الرئيسة \  تقارير  \  مارتن لوثر كينغ والنضال من أجل تحقيق السلام العالمي

مارتن لوثر كينغ والنضال من أجل تحقيق السلام العالمي

19.01.2023
جاميلي بووي

مارتن لوثر كينغ والنضال من أجل تحقيق السلام العالمي
جاميلي بووي
خدمة “نيويورك تايمز”
الشرق الاوسط
الأربعاء 18/1/2023
من خلال الأسلوب الذي يتحدث به غالبية الأميركيين عن مارتن لوثر كينغ، بعد أكثر عن 50 عاماً من اغتياله، ربما يخيل لك أنه لم يلق سوى خطاب واحد فحسب ـ تحديداً في 28 أغسطس (آب) 1963 في واشنطن ـ وأنه تحدث حصرياً عن التناغم العرقي، وحلمه المرتبط بتحقيق الاندماج، الذي ذكره كثيراً.
إلا أنه في واقع الأمر، تتسم شخصية كينغ بقدر أكبر من التعقيد عما توحي به صورته التي تحيطها هالة من القدسية. كما أن مجمل أعماله ـ من كتابات وخطب ومقابلات ـ أعمق وأكثر اتساعاً في موضوعاته عما قد تعتقد غالبية الأميركيين. ومع الاحتفال السنوي بحياة كينغ، رأيت أنه ربما يكون من المفيد النظر في إحدى خطبه الأقل شهرة، التي تناول خلالها النضال من أجل تحقيق السلام العالمي.
في البداية، ألقى كينغ خطبة عشية أعياد الميلاد، عام 1967. وبدأ كينغ خطبته بملحوظة وتحذير:
“يهلُّ موسم أعياد الميلاد هذا علينا ليجدنا جنساً بشرياً يشعر بالارتباك، فنحن نفتقر إلى السلام بداخلنا وبالخارج. وفي كل مكان، ثمة مخاوف مرعبة تطارد الناس بالنهار والليل. الواقع أن عالمنا مريض بالحرب، وفي كل مكان نعاين الاحتمالات الكريهة للحرب”.ومضى في قوله: “إذا لم نبد حُسن النية تجاه إخواننا البشر في هذا العالم، فسندمر أنفسنا من خلال إساءة استخدام أدواتنا وقوتنا”.
ورغب كينغ ممن يستمعون له أن يعايشوا اللاعنف على أصعدة فيما وراء النضال من أجل إقرار العدالة العنصرية داخل الولايات المتحدة. وأشار إلى أنه من أجل تحقيق ذلك، يجب أن تكون الالتزامات الأخلاقية للمرء عالمية، وليس قطاعية أو ضيقة.
في هذا الصدد، قال كينغ: “يجب أن تتجاوز ولاءاتنا العنصر الذي ننتمي إليه، وقبيلتنا وطبقتنا وأمتنا. ويعني ذلك أنه يجب علينا تطوير منظور عالمي، فليس هناك إنسان قادر على أن يعيش وحده، وكذلك ما من أمة قادرة على العيش بمفردها. وما دام أننا نحاول، ستبقى الحروب قائمة في هذا العالم”.
وقال: “يجب إما أن نتعلم العيش معاً كأخوة، وإما الفناء جميعاً كحمقى”.
وتوجز هذه العبارة الرسالة الرئيسية للخطبة، ومفادها أنَّ حياة كل أبناء بني البشر متداخلة ومترابطة. وعن ذلك، قال كينغ: “لقد حوصرنا جميعاً داخل شبكة تبادلية لا فكاك منها، ترتبط بمصير واحد، وما يؤثر على فرد ما على نحو مباشر، يؤثر على الجميع على نحو غير مباشر. لقد جبلنا على العيش معاً، نتيجة الهيكل المتداخل للواقع”.
وهذه ليست مجرد دعوة لطيفة لالتزام حُسن الخلق على الصعيد الشخصي، وإنما تذكير بأنه في خضم السعي نحو العدالة، كيف تؤثر السبل التي ننتهجها على مصائرنا جميعاً؟
في هذا السياق، أكَّد كينغ إيمانَه بأنَّه “لن ننعم أبداً بالسلام في هذا العالم، حتى يدرك الناس في كل مكان أن الغايات ليست بمعزل عن الوسائل، لأنَّ الوسائل تشكل المثل الأعلى في حالة تكوين، والغاية في حالة تشكل، وفي نهاية الأمر ليس بإمكانك بلوغ غايات طيبة عبر وسائل شريرة، لأنَّ الوسيلة بمثابة البذرة والغاية هي الشجرة”.
