الرئيسة \  مواقف  \  وجهة نظر : حديث عيد... قُصيبان وقُزيزان وحُديدان .. فقهنا السياسي من أيام الطفولة

وجهة نظر : حديث عيد... قُصيبان وقُزيزان وحُديدان .. فقهنا السياسي من أيام الطفولة

23.06.2024
زهير سالم



وجهة نظر :
حديث عيد...
قُصيبان وقُزيزان وحُديدان
فقهنا السياسي من أيام الطفولة

زهير سالم*
لا أحصي عدا المراتِ التي استعدت فيها هذه الحكاية من أخواتي الأكبر…
ربما بدأت أنصت إليها وأنا في الرابعة، وظللت استعيدها حتى السابعة أو الثامنة.
ربما خاتمتها السعيدة بانتصار حُديدان القوي، على الغولة الشريرة.
كانت الشففة على كلٍ من فصيبان وقزيزان دائما تختلط بالحنق والغضب.
كان من العجب في سردية هذه القصة، كيف يكون للغولة الشريرة، بنت اسمها فاطمة، وتساعدها وتعينها. شيء ما خاطئ في مخيال واضع الحكاية أو في مخيال متلقيها.
اسم فاطمة لدينا يجب أن يظل دائما نقيا. مرة نصحت واحدة متبرجة اسمها فاطمة أن تغير اسمها؛ قلت لها إما أن تفي بحق اسمك، أو بدعوى بسيطة أمام القاضي تستطيعن تغييره، وربما كنت مخطئا.
 أعد في سرد هذه الحكاية أو تعليم هذه المحاضرة السياسية، بالالتزام بالرواية الحلبية التي سمعتها واستعدتها عشرات المرات وأنا طفل في الرابعة والخامسة حتى السابعة أو الثامنة..لن أغير في السردية لفظا، وسأتبع نصح الجاحظ، وأترك مراعاة ما يسمى الأدب العام..
أترك لكم القيام بإسقاط وقائع الحكاية، على الطريقة التي ترضيكم..
وكان ياما كان في قديم الزمان، نحكي قبل أن ننام ونصلي على سيدنا محمد بدر الأنام…
وكان في المدينة سوق فيه الكثير من الصناع والتجار والباعة، يشتغلون بجد في الليل والنهار ليحصلوا رزق أولادهم، الذين كانوا ينتظرونهم عند كل مساء ليحملوا إليهم أرغفة الخبز مع بعض الطعام..
ولكن غولة شريرة تسللت من الغابة إلى المدينة، مع ابنتها فاطمة، وأخذت تفعل الأفاعيل بأهل المدينة. كانت لدى الابنة فاطمة قدرة عجيبة على شفاء كل الجروح التي تصيب أمها، ولذا كلما تعرضت الأم للخطر، أو للإصابة تسرع ابنتها فاطمة لإسعافها..
حاول أهل السوق مرات ومرات أن ينتصروا على الغولة، فجرحوها وأدموها، ولكن كانت ابنتها فاطمة دائما قادرة على شفاء أمها؟؟
الغولة الشريرة صارت تدخل كل أسبوع إلى السوق وتشارك التجار وأصحاب الصناعات كل ما يجنونه من أرباح، يطعمون بها أسرهم…فتفرض عليهم الأتاوات، تأخذ منهم الأكثر وتترك لهم الأقل…حتى صار الأطفال الصغار جائعين في منازلهم!!
تقول الحكاية يئس أصحاب السوق وأهل البلد جميعا من مواجهة الغولة الشريرة، فلم يعد يجرؤ أحد منهم على التصدي لها، ومقاومتها…
حتى جاء يوم، وكان في السوق بائع للقصب، دكانه من قصب، وأدواته من قصب، ويصنع للناس سلال القصب، وكان يدعى "قصيبان" ، لأنه يبيع القصب، وقد بدا له أن يقاوم الغولة الشريرة، ولا يعطيها شيئا، وأن يحاول قتلها بالقصب الذي بيده..
قالت له الغولة، وهي تتصنع النصح، لا تفعل يا قصيبان، وادفع لي ما أطلب، منك، وإلا فإنني أنفخ عليك نفخة، -تطير بها في الهواء أنت ودكانك..
ماذا ستفعل ياقصيبان بأكبر قصبة بيدك،
 وإن جرحتني بها، سأدعو فورا ابنتي فاطمة فتشفيني..
لم يصغ قصيبان لتحذير الغولة، وكانت دائما تتظاهر بالحكمة؛ فأشهدت عليه أهل السوق بأنها حذرته، وأنها إنما تأخذ منهم ما تأخذه بدل حمايتهم من السباع التي تلتهم أبناءهم..
أصر قصيبان على موقفه متحديا الغولة الشريرة معتمدا على قصبة طويلة بيده، ، ثم هجم على الغولة عن بعد، بقصبته الطويلة، ولكن الغولة فعلت ما حذرت منه، فقد خطفت منه القصبة، ثم نفخت نفخة سفلية على دكانه القصبية، فطار هو وما فيها في الهواء…
