الرئيسة \  تقارير  \  ماذا تريد روسيا من تركيزها المتجدد على سوريا؟

ماذا تريد روسيا من تركيزها المتجدد على سوريا؟

24.11.2024
حايد حايد



ماذا تريد روسيا من تركيزها المتجدد على سوريا؟
حايد حايد
المجلة
السبت 23/11/2024
بعد فترة كان دورها في سوريا محدودا بشكل ملحوظ، تعيد روسيا بسط نفوذها هناك، حيث تعيد تموضعها الاستراتيجي وسط تصاعد التوترات الإقليمية. وقد وسعت موسكو بشكل لافت للنظر وجودها العسكري في جنوب سوريا، وخاصة بالقرب من خطوط فض الاشتباك مع إسرائيل، ما يشير إلى طموح متجدد للعب دور محوري في شؤون الشرق الأوسط. ولم يمر هذا التحول بشكل عابر، حيث تفيد تقارير بأن مسؤولين إسرائيليين التقوا بنظرائهم الروس في موسكو، لبحث إمكانية الوساطة الروسية لمعالجة المخاوف الأمنية الملحة لإسرائيل على حدودها الشمالية.
وبالنسبة لتل أبيب، يشكل الوجود الروسي في سوريا فرصة للحد من تدفق الأسلحة إلى "حزب الله" وكبح عودة ظهوره بعد الحرب. وعلى الرغم من أن روسيا أبدت ترددا في البداية في لعب هذا الدور بشكل كامل، فإنها ألمحت إلى استعدادها للانخراط، ولا سيما مع الإدارة الأميركية القادمة بقيادة دونالد ترمب، للتفاوض على ترتيب يهدف إلى تخفيف التوترات الإقليمية. ويبقى السؤال الحاسم: ما نوع الصفقة التي تسعى روسيا لتحقيقها، وإلى أي مدى يمكنها فعلياً ممارسة نفوذها في منطقة تتشابك فيها مصالحها الاستراتيجية مع شبكة معقدة من التحالفات المتنافسة والمتناقضة في كثير من الأحيان؟
الصمت المحسوب
على مدى أشهر، بدت موسكو مكتفية بالجلوس على مقاعد الانتظار لمتابعة الأحداث من الهامش، حتى مع تصاعد التوترات الإقليمية. وفيما سارعت العواصم من الدوحة إلى واشنطن لمنع نشوب حرب أوسع نطاقاً من خلال الانخراط الدبلوماسي المكثف، في أعقاب هجوم "حماس" على إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، حافظت روسيا على صمت بليغ، في تناقض صارخ مع تلك المواقف. ووفقا لبعض المصادر، لم يكن هذا النهج الهادئ من قبيل المصادفة بل كان قرارا محسوبا، حيث بدت موسكو وكأنها تحبذ نوعا من الفوضى المتصاعدة التي تخدم في النهاية مصالحها الاستراتيجية، ما دامت لا تشكل تهديدا مباشرا لمصالحها أو نفوذها.
تأمل إسرائيل في الحصول على دعم روسيا في ترتيب دبلوماسي يتضمن مساعدة موسكو في تعطيل طرق إمداد "حزب الله" من سوريا
من المحتمل أن روسيا حسبت أن الدعم العسكري الأميركي المتزايد لإسرائيل سيعيد تركيز الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، ما يعني بالتالي صرف انتباهها ومواردها بعيدا عن أوكرانيا. وكان الصراع بين إسرائيل و"حماس" قد ساهم في صرف الانتباه عن الحرب الروسية في أوكرانيا والفظائع التي ارتكبت هناك. زد على ذلك أن تزايد المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والجنوب العالمي، والتي تضاعفت بسبب الدعم الواضح من الرئيس بايدن لإسرائيل، قد أوجد المناخ الملائم لروسيا لإضعاف الدبلوماسية والنفوذ الأميركيين في المنطقة. أما حينما بدأت التطورات في سوريا تشكل تهديدا مباشرا للمصالح الروسية، فقد تحولت موسكو من المراقبة السلبية إلى اتخاذ موقف أكثر حزما.
