أيـن
أخـوة الإسـلام؟
(إنما
المؤمنون إخوة)
آية
من القرآن، لا تكاد تجد مسلماً لا
يحفظها، ولا تكاد تجـد داعيـة إلى
الإسلام يغفل ـ في الكلام أو الكتابة ـ
عنها، حتى لتظن أنها باتت من البدائه
المسلمات التي لا تقبل عند المسلمين
جدلاً.
وتتلفت
من حولك في مجتمعات المسلمين، حيث
كانوا، وتشهد تقطع أواصرهم، واختلاف
وجوههم وتعدد خصوماتهم، وانحلال ذات
بينهم فلا تملك إلاّ أن تسأل نفسك: أين
هي أخوة الإسلام؟!
وقد
يقنعك ويقنعني معك، أن نرد الأمر إلى
الجدب الذي أصاب حقيقة الإيمان في أكثر
النفوس، وإلى الجهل الغالب بأحكام
الإسلام، سيان في ذلك (محنة الأخلاق)
على الصعيد الاجتماعي المحدود بين
الأفراد، ومحنتها العامة بين الساسة
والسادة والتكتلات.
ثم
يقنعك، ويقنعني معك، أن نقول في العلاج:
لابد من تربية جديدة ترد إلى النفوس
المجدبة حقيقة الإيمان، ودعوة واعية
تدفع الجهل بالعلم وتذكر المسلمين
بأحكام الإسلام.
ولكننا،
كلينا، لن نلبث أن يهزنا الهاتف الموجع:
(فما بال الأخوة تنتكس هنا وهناك بين
كثير ممن نعرف من دعاة الدين وحاملي
مسوحه وبين الجماعات المشتغلة
بالإسلام؟ ما بال السوس ينخر في كيان
كثير منهم ويباعد بينهم، متذرعاً ـ على
اختلاف مداخله ـ بشعارات الغيرة على
الدين والحرمات؟ وإذا عجز هؤلاء عن
إقرار التآخي الصادق فيما بينهم، فكيف
يدعون إليه غيرهم، وكيف يقدر غيرهم
عليه، ثم كيف نستبين معالم الأمل فيما
نرجوه ـ على أيديهم! ـ من بناء المجتمع
المسلم الجديد؟!
هذا
الهاتف الموجع لم يعد منطلقه الأول ما
خبرناه في الماضي من مسائل الفقه
وقضايا التصوف ومذاهب الكلام، فتلك
خلافات معروفة الأول والآخر، وقد قضى
أساطينها وانحسرت غائلتها عند عامة
الناس وعند سواد المشتغلين بالعمل
الإسلامي العام، ولكنه منطلق جديد ذو
فحيح كفحيح الأفاعي يستهدف الأشخاص
وينهش في الأعراض ويشيع الفاحشة وقالة
السوء...
وتجوس
أفاعيه ـ من أدعياء الإيمان ـ خلال
المؤمنين تنفث السم وتصيب المقاتل
متلبسة دائماً بدعوى الإيمان والغيرة
اللاهبة على المحرمات.
وأشد
ما يوجع في هذا الهاتف، وأخطر الجوانب
في موضوعه، أنه يهتف بظاهرة لم يعد
شأنها يقتصر على فئة القادة الصادقين
الذين ينشدون العلاج، أو على
المتربصين الشامتين الذين يتسقطون
العثرات، بل جاوز ذلك العلاج إلى عدد
من الشباب المؤمن الذي لم تبق له
شائعات السوء على جهة إسلامية طاهرة
الذيل، أو عامل للإسلام فوق الشبهات.
