الرئيسة \  تقارير  \  هل تقود دبلوماسية الأزمات إلى تطبيع العلاقات بين تركيا واليونان؟

هل تقود دبلوماسية الأزمات إلى تطبيع العلاقات بين تركيا واليونان؟

15.02.2023
عماد عنان

هل تقود دبلوماسية الأزمات إلى تطبيع العلاقات بين تركيا واليونان؟
عماد عنان
نون بوست
الثلاثاء 14-2-2023
تعد زيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس لجنوب تركيا هي الأولى لوزير أوروبي منذ وقوع الزلزال
"الجار الجيد يظهر الأيام العصيبة".. بهذه الكلمات عبر وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو، عن خالص تقديره لليونان على دعمها الكامل ووقوفها إلى جانب أنقرة في مواجهة كارثة الزلزال الذي ضرب البلاد فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وخلف وراءه حتى صباح اليوم 34 ألف قتيل (29605 في تركيا و4500 في سوريا).
وخلال استقباله لنظيره اليوناني نيكوس ديندياس في مدينة أضنة بولاية هاتاي جنوبي البلاد (إحدى الولايات العشرة التركية المتضررة من الزلزال) قال أوغلو إنه يجب تطبيع العلاقات مع اليونان رغم تباين وجهات النظر، وهي التصريحات التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من الوزير اليوناني الذي أكد وقوف بلاده مع تركيا في مواجهة الأزمة التي تواجهها حاليًّا.
التصريحات الإيجابية المتبادلة بين الطرفين أعادت ملف تطبيع العلاقات بين البلدين مرة أخرى على طاولة النقاشات، في وقت يواجهان فيه حزمة من التحديات المشتركة، مدفوعة بالتطورات الإقليمية والدولية الراهنة التي دفعت الكثير من الدول لإعادة النظر في توجهاتها ومواقفها إزاء الملفات التي تذكي الخلاف مع الجيران.
ويعد النزاع التركي اليوناني أحد النزاعات التقليدية الممتدة لأكثر من قرنين، الذي يتميز بسياقاته المتشعبة، تاريخية وجيوسياسية ودينية وقومية، تلك التي تحولت مع مرور الوقت إلى وقود لإشعاله بين الحين والآخر رغم أنهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتربطهما علاقات تاريخية ضاربة بجذورها في أعماق الماضي، فهل يكون زلزال كهرمان مرعش محطة فاصلة في طبيعة ومنسوب واتجاهات العلاقات التركية اليونانية في ظل تلك التصريحات النادرة التي تتحدث عن تطبيع وتقارب محتمل؟
الجار الجيد أوقات الأزمات
تعد زيارة ديندياس هي الأولى لوزير أوروبي إلى تركيا منذ وقوع الزلزال، كما أن أثينا من أوائل الدول التي قدمت مساعدات مباشرة لأنقرة، تضمنت 80 طنًا من المساعدات الطبية ومعدات للإسعافات الأولية، بجانب مستلزمات الإعاشة مثل البطانيات والأسرّة والخيام والإمدادات الطبية.
كما كان فريق الإغاثة اليوناني المكون من 36 متخصصًا ترافقهم كلاب مدربة وأطباء ومهندسون يونانيون، ضمن الفوج الأول للفرق الإغاثية الدولية المرسلة لمساعدة الدفاع المدني التركي في انتشال الجثث وإنقاذ الضحايا العالقين تحت الركام، وقد نجح هذا الفريق في إنقاذ أكثر من 50 مواطنًا تركيًا بحسب وزير الخارجية اليوناني.
الاستجابة اليونانية السريعة للكارثة وإغاثة جارتها رغم الخلافات السياسية بينهما التي كادت أن تتجاوز خطوطها الحمراء قبل عدة أشهر، كان لها صداها الكبير لدى أنقرة التي رحبت بيد العون والمساعدة وانتصار الإنسانية على أي مسارات أخرى، ما دفعها للتفكير في إعادة النظر بشأن مستقبل علاقتها مع شريكتها في الناتو وجارتها التاريخية.