نقلة تكتيكية
مع تصاعد العمليات الإسرائيلية في سوريا وازدياد احتمالية نشوب صراع إقليمي أوسع، لم يعد بوسع روسيا أن تبقى مكتوفة الأيدي. فقد زاد التوتر من احتمال جر سوريا إلى مواجهة مسلحة أكبر، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تهديد نفوذ موسكو في المنطقة. وردا على ذلك، اتخذت روسيا دوراً أكثر نشاطا في جنوب سوريا. ففي 21 أكتوبر/تشرين الأول، أجرت القوات الروسية مناورات عسكرية مشتركة مع النظام السوري بالقرب من مرتفعات الجولان المحتلة، في استعراض للقوة عقب التعزيزات العسكرية الإسرائيلية وحفر الخنادق على طول المنطقة المنزوعة السلاح مع سوريا. ويبدو أن هذا التحرك الإسرائيلي قد أثار مخاوف موسكو، إذ إنه يشير إلى احتمال تغيير في ديناميكيات السيطرة، خصوصاً في منطقة القنيطرة الاستراتيجية.
وقد أكدت تصريحات المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، على مدى جدية هذه المخاوف الروسية. ففي مقابلة معه بثتها مؤخرا قناة "روسيا اليوم"، حذر لافرنتييف من احتمال غزو إسرائيلي لجنوب سوريا، مشيرا إلى أن مثل هذا التحرك سيستدعي ردا "سلبيا" من موسكو. بيد أن روسيا لم تكتف بالتحذيرات اللفظية، بل سارعت إلى تعزيز وجودها العسكري على الأرض. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أنشأت نقطة مراقبة عسكرية جديدة في جنوب سوريا، ليصبح إجمالي نقاط المراقبة في المنطقة ثماني نقاط. وفي هذا الوجود الموسع رسالة جلية لثني إسرائيل عن تصعيد عملياتها وتأكيد دور روسيا كلاعب رئيس في الأوضاع المتسارعة بالمنطقة.
اقتراح محكوم عليه بالفشل؟
في ظل توسع الوجود العسكري الروسي، أفادت تقارير بأن إسرائيل تدرس إمكانية استغلال نفوذ موسكو لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، المستشار المقرب لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قام مؤخرا بزيارة سرية إلى روسيا لالتماس دعم الكرملين في تأمين وقف إطلاق النار في لبنان. وتأمل إسرائيل في الحصول على دعم موسكو في ترتيب دبلوماسي يتضمن مساعدة روسيا في تعطيل طرق إمداد "حزب الله" من سوريا.
بينما سيسهم التوصل إلى اتفاق يشمل إيران و"حزب الله" في بسْط دور روسيا كضامن للاتفاق، نظريا على الأقل، فإن قدرة موسكو على إنفاذ مثل هذا الاتفاق لا تزال موضع شك
ومع ذلك، يبدو أن قدرة روسيا التشغيلية المحدودة وتحالفها المتزايد مع إيران قد قلصت من استعدادها للتعاون. ففي 13 نوفمبر/تشرين الثاني، صرح ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا، لوسائل إعلام روسية بأن طلب إسرائيل سيتطلب إقامة حواجز ونقاط تفتيش على طول الحدود لوقف طرق إمداد "حزب الله" بشكل فعال. ولكن مثل هذه العملية في رأيه "شديدة الصعوبة" بالنسبة للقوات الروسية، مشدداً على أنها تقع خارج نطاق تفويض روسيا في سوريا، الذي أوضح أنه يقتصر على "عمليات مكافحة الإرهاب". وأكد أن "هذه المسؤوليات يجب أن تقع مباشرة على عاتق السلطات اللبنانية والحكومة السورية"، مشيرا إلى محدودية قدرة روسيا على "التأثير في هذا الميدان".
صفقة بشروط خاصة
ولكنْ لا ينبغي تصور أن إحجام موسكو عن تنفيذ الترتيبات التي تريدها إسرائيل يعني عدم رغبتها الكاملة في تهدئة الأوضاع هناك. على العكس من ذلك، تبحث روسيا عن صفقة تخدم مصالحها الاستراتيجية الخاصة، ولكنها قلقة من أن يضع الاقتراح الإسرائيلي موسكو على خلاف مع "حزب الله" وإيران، اللذين يعارضان بشدة الشروط الإسرائيلية، ناهيك عن كونه يحتاج إلى موارد مالية وبشرية كبيرة. كما أن مثل هذا الالتزام قد يعرّض نفوذ روسيا في سوريا للخطر، بل قد يوتر تحالفها الحاسم مع إيران، وهو ما لا ترغب روسيا فيه، خاصة في ضوء الإمدادات الإيرانية التي تساعد القوات الروسية في حربها ضد أوكرانيا.