ولم
يعد يكفي، في درء هذا البلاء، أن نتذرع
بالحملة على الأعداء الذين جهروا
بالعداء وسفكوا الدم واستباحوا
المحرمات، وأن نذكر ونعيد التذكير
بكيدهم الدائب في مطاردة من يسمونهم (أشباح
الخط الرجعي) وفي تحطيم مراكز تجمعهم
وتبديد كل رصيد من الثقة يمكن أن يلتئم
به منهم شمل جديد ـ فقد أدرك هؤلاء
الأعداء من أول يوم أنهم لو سموا
الأمور بأسمائها لبقيت المعركة مفتوحة
والجبهة صريحة ولبقي للإسلام فيها
جنده الطبيعيون، ثم كان من البداهة أن
يدركوا أن وجوههم التي سفرت بالغدر
وأفحشت في التنكيل لم تعد تصلح للغزو
الموغل الذي يدرك الفالت ويقتلع
الجذور، فرسموا مخططهم على ركيزتين:
أولاهما مسخ ما يقدرون على مسخه ممن
كان مشهوداً لهم بالإيمان والجهاد،
إما بتغيير فكرهم واتجاههم في (معسكرات
التصحيح) حتى يستوثقوا من إيمانهم
الجديد بالتقدمية والتحرر وإفراد
كاهنهما المارد بالولاء، وإما بشراء
ضعفائهم ممن غلبهم اليأس واستحوذت
عليهم مرارة الهزيمة وزين لهم منطق (إيثار
العافية) أن طريق المصلحة أمسى في خدمة
الكاهن المارد لقاء ما يبذله ـ في سخاء
ودهاء ـ من مال أو جاه أو فرص للتحصيل
العلمي في الخارج يعوضهم بها عما فاتهم
ـ دون جدوى! ـ إبان أعوام النقمة
والاضطهاد. وتمام نجاح هذه الركيزة
الأولى ـ حسب المخطط المرسوم ـ يقتضي
أن تتم عملية المسخ، بنوعيه، في خفاء
تام، وأن يظل أصحابه متلبسين بظاهرهم
القديم من دعوى الإيمان وسابقة الجهاد.
أما الركيزة الثانية فهي تجنيد هذه
العناصر الممسوخة، في الداخل والخارج،
كي يتصيدوا مداخل الضعف فيمن كانوا
رفاقهم بالأمس وخالطوهم عن قرب، بعضها
يجمع المعلومات، وبعضها يثبط العزائم،
وبعضها يبث الشائعات. ومن تمام نجاح
هذه الركيزة الثانية أن يظهر بمظهر
الناقم على الكاهن والمجاهر بعدائه،
بل قد يبالغون في ذلك مبالغة تجعلهم
فوق مستوى التهمة عند الناقمين،
ويصطنعون لغاياتهم نشاطاً متهمين
غيرهم بالقعود، يستقطبون بذلك طاقات
المعارضة ويكشفون خبيئتها من أوثق
طريق، ويلقون ما يلقون في آذان الأغرار
من القيل والقال وإرجافات السوء،
وتجوز الخديعة على الأغرار والأبرياء
فيسمعون وينقلون، ويبلغ الأعداء بذلك
ما أرادوا من الدس والبلبلة والتشتيت.
فإذا
ذكرنا أن المعركة ضد الإسلام ليست
معركة إقليمية تحدها ظروف إقليم
بذاته، بل معركة عامة يتولى كبرها قوى
عالمية تطارد نفوذ الإسلام في كل قطر،
وتعتبر كبت الحركات التي تحمل شعاراته
خطاً رئيسياً ثابتاً في مخططها
للاستقرار والتطوير وتوثيق العلاقات،
وأن هذه القوى ذات دور أصيل في تخطيط
سياسات الكبت على اختلاف مواقيتها
وأقطارها ومظاهرها،وعلى اختلاف وجوه
الأقزام الذي صنعتهم على عينها وأغدقت
عليهم من خيراتها وخبراتها، وأضفت
عليهم ثياب المسرح كل حسب دوره المرسوم
في إنفاذ غاياتها... وضح لنا أننا إزاء
عداوة عاتية مصممة لن ينفعنا معها
التذرع السقيم بالحملة عليها وعلى
أساليب كيدها، فالشأن في العدو أن ينشط
بقدر ما يضمر من عداء، ويحتال ما شاء له
الاحتيال في الكيد والأذى.
وإنما درعنا الذي ندفع به عن
أنفسنا، ونحفظ به طاقاتنا المذخورة
للجهاد الشاق الطويل في حاضرنا
ومستقبلنا، هو صفوف العاملين للإسلام
ـ مهما كانت هيئاتهم ومجالات نشاطهم ـ
وتأمينها من كل الثغرات ومداخل الضعف
التي يمكن أن يلج العدو منها فيبلغ
مقاتلنا. وفي رأس هذه الثغرات ثغرة (البراءة
الساذجة) التي يدلف منها القيل والقال
وارجافات السوء فتبلبل النفوس وتزعزع
الثقة وتشتت القوى.
وسد
هذه الثغرة، في الأساس، هو مهمة
المتعرضين للتربية في حقول العمل
الإسلامي، وكل علاج دون ذلك لن يكون
إلاّ علاجاً جزئياً عارضاً لا يسد
الثغرة ولا يدفع الشر الراصد الذي لا
تنقطع حيله في الكيد على كل مستوى ومن
كل سبيل.
