هذا
مقال عمره أربعون عاماً، ترى هل يمكن
أن نزعم على ضوء الأحداث أنه كتب
بالأمس بدم أبناء جنين؟! لا بأس أن
تقرأ بإمعانٍ علنا نستوعب الدرس...
درس
من الميدان
مجلة
المسلمون
العدد
الأول/ تموز (يوليه) 1963
سعيد
رمضان
حدثني
ضابط عربي كبير عرفته في جبهة القتال
أثناء حرب فلسطين، وخبرت فيه المقاتل
الشجاع إلى أن أوقعته الخيانة أسيراً
في أيدي يهود، أن قائد الجيش اليهودي
دعاه إلى مكتبه قبيل إطلاق سراحه وتلطف
معه في الحديث، فأبدى له إعجابه
بكفايته في الميدان وبصلابة إرادته
منذ أسر بما يشبه الاعتذار عما سلف من
ظروف الأسر وقيود المعتقل، فوجد
الضابط الأسير في هذا التلطف فرصة
نادرة كي يسأل عن أمر لم يستطع له
تفسيراً أثناء القتال، وكان بينهما
هذا الحوار:
ـ هل تأذن لي في
سؤالك عن أمر لم أستطع كعسكري أن أجد له
من ناحية التكتيك تفسيراً مقنعاً
أثناء القتال؟
ـ تفضل…
لعلي أستطيع
الجواب!
ـ لماذا لم
تهاجموا صور باهر؟
فبدرت من وجه
القائد اليهودي ابتسامة ماكرة وأطرق
إطراقة طويلة ثم قال:
ـ سؤال سليم...
أتريد جواباً صريحاً؟
ـ بالطبع
...
أعني إذا كان ذلك ممكناً!
ـ لم
نهجم على صور باهر لأن فيها قوة
كبيرة من متطوعي الإخوان المسلمين!
فاعترت الضابط
الأسير دهشة بالغة وأحرجه خاطر سريع أن
القائد اليهودي ربما هدف إلى التعريض
بكرامة الجيش الرسمي إذ يتحدث هكذا عن
المتطوعين، فسأل في حدة هي أقرب إلى
الاستنكار:
ـ وماذا في ذلك؟
لقد هجمتم مرات على مواقع أخرى فيها
قوات أكثر وفي ظروف أصعب بالنسبة لكم..
أصعب بوضوح!
ـ ذلك أن متطوعي
الإخوان هؤلاء يختلفون عن غيرهم من
المقاتلين النظاميين، يختلفون
تماماً، فالقتال عندهم ليس وظيفة
يمارسونها في حدود الأوامر والتكتيك،
بل هواية يندفعون فيها بشغف وحماس
مثير، وهم في ذلك أشبه بجنودنا الذين
يقاتلون عن عقيدة في سبيل إسرائيل،
ولكن الفارق بيننا وبينهم أننا نقاتل
في سبيل تأسيس وطن قومي كي نعيش فيه،
أما هم فيريدون أن يموتوا...! والهجوم
على قوم لا يخافون حتى من الموت بل
يتطلعون إلى الموت في شغف
أقرب إلى الجنون ويندفعون في سبيله
كأنهم مردة الجن يتحدون كل
المعقول.. الهجوم على أمثال هؤلاء
يشبه الهجوم على غابة ملأى بالوحوش،
وهو بذلك مخاطرة نؤثر أن نتحاشاها، ولا
نرى من الحكمة التورط فيها فنهيج هائجة
هؤلاء المتعصبين المجانين، وقد تسري
عدوى جنونهم في كل المناطق فتفسد علينا
كل شيء ويتحقق لهم بذلك ما يريدون.
حدثني صديقي بعد
أن أدرك هذا الحد في رواية الحوار:
أصارحك يا أخي
أنني بقدر ما ذهلت من جواب هذا العدو
أصابتني نشوة أحسست كأني أولد من جديد،
وتعلمت في هذه اللحظات درساً بليغاً في
فلسفة القتال لم أتعلمه من كل ما قرأت،
وانكشفت لي روعة السلاح الرهيب
المختزن في معاني الإيمان والاستشهاد..
بيد أنني تماسكت على ما أثاره هذا
القائد اليهودي في أعماقي وهو لا يدري.