زلزال تركيا
وزير الخارجية التركي يُطلع نظيره اليوناني الذي وصل إلى أضنة على آثار الزلازل المدمرة التي ضربت جنوبي تركيا - الأناضول
وللبلدين تجارب عدة في ملف الدعم والمساعدة أوقات الأزمات، بحكم أنهما أقرب جارين لبعضهما البعض،  ففي ظروف مشابهة لتلك، وإن كانت أخف حدة وتأثيرًا، قبل 30 عامًا، كانت تركيا من أوائل البلدان التي سارعت لدعم اليونان حين تعرضت هي وتركيا لزلزال صيف 1999، الذي أودى بحياة أكثر من 17 ألف شخص.
وقد ألمح أوغلو في تصريحاته مع نظيره اليوناني إلى تلك الواقعة التي احتفت بها مجلة التايم الأمريكية آنذاك رغم إصباغها بالصبغة السياسية، منوهًا أنه كتب رسالة إلى المجلة وقتها قال فيها "من المهم أن نساعد بعضنا البعض في الأوقات الصعبة، لكن لا يتعين علينا انتظار زلزال آخر وكارثة أخرى لتطوير علاقاتنا"، مؤكدًا على التمسك بالرأي ذاته حتى اليوم، مضيفًا "آمل أن نبذل جهدًا لمعالجة الخلافات في وجهات النظر بيننا أيضًا بشكل صادق عبر الحوار".
عقود من التوتر
منذ ستينيات القرن الماضي دخلت العلاقات بين أنقرة وأثينا منعطفًا من التوتر، كانت بداياته سياسية قومية في المقام الأول لكن سرعان ما تصاعد التوتر مع إطلاق تركيا عمليتها التي أطلقت عليها "سلام قبرص"، حين تدخلت عسكريًا في الجزيرة في 20 يوليو/تموز عام 1974 لإنقاذ القبارصة الأتراك، وهي العملية التي تمخض عنها فيما بعد قيام جمهورية شمال قبرص التركية كدولة مستقلة عام 1983.
ثم جاء النزاع بشأن جزر بحر إيجه ليزيد المناخ ضبابية، فرغم إقرار تركيا بسيطرة اليونان على الجزر بموجب معاهدة باريس عام 1947، لكنها تمسكت بشرط "عدم تسليح الجزر" تماشيًا مع المعاهدات الأخرى المبرمة مع أنقرة، مثل ملحق المضائق التركية التابع لاتفاقية لوزان وكذلك اتفاقية مونترو، وهو الشرط التي تقول السلطات التركية إن أثينا لم تلتزم به، لافتة أنه منذ ستينيات القرن الماضي سلحت اليونان 18 جزيرة حتى الآن بما يخالف شروط المعاهدات المبرمة.
الخلاف تصاعد أكثر مع اكتشاف كميات كبيرة من احتياطي النفط والغاز شرقي المتوسط بدايات الألفية الثالثة، الأمر الذي أحدث نزاعًا جديدًا بين البلدين للاستفادة من تلك الثروات المكتشفة، وعليه بدأ نزاع ترسيم الحدود البحرية وحدود كل طرف في مناطقه الاقتصادية الخالصة، هذا النزاع الذي كاد أن يصل إلى مواجهة عسكرية منتصف 2020 إثر السجال السياسي والإعلامي بين البلدين.