يجب
أن يرتكز منهاجنا قي تربية أنفسنا
وشبابنا على أوليات الخلق الإسلامي
التي صنعت الرعيل المسلم الأول في حجر
النبوة، وأن نوضح ـ في دقة صارمة ـ أن
أخوة الإسلام ليست عاطفة طائرة يحكمها
المزاج وظن الأخ بأخيه، وتفضل أحدهما
على الآخر بمكرمة أو تبادلهما على قدر
العاطفة، ما طاب لهما من مكرمات.
إن
أخوة الإسلام أخوة في ذات الله، هو
سبحانه معقدها بعروة الإيمان: (إنما
المؤمنون أخوة)، وهو وحده المزجي لها
والمفيض لأعز مشاعرها: (لو أنفقت ما في
الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم،
ولكن الله ألّف بينهم)، وآصرة الأخوة
وعهدها لا يعنيان أن المتآخين أصبحوا
بهما معصومين من الصغائر والكبائر، أو
أن أحدهم أصبح قواماً على الآخر يتتبع
عوراته ويعلن عليه النكير إذا رآه
واقعاً على معصية، مهما كانت، فرسول
الله صلى الله عليه وسلم قد قال
لمعاوية: (إنك إن اتبعت عورات الناس
أفسدتهم أو كدت تفسدهم)(1).
وصعد (صلى الله عليه وسلم) المنبر ذات
يوم فنادى بصوت عال: (يا معشر من أسلم
بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه: لا
تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم،
فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتبع
الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه
ولو في جوف رحله)(2).
إن
الشأن في العاطفة الصادقة في الله أن
تحفز صاحبها إلى الأخذ بيد أخيه إذا
زلت قدمه أو استحوذ عليه هوى حرام،
فينصحه برفق العاطفة دون تشهير، بل هو
جدير أن يعاود النصح إذا عاد صاحبه
لمثلها، دون أن يجاوز الحزم في النصح
إلى كشف ستر أخيه وإشاعة السوء، فقد
روى أبو الهيثم كاتب الصحابي عقبة بن
عامر: (قلت لعقبة بن عامر: إن لنا جيرانا
يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط
ليأخذوهم! قال: لا تفعل، وعظهم، وهددهم.
قال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داع
لهم الشرط ليأخذوهم. قال عقبة: ويحك لا
تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: من ستر عورة فكأنما
استحيا موؤودة في قبرها)(3).
ومعروفة
قصة الصحابي الذي ذهب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحدثه أنه هو الذي
ما زال بالمسلم الذي ارتكب كبيرة الزنا
حتى شهد على نفسه وأقيم عليه الحد، فما
كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا أن قال: (لو أنك رأيته فسترته بفضل
ثوبك لكان خيراً لك).
ومن
حقوق المسلم على المسلم، في شريعة
الأخوة في الله، أن يحفظ كلاهما الآخر
إذا غاب، وأن يرفض أية كلمة تمس عرضه في
قليل أو كثير، بل أن يدفع ذلك عن أخيه
ويحوش عنه كل قالة سوء مهما كان صاحبها
الآثم المغتاب، وفي ذلك يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من ذب عن عرض أخيه
بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من
النار)(4)،
ويقول: (من رد عن عرض أخيه في الدنيا رد
الله عن وجهه النار يوم القيامة)(5).
وروى ابن مسعود: كنا عند النبي صلى الله
عليه وسلم، فقام رجل، فوقع فيه رجل من
بعده، فقال النبي لهذا الرجل: (تخلل)
فقال: ومم أتخلل؟ ما أكلت لحماً! قال:
إنك أكلت لحم أخيك)(6).
ويبلغ
من حرص الإسلام على تقرير حرمة المسلم
على أخيه، وحماية عرضه إذا غاب، أن
يقول المربي الأول صلى الله عليه وسلم
لنفر من أصحابه: (أتدرون ما الغيبة؟)
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (ذكرك
أخاك فيما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في
أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول
فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد
بهّته)(7).
وليس
أبلغ في تصوير جلال هذه الحرمة، حرمة
المسلم الغائب على أخيه المسلم، رجلاً
أو امرأة، من قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم للسيدة عائشة إذ عرضت
بالسيدة صفية ووصفتها بأنها (قصيرة): (لقد
قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)(8)،
فكلمة واحدة من عائشة وهي أم المؤمنين
وأثيرة رسول الله، في التعريض بصفية
ووصفها بأنها قصيرة اعتبرها رسول الله
المؤدب صلى الله عليه وسلم كافية
لتغيير لون ماء البحر!
