وصل
إلى مركز الشرق العربي :
الإصلاح
السياسي في سورية
د.أحمد
فائز الفواز
في البداية ينبغي ازجاء الشكر
لعائلة الدكتور جمال الأتاسي
لاستضافتها هذا المنتدى استضافة تحولت
من مؤقتة إلى دائمة، يعجز عنها أكثرنا،
إن لم يكن كلّنا, بينما يفترض أن يكون
له مكان في الصالات العامة, التي
تملكها الدولة أو المنظمات وتمولها
جيوب المواطنين,أو على الأقل في
الصالات الخاصة المأجورة, لولا خوف
أصحابها مما سيتعرضون له من مضايقات,
وربما قطع للرزق.
في
هذا المكان, وفي هذا الشهر نستعيد
الذكرى السنوية الثانية لاعتقال
الإخوة حبيب عيسى,عارف دليلة, رياض سيف,
فواز تللو, كمال اللبواني, وليد البني,
مأمون الحمصي, حسن سعدون, وحبيب الصالح.
نحييهم ونشد على أياديهم ونطالب
بالإفراج عنهم. فليس من مبرر لبقائهم
في السجن.
بودّي الدخول مباشرة في الموضوع,
لكن الأمر لن يستقيم بدون التعرض للوضع
المحيط بنا, والذي تغير بشكل جذري، من
خلال الاحتلال الأمريكي للعراق الشقيق.
لم تكن العلاقة بين ما هو إقليمي، وما
هو داخلي، على هذه الدرجة من الحرج
مثلما هي عليه اليوم. الوضع الإقليمي
يضغط علينا, بدرجة غير مسبوقة,
بالكمّاشة الأمريكية الإسرائيلية
الناجمة عن تحول الولايات المتحدة إلى
قوة إقليمية وجار مباشر. عودة الاحتلال
الأجنبي إلى المنطقة تبدو وكأنها
إعادة لها إلى نهاية الحرب العالمية
الأولى واحتلال سورية الطبيعية
والعراق من إنكلترا وفرنسا وتقاسم
البلدين بينهما, وبدء التنفيذ المنهجي
لوعد بلفور بتأسيس الوطن القومي
اليهودي في فلسطين. لكن هذه الدورة
للتاريخ ليست عودة إلى وراء على
المستوى نفسه، بل على مستوى جديد أخطر
بكثير من سابقه. فاعلية الكمّاشة
المشار إليها لا تأتي من قوة إسرائيل
وأمريكا وحسب، بل أيضاً وأساساً من
تهافت الوضع العربي، ومن عجزه المكشوف
عن إظهار وزن يحوز على اعتبار دولي أو
إقليمي بخصوص القضية الفلسطينية أو
العراق، أو في حدّ أدنى، العجز عن مدّ
يدّ المساعدة لشعب فلسطين، الذي يقاتل
وحده دفاعاً عن نفسه وعن الآخرين،
بينما يقوم الإسرائيليون بعملية تفكيك
له، من خلال جدار العزل، وبالاجتياح
المتكرر والاغتيالات والضغط المحموم
لإثارة حرب بين الفلسطينيين, وكذلك
العجز عن مساعدة العراق, حيث قوات
الاحتلال تقوم بدورها في العمل على
انتشار الفوضى والعنف والجريمة، أي
على تفكيك هذا البلد وتغذية الصراعات
وإثارة حرب أخوة بين مكوناته، (بين
الشيعة والسنة، والعرب والأكراد،
والأكراد والتركمان).
هذا
الوضع مفتوح على المجهول. وهو يتطلب
قبل أي شيء آخر، قدرة على المواجهة,
بالأحرى إرادة الدفاع عن النفس. رب
قائل في سرّه : لقد فات الوقت. لكن الأمر
ليس أمر معركة واحدة انتهت، أو بلد
واحد جرى احتلاله, على أهمية البلد
ودوره. الاندفاع الأمريكي مرتبط
بستراتيجية كونية معدة من زمان طويل,
بدأ تطبيقها بعد أحداث الحادي عشر من
أيلول، ميدانها الأساسي منطقة الشرق
الأوسط. بكلام آخر، نحن لا نزال في
البدايات، وقد يكون الآتي أعظم، إن لم
نعدّ ما نستطيع من قوة. من هذه النقطة
أتناول الإصلاح السياسي، وأقصد به
الإصلاح الوطني، تجنباً لفهم كلمة
السياسي بمعناها الضيق.
الرد
الوحيد، الواعي والعقلاني، من مجتمعنا
على تردي أحواله، وعلى الاختلال
المستمر لشؤونه,وعلى الأخطار المحدقة
بالبلاد, هو الإصلاح. لا يوجد رد ناجع
آخر. وبغض النظر عن الجوانب المختلفة
لهذا الاختلال، فالواقع أننا محاصرون
من جهة ,ومن جهة أخرى نحن متخلفون عن
عصرنا وعن عالمنا، تفصلنا عن متقدميه
هوة تتسع باستمرار, لم نقم بما ينبغي
لتضييقها. ليس التخلف
خياراً، أو تعبيراً عن "حرّية"،
وإنما هو كارثة تنمو، لا نملك "ترف"
الاستمرار فيها والتعايش معها. من جهة
ثالثة, أوضاعنا ليست بخير. ولأشر لبعض
جوانب الخلل:
أولاً
: الجانب الاقتصادي
_
الاجتماعي. يقول الاقتصادي
نبيل سكر إن " المطلوب بدايةً
الإقرار بأننا في أزمة, وليس في مجرد
مشكلة. والأزمة تتمثل في تدني معدلات
النمو وتزايد البطالة وتآكل الاحتياطي
النفطي وتدني القدرة على المنافسة في
اقتصاد مفتوح ".
