إلى
الذين يتهموننا بالارهاب بعض خطابنا
منذ نصف قرن ....
مادتنا
الحب
عصام العطار
افتتاحية
مجلة المسلمون /السورية
ـ
العدد
السادس
ربيع
الأول سنة 1375هـ الموافق تشرين الأول 1955
قال
محدثي، وهو رجل كبير مارس الدعوة إلى
الله سنين طويلة:
يبدو
لي أن أكثر دعاة الإسلام قد تخلفوا عن
أداء
مهمة
هي أخص مهامهم، وأن تخلفهم عن أداء هذه
المهمة هو السبب الأول وراء كل مشكلة
تعترض ركب الدعوة وكل عثرة يقع فيها...
هذه المهمة هي إشاعة الحب بين القلوب.
إنه كما يختص كل أستاذ بمادة يحسنها
ولا يضيره أن لا يحسن سواها، فكذلك
الداعي إلى الله يختص بمادة الحب: حب
الله وتوثيق عرى المحبة فيه بين القلوب...
ولا يضيره كثيراً إن هو نجح في مادته أن
يقصر فيما سواها، لأنه حينئذ يكون قد
أرسى الأساس الراسخ في أعماق النفوس،
وهيأ المنبت الصالح لكل الفضائل،
وأقام الحصن المنيع دون أكثر الفتن.
هذا
قول حق، ودعاة الإسلام جميعاً في حاجة
إلى أن يتدبروه ويطيلوا الوقوف عنده،
وأن يحاسبوا أنفسهم!
إن
كلمة "الحب" هذه، التي ظلمها
الناس، هي الكلمة الكبيرة التي اتسمت
بها مواكب الأنبياء وقامت عليها
مجتمعاتهم، وهي "الاكسير" الذي
جعل صلة أتباعهم بالخير صلة حقيقية
تستعذب في سبيله العذاب، كما جعل
آصرتهم فيما بينهم آصرة الروح من وراء
العقل فلا تختلف باختلاف الرأي، وفوق
المصالح المادية فلا تتأثر بهوى خاص.
وإنك
لتقرأ القرآن فتطالع مصداق ذلك وتجد
مكان هذا الحب أصيلا... تجده في مقام
الدعوة هو الوازع الذي تستثيره السماء
والغاية التي تلفت إليها القلوب: (قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)،
وتجده في وصف المؤمنين: (والذين آمنوا
أشد حباً لله)، وتجده في وصف ما بينهم
وبين ربهم: (يحبهم ويحبونه)، وتجده في
الحديث عن الخير والشر: (إن الله يحب
المحسنين) و(وإن الله لا يحب المعتدين)،
وتجده في صلة المؤمن بالمؤمن نعمةً
مزجاة يمتن بها الله على عباده مرتين
في آية واحدة: (واذكروا نعمة الله عليكم
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم
بنعمته إخوانا) وهكذا حيثما تنقلت بين
آيات الكتاب الكريم.
وتأتي
سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
يدي الكتاب مليئة بالحب في كل أيامها،
وهذا قوله صلى الله عليه وسلم ينضح رقة
وحباً: (أحبوا الله لما يغذوكم به من
نعمة، وأحبوني لحب الله إياي)(1)،
بل إنك لتشهده دائماً كالزارع يتعهد
بذور هذه العاطفة في منابتها بالري
والرعاية، يدأب على ذلك بحاله ومقاله،
أما حاله فحال الرجل المليء بالحب
يفيضه على من حوله ويتألف قلوبهم بكل
سبيل، وحسبك أن تقرأ في ذلك المأثور عن
أخلاقه صلى الله عليه وسلم، يقول أبو
سعيد الخدري: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في
خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في
وجهه، وكان لطيف البشرة رقيق الظاهر لا
يشافه أحداً بما يكرهه حياءً وكرم نفس).
ويقول
علي بن أبي طالب: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم أوسع الناس صدراً وأصدق
الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم
عشرة).
ويروي
القاضي أبو الفضل: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يؤلف أصحابه ولا
ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه
عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير
أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه،
يتعهد أصحابه ويعطي كل جلسائه نصيبه،
لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه،
من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى
يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم
يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد
وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً
وصاروا عنده في الحق سواء، وكان دائم
البشر سهل الخلق لين الجانب).
ويقول
جرير بن عبد الله: (ما حجبني رسول الله
صلى الله عليه وسلم قط منذ أسلمت، ولا
رآني إلا تبسم، وكان يمازح أصحابه
ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم
ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر
والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى
في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر).