وتداعت إلى نفسي صور عديد من الشهداء
الأبرار ـ ممن عدهم هو من المجانين أو
من مردة الجان ـ شهدت بعيني سبقهم إلى
خط النار وبلاءهم الفذ في القتال
وتنافسهم على في طلب الشهادة.. ثم بهرني
أشد من ذلك كله ما رأيته على وجوههم في
مصارعهم من ابتسامة ترف بالرضا
والسكينة والسلام العميق، والحق أني
كنت ظننتهم أول ما رأيتهم في الميدان
جمهرة جاءت تهرج باسم التطوع أو على
الأكثر دراويش لا يصلحون لغير الصلوات
الخمس وترتيل القرآن والفزع إلى أوصاف
الجنة ساعة تندلع فيها لغة النار..
واستحوذ علي حديث
النفس حتى كاد يقطعني عن حديث اليهودي
الذي كأنما أغراه شرودي فتقمص روح
الأستاذ يلقنني بها دروساً في إنكار
التعصب الأعمى ومغامرات المجانين.. إلى
أن بدر مني سؤال هو في الحقيقة صدى حديث
النفس العميق:
ـ ترى ما الذي
أصاب هؤلاء حتى شغفوا هكذا بالموت
واستحالوا قوة ماردة تتحدى المعقول؟
فأجاب: سحر الدين
في عقول السذج يا سيادة الضابط! إنهم
لم تتح لهم مثلك فرصة دراسة واعية
تقدمية تفتح عيونهم على حقائق الحياة
وتحررهم من الخرافة ومن شعوذة
المتاجرين بالدين. إنهم لا يزالون
فرائس تعسة للخيال الخصب حول الجنة
التي تنتظرهم بعد الموت وحول ما
ينتظرهم فيها من لبن وعسل وخمر ونساء..
هؤلاء هم عقدة العقد في طريق السلام
البناء الذي يجب أن نتعاون عليه، وهم
أخطر الخطر على كل جهد يبذل بنية حسنة
لتبديد شبح الحرب ولإقرار علاقاتنا
على هذا المستوى الواعي الذي تلمسه بين
مثلي ومثلك، وخطرهم ليس علينا وحدنا بل
عليكم أنتم بالدرجة الأولى إذا كان
يعنيكم حقاً أن تستقر أوضاع بلادكم
وتتحرر حكوماتكم من القلاقل التي
تنقطع تحت صرخات الجهاد والاستشهاد
ولا تؤمن إلا بمنطق القوة والعنف الذي
لم يعد له مجال في القرن العشرين: قرن
العلم وهيئة الأمم والرأي العام
العالمي وحقوق الإنسان! يا سيادة
الضابط: إني سعيد بلقائك، وسعيد بهذا
الحديث الصريح معك، ولست أشك أنه سيبقى
في ذكريات كلينا إلى أن نلتقي في ظروف
أحسن، وفي جو غير هذا الجو.. في جو طلق
يسوده التعاون المتبادل الذي نرجو أن
يتحقق بأيدي أمثالك من أهل الفكر النير
المتحرر من نزوات الحقد وأغلال الجمود.
قال القائد
اليهودي ذلك ثم وقف، فكان وقوفه
إيذاناً بانتهاء اللقاء، وأعفاني هذا
الإنهاء المفاجئ من حرج شديد: بين أن
أجيب على هذا الذي سمعت فأكشف صحوة نفس
جديدة أطلقها من عقالها حديث عدو لدود،
وبين أن أسكت فيظن الخبيث أنه ألزمني
حجة باطلة وبلغ معي ما يريد... فلم يسعني
ـ وأنا لم أزل بعد الأسير في معتقله ـ
إلا أن أقف بدوري وأقول شيئاً قبل أن
أنصرف، فقلت له: إن سعادتي بهذا اللقاء
لا تقل عن سعادتك، وأؤكد لك أنني لن
أنسى هذا الحديث ما حييت، بل قد أعتبره
كسباً فريداً خرجت به من هذا الأسر،
فلك أجزل الشكر!