ووفي خطابه هذا أكَّد كينغ نقطة مألوفة، وشدَّد على ضرورة الحب والتعاطف في خضم سعينا نحو المساواة. وقال: “لقد عاينت شخصياً الكثير من الكراهية، ورأيت الكراهية على وجوه الكثير للغاية من المسؤولين، والكثير للغاية من المواطنين البيض من أعضاء المجالس البلدية، والكثير للغاية من أبناء الجنوب لدرجة تدفعني نحو كراهية نفسي، لكن في كل مرة أرى الكراهية أقول لنفسي إنَّ الكراهية عبء هائل للغاية لا يسعني حمله”.
وعلق كينغ على خطابه الذي ألقاه عام 1963 في مسيرة بواشنطن، مذكراً جمهوره بأن حلمه الشهير كان مجرد حلم، ولم يكن واقعاً. وقال: “حاولت الحديث إلى الأمة عن حلم راودني، ويجب أن أعترف أمامكم اليوم أنه بعد حديثي عن الحلم بفترة ليست بالطويلة بدأت أراه يتحول إلى كابوس. لقد رأيت الحلم يتحول إلى كابوس، مع تنقلي عبر الأحياء المنغلقة على نفسها، ورأيت أشقائي وشقيقاتي السود يهلكون على جزيرة منعزلة من الفقر في خضم محيط واسع من الرخاء المادي، بينما لم يروا الأمة تفعل شيئاً لإخراج السود من مشكلة الفقر التي يعانونها”.ومع ذلك، اختتم كينغ عظته بإعادة التأكيد على حلمه الذي سبق وأن ذكره في خُطبة عام 1963، بخصوص أن “يحترم كل إنسان كرامة وقيمة الشخصية الإنسانية”، بحيث يجري “ملء البطون الفارغة” و”تتدفق العدالة مثل تيار في جدول مائي”.
اعتقادي أن هذه واحدة من أقوى العظات التي ألقاها كينغ، من حيث البلاغة، وكذلك من حيث الرسالة الإنسانية الراديكالية التي حملتها. ومع أنه يتحدث عن مسائل تتعلَّق بالحرب والسلام ربما لا تكون أمام الأميركيين عام 2023 بنفس الحدة التي كانت عليها عام 1967، أعتقد أن الرسالة الأكبر المرتبطة بالترابط والتداخل بين مصائر البشر لا تزال على ذات القدر من الأهمية اليوم.
الحقيقة أنَّ مشكلاتنا عالمية في جوهرها: تيار متصاعد من الشوفينية والاستبداد، والفساد الذي يمس ويشوه مؤسساتنا التمثيلية على مستوى العالم، وبطبيعة الحال التغييرات المناخية.
ويقوم التصور الذي يطرحه كينغ على أنه كي يتمكن أي منا من فعل أي شيء، فإنه لزاماً عليه الاعتماد على عمل وجهد شخص آخر على الطرف المقابل من الكوكب، وذلك مصداقاً للمقولة الشهيرة: “تدخل المطبخ لتتناول قهوة الصباح، التي يصبها لك شخص من أميركا الجنوبية”. ويتعيَّن علينا إدراك هذه الحقيقة التي تدعونا نحو مزيد من التضامن مع بعضنا بعضاً.
وتدعونا هذه الحقيقة كذلك إلى التواصل مع العمال من شتى بقاع الأرض، والتعرف على النضالات التي يخوضونها من أجلنا، وتلك التي نخوضها نحن من أجلهم، لنبدأ بذلك تكوين “شبكة تبادلية” سنحتاجها بالتأكيد في تناول المشكلات العالمية، وكذلك في جهودنا للتصدي للعقبات التي تحول دون تحررنا من الهيمنة وهياكل السلطة الهرمية.
ومع أنَّ غالبية الأميركيين لا ينظرون إلى مارتن لوثر كينغ باعتباره منظراً للديمقراطية، فإنه كان كذلك بالفعل. وخلال العظة التي أوردناها هنا، يوضح ما يتطلبه بناء مجتمع سلمي ينعم أفراده بالمساواة ـ وهو ما يتطلبه بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي ـ وهو: اعترافنا المتبادل ببعضنا بعضاً، هنا وفي كل مكان.
*خدمة “نيويورك تايمز”