وجوه الدبلوماسية متعددة، فلم تعد ذلك النشاط التقليدي في علاقات الدول الخارجية، لكنها أصبحت مظلة كبيرة تضم تحتها العديد من الأدوات، من بينها تقديم العون زمن الكوارث والأزمات
ثروات شرق المتوسط أحدثت تغيرات واضحة في خريطة الاصطفاف الإقليمي، لا سيما على الجانب اليوناني الذي دخل في تحالفات مع مصر وإيطاليا و"إسرائيل" والأردن وفلسطين، تحت مسمى "منتدى غاز شرق المتوسط" بدايات عام 2019، وذلك بمباركة من فرنسا والإمارات، الأمر الذي اعتبرته أنقرة استهدافًا لها ولأمنها القومي، ما دفعها لضمان مصالحها والحفاظ على حقوقها في تلك الثروات وذلك بإبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، فيما كانت أثينا إحدى الدول المعارضة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
التحديات والمستجدات التي شهدتها المنطقة منذ بدايات 2020 وحتى اليوم، والأزمات التي تعاني منها البلدان، كانت دافعًا لتخفيف الأجواء مرحليًا، والعودة خطوة للوراء، وتجنب التصعيد الذي لن يصب في أي من مصلحة الطرفين في الوقت الحاليّ، لذا خففت تركيا من نشاطها التنقيبي في شرق المتوسط، وبدأت مرحلة جديدة من التصريحات الدبلوماسية التي يحاول كل فريق مغازلة الآخر من خلالها.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 لتلطف الأجواء وتفرض على الجانبين تحديات تستوجب الاصطفاف والتناغم أكثر من التناحر والخلاف، لتأتي زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس متسوتاكيس، إلى تركيا في مارس/آذار 2022 ولقاؤه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان تتويجًا لتلك الأجواء الإيجابية، إذ شدد على ضرورة "إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة وتحسين العلاقات رغم الخلافات" من باب أن البلدين يتحملان "مسؤولية خاصة في الهيكل الأمني الأوروبي المتغير" على هامش الحرب المندلعة.
وبينما كان مقربون من دوائر صنع القرار لدى الجانبين يؤملون أنفسهم بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، جاءت زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى واشنطن في مايو/أيار 2022 لإحياء الذكرى الـ201 لبدء العلاقات الأمريكية اليونانية لتعيد الأمور إلى الوراء مرة أخرى، حين دعا خلال كلمته أمام الكونغرس بضرورة أن تراعي أمريكا حساسيات اليونان إزاء صفقات التسليح المقدمة إلى الجانب التركي، وهو التصريح الذي اعتبرته أنقرة تحريضًا على عدم بيع واشنطن لها أي أسلحة، خاصة طائرات إف 16 التي كانت تتفاوض تركيا مع الولايات المتحدة بشأنها في ذلك الوقت.
تبع ذلك مناوشات بين الجانبين تمثلت في صورة تحرشات دفاعية خلال مهام حلف الناتو فوق المتوسط، ولولا تدخل الحلف لتهدئة الأجواء لربما وصلت الأوضاع إلى طريق كارثي.
دبلوماسية الكوارث.. هل تحدث الفارق؟
كنا قد أشرنا في مقال سابق لـ"نون بوست" إلى أن وجوه الدبلوماسية متعددة، فلم تعد ذلك النشاط التقليدي في علاقات الدول الخارجية، لكنها أصبحت مظلة كبيرة تضم تحتها العديد من الأدوات، من بينها تقديم العون زمن الكوارث والأزمات، ففي تلك الأثناء تكون الدول المكلومة في أمس الحاجة للدعم والمساعدات الخارجية لعبور مأزقها بسلام وفي أقصر وقت وبأقل الخسائر.
وأوضحنا أن الكثير من الدول قد تجد في مثل تلك الأجواء فرصة سانحة لتعزيز أواصر العلاقات مع تلك البلدان من خلال المبادرات والمساعدات المقدمة، لا سيما الدول التي تعاني من توترات بين الحين والآخر، فربما تصبح تلك الأزمات والكوارث أرضية جيدة للتلاقي على مسرح بعيد نسبيًا عن المسرح السياسي المعقد.
