الرئيسة \  مواقف  \  وجهة نظر : من أحاديث العيد.. الحكمة علم وحكم

وجهة نظر : من أحاديث العيد.. الحكمة علم وحكم

02.07.2023
زهير سالم



وجهة نظر :
من أحاديث العيد..
الحكمة علم وحكم
زهير سالم*
(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
وفي أكثر من موطن من كتاب الله سبحانه وتعالى، وردت الحكمة قسيما للكتاب.
وجُعل تعليم الحكمة، لقوم أميين جفاة، رديفَ مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الكتاب.
وكثر ورود الحكمة في كتاب الله كوصف للخالق، ومطلب من المخلوق.
وفرّط قوم جعلوا الحكمة من من مفردات علم الكتاب والسنة، بل الحكمة الشرعية، كما سنبين مطلب قائم بذاته. وهي علم يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم،  كما يعلم الكتاب، وبتعليمه إياه يتم الأداء. ونقول في الشهادة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتركنا على المحجة ناصعة بيضاء"
في سورة البقرة يرد قوله تعالى على لسان أبوينا إبراهيم وإسماعيل في الدعاء لنا: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
وتأتي البشارة في سورة الجمعة أن الله قد استجاب فينا دعوة  أبوينا،  فيخبرنا ممتنا:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)
وفي موضع ثالث، يوكل إلى أمهات المؤمنين أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله، وما يعايشن من علوم الحكمة (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
ونجد مهمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في ثلاث شعب: تعليم الكتاب والآيات، وتعليم الحكمة، وتزكية النفوس. وهو قسيم ثالث في السياق.
وتزكية النفوس هو تطويعها تخلية وتحلية حتى تكون كما تقتضيها آيات الكتاب، وكيما تكون أنموذجا  ومخيالا للحكمة تقوم للحق بالحق. وكم من قائم للحق بغير الحق، فذلك الذي فقد الحكمة، واختل في قيامه الرشد والصواب.
وللمفسرين- رحمهم الله تعالى- أقوال متكاثرة في ذكر الحكمة، وقد جنح لفيف منهم إلى جعلها علمها متضمَّن في علم الكتاب والسنة، وفرع منهما، وكأن علم الحكمة هو فرع في علم النصوص، من حيث الفهم والفقه وجمال التأويل؛ وفي هذا التفسير نوع من الهضم غير المقصود، لقسيم أساس في واجب بلاغ الرسول الكريم، الذي امتن الله به على الأميبن. ولوصف الأميين في السياق دلالة وأي دلالالة؟! أن تجعل من الأميّ حكيما وليس فقط مؤمنا، وأرجو أن لا يقطع عليّ الطريق أحد بالزعم أن كل مؤمن حكيم، وإذا قلتُ نعم بحسب المقتضى، فقد لا يكون كذلك بحسب واقع عشناه مع الأولين والآخرين.
كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يباهي بدعوة أبيه إبراهيم(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)
ويقول صلى الله عليه وسلم: أنا دعوة أبي إبراهيم!!
ومن أجمل ما ورد في تفسير الحكمة، وهو ما أريد أن أهديه لأحبابي في العيد، قول من قال: "الحكمة العقل في الدين"
العقل الذي يضبط في المقام الذي أنت قيه بظرفيه سقف التفسير والتأويل. تذكروا دعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس، ابن عباس الشاب الحدث، وليس غيره: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. وإذا علم التأويل قسيم الفقه في الدين. وواو العطف في لغة العرب تعطف المتغايرين.
فقه الدين فقه. وعلم التأويل فقه آخر. وكل تكليف يحمله النص الشرعي: أمر أو نهي محكوم بعلمين علم دين وعلم تأويل. وإذا شئت فيما نحن فيه علم كتاب وعلم حكمة.
القوة في الدين- مثلا-  تكون مرة في الصبر ومرة في الجهر، ومرة في التلطف، ومرة في الانتصار، ومرة .. ومرة…
والحكمة هي العلم الذي يضبط كل هذا، ويحدد أرضه وسقفه، وأذانه وإقامته.
في كل فقه الكتاب أحكامه وتكاليفه وتنزيلها على الواقع، يجب أن تكون الحكمة بوصفها القسيم المكمل حاضرة. ندفع حين ندفع بحكمة، نمنع حين نمنع بحكمة، نقدم حين نقدم بحكمة، نتحيز إلى فئة حين نتحيز بحكمة، نفعل كل ذلك ونص الكتاب واحد. وإذا علم المسلم  الحكمة، واستقرت في عقله وقلبه، فالحكمة مستقرة في القلب، ويقضي بأمرها العقل؛  يمكن للمسلم  أن يكون له في فقه النص وفقه اللحظة، كما تقتضيه الحكمة أن يكون.
ومن جميل ما قالوا في تفسير الحكمة قولهم : نور يقذفه الله في القلب ينوّر للمؤمن طريقه إلى الصواب.
وإذا الحق أبلج سهل قريب، وإذا الباطل معتم بعيد. صحيح أن المؤمن يركب الصعب، ويحتمل الشدة في سياق يقتضي ذلك، ولكنه أيضا ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، كان ذلك ديدن معلم الناس الحكمة صلى الله وسلم عليه. إنّ الصعب الذي يذهب بالمسلم إلى "وادي تهلك" ليس مركبا تشير به الحكمة، وإن تعسف بعضهم بالاستدلال عليه ببعض آيات الكتاب. ولآيات الكتاب دلالة، والحكمة إطارها، وكل تفسير خرج من إطار الحكمة جانبَ التعليمَ الذي علمه صاحب الرسالة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
قول ثالث في الحكمة يسطر ويؤطر ويحفظ قاله الراغب الأصفهاني في الحكمة: "الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل"
العلم علم آيات الكتاب في سياقاتها، وعلم نصوص السنة في رواياتها، والعقل هو العقل الجامع المنضبط الضابط، الذي يقول هذا ليس هنا، وهذا ليس الآن…
اللهم علمنا الكتاب والحكمة وآت نفوسها تقواها، وزكها أنت خير من زكاها..
وكل عام وطالبو الحكمة بألف خير
لندن؛ ٣ ذو الحجة/ ١٤٤٤
٣٠/ ٦/ ٢٠٢٣
____________
*مدير مركز الشرق العربي