قلت هذا وانصرفت،
فكان آخر انطباع في نفسي من صورة
اللقاء هو الابتسامة العريضة الخبيثة
التي ملأت وجه قائد اليهود فرحاً بما
قلت، وقد كان حرياً أن يفترسه الكمد لو
أدرك حقيقة ما عنيت، وأن تذوب نفسه
حسرات لهذا (الكسب الفريد) الذي سعدت به
وشكرته عليه.. لقد والله غادرت مكتبه
وأنا أحس بنفسي تمور بين جنبي مور
البركان، وبعاطفة مشبوبة تهدر في صدري
ودمي ـ ولو أني فتحت فمي ساعتئذ لقلت يا
لله! ما كان أشد غفلتي بما اشتغلت به من
أنواع السلاح وفنون القتال عن أمضى
سلاح في أخطر قتال.. الآن عرفت أنه لا
يدفع هذا الطغيان إلا بأس الإيمان، ولا
يهزم حب الحياة في البغاث المستنسر إلا
حب الموت في طلاب الشهادة لله، ولا
يقدر على المعتصمين بأسلحة العصر
ومذاهب القرن العشرين يفتنون بها
السذج إلا المعتصمون بالمحراب لا
يخطئون في نوره عدو الله مهما تلبس،
ويسبقهم من رهبته رعب يغشى نفس العدو
حتى ليخافهم خوفه من سبع الغاب، وحتى
ليحتسب أن تسري عدواهم إلى بني قومهم
فتفجر فيهم براكين العقيدة التي أصلت
من قبل سلفه، سلف السوء، الحمم بما
اعتدى وغدر ـ فأجلت بني قريظة وبني
النضير وبني قينقاع ثم أدبته يوم خيبر
بأدب النبوة الذي لا يصلح معه سواه..
يوم أدلف عسكر العقيدة مع الليل
فأحاطوا باللئام، حتى إذا أصبح الصبح
نادى قائدهم رسول الله (الله أكبر هلكت
خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء
صباح المنذرَين)!
لم يكن هذا
الضابط الصديق يوم عرفته في الجبهة، بل
إلى يوم أوقعته الخيانة في الأسر، ممن
يتسمون بالتدين أو ممن تستهويهم مسائل
الدين، فإذا هو يرجع من الأسر منفعل
النفس بالإيمان هكذا كما قد رأيت، وإذا
بي ألقاه بعد الرجعة أخاً عزيزاً في
العقيدة أوثق ما يكون الإخاء وأنصع ما
يكون اليقين.
وذلك جدير أن
يدعم مورد العبرة في قصته الممتعة (التي
أرويها من الذاكرة بعد قرابة ثلاثة عشر
عاماً حافلة بالعبر!) بشاهدين صريحين،
شاهد من حاله قبل الأسر، وهي حال مئات
الألوف بل الملايين من رفاقه وأمثاله
في دنيا العرب ـ يتسمون جميعاً في
ثورتهم لقضية الوطن المغتصب بعاطفة هي
مزيج من انفعالين، حمية القومية وعزة
السلاح. والشاهد الثاني هو تحول هذا
الحال في حومة المأساة بين فكي العدو،
وبعد تجربة عملية في خط النار لم
ينقصها المقاتل ولا تقدير شأن العدو،
وفي انفعال عميق رغم مرارة الهزيمة وذل
الأسر، إلى فلك نفسي يتميز في مركزه
ودورته ومسراه: مركز العقيدة ودورته
حولها ومسراه مسرى الروح المتحرر لذات
الله.
سوف تهز هذه
القصة نفوس كثير من المؤمنين، وسوف
يجدون فيها برهان العقيدة التي تملأ
قلوبهم وإن جحدها وطمس معلمها أولو
البأس من الغافلين أو المارقين..
ولكأني أرى أخوة الجهاد في (صور باهر)
وأرباضها تألق عيونهم ببسمة اليقين.
بيد أني لم أسرد
القصة لهؤلاء وحدهم، فهم ـ أغلب الظن،
ولا أزكيهم على الله ـ لا يزالون في
عافية من إيمان أرهفته نية الجهاد
ومصارع الشهداء وغدر أعداء الله.. ثم
العهد المبرور على مواصلة السرى مهما
قسا الليل وبعدت الشقة وعز الأوفياء (فمنهم
من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا
تبديلاً).
بل لعل الأقرب
إلى الصدق أن أقول أني إذ حضرتني القصة
لم يكن هؤلاء هم شاغل البال، وإنما
كانت مشغلتي بغيرهم من أجيال المسلمين
الذين تشدهم إلينا عرى الإيمان
والتراث والتاريخ.. ولكن تشدهم عنا
حبال يمسك بها أعداء الإسلام من وراء
كواليس محكمة الصنع والرتاج، مرة باسم
العلم وأخرى باسم الإنسانية وثالثة ـ
ثالثة الأثافي ـ باسم التطور (على وجهه
الذي يعني التقدم في العربية الفصحى ـ
طبعاً!)، وما أكثر ما مزق هذا الشد ـ
لحساب مديري الإخراج وراء الكواليس ـ
من وشائج، وطمس من حقائق ونكس من رجال
وجهود!