ويقول
أنس: (ما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى
يرسلها الآخذ، ولم يمد ركبتيه بين يدي
جليس له قط، وكان يبدأ من لقيه
بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة،
ويكرم من دخل عليه وربما بسط له ثوبه
ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه
في الجلوس عليها إن أبى، ويكني أصحابه
ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا
يقطع على أحد حديثه).
أما
مقاله صلى الله عليه وسلم فكثير وافر...
يروي منه أبو هريرة: (المؤمن ألف مألوف
ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)(2)،
كما يروي عنه صلى الله عليه وسلم (إن
حول العرش منابر من نور، عليها قوم
لباسهم نور ووجوههم نور، ليسوا
بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون و
الشهداء، فقالوا يا رسول الله: صفهم
لنا، هم المتحابون في الله
والمتجالسون في الله والمتزاورون في
الله).(3)
بل إنه صلى الله عليه وسلم ليجعل عاطفة
القلب في أداء حقوق الأخوة أصلاً لا
يتم الإيمان بدونه وليست فضلاً يتفضل
به الأخ على أخيه، فيقول: (لا يؤمن
أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).(4)
ومن
المشاهد العذبة التي تستثير كوامن
العاطفة وتوثق أواصر الحب، ما ورد عنه
صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن رجلاً
زار أخاً له في الله، فأرصد الله له
ملكاً، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أن
أزور أخي فلاناً، فقال: لحاجة لك عنده؟
قال: لا، قال: لقرابة بينك وبينه؟ قال:
فبنعمة له عندك؟ قال: لا، قال: فبم؟ قال:
أحبه في الله. قال الملك: فإن الله
أرسلني إليك لأخبرك بأنه يحبك لحبك
إياه، وقد أوجب لك الجنة).(5)
وأبلغ
من ذلك أن يدفع الرسول أصحابه إلى
التنافس في هذا الحب ويؤسس عليه درجات
المتحابين عند الله حين يقول: (ما تحاب
اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله
أشدهما حباً لصاحبه).(6)
أرأيت
يا أخي كيف كانت (مادة الحب) في مدرسة
الإسلام الأولى، وفي أستاذها الأكبر
صلوات الله وسلامه عليه؟ أو لست ترى
معي بعد ذلك مبلغ الحق فيما قاله محدثي
ونقلته إليك قبل لحظات؟
إن
الحقائق الكبيرة التي بلّغها رسول
الله وربى عليها جيله الأول هي وحدها
الركائز التي يجب أن يقوم عليها
مجتمعنا الجديد، ولن يستقيم لنا
بغيرها طريق…
إن الحق هو الحق، والنفوس هي
النفوس.
ما
أكثر ما أذكر كلما التوى أمامي مسلك أو
تعقدت مشكلة حادثة الأنصار مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم وزع
العطايا ولم يعط الأنصار منها شيئاً،
فوجدوا في أنفسهم، وكثرت منهم القالة
حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله
قومه! ودخل سعد بن عبادة على رسول الله
يقول له: يا رسول الله إن هذا الحي من
الأنصار قد وجدوا في أنفسهم، لما صنعت
في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك
وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب،
ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها
شيء.قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال:
يا رسول الله ما أنا إلا من قومي! قال:
فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فخرج
سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة،
فلما اجتمعوا له أتـاه سعد، فقال قد
اجتمع لك في هذا الحي من الأنصار،
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم
قال: يا معشر الأنصار: ما قالة بلغتني
عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟
ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة
فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين
قلوبكم! قالوا بلى الله ورسوله أمنّ
وأفضل. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر
الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول
الله؟ لله ورسوله المنّ والفضل. قال
صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم
لقلتم، فلصدقتم وصُدقتم: أتيتنا
مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك،
وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر
الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا
تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى
إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار،
أن يذهب الناس بالشاة والبعير،
وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت
امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس
شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب
الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء
الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.) فبكى
القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا
برسول الله قسماً وحظاً. ثم انصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
لقد
كادت أن تكون مشكلة بل كانت فعلاً وثار
ثائرها، وبلغ الأمر أن اتهم الرسول
بمحاباته لقومه، وهي تهمة يتنزه عنها
كل حاكم فكيف برسول الله! فماذا حدث؟ لم
يغضب الرسول لنفسه، وإنما سارع إلى هذا
الحب المشرق يكشف في نوره الحكمة وراء
تصرفه، فحلت المشكلة من أقرب طريق،
وبقيت النفوس سليمة لا تنطوي على شيء،
بل لعلها زادت نوراً تلألأت به هذه
الدموع الكريمة في حجر النبي الحبيب.
|