ازداد خوف الناس من الغولة، ورعبهم منها، وأصبحوا أكثر طاعة لها، حتى جاء يوم كان فيها "قزيزان" بائع القزاز "الزجاج" في المدينة غاضبا جدا، فقرر، أن يتحدى الغولة الشريرة، ويكف شرها عن الناس..
تحدث مع عدد من رفاقه تجار السوق، فكلهم شجعوه، ولكن أحدا لم يقبل بمساعدته..
امتنع قزبزان عن دفع الأتاوة للغولة الشريرة، وصرخ في وجهها، فذكرته برفيقه قصيبان، وقالت له الآن أنفخ عليك نفخة، فتطير أنت ودكانك، مرة أخرى في الفولكلور الحلبي، وحيث يتحدث الناس على سجيتهم، لا تذكر النفخة، وإنما يُذكر لفظ آخر أو عبارة أخرى، ومادام العيد موسما للفرح فهي تقول له
"أضرط عليك ضرطة ألحقك بصاحبك قصيبان، وهو يرد عليها غاضبا متحديا وباللغة الحلبية نفسها" اضرطي وتمضرطي وانشقي وتخيطي، لن أدفع لك..
وهذا أوج التحدي ونهايته، ويهدد قزيزان الغولة بالزجاج الجارح الذي في يديه، وأنه سوف يجرحها ثم يذبحها، وأن ابنتها فاطمة لن تستطيع شفاءها أو إنقاذها..
تغضب الغولة وتزمجر، وتدير ظهرها نحو دكان قصيبان وتفعلها فيهتز كل القزاز ويتكسر، فوق رأس قزيزان، ويقع قزيزان جريحا ينزف، وأهل السوق الخائفون لا يجرؤون على إسعافه، فيظل ينزف حتى يموت…
حتى أمه وأبوه وإخوته وأطفاله كانوا يبكون عليه من بعيد ولا يجرؤون خوفا من الشريرة على مساعدته..
ومرة أخرى تنتصر الشريرة، وتظهر عدلها أمام أهل السوق: أليس هو الذي جنى على نفسه بتمرده!!
وتدور الأيام في السوق وبعد كل واقعة تصبح الغولة الشريرة أشد شرا وأكثر ظلما، وكل أهل السوق يزدادون بؤسا وخنوعا..
وتختم الحكاية بحديث حديدان، الحداد الذي كان يعمل بصمت لبناء سور من الحديد المتين حول دكانه، ويصنع درعا لنفسه، ثم يقوم هو الآخر بتحدي الغولة الشريرة، وتهدده مرة أخرى بالريح التي تطلقها، ولكن دكان الحداد المدرعة القوية تبقى صامدة، فتضطر الغولة الشريرة أن تضغط على نفسها في إصدار الريح، على دكان الحداد، ولكنها تنشق نصفين، دون أن تستطيع تحطم الجدران الحديدية، تنادي كما تعودت على ابنتها فاطمة لتعيد خياطتها، ولكن الحداد كان قد سبق إلى تقييد فاطمة بجنزير غليظ..!!
وينتصر "حديدان"، ويفرح أهل السوق، فقد كان دورهم في كل الحكاية أن يحزنوا أو أن يفرحوا، وتموت الغولة الشريرة، ويتزوج الحداد ابنتها فاطمة، التي تصورها الحكاية أنها كانت بريئة مستعبدة من أمها؟؟!!
وتوتة توتة خلصت الحتوتة منيحة والا مفلوتة…
سؤالان:
أولا ما قصد المخيال الشعبي برمزية ابنة الغولة الشريرة التي سماها "فاطمة" ونسب إليها القدرة على شفاء المرضى والجرحى؟؟!!
السؤال الثاني: وقلت لك أنني استمعت بالحكاية في طفولتي الأولى عشرات المرات، ما هو الدرس الذي كان المخيال الحلبي يريد التأكيد عليه من حديث قصيبان وقزيزان اللذين تنتصر عليهما الغولة، وحديث حديدان الذي ينتصر عليها؟! ما زلت منذ سبعين سنة أفكر، ولعلكم تفكرون معي!!
أعتذر عن ذكر بعض الألفاظ العارية فهي لب الحكاية.
وفي الحديث: أن سيدنا أبا هريرة كان يعلم أعرابيا أن الوضوء يجب بخروج الريح، فسأل الأعرابي ببساطته: وما الريح؟؟ سيدنا أبو هريرة: ضراط أو فساء…
وفي كتب التفسير، في تفسير قوله تعالى عن قوم لوط (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ)
قال المفسرون: كانوا يتضارطون ويتضاحكون..
وكل عام وأنتم بخير وصحة وعافية
اسطنبول: ١١ ذو الحجة/ ١٤٤٥
١٧/ ٦/ ٢٠٢٤
____________
*مدير مركز الشرق العربي