إنما عنيت بهذه
القصة هذه الأجيال العزيزة التي ولدت
في ديار الإسلام ودرجت في مرابعه، وأخص
من بينها أولئك الذين لا يزال يعاودهم
ـ بين الحين والحين ـ حنين الوفاء إلى (الذات)
المستكنة في حبات قلوبهم: لا تدركها
ولا تطلقها إلا خشعة السجود،
والمرفرفة في أقصى مسارح أرواحهم: لا
يواكبها إلا العزم المحلق.. (حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
أجـل!
وشاهد العبرة
الذي أسوقه إليهم في قصة هذا المقال،
شاهد بالغ الحجة بعيد المدى.
وقد يعيننا على
استقطاب هذه العبرة أن نتساءل: ذلك
الموقف اليهودي الواضح من عنصر
العقيدة في خط النار، ما سببه؟
ربما كان الجواب
السهل على ذلك هو أن المقاتل المؤمن
الذي لا يخشى الموت قوة يخافها ويحذرها
أقوى الأعداء.
ولكن ما الذي جعل
الموقف اليهودي ـ في جواب القائد على
السؤال المفاجئ من الضابط الأسير ـ
موقفاً حاضر البيان واضح المعالم
والاتجاه، لا مجرد موقف الخائف الحذر،
حتى إنه ليبادر إلى تحليل هذا (الصنف
المؤمن) وخطره الذي يتحدى كل المعقول
ويفسد تكتيك الميدان، ويسترسل في
تصوير مغباته الماحقة على كل آمال
المستقبل في الأمن والسلام، ثم يفضي من
ذلك إلى تحريض الضابط وأمثاله من أهل (الفكر
النير المتحرر) على استئصال المسؤولين
عن هذا الخطر لأنهم (عقدة العقد) و(أخطر
الخطر) على جهود البناء والاستقرار؟!
وما نظننا بحاجة
إلى توكيد أن الأمن والسلام في ضمير
المتحدث هما أمن اليهود وسلامهم، وأن
البناء والاستقرار إنما يعنيان بناء
كيان إسرائيل لا كيان العرب، واستقرار
أمرها لا أمرهم..
جواب ذلك في
الحقيقة التاريخية التي سجلتها الآية
الخالدة (لتجدن أشد الناس عداوة للذين
آمنوا اليهود والذين أشركوا)، وهي آية
واضحة في أن العداوة الأشد تستهدف (الذين
آمنوا)، أي أن صفة الإيمان فيهم هي
مثيرة ثائرة اليهود والذين أشركوا. وقد
يقول هنا قائل: عرفنا في الذين أشركوا
صفة الإشراك تجاه صفة الإيمان في الذين
آمنوا، وفي ذلك تفسير عداوة لا غرو أن
تشتد على قدر إيمان هؤلاء وإشراك أولئك
ـ ولكن كيف نفسر تسوية اليهود
بالمشركين في ضراوة العداء، بل
تقديمهم عليهم، مع أنهم أهل كتاب
يؤمنون بالله؟ وقد أجاب محمد رشيد رضا،
رضوان الله عليه، في سياق تفسيره لهذه
الآية، فقال:
(كان اليهود
والمشركون مشتركين في بعض الصفات
والأخلاق التي اقتضت شدة هذه العداوة
للمؤمنين، فمنها الكبر والعتو، والبغي
وحب العلو، ومنها العصبية الجنسية،
والحمية القومية، ومنها غلبة الحياة
المادية، ومنها الأثرة والقسوة، وضعف
عاطفة الحنان والرحمة، وكان مشركو
العرب على جاهليتهم أرق من اليهود
قلوباً، وأكثر سخاء وإيثاراً، وأشد
حرية في الفكر والاستقلال، وما قدم
الله ذكر اليهود في الآية، إلا لإفادة
أصالتهم وتمكنهم فيما وصفوا به،
وتبريزهم على مشركي العرب فيه، وناهيك
بما سبق لهم من قتل الأنبياء وإيذاء
بعضٍ، واستحلال أكل أموال غيرهم
بالباطل. وأما ما كان من ضلعهم مع
المسلمين في البلاد المقدسة والشام
والأندلس فإنما كان لأجل تفيؤ ظل
عدلهم، والاستراحة من اضطهاد نصارى
تلك البلاد لهم، فهم لم يعدوا في ذلك
عادتهم، ولم يتركوا ما عرف من شنشنتهم،
وهي أنهم لا يعملون إلا لمصلحتهم).