وإدراكا منها أن الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات أمر غير محتمل، يبدو أن موسكو تحوّل تركيزها نحو مفاوضات محتملة مع الإدارة الأميركية القادمة في عهد ترمب. وفي مقابلة مع وكالة "تاس" يوم 13 نوفمبر، ناقش لافرنتييف إمكانية الحوار مع فريق ترمب، في إشارة إلى انفتاح موسكو، قائلا: "إذا كان شركاؤنا الأميركيون مهتمين بمتابعة مثل هذه الاتصالات، فإن روسيا مستعدة للانخراط في ذلك"، ملمحا إلى أن نهج ترمب القائم على الصفقات قد يفتح آفاقاً جديدة للتعاون... "دعونا إذن نتابع ما يمكنه تقديمه في هذا الصدد".
كما أقر لافرنتييف بأن تحقيق سلام دائم في سوريا يتطلب معالجة الديناميكيات الإقليمية الأوسع، بما في ذلك الديناميكيات في لبنان وغزة والعلاقة بين إسرائيل وإيران. وقال: "ينبغي أن تسير كل الأمور معا"، مشددا على ضرورة أن تبدي جميع الأطراف المرونة. وأعرب أخيرا عن تفاؤل حذر، مضيفا: "نتوقع أن نتمكن من التوصل إلى بعض الاتفاقات المحددة، بما في ذلك بشأن سوريا".
مشكلة التنفيذ
بينما سيسهم التوصل إلى اتفاق يشمل إيران و"حزب الله" في بسْط دور روسيا كضامن للاتفاق، نظريا على الأقل، فإن قدرة موسكو على إنفاذ مثل هذا الاتفاق لا تزال موضع شك. وفي عام 2018، توسطت روسيا في اتفاق يهدف إلى إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها عن حدود سوريا الجنوبية مع إسرائيل، وذلك في المقام الأول لتخفيف المخاوف الأمنية الإسرائيلية، غير أن الاتفاق فشل فشلا ذريعا في منع إيران ووكلائها من إعادة تأسيس وجود لها في جنوب سوريا.
إلى أن تتم معالجة الأسباب العميقة لانعدام الأمن في المنطقة بشكل مجد، ستبقى مناورات روسيا الحازمة مجرد لعبة قوة قصيرة الأجل بدلا من أن تكون طريقا للاستقرار الدائم
وبمرور الوقت، أسست القوات الإيرانية والميليشيات المتحالفة معها، بما في ذلك "حزب الله"، موطئ قدم قوي في المنطقة الحدودية، وغالبا ما كان ذلك تحت ستار الوحدات العسكرية السورية أو الميليشيات المحلية. ولم تنتقد موسكو، العاجزة عن تطبيق الشروط، هذه الانتهاكات علنا، ولم تعترف بفشلها في الحفاظ على الاتفاق. وهذا– إن عنى شيئا– فإنه يسلط الضوء على نفوذ روسيا المحدود على الأنشطة الإيرانية في سوريا، ما يلقي بظلال من الشك على قدرتها في إنفاذ أي اتفاق مستقبلي، حتى لو وافقت إيران و"حزب الله" في البداية على الامتثال.
ويعكس انخراط روسيا المتزايد في سوريا طموحها في إعادة تشكيل الشروط الإقليمية، إلا أن قدرتها على العمل كضامن موثوق للاستقرار لا تزال موضع شك كبير، لا سيما وأنها تسترشد في تحركاتها بمصالحها الذاتية، وتهدف إلى ترسيخ قدميها في الشرق الأوسط مع الحفاظ بعناية على العلاقات مع حلفائها الرئيسين، مثل إيران.
وإلى أن تتم معالجة الأسباب العميقة لانعدام الأمن في المنطقة بشكل مجدٍ، ستبقى مناورات روسيا الحازمة مجرد لعبة قوة قصيرة الأجل بدلا من أن تكون طريقاً للاستقرار الدائم. أما التقدم الحقيقي فيتطلب مواجهة الخصومات الراسخة والقضايا المنهجية التي تطيل أمد عدم الاستقرار. أما ما دون ذلك فسيترك المنطقة عالقة في دوامة من التوتر والاضطرابات، دون حل مستدام في الأفق.