الرئيسة \  تقارير  \  ماذا فعلت العقوبات الغربية في روسيا وما هي تداعياتها على الدول الأوروبية؟

ماذا فعلت العقوبات الغربية في روسيا وما هي تداعياتها على الدول الأوروبية؟

20.02.2023
إبراهيم نوار

ماذا فعلت العقوبات الغربية في روسيا وما هي تداعياتها على الدول الأوروبية؟
إبراهيم نوار
القدس العربي
الاحد 19/2/2023
تستعد المفوضية الأوروبية لإصدار حزمة العقوبات العاشرة ضد روسيا، بهدف إضعاف قدرتها على الاستمرار في الحرب، وذلك على التوازي مع تكثيف إمداد أوكرانيا بالسلاح، لمساعدتها على هزيمة روسيا في ساحة الحرب. العقوبات الأوروبية، التي تتبناها أيضا مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، ودول حلف الأطلنطي بقيادة الولايات المتحدة، ليس لها أساس قانوني لأنها اتخذت خارج نطاق القانون الدولي، وخارج منظمات الأمم المتحدة، لكن منطق القوة يعزز وجودها واستمرارها. وقد ابتكرت الولايات المتحدة سياسة العقوبات خارج نطاق الأمم المتحدة بعد انتصارها في الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو. كما أن لجوء الاتحاد الأوروبي إلى استخدام سياسة العقوبات ضد روسيا يمثل خضوعا لابتزاز أمريكي لأوروبا منذ حروب البلقان في تسعينيات القرن الماضي، عندما حاولت أوروبا إبعاد الولايات المتحدة عن التدخل فيها، لكنها لم تتمكن من كبح القوة الأمريكية، خصوصا بعد مذبحة سبرينيتسا عام 1995. ومع وقوع حرب القرم عام 2014 أرادت أوروبا أن تثبت لنفسها أنها تستطيع أن تطور سياسة خاصة بها ضد روسيا؛ فاقتفت طريق الولايات المتحدة في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية، كوسيلة من الوسائل الرئيسية للدفاع عن الهوية الأوروبية ضد التدخل الروسي. لكن مع دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا في العام الماضي، فإن دول الاتحاد الأوروبي وجدت نفسها تعود مرة أخرى إلى أحضان الدبلوماسية الأمريكية، التي استعادت مكانتها في أوروبا بعد أن كانت تفقدها تدريجيا خلال السنوات العشر الأخيرة.
مجالات العقوبات
تتضمن العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا منذ حرب القرم عام 2014 مجموعة من الحزم العقابية، في ثلاثة مجالات رئيسية: المجال الأول، هو عقوبات تستهدف أشخاصا وهيئات بعينها تشمل مصادرة الأملاك وتصفية الشركات ومنع التعامل معها. والمجال الثاني، هو عقوبات اقتصادية تشمل قطاعات العملات والتسويات النقدية، والتجارة، والتمويل، والنقل، بما في ذلك النقل الجوي وإغلاق المجال الجوي الأوروبي ضد طائرات الشحن والركاب الروسية، والتأمين والخدمات وغيرها. أما المجال الثالث للعقوبات فهو فرض قيود على تأشيرات الدخول للأفراد بشكل عام. وتنطبق هذه العقوبات على تأشيرات السفر للدراسة أو المشاركة في المؤتمرات العلمية أو المسابقات الرياضية والفنية وغيرها.
وقد تم توسيع العقوبات المفروضة على روسيا لتشمل كلا من بيلاروسيا وإيران بسبب تأييدهما للحرب الروسية في أوكرانيا. وتقول بيانات الاتحاد الأوروبي أن العقوبات ضد هذه الدول بما فيها روسيا، لا تسري على تجارة المواد الغذائية والسلع الزراعية والأسمدة، خارج دول الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن القيود المفروضة على واحدة من أكبر الدول المنتجة للأسمدة والحبوب وزيوت الطعام في العالم ترك آثاره السلبية على سوق المواد الغذائية الأوروبية والعالمية، بما في ذلك الدول النامية والفقيرة، التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وقد كان ارتفاع أسعار الغذاء واحدا من المحركات الرئيسية لارتفاع التضخم في أوروبا، ومن ثم للسياسة النقدية المتشددة التي ما يزال يطبقها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهي السياسة التي أضعفت اليورو والاسترليني والين الياباني وعملات الدول النامية.
وفيما يتعلق بالعقوبات المفروضة ضد الأفراد الطبيعيين والاعتباريين والشركات والبنوك، فقد بلغ عدد الأفراد الخاضعين للعقوبات حتى الآن 1386 فردا، في حين بلغ عدد الهيئات والشركات والبنوك 171 كيانا، تشمل أهم شركات النفط والغاز، والبنوك، والنقل الجوي والبحري، والإعلام، والأحزاب الروسية. ويتصدر قائمة العقوبات على الأفراد أسماء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأركان حكومته، وأعضاء مجلس الدوما، وكبار رجال الأعمال الروس، بمن فيهم من يعيشون في الخارج.