(... فتلك كانت
صفات الفريقين الغالبة، لا أخلاق
أفراد الأمتين كافة، ففي كل قوم خبيثون
وطيبون، (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق
وبه يعدلون) ولكن شريعة اليهود نفسها
تربي في نفوسهم الأثرة الجنسية لأنها
خاصة بشعب إسرائيل، وكل أحكامها
ونصوصها مبنية على ذلك.
وحكمة ذلك أن
المراد منها تربية أمة موحدة بين أمم
الوثنية الكثيرة بعد إنقاذها من
استعباد أشد أولئك الوثنيين بطشاً
وأضراهم بالاستبداد ـ وهي أمة
الفراعنة ـ ولو أذن الله لبني إسرائيل
بعد إنجائهم من مصر إلى الأرض المقدسة
أن يخالطوا الأمم التي كانت فيها، وجعل
شريعتهم عامة مبنية على قواعد
المساواة بين الإسرائيليين وغيرهم ـ
كالشريعة الإسلامية ـ لغلبت تعاليم
أولئك الوثنيين وشرورهم على
الإسرائيليين لقرب عهدهم بالتوحيد، مع
استعدادهم الوراثي لقبول تقاليد غيرهم
والخضوع لهم، ولذلك أمروا بأن لا يبقوا
في الأرض المقدسة نسمة ما ممن كان فيها
قبلهم. وكان موسى عليه السلام يحذرهم
أشد التحذير من مفاسد الوثنيين بعده.
فإن قلت أن هذا
الإصلاح بتربية أمة واحدة على هذه
الطريقة، بمثل هذه الشريعة، يترتب
عليه مفاسد أخرى في أخلاق هذه الأمة،
ولو لم يكن من مفاسده إلا ما هو معروف
من أخلاق اليهود إلى الآن التي كانت
سبب اضطهاد الأمم لهم في كل مكان، ومن
حرصهم على الانتفاع من غيرهم، وعدم نفع
أحد بشيء منهم، إلا إذا كان وسيلة
لمنفعة لهم أكبر منه أو دفع ضرر، وتجرد
السواد الأعظم منهم من إيثار أحد غريب
عنهم بشيء ـ لكفى، وكان شبهة عظيمة على
كون دينهم ليس من عند الله تعالى (والله
لا يحب الفساد).
والجواب عن هذه
الشبهة سهل عند المسلمين، وبيانه أن
تلك الشريعة كانت مؤقتة لا دائمة،
فكانت في العصر الأول هي الوسيلة إلى
تكوين أمة موحدة بين أمم الوثنية، وكان
المصلحون من الأنبياء صلوات الله
عليهم يتعاهدون أهلها زمناً بعد زمن
بالإصلاح المعنوي، كإلهيات زبور داود
وأدبيات حكم سليمان عليهما السلام،
حتى لا تغلب على القوم المادية وتفسدهم
الأثرة، ثم جاء مصلح إسرائيل الأعظم
عيسى المسيح صلوات الله وسلامه عليه
بنقض ما كانوا عليه من ذلك بدعوتهم إلى
نقيضه أو ضده، فقابل مبالغتهم في
المادية بالمقابلة بالروحانية
ومبالغتهم في الأثرة بالمبالغة في
الإيثار، ومبالغتهم في الجمود على
ظواهر الشريعة بالمبالغة في النظر إلى
مقاصدها. فكره إليهم السيادة والغنى،
وذم التمتع بنعيم الدنيا، وأمر بمحبة
الأعداء، وعدم الجزاء على الإيذاء ـ
وكان ذلك كله تمهيداً لإكمال الله
تعالى دينه بإرسال خاتم النبيين
والمرسلين، محمد المبعوث رحمة
للعالمين… الذي يعلمهم
ويعلم غيرهم كل شيء، فيجمع للبشر بين
مصالح الروح والجسد، ويأمرهم بالعدل
والإحسان لا بالإحسان فقط)!
