الرئيسة \  تقارير  \  معارك سورية .. العلمانية المصطلح والإسلام

معارك سورية .. العلمانية المصطلح والإسلام

21.07.2024
فراس سعد



معارك سورية .. العلمانية المصطلح والإسلام
فراس سعد
سوريا تي في
السبت 20/7/2024
يقال في اللسانيات إن المصطلح يقتل وإنه يمكن أن يكون مضللاً لو كان حضوره متوهجاً أو تكرر مرات لا حصر لها، فالتكرار يمارس دوغمائية تصل درجة التجهيل وتعطيل العقل عن ممارسة دوره الأساس، أي التفكيك والانتقاد.
هذا ما تفعله بالفعل بعض المصطلحات المتداولة والتي يتقصد بعض مستخدميها تكرارها دون ملل لجلد الآخرين الذين هم عادة "الجموع الجاهلة" أو "القطيع البشري" التي تمثله عند هؤلاء عامة الشعب.
وهو ما يشي بفوقية فاقعة عند هؤلاء النخبويين. إن تكرار المصطلحات واستخدامها لجلد "القطيع" أو العامة قد يخفي جهل أصحابها بها أكثر مما يظهر علمهم، فالمثقف الحقيقي لا يمكن أن يكرر في كل مناسبة استخدام مصطلح أثير إلى قلبه دون أن يتوقف عنده شارحاً أو موضحاً لمعناه ومضمونه، أما المثقف السطحي أو مدعي الثقافة فهو يكرر دون حساب ودون شرح لدرجة يمكن معها عقد صلة بين التكرار الببغائي وبين الجهل.
لا بد أن يراقب الواحد منا نفسه ولسانه فلا يترك لهما العنان في تكرار ما يقع في سمعه من كلمات وعبارات وألفاظ مهما كانت براقّة كيلا نقحم ما ليس مناسباً في النقاشات العامة فنجعله ترنداً في محركات الفيسبوك ويوتيوب، ويتلقفه من يجعل منه موضوعاً موسمياً، أقصد بهم أصحاب القرار في القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية. ومن ذلك على سبيل المثال تحوّل النقاش عن العلمانية في الأيام الأخيرة إلى شغلة من لا شغل له. وليس هذا بالغريب عن السوريين في فيسبوك - بالأحرى عن فيسبوك السوريين- ولا عن خوارزمياته التي تظهر ما يرغب به مديرو فيسبوك وتخفي ما لا يرغبون به.
لكن الغريب أن هذه الموجة أو الترند الأخير عن العلمانية تزامن مع قرارين تاريخيين بكل ما تعنيه الكلمة يخصان الشعب السوري، لم يلقيا ما يستحقانه من نقاش ولم يتحولا إلى ترند. القرار الأول وجهت فيه محكمة باريس مذكرة إحضار لرئيس النظام السوري مع ثلاثة من كبار القادة العسكريين في النظام بينهم ماهر الأسد، والثاني قرار تاريخي آخر لمح له مسؤول في النظام السوري ينص على إمكانية إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية!
وعودة إلى المصطلح، فإن مصطلحات عديدة تستخدم دون كنه لمعانيها وأحياناً دون تبصّر في مراميها ودلالاتها. إذ نقول في استخدامها ما لا نريد قوله حقاً، فيفهم الآخرون منا ما لا نقصد إليه، فيحصل لبس وغالباً ما يحدث تضارب وتجريح لاسيما حينما تكون صفحات الفيسبوك هي الساحة التي تخاض في ربوعها معارك الحوار حول مصطلح أشكل فهمه فحُمّل ما لا يحتمل وأُلبس ما يضيق عليه أو يتسع.
 تكاد العلمانية أن تكون في رأس المصطلحات الوافدة إلى ثقافتنا التي يجري الخلاف حولها.
ومن المصطلحات التي تستخدم دون معرفة وافية عنها تلك التي وفدت إلينا من الثقافة الغربية. بل إن معظم السجالات والمعارك الفيسبوكية تخاض غالباً حول هذا النوع من المصطلحات، الوافدة، أمثال العلمانية والديمقراطية والليبرالية و"الفيمنستية" الخ.
وتكاد العلمانية أن تكون في رأس المصطلحات الوافدة إلى ثقافتنا التي يجري الخلاف حولها، والخلاف في العموم يتعلق بطبيعة المصطلح المفهوم في تاريخه وسياقه الذي نشأ فيه الذي قد لا يوافق من قريب ولا من بعيد السياقات العربية ولا المتطلبات الثقافية الاجتماعية أو السياسية.
ومع ذلك يجري استخدام العلمانية بما تدل إليه وتوحي به عموماً كمصطلح يقف على الضد من الدين أو التدين كما يستخدم مصطلح العلمانية كمقابل مضاد إطلاقاً للمتدينين والإسلاميين ولرجال الدين المسلمين. وهو ما أشار إليه -في لقاء عبر قناة بودكاست عرض مؤخراً- مفكر سوري اتهم العلمانيين العرب بتحويل العلمانية إلى دين وباستخدام علمانيتهم كأداة لنقد الإسلام فقط، ما أثار ردود أفعال متفاوتة تراوحت بين ردود مؤدبة من قبيل "العلمانيين لا يريدون إلغاء الدين" وأخرى جارحة من قبيل "العلمانيون مؤمنون أكثر منك".