وعلى الصعيد الاقتصادي تشمل العقوبات فرض حصار تجاري ومالي وتكنولوجي، يحرم روسيا من الحصول على أي تسهيلات تساعدها في حربها ضد أوكرانيا. وتشمل قائمة السلع المحظورة: أجهزة الكمبيوتر الفائقة السرعة، والرقائق الإلكترونية المتقدمة، والآلات، ووسائل النقل الحديثة المستخدمة في صناعات رئيسية مثل التنقيب عن البترول واستخراجه وتكريره، والطائرات ومكوناتها وقطع غيارها، وأجهزة ووسائل الملاحة البحرية، والرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات المستخدمة في صناعة الطائرات المسيرة، وكافة الآلات والاجهزة الكهربائية والالكترونية ذات الاستخدام الثنائي المدني/ العسكري.
عزل روسيا عن أسواق العالم
ومع أن الهدف الرئيسي من العقوبات هو حرمان روسيا من القدرة على تمويل الحرب والاستمرار فيها، فإن قائمة العقوبات تظهر أن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى ما هو أكثر من ذلك، ويسعى إلى استخدام العقوبات لإرجاع روسيا إلى الوراء اقتصاديا وحضاريا إلى ما كانت عليه قبل أكثر من 100 عام. ومن ثم فإن العقوبات تهدف إلى قطع روسيا عن أسواق رأس المال والطاقة والسلع التكنولوجية المتقدمة. كما تهدف إلى حظر وصول الصادرات الروسية الرئيسية، مثل النفط والغاز والفحم والذهب والألومنيوم والصلب والأسمنت والأخشاب والورق والبلاستيك إلى الأسواق العالمية.
وقرر الاتحاد الأوروبي في حزيران/يونيو من العام الماضي فرض الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا، التي تضمنت حظر استيراد النفط الروسي المحمول بحرا أو نقله أو السماح بعبوره في موانئها أو مياهها الإقليمية، اعتبارا من 5 كانون الأول/ديسمبر 2022. كما تضمنت حزمة العقوبات فرض حظر مماثل على المشتقات النفطية اعتبارا من 5 شباط/فبراير 2023. وقد تم استثناء شحنات النفط الروسية التي تدخل أوروبا بواسطة الأنابيب، نظرا لاعتماد عدد من الدول الأوروبية عليها مثل بلغاريا وكرواتيا. ويقدر الاتحاد الأوروبي أن حظر استيراد البترول المنقول بحرا يصيب ما يقرب من 90 في المئة من مبيعات روسيا النفطية في الأسواق الأوروبية، ومن ثم حرمانها من إيرادات التصدير. ثم أضافت أوروبا للحظر، وضع سقف لأسعار النفط الروسي المباع عالميا، بما يحد من المكاسب التجارية التي يمكن أن تحصل عليها روسيا. وتم تحديد سقف السعر بما يغطي تكاليف استمرار الإنتاج، حتى لا يتعرض العالم لأزمة نفطية، بسبب نقص الإمدادات. وتم تحديد سعر خام الأورال العادي (خام القياس الروسي) بمقدار 60 دولارا للبرميل، وتحديد سعر المنتجات الخفيفة المتميزة بحوالي 100 دولار للبرميل. بهذا التدخل ضد حرية التجارة، فإن دول الاتحاد الأوروبي تسببت في حدوث تشوهات حادة في السوق وتقلبات في الأسعار، تربحت منها شركات التجارة النقل والتأمين، في حين أن الخسارة كانت من نصيب روسيا والمستهلكين الأوروبيين، بمن فيهم الأفراد والشركات. ولجأت دول مثل الهند إلى استيراد النفط الروسي الخام وإعادة تصديره بالأسعار العالمية، أو تكريره في مصافيها المحلية وتصدير المنتجات إلى أوروبا بالأسعار العالمية.
خريطة جديدة لسوق الطاقة
تسببت العقوبات ضد صادرات النفط الخام والوقود والغاز بواسطة الدول السبع الصناعية الكبرى في تحول الصادرات الروسية إلى دول الدول الآسيوية، خصوصا الهند والصين وباكستان وتركيا. وأدى هذا التحول إلى نقص الإمدادات في أوروبا، وارتفاع أسعار الوقود والطاقة بشكل عام. الذين استفادوا من هذا الارتفاع في الأسعار هي الشركات العاملة في تجارة النفط، وشركات النقل والتأمين وإعادة التأمين. فقد ارتفعت أسعار النفط الخام والغاز في الأشهر التالية لحرب أوكرانيا، ووصلت إلى ذروتها في شهر آب/أغسطس الماضي حيث سجلت أسعار الغاز مستويات تاريخية تقترب من 95 دولارا للمليون وحدة حرارية بريطانية، وتجاوز النفط 120 دولارا للبرميل. وفي الأسبوع الماضي قفزت تكلفة النقل البحري إلى أربعة أمثال ما كانت عليه. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار النفط الخام الروسي في السوق، بعد قرار روسيا تخفيض إنتاجها بمقدار 500 ألف برميل يوميا اعتبارا من الشهر المقبل، وذلك على الرغم من لجوء الولايات المتحدة إلى بيع جزء من الاحتياطي الاستراتيجي لإعادة التوازن للسوق.