بل
لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
انتقاص حرمة المسلم والنيل من عرضه
جريمة دونها جريمة الربا التي أفردها
القرآن بوعيد لم يتكرر في سواها: (اتقوا
الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم
مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من
الله ورسوله)، فقال في أسلوب صارم
يزلزل نفس كل مؤمن: (درهم ربا يأكله
الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست
وثلاثين زنية احداها أن يزني أحدكم
بأمه. وأربى الربا عرض الرجل المسلم)(9)
، ويدعم ذلك الحديث الآخر الذي روته
عائشة، إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لأصحابه: (تدرون أربى الربا عند
الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن
أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ
مسلم).
وقد
كان في تقرير هذه الحرمة وتقديسها من
آخر ما أعلنه الرسول صلى الله عليه
وسلم في حجة الوداع: (إن أموالكم
وأعراضكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
لا غرو أن ينشأ الجيل المسلم الأول على
إجلال حرمة المؤمن، وعلى استحضار ذلك
استحضاراً لا ينازعه جلال الكعبة
والبيت الحرام، حتى ليقول عبد الله بن
عمر إذ نظر إلى الكعبة يوماً: (ما أعظمك
وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك)،
وحتى ليقول عمر بن عبد العزيز لرجل دخل
عليه فذكر له عن رجل آخر شيئاً يكرهه: (إن
شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً
فأنت من أهل هذه الآية (إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا) وإن كنت صادقاً فأنت من
أهل هذه الآية (هماز مشاء بنميم)، وإن
شئت عفونا عنك! قال: العفو يا أمير
المؤمنين، لا أعود إليه أبداً.
أن
أمة يربيها دينها على هذا التقديس
لحرمة المؤمن، رجلاً أو امرأة، وعلى
حماية عرضه وسمعته في مغيبه من كل كلمة
يكرهها، حقاً كانت أو باطلاً. فإن كانت
حقاً فقد اقترف قائلها إثم الغيبة
الحرام وأكل لحم أخيه ميتاً: (ولا يغتب
بعضكم بعضاً. أيحب أحدكم أن يأكل لحم
أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن
الله تواب رحيم)، وإن كان باطلاً فقد
اقترف صاحبها إثم البهتان وأحاط به
وعيد الله (والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد
احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)،
وينصب لها نبيها صلى الله عليه وسلم في
ضوء ذلك وإزاءه، صورة المستوى الهابط
الذي يتمثل فيه الشر في أخلاق البشر
وفي صلاتهم فيقول: (شرار عباد الله
المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين
الأحبة الباغون للبرآء العيب)(10)
ويزيد في توكيد معنى النفرة بين نفس
المؤمن وبين كل زلة لسان تخدش أخاه
الغائب بما يكره، حقاً كانت أو باطلاً،
فيقول فيما رواه جابر: كنا عند النبي
صلى الله عليه وسلم، فهبت ريح منتنة،
فقال رسول الله: أتدرون ما هذه الريح؟
هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)(11)
أمة
يربيها دينها ونبيها على ذلك، بل على
ما وراء ذلك من مجاهدة وساوس النفس: (يا
أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من
الظن إن بعض الظن إثم)، فيهيب بالمؤمن
أن يتحرر من أكثر الظنون مخافة الإثم.
ويؤكد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: (إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث)(12)
ثم لا يفلت الظان الذي غلبه الظن
فيحجزه عن الوقوع في تتبع العورات: (إذا
ظننت فلا تحقق)(13)،
وينذر المتطاول على الحدود وعلى ما شرع
الله من حرمات، مهما غلبه الظن، فيقول:
(من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد أتى
حداً لا يحل له أن يأتيه)(14)،
ويعود إلى تشديد النذير مرة أخرى فيقول:
(من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل
لهم أن يفقأوا عينه!)(15)،
ويجعل المتطاول على حدود الله بعينه
كالمتطاول عليها بأذنيه في الجرم
سواء، فينذر: (من استمع إلى حديث قوم
وهو له كارهون صب في أذنيه الآنك (الرصاص
المذاب!) يوم القيامة)(16)،
ثم يجاوز ذلك إلى تسوية الحاكم
بالمحكوم في واجب رعاية الحرمات وفي
التحرز من التجسس وتتبع العورات فيقول
فيما رواه أبو أمامة: (إن الأمير إذا
ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)(17).
