإمام المستنجد بالله المعروف بابن البلدي ، وقد عزل أرباب الدواوين وحسبهم وحاسبهم وصادرهم وعاقبهم ونكل بهم، فعمل سبط ابن التعاويذي المذكور في ذلك قوله:
يا قاصدا بغداد حد عن بلدة ... للجور فيها زخرة وعباب
إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على الراجي بها الأبواب
ليست، وما بعد الزمان، كعهدها ... أيام يعمر ربعها الطلاب
ويحلها الرؤساء من ساداتها ... والجلة الأدباء والكتاب
والدهر في أولى حداثته ولل ... أيام فيها نضرة وشباب
والفضل في سوق الكرام يباع بال ... غالي من الأثمان، والآداب
بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب
وارتهم الأجداث أحياء تها ... ل جنادل من فوقهم وتراب
فهم خلود في محابسهم يصب ... عليهم بعد العذاب عذاب
لا يرتجى منها إيابهم، وهل ... يرجى لسكان القبور إياب
والناس قد قامت قيامتهم، فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب
والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب
لا شافعاً تغني شفاعته، ولا ... جان له مما جناه متاب
شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب
حشر وميزان وعرض جرائد ... جوصائف منشورة وحساب
وبها زبانية تبث على الورى ... وسلاسل ومقامع وعذاب
ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب
***
هذه القصيدة موجودة في كثير من كتب الأدب في زمانها.. وفي العصر الحديث جعلها البارودي ضمن مختاراته الشعرية... إضافة إلى وجودها في ديوان صاحبها
***
ترسم هذه القصيدة صورة مكررة لمنهج القمع الذي يلجأ إليه صاحب السيف في مواجهة صاحب الكلمة حين يحتدم الصراع بينهما
حيث لا يتورع الأول عن استخدام مختلف أساليب التعذيب والضغط النفسي والجسدي والاجتماعي ضد صاحب الكلمة الحرة... إنها حالة من القهر والرعب تشبه حالة عذاب يوم القيامة... وهنا يفصل الشاعر في سرد المآسي التي حصلت والتي تشبه مآسي يوم القيامة فكأنها هي هي..
بل إن يوم القيامة الذي يجعل الولدان شيبا هو أقل عسرا وقهرا وعذابا مما فعله ذلك الوزير المتغطرس بأصحاب الكلمة... وذلك لأن في القيامة رحمة الله التي افتقدها الناس في الدنيا، وذلك عندما أوقع بهم ذلك الوزير الباطش...
ولعل مما يؤيد ذلك ما جاء في الحديث:
"(لَلَّهُ أرحمُ بعبادِهِ من الوالدةِ بولدِها) وفي الصَّحيحينِ عنْهُ أنَّهُ قالَ (إنَّ اللَّهَ خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقَها مائةَ رحمةٍ أنزلَ منْها رحمةً واحدةً فبِها يتراحمُ الخلقُ حتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها من تلكَ الرَّحمةِ واحتبسَ عندَهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً فإذا كانَ يومُ القيامةِ جمعَ هذِهِ إلى تلكَ فرحِمَ بِها عبادَهُ)".
الراوي : - | المحدث : ابن تيمية | المصدر : مجموع الفتاوى | الصفحة أو الرقم : 8/97 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
***
البيت الأخير في القصيدة هو بيت القصيد، وهو يريك مدى توحش الإنسان وطغيانه عندما يريد أن يوقع بأخيه الإنسان.. ويريك أيضا مدى رحمة الله في أصعب حالات الحساب والعقاب وهو يوم القيامة... فهو رغم أهواله تتخلله سحائب من رحمة الله تعالى وغفرانه.
***
مات الوزير ابن البلدي
ومات أصحاب الكلمة الذين أوقع بهم
ومات الخليفة
ومات الشاعر
وبقيت هذه القصيدة كقطعة فنية خالدة تخترق حدود الزمان والمكان لتروي مأساة الصراع الذي يحتدم أحيانا بين السيف والقلم، وهو صراع قد يخرج عن حدود اللياقة ليأخذ شكلا وحشيا متجردا من كل القيم الحضارية والإنسانية .. إلا ما رحم ربك...
***
على أن البلاد المتحضرة لا يغلب فيها إلا التوافق بين السيف والفلم... والتاريخ يحدثنا عن الدول الأموية والعباسية وبخاصة دولة الرشيد، ورعايتها للعلوم والآداب..
وكذلك يحدثنا عن دولة بني حمدان وكيف أثمر التوافق بين السيف والقلم في تحقيق الإنجازات.. قال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر" : "كان بنو حمدان ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، ووساطة قلادتهم، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها".
ولأستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة كتاب بعنوان: (سيف الدولة الحمدانى : مملكة السيف ودولة الأقلام).  نشرته الدار المصرية اللبنانية للطباعة والنشر
***
الخلاصة
تذهب الدول وتبيد الحضارات وينقضي كل شيء .. ولا يبفى منها إلا الشعر  والآداب تروي تفاصيل ما حدث وغبر لمن كان له نظر، وفي التاريخ معتبر.
****