إن هذه الأسطر
التي نقلناها من تفسير المنار، والتي
كتبها السيد رشيد رضا قبل أكثر من نصف
قرن، عرضا مدهشاً للمشكلة اليهودية
عبر التاريخ، وتحليلاً بليغاً لما
أصاب بني إسرائيل ـ وأصاب الدنيا منهم
ـ منذ اختار موسى لتقويم عوجهم وتحرير
رقابهم فزعموا أن الله اختار جنسهم من
دون الناس أجمعين!
ولو أن ساستنا
المسلمين استعملوا عقولهم في فهم كتاب
الله كما يستعملونها في فهم أي كتاب
سواه، لوجدوا في آياته نذيراً يكشف لهم
عن حقيقة الخطر وفلسفته ومداه، ولكان
لهم منها عاصم يأخذ بحجزهم وحجز شعوبهم
فلا ينخدعون عن طبيعة المعركة ولا
يواجهون المسخ بمسخ من نوعه ولا يغفلون
عن العقيدة وموازينها في كل ميدان.
أما الذين ينفرون
من (لغة الدين) حين الحديث عن فلسطين،
فأحب أن أدعوهم كي يقفوا معي هذه
الوقفات القصيرة في مذكرات (وايزمان)
قطب الحركة الصهيونية ورائدها بعد (تيودور
هرتزل) وأول رئيس لإسرائيل.
يقول وايزمان في
مطلع مذكراته:
(... وإذا بلغت
الرابعة من عمري ذهبت إلى الشدر Cheder، أي مدرسة الدين
اليهودي، شأني في ذلك شأن سائر أطفال
اليهود.. وفي الربيع والخريف حين كانت
الشدر تستحيل إلى جزيرة صغيرة وسط بحر
من الأحوال، وفي الشتاء حين يغشاها
الثلج من كل جانب فلا تكاد تبين.. كان لا
بد أن يحملني إليها أحد الخدم أو أخي
الكبير، حتى إذا وصلت كان علي أن أمكث
حبيساً بين جدرانها ـ مع غيري من
الأطفال ـ من الصباح الباكر حتى
المساء، وكنا نحمل غداءنا معنا
فنزدرده في فترة قصيرة تتخلل سلسلة
الإجراءات.. غالباً والكتب لا تزال
مفتوحة بين أيدينا.. وفي أيام الشتاء،
حين يسرع الظلام بعد فترة الظهيرة ، لم
نكن نستطيع مواصلة الدراسة بغير نور
صناعي، وحيث أن الشمع كان من مواد
الترف إذ ذاك، ومصابيح الغاز يكاد
يستحيل الحصول عليها، فقد كان على كل
طالب أن يتبرع برطل من الشمع مساهمة
منه في (رسالة) تعليم الجيل الناشئ…
لقد تعاقب علي
خلال سني الدراسة في هذه المدرسة عديد
من المدرسين، فإذا بي حين بلغت الحادية
عشرة، أو حتى قبل ذلك، أجد قواي
العقلية ترزح تحت مطالب غاية في الثقل...
لقد كان مفروضاً في أن أفهم معضلات
القانون اليهودي ـ وهو شيء لم أدركه
تماماً قط! ـ كما جاءت في تلمود بابل وكما
يقرعني بها الراهب الدقيق اللفظ…
لقد كان من أشد ما يحيره فكرة أن هذه
المسائل تحتاج إلى شرح، فالطفل
اليهودي عنده مجبول بالغريزة على فهم
مقدسات دينه، وقداسة مسائل الدين
وسهولتها توأمان.. إنني لم أكن أشاركه
هذا الرأي، ولكنني كنت في حالة أليمة
من الفزع الشديد لا أتجاسر معها على
معارضة هذه الأساليب…
إنني لم أستطع تذوق تعاليم التلمود
ولكنني شغفت حباً بقصص الأنبياء، وقد
جعلني هذا الشغف ألتحق بمدرسة دينية
أخرى.. وفيها كان المعلم إنساناً
ودوداً يملؤه الحماس للموضوع، فاستطاع
أن يبث حماسه في نفوس طلابه رغم كل ما
يحيط بالمدرسة من جو قابض إلى حد بعيد.