...
أمة هذا نهجها المفروض في التربية بين
يدي الكتاب والسنة، جديرة أن تظل به في
حمى حريز مهما احتال على كيانها صنوف
الممسوخين المتصيدين للثغرات
والعثرات. ولئن تخلف المسؤولون عن
التربية والتوجيه في الحقل الإسلامي،
أو قصروا في تركيز هذه القيم والأخلاق
في وعي العاملين وضمائرهم وسلوكهم،
فقد آن أن يدركوا ما جلبه ذلك من خطر
أصبح يحيط بهم وبالحركة الإسلامية
عامة، بل يهدد كيان هذه الحركة في أقدس
مقوماته وأوثق عراه، وأن يبادروا إلى
إصلاح ما أفسده التخلف والتقصير
إصلاحاً منهجياً يبدأ من (ألف باء)،
فبذلك وحده يحفظون ما بقي من رصيد
الإخاء في الصفوف، ويحمونه من غائلات
الخطر المحيط.
وحري
بالعاملين وبالشباب المؤمن الذين
أعطوا الإسلام حبات قلوبهم وزهرات
شبابهم، وعهد الوفاء في مستقبلهم، وأن
يجعلوا مناهجهم في الأخلاق والعمل هو
منهاج الكتاب والسنة، ينشدون به وحده،
وفي حدوده الدقيقة الصارمة، ما يرجون
من مرضاة الله ومن إقرار الدعائم
الثابتة لمستقبل كريم جديد: لا يجمح
بهم عن ذلك تطير العاطفة المتفلتة من
موازين السماء، ولا يفتنهم عن مستواه
الرفيع كل ما يبلغ مسامعهم من القيل
والقال وشائعات السوء حول أخوة لهم في
الله، بالغة مهما بلغت مادة الإرجاف
وذرائع المرجفين، ومهما وصفها
المرجفون والسذج الناقلون بكبائر
السوء وأرغوا وأزبدوا بالغيرة الكاذبة
على الحرمات، وحسبهم في ذلك أن يذكروا
أن (إشاعة الفاحشة) أقبح جرماً وأوخم
جريرة ـ في موازين الإسلام ـ من
اقترافها، والله سبحانه يقول: (إن
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة
والله يعلم وأنتم تعلمون).
لقد
شاءت حكمة الله أن يحدث حادث الإفك في
عصره النبوة، وأن تكتمل فيه العبرة
البالغة من طرفيها، فالذين وقعوا في
حباله وارجفوا به نفر من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم صاحب
الفضل والسابقة الذي لا يجرأ أحد على
اتهامه في صدقه ودينه. والمتهم فيه ـ
بالباطل ـ عائشة زوج الرسول وأم
المؤمنين وبنت أبي بكر! ـ ولغ المرجفون
في العرض العزيز محتجين بالغيرة
الكاذبة على المحرمات وعلى بيت
النبوة، وبلغ زيف الإرجاف حداً أحرج
صدر النبي حرجاً لم يعان مثله، وأدمى
جفون عائشة التي لم يبق لها
ـ من دون الناس ـ إلا أن تنزل تبرئة
الله لها من فوق سبع سماوات… وقد نزلت، ونزل
معها البيان الإلهي الخالد الذي دفع
المرجفين وقرر الآداب والحدود التي
تحمي الفرد والجماعة من كل إرجاف من
بعد، وفي كل عصر، بعد انقطاع الوحي
وتبرئات السماء! وهكذا أحبط شر الإفك
وبقي لنا خيره فيما حفظ القرآن من هذا
البيان:
(إن
الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم، لا
تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم، لكل
امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي
تولى كبره منهم له عذاب عظيم. لولا إذ
سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات
بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين.
لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذ لم
يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته
في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم
فيه عذاب عظيم. إذ تلقونه بألسنتكم
وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم
وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا، سبحانك، هذا بهتان عظيم.
يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن
كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات
والله عليم حكيم. إن الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب
أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم
وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم
ورحمته وأن الله رؤوف رحيم. يا أيها
الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان،
ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر
بالفحشاء والمنكر، ولولا فضل الله
عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا،
ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع
عليم).