وفي المقال ذاته تطرقنا إلى أن تأصيل الكوارث والأزمات في معظمها لمبدأ واحد هو أن الإنسانية قبل السياسة وقبل أي شيء، ففي المحن والأزمات تختفي المصالح المجردة والنزاعات العرقية والسياسية والطائفية، وتتلاشى دعوات الكراهية والبغض، ويزخر التاريخ بعشرات النماذج لهذا النوع من الدبلوماسية غير التقليدية.
ويتفق مع هذا الطرح رئيس أبحاث السياسة الخارجية في مؤسسة سيتا (مؤسسة فكرية مقرها أنقرة) محيتين أتامان، من خلال مقاله الذي عنون له بـ"دبلوماسية الزلازل: الاستجابات الإنسانية في أزمة إنسانية"، حين أشار إلى أن المساعدات الدولية التي انهمرت على أنقرة تؤكد أن الاستجابة الإنسانية للدول هي الأسبق مهما كانت الخلافات السياسية والاقتصادية والثقافية بينهم.
زلزال كهرمان مرعش سيكون محطة فاصلة في تاريخ المنطقة، سيحدث تغيرات واضحة في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، ومن بينها العلاقات التركية اليونانية
واستعرض أتامان أبرز المساعدات التي قدمتها الدول لتركيا في مصابها الحاليّ، مركزًا على الحالة اليونانية التي وصفها بأنها الأكثر لفتًا للانتباه، حيث اتصال الرئيسة اليونانية ورئيس حكومتها بالرئيس التركي ووزير خارجيته لتقديم واجب التعازي، بجانب زيارة وزير الخارجية اليوناني لجنوب تركيا، وهي الزيارة الأولى من نوعها لوزير أوروبي منذ وقوع الزلزال، بجانب الدعم والمساعدات اللوجستية والمادية المقدمة التي ما كانت لتحدث في ظل الظروف الطبيعية بين البلدان وليس بين دولتين بينهما خلافات قوية.
زلزال تركيا
اليونان من أوائل الدول التي سارعت لعرض المساعدة عقب كارثة الزلزال
التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط فيما يتعلق بنقاط التماس التركي اليوناني ربما تخدم مسار التقارب والتطبيع، في مقدمتها تخفيف التوتر بين أنقرة من جانب والقاهرة وأبو ظبي من جانب آخر، وهي المسألة التي كانت تشكل ضلعًا رئيسيًا في تحركات أثينا المعادية لأنقرة خلال العامين الماضيين، هذا بجانب التحديات المشتركة التي فرضتها الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على المستوى الداخلي في كلا البلدين، ما يفرض عليهما اتباع سياسة تصفير الأزمات مرحليًا، لا سيما أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي مقبل على انتخابات شرسة في غضون أشهر قليلة، واضطرار الطرفين لفتح نوافذ اتصال جديدة مع الخارج لعبور المرحلة الحالية.
على الورق قد تكون الأجواء ممهدة تمامًا لتطبيع شبه كامل، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الدافئة، استنادًا إلى التحديات سالفة الذكر والوضع الإنساني الراهن الذي يمكنه طي سطور الخلاف مؤقتًا، لكن تبقى الملفات العالقة بين الجانبين شديدة الحساسية والتجذر التاريخي بفروعها الممتدة سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا عائقًا محتملًا، لا سيما أنها من النوع القابل للاشتعال لأقل الأسباب في ظل السيولة التي تشهدها المنطقة.
وفي الأخير، وأيًا كان الوضع، فإن زلزال كهرمان مرعش سيكون محطة فاصلة في تاريخ المنطقة، سيحدث تغيرات واضحة في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، ومن بينها العلاقات التركية اليونانية التي بلا شك ستخطو خطوات تقدمية نحو الانسجام المرحلي، وتخفيف حدة التوتر المشتعل بين الحين والآخر، لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تستمر تلك الحالة؟ وما الضمانات لتجنب حدوت ردات سياسية كما حدث من قبل؟ وأخيرًا: هل تنتصر دبلوماسية الكوارث في تلك المعركة التي لن تكون سهلة على الإطلاق؟