لكن الحقيقة أن تاريخ العلمانية في الغرب ربما يكون مختلفاً إلى حد بعيد عن السياق العربي الذي تستخدم به أو توظف له. أوغل في المدلولات والسياقات المستخدمة يصح استخدام مصطلح اللائكية إن كان المقصود بالعلمانية فصل الدين عن الدولة أو فصلها عن السياسة ومناهج التعليم مثلاً. وأما معنى العلمانية فهو منع رجال الدين أو الدين من التحكم بالدولة أو السيطرة على المجتمع بوسائل قاهرة مادية أو نفسية. "فمدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع، وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه". ولقد لفت انتباهي تعريف جديد للعلمانية أشارت إليه كاتبة سورية شابة تشير إلى أن العلمانية نزع للقداسة عن السياسيين لاسيما الزعماء والرؤساء والملوك، والسماح للأحزاب السياسية بالعمل تحت إطار دستور علماني، وكذلك حماية أتباع الأديان أي المواطنين وتجريم التنمر الإعلامي -بما فيها وسائط التواصل الاجتماعي- على أتباع العقائد والمذاهب.
 إن جوهر القرآن عقلاني وقابل لتفاسير دنيوية أكثر بعشرات المرات مما كانت عليه الكنيسة المسيحية في أوروبا.
قبل عقد من الزمن أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وثيقة سميت "وثيقة العهد" تميزت ببعض الأفكار لناحية مدنية الدولة واستقلالها عن الشريعة. وأظن أن المفكر الإسلامي المتنور الأستاذ عصام العطار كان له دور في كتابة تلك الوثيقة. واللافت للانتباه هو أن مقدمة الوثيقة تنطلق من الإسلام إلى "دولة مدنية" "ديمقراطية" "عادلة" "دولة مواطنة ومساواة" "تلتزم بحقوق الإنسان" تشمل "كل السوريين" كما ورد في الوثيقة، أي مسلمين وغير مسلمين. تقول "فإننا في جماعة الإخوان المسلمون في سوريا، منطلقين من مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، القائمة على الحرية والعدل والتسامح والانفتاح.. نتقدم بهذا العهد والميثاق إلى أبناء شعبنا جميعاً، ملتزمين به نصاً وروحاً، عهداً يصون الحقوق، وميثاقاً يبدد المخاوف". ومع ذلك فإن المسألة لا تتعلق بالوثائق إنما بالالتزام بها.
يكره المسلمون التقليديون - بالأحرى المسلمون الذين لم يحظوا بنصيب من العلم والاطلاع الكافي- العلمانية، فهي ارتبطت عندهم بالإلحاد ولا عتب في ذلك عليهم، بل العتب على بعض رجال الدين الذين يتقصدون تشويه العلمانية والخلط بينها وبين الإلحاد.
ولأجل ذلك ومراعاة لمشاعر المؤمنين السوريين -لا ننسى أن أغلبية السوريين مؤمنون- الذين لم يحظوا بأي نوع من أنواع العلوم السياسية أو الاجتماعية ولم يتمكنوا من الاطلاع عليها من أصولها، فلا بد في اعتقادي من أن يحرص السياسيون والمثقفون السوريون على عدم استخدام كلمة علمانية في منشورات موجهة لعموم السوريين وعوضاً عن ذلك يمكنهم تناول مضمون العلمانية وشرحه وتبيان أنه لا تعارض ما بين فصل الدين عن الدولة وما بين الإسلام. فإن كلا من تركيا وماليزيا دولتان لا دينيتان مع أن المجتمعين التركي والماليزي ينتميان في غالبيتهما إلى الإسلام. والحقيقة فإن القرآن الكريم يقبل معظم القوانين المدنية دون حرج بل إن القرآن يقف موقف الحياد من مسألة الإلحاد والكفر فلم تدعُ سوره وآياته إلى إجبار الناس على الإيمان، لسبب منطقي بالفعل وهو أن إجبار الناس على الإيمان يسقط مسؤوليتهم عن إيمانهم فلا ينالون ثوابه لو كانوا مجبرين. لكن القرآن شجع المؤمنين على الدعوة للإيمان بواسطة الموعظة والكلام الطيب والأسلوب اللين. نعم إن جوهر القرآن عقلاني وقابل لتفاسير دنيوية أكثر بعشرات المرات مما كانت عليه الكنيسة المسيحية في أوروبا، فالعلمانية إنما ولدت أصلاً رداً على المسيحية. وهذا على خلاف واقعية الإسلام الذي دفع مفكراً كبيراً مثل مكسيم رودنسون للقول: "وخلاصة القول فهو كدين كان قريباً جداً من الدين الطبيعي الذي كان يعتقد به معظم رجال عصر التنوير".
كما يقول في مكان آخر: "ظهر الإسلام لبعض اليساريين الأوروبيين على أنه في جوهره عامل "تقدمي" بطبيعته". فالقرآن الكريم نزل لأهل الدنيا فأحكامه دنيوية يفترض بها تسيير وتيسير حياتهم لذا فالدولة التي يفترض بها أن تنشأ في الأرض هي دولة دنيوية، ولا يحتاج أهل الدنيا لدولة سماوية، كما أن أهل السماء لا يحتاجون لكتاب ولا لشريعة؟