إن
التأمل في هذه الآيات يكشف عن آفاق
وضيئة في فلسفة الاجتماع ليس هنا مجال
الترسل في استشرافها وتحليل دقائقها،
وإنما يكفينا ـ لما نحن بصدده من شأن
أخوة الإسلام ووحدة الصفوف ـ أن نقبس
من ظاهرها الصريح هذه القبسات:
ـ
مسؤولية
الإرجاف تستوعب كل من أسهموا فيه
وأعانوا عليه، فهم في ميزان الجريمة
والعقاب (عصبة) يحيط بها جميعها حساب
الله، وليس يشفع لبعضهم أنهم قد غرر
بهم، ولا يدفع قسطهم من المأثمة أن رأس
الإرجاف هو الآثم الكبير: (لكل امرئ
منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى
كبره منهم له عذاب عظيم).
ـ
الشأن
في الجماعة المؤمنة أن تحكمها الثقة
المتبادلة، وأن تعتصم ـ بعد الله ـ
بهذه الثقة في وجه كل إرجاف، وأن يغلب
عليها ظن الخير وتجبه به المرجفين: (لولا
إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات
بأنفسهم خيرا، وقالوا: هذا إفك مبين).
ـ
المتهم
بريء حتى تقوم عليه البينة، وهي هنا
أربعة شهداء، وعلى الذين يتهمونه أن
يأتوا بها كاملة، فإن لم يفعلوا، أو
أتوا بها ناقصة، فهم في شريعة الله
مفترون كاذبون: (لولا جاؤوا عليه
بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء
فأولئك عند الله هم الكاذبون)(18).
ـ
تناقل
شائعات السوء والاستهانة بخطر ذلك ضعف
بشري قديم، ولكن الجماعة المؤمنة
مسؤولة أن تبرأ منه، وأن تعف ألسنتها
عن الخوض في أحاديث السوء، بل أن تجهر
بإنكارها بادي الرأي: (إذ تلقونه
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم
به علم، وتحسبونه هيناً وهو عند الله
عظيم. ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون
لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك، هذا بهتان
عظيم!).
ـ
إشاعة
الفحشاء والمنكر من إلقاء الشيطان،
وطريقهما هو طريقه الذي يستدرج إليه
ضحاياه، ومجاهدته إنما تكون بالحذر من
الخطوة الأولى.. : (لا تتبعوا خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر).
ـ
الذين
يسارعون إلى اتهام غيرهم بالسوء
يغفلون عن استعدادهم هم للوقوع فيه،
وعن حاجتهم إلى المشغلة بأنفسهم قبل
سواهم، ويجاوزون حدود الله الذي لولا
فضله ورحمته لما كان لأحد إلى الخير
سبيل: (... ولولا فضل الله عليكم ورحمته
ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن اله يزكي
من يشاء، والله سميع عليم).
ـ
انحدار
المجتمع المسلم، في أي عصر، إلى
الاستهانة بالحرمات ونهش الأعراض، وهو
آية الانحراف عن أمر الله وانتكاس
حقيقة الإيمان: (يعظكم الله أن تعودوا
لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين).
**************
وبعد،
فإن (أخوة الإسلام) لم تزل من أكرم
خصائص هذا الدين وأعز حصونه خلال تاريخ
المسلمين الطويل، وهي الغصة التي شرقت
بها حلوق كثير من الأعداء المتآمرين،
ولا تزال طاقاتها وافرة زاخرة رغم كل
ما نرزح تحته من جهالات وانحرافات في
السلوك، ورواد الحركة الإسلامية
مسؤولون أن يباشروا هذه الطاقات
فيبعثوا راكدها ويقوموا شاردها
ويجددوا فيها نبض (الحب في الله) و(نسب
العقيدة) من فوق كل الحدود، ولن يبلغوا
ذلك حتى يرى المسلمون فيهم مثلاً
مشهوداً في أصالة الحب ووحدة الصف
والتمثيل بخلق الإسلام العظيم.
فليجاهدوا أنفسهم، وليستكملوا
منهاجهم في التربية والتوجيه،
وليحزموا أمرهم على الضرب على كل عابث
بينهم بيد من حديد... ثم لا عليهم بعد
ذلك من إرجافات الأغيار الشامتين
والحاسدين والمتربصين، فشأن هؤلاء
دائماً هو شأن من قال فيهم الشاعر
القديم:
إن سمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا
شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا
(المسلمون)
العدد
الخامس/ شباط (فبراير) 1964
سعيد
رمضان
|