الناتج
المحلي السوري بحدود /16/ مليار دولار
لسكان يزيد عددهم على/16/ مليون، أي
بحدود ألف دولار للفرد، وهو يراوح في
مكانه منذ سنوات , بينما هو في لبنان
أربعة آلاف، وفي الأردن /1700/، وفي مصر
/1500/، وفي إسرائيل /17/ ألف دولار. نمو
الفقر هو, أولاً, نتيجة انخفاض هذا
الناتج, إذ يقدر أن 60 % من السكان يعيشون
تحت خط الفقر. نستطيع حدس ذلك ,بدون
إحصاءات وعلم اقتصاد, من مستوى الرواتب
والأجور. الفقر أيضاً هو نتيجة لطريقة
توزيع هذا الناتج. عندما تستطيع قوى
معينة نهب الفائض الاجتماعي, بدون
مراعاة ضرورات توسع الإنتاج, لتنفق مما
نهبته, على بذخها, وتهرّب قسماً آخر إلى
الخارج (تبلغ أموال السوريين في
الخارج حسب تصريح قديم لوزير الاقتصاد
80-120مليار دولار,لابد أنها زادت), أي
تخرج هذا الفائض من دورة الإنتاج ,
وتحول دون نموّه. لم تعرف سورية
تمايزاً بين الغنى والفقر كالذي هي فيه
الآن, ولم تعرف غنى لأغنيائها, وبذخاً
لهم, كالذي تعاين مظاهره الآن. هذا
الغنى لم ينتج عن نمو الإنتاج , ولا
يقوم على أساس الموقع في الإنتاج, كما
هو الحال في المجتمعات الرأسمالية
المتطورة, بل(كما في الدول الريعية
الأخرى) باستغلال النفوذ, والعلاقات
بالمواقع السلطوية,
ومدى القرب من مراكز القرار, ومدى
القدرة على تجاوز القانون. والفقر,
ثالثاً, هو نتيجة تبديد الموارد
الاجتماعية وغياب سياسة تطوير الإنتاج
الوطني. بذلك تنمو
البطالة التي يقدرها البعض بـ 25% من قوة
العمل, إضافة إلى /300/ ألف باحث جديد عن
العمل يبرزون سنوياً. ولا ننسى البطالة
المقنّعة التي لا نعرف تقديراً لها.
ثانياً
: الفساد، الذي لم يعد من فائدة للحديث
عن مدى اتساعه، ولا عن خطره والأذى
الذي يلحقه بالجميع. لقد تعودنا عليه
فأصبح لا يثير فينا إلاّ انفعالاً
بسيطاً. ربما لأن الناس قد فقدت الأمل,
أو لأنها لا ترى منه إلاّ القليل, فهو
مثل جبل الجليد، لا يبرز منه على سطح
البحر إلاّ الجزء الأصغر، بينما
الكتلة الكبرى غائصة في الماء. أصبح
الفساد ميدان نشاط واسع، وحرفة حقيقية,
وإن غير مسجلة رسمياً، لا تحصّل منها
وزارة المالية ضريبة دخل, نوعاً من "
الخدمة ", له اقتصاده ( إنتاج وتوزيع
واستهلاك). مراكز إنتاجه في الدوائر
القادرة على تجاهل القانون أو إلغائه
أو التحايل عليه، تبعاً لتدرج قوة
وقدرة هذه الدوائر. استهلاكه من أصحاب
الحاجة, أي من المجتمع مباشرة، وتوزيعه(
تجار جملة ونصف جملة ومفرق) يجري بصورة
علنية أو شبه علنية, تبعاً لسطوة
الموزع . والسؤال هو إلى أي حدّ يستطيع
المجتمع أن يتعايش والفساد، وإلى أي
زمنّ يستطيع الجسم الاجتماعي تحمّل
فتك جرثومته ؟ وهل من أمل في مكافحته,بعد
كل هذه التجارب الفاشلة ؟ في مقالة عن
الفساد في لبنان يقول أحد كتّاب جريدة
"النهار", إن شطف الدرج يبدأ من
فوق لتحت، وليس العكس.
ثالثاً
: تدهور التعليم في جميع مراحله, من
الجامعي إلى الثانوي والإعدادي حتّى
الابتدائي. واضح الآن العجز المترقي
لمؤسسات التعليم عن القيام بواجبها.
أصبح التعليم مشكلة كل البيوت تقريباً.
(ربما علينا أن نستثني أولئك الذين
يعلمون أولادهم في