خسائر روسيا
تظهر بيانات شركة غازبروم الروسية أن إيرادات التصدير في الشهر الماضي انخفضت إلى حوالي 3.4 مليار دولار، مقابل 6.3 مليار دولار في كانون الثاني/يناير من العام الماضي. هذا يعني أن الإيرادات السنوية للشركة في العام الحالي ستنخفض عما كانت عليه في العام الماضي (حوالي 80 مليار دولار). أي انخفاض في إيرادات تصدير النفط والغاز ينعكس بصورة قوية في زيادة عجز الميزانية الروسية. وقد ارتفع العجز في الشهر الأول من العام الحالي إلى 25 مليار دولار، نظرا لأن نصيب الدولة من الإيرادات والضرائب يشكل أحد المكونات الرئيسية في تمويل الإنفاق الحكومي. وقد جاء هذا العجز نتيجة لمفعول انخفاض الإيرادات بنسبة 46 في المئة، وزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 59 في المئة طبقا لتقرير نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” في 6 من الشهر الحالي.
الخسائر الأوروبية
تلعب الآثار المؤجلة للعقوبات أو تداعياتها دورا مهما في الضغط على معدلات النمو والتضخم في دول الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية السبع الكبرى. وعلى الرغم من أن هذه الدول حققت في العام الماضي نموا بنسبة 2.7 في المئة مقابل انكماش اقتصادي في روسيا بنسبة (- 2.2 في المئة) حسب تقدير صندوق النقد الدولي، فإن روسيا ستتمكن من تحقيق معدل نمو إيجابي ضئيل في العام الحالي بنسبة 0.3 في المئة، في حين أن معدل النمو في الدول الصناعية الرئيسية سيهبط إلى 1.2 في المئة فقط، أي أقل من نصف ما حققه في العام الماضي. وفي داخل منطقة اليورو سيهبط النمو إلى 0.1 في المئة في ألمانيا، وإلى 0.7 في المئة في فرنسا، وهو المتوسط العام للنمو في دول المنطقة خلال العام. وفي الوقت نفسه فإن دول الاتحاد الأوروبي ستظل تعاني من ارتفاع معدل التضخم الذي كان قد ارتفع إلى 11.9 في المئة في المتوسط في العام الماضي. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يستمر التضخم مرتفعا في الأعوام الثلاثة المقبلة فوق المعدل المستهدف الذي يبلغ 2 في المئة فقط. ويقدر صندوق النقد الدولي أن التضخم في منطقة اليورو سيبلغ 9.2 في المئة في العام الحالي، كما سيصل إلى 9 في المئة في بريطانيا، مقابل 5 في المئة في روسيا. ويتوقع الصندوق أن يتراجع التضخم في روسيا بسرعة أكبر في السنوات المقبلة. ويخبرنا ارتفاع التضخم في دول اليورو عنه في روسيا أن العقوبات فشلت في إضعاف الروبل، وأن عجز الميزانية الروسية لم يخرج عن نطاق السيطرة، ولا يحتاج إلى سياسة نقدية متشددة، كتلك التي يتبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أو البنك المركزي الأوروبي. وقد تسببت هذه السياسة حتى الآن في اضطراب قيمة اليورو، حتى هبطت إلى ما يقرب من دولار واحد، كما تراجعت معدلات النمو، وارتفعت تكاليف المعيشة إلى الدرجة التي أصبحت تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في دول الاتحاد.
لقد أدت العقوبات فعلا إلى إصابة روسيا بخسائر كثيرة، لكنها أصابت أوروبا أيضا بأضرار وتداعيات واسعة النطاق. كما أدت إلى تحول في التجارة العالمية للطاقة، وبلورت محورا جيوستراتيجيا جديدا في سوق الطاقة يعززه تحالف “أوبك الاحد 19/2/2023” على جانب العرض، كما تسانده قوى اقتصادية مهمة على جانب الطلب تشمل الصين والهند وباكستان وتركيا، وهي دول لا تلتزم بالعقوبات ضد روسيا. هذا يعني من الناحية العملية ظهور حالة انقسام في النظام التجاري العالمي، توازيها بالضرورة حالة انقسام نراه يتبلور يوما بعد يوم لنظام نقدي عالمي جديد، تلعب فيه التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا البلوك تشين دورا كبيرا، كما يضم قوى اقتصادية صاعدة إلى جانب الصين، مثل الهند وجنوب أفريقيا وتركيا وإيران. النظام الذي يتبلور الآن، يتراجع فيه دور الدولار، لصالح كل من اليوان واليورو.