إنني مدين بالدرجة الأولى لهذا
المعلم، الذي أصبح فيما بعد صديق
العمر، بفقهي في التوراة، وبفنائي
المبكر والمستمر في التراث العبري
اليهودي).
ويقول وايزمان في
مكان آخر:
(لم يكن موقفنا
معاشر الصهاينة من مدنية روسيا
وثقافتها موقفاً سلبياً، لقد كنا
نتكلم اللغة الروسية ونكتبها ونحيط
بأدبها على مستوى دونه أكثر الروس
أنفسهم، ولكن قلوبنا وأرواحنا ظلت
دائما ًضاربة الجذور في ثقافتنا نحن،
ولم يخطر ببالنا قط أن نتخلى عنها
لحساب ثقافة سواها. وللمرة الأولى
حاربنا أصحاب الاتجاه المقلد المتمثل
لثقافة الغير بسلاحهم وعلى أرضهم... أي
بمنطق الفكر التقدمي الذي يفحمهم).
ويقول في الفصل
الخامس عشر وعنوانه: (نحو وعد بلفور):
(ليست الصهيونية
لأولئك اليهود الذين قطعوا أنفسهم عن
اليهودية وانحرفوا عنها، وإنما هي
لجماهير اليهود ذوي الإرادة المصممة
على أن يحبوا حياتهم الخاصة وفق ما
يؤمنون).
بل إنه ـ في الفصل
ذاته ـ يرد إلى هذه الفلسفة وإلى سلطان
الدين فضل الحصول على وعد بلفور فيقول:
(كيف استطعنا أن
نصل مع بريطانيا إلى موقفها هذا المؤيد
لقضية الوطن القومي لليهود؟ عامل
واحد، لعله كان العامل الحاسم، هو
سلطان الفكرة ذاتها على كثير من قادة
الإنكليز. إن من الفوارق بين ذلك الوقت
ووقتنا هذا، هو في طبيعة المنهج الذي
تعالج به المشاكل الدولية. إن الواقعية
المزعومة في السياسات العصرية ليست
واقعية أبداً، بل انتهازية صرفة، ونقص
في الخلق، وقصور في البصر، ومبدأ العيش
بين اليد والفم! إن سياسيي المدرسة
الإنكليزية القديمة كانوا متدينين
تديناً أصيلاً، فاستطاعوا بذلك أن
يدركوا فكرة العودة كحقيقة استجابوا
لها بحكم تعاليم دينهم وإيمانهم)!
إن قوماً يأخذ
الدين هذا المكان الرئيسي في فلسفتهم
وكفاحهم لا يمكن إلا أن تعتبروا عنصر
الدين في المعركة ضدهم أقتل سلاح في
الميدان. وأن يعتبروا أصحابه والداعين
إليه أخطر الأعداء. وأن يُسخّروا كل ما
يملكون من أجهزة الدعاية والتأثير
والنفوذ إلى تشويه سمعة هؤلاء
والتشهير بهم والتأليب عليهم. وقد
ذكرنا في (المسلمون) من قبل كيف كان
الصحافي الصهيوني (جون كيمشي) هو أول من
أذاع ـ بعد رحلة أسبوعين في الشرق
الأوسط! ـ سبقه الصحافي إلى الاكتشاف
العجيب: أن حركة الإخوان حركة عسكرية
مدمرة، وأن رجالها إرهابيون خطرون
يجهزون عصابات للتخريب ويكدسون أسلحة
في مخازن رهيبة تحت الأرض ويستعدون
لإحداث انقلابات!
كان ذلك قبيل حرب
فلسطين، وكانت الرحلة الصحافية
الخاطفة هي الثوب المسرحي لبسه كيمشي
كي يحقق مهمة رسمها له الذين أوفدوه،
وأعدوا له بيانها قبل أن يطير من لندن،
وهي مهمة تحريض فاروق وغير فاروق على
ألد الأعداء...
على أن هذه
المهمة لا يزال يقوم عليها ويتعهد
أداءها جند مجندون على كل المستويات،
وإليك هذه اللقطات من كتاب نشره حديثاً
قسم الدراسات الشرقية بجامعة هارفارد،
كبرى جامعات الولايات المتحدة
الأمريكية، للكاتب اليهودي (ناداف
سافران).
يقول سافران:
(إن خطورة
الإخوان المسلمين تكمن في العقيدة
التي تحكم استعمالهم للعنف، وفي
الفكرة والبرنامج اللذين كانوا
مستعدين في سبيلهما أن يستعملوا العنف).
ويذهب في التحليل
إلى حيث يعقد الصلة والمقارنة ـ كما
تبدوان له ـ بين (محمد رشيد رضا) و(حسن
البنا) فيقول:
(لقد عرف قائد
الإخوان، حسن البنا، رشيد رضا وتردد
على حلقته أثناء سنوات دراسته في دار
العلوم بالقاهرة. ولكن بينما اشتغل رضا
بالقواعد الأصولية للعودة إلى المصادر
الإسلامية فإن البنا عاد ببساطة إلى
الكتاب والسنة. بينما عمل رضا على
استخراج المبادئ العامة للمثل الإسلامية اتجه
البنا إلى توكيد محظورات القرآن
ونصوصه في بساطتها المثيرة، وبينما
شغل رضا نفسه بفقه الدولة الإسلامية
وبقواعد توحيد التشريع واستعادة وحدة
الأمة شرع البنا والإخوان المسلمون في
إثارة الثائرات من أجل الدولة
الإسلامية ونظام الإسلام الاجتماعي
الذي تصوروه بمجرد الحدس وعملوا على
فهمه عملياً مع الزمان مستشهدين
بالقرآن والحديث. لقد اشترك البنا
والإخوان مع رشيد رضا في إيمانهم الذي
لا يتزعزع بأن الإسلام دين كامل، وأنه
يحمل كل الأجوبة على مشاكل البشر، كما
أنهم اشتركوا في الاقتناع العميق بأن
الإسلام في خطر ماحق من أجهزة الغرب
المسيحي المعتدي، ومن عملائه العمي (المستغربين)!
هذه العقيدة الأخيرة بلغت في الحدة عند
الإخوان المسلمين حداً بعيداً لأنهم
ظهروا مع احتدام الكفاح الوطني
وأصبحوا المركز الرئيسي لكل تفكيره).
ولكنه قبل أن يلبس هذا الثوب العلمي
فيما ذهب إليه من تحليل، قضى وطره في
التشهير والتأليب، بل أفلت زمامه حين
كان الحديث عن حرب فلسطين ـ قال سافران:
(.. فلما بدا
واضحاً أنه لا يمكن كسب الحرب (حرب
فلسطين)، بينما كانت أقوى وحدات الجيش
لا تزال مشغولة في الجبهة، بدأ الإخوان
التآمر على قلب كامل لنظام الحكم. كانت
البداية حملة ترويع على اليهود
والمؤسسات اليهودية ترددت الحكومة في
مقاومتها. ثم لم يلبث الإخوان أن وسعوا
نطاق هجماتهم ضد الأجانب، ثم ضد
المصريين.. وليس أدل من مبلغ القوة التي
بلغتها هذه الحركة وعلى الانهيار الذي
أصاب السلطة العامة من أن الحكومة لم
تجرأ على اعتقال قادة الإخوان كي
تقدمهم إلى المحاكم، حتى بعد أن انتقمت
الحركة باغتيال رئيس الوزراء لم يجرأ
خلفاؤه على إجراء كهذا، بل لجأوا بدلاً
من هذا إلى إجراء شرعي فوق العادة،
فدبروا اغتيال مؤسس الحركة).
وهكذا يعمي الحقد
سافران فيفلت قلمه كما أفلت لسان قائد
اليهود، وتنتكس روح البحث العلمي
نكستين شائنتين في فقرة واحدة، فهو
يدين الإخوان بحادث اغتيال برأهم منه
قضاء مصر، ويصف اغتيال مؤسس حركتهم الذي أثبته هذا
القضاء على مرتكبيه بأنه إجراء شرعي
فوق العادة... ولا عجب، فتلك شريعة من
قال الله فيهم (أفكلما جاءكم رسول بما
لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً
كذبتم وفريقاً تقتلون؟!)
وبعد، فإن كنا لا
نعجب من تفلت هذا القلم أو ذاك اللسان،
وأمثالهما كثيرون لا يحصيهم العد،
فنحن نستغرب أن يصبح مثل سافران رجلاً
مسؤولاً في جامعة هارفارد، وأن ينشر
مثل هذا العبث في كتاب يسميه قسم
الدراسات في هذه الجامعة (دراسة سياسية)!
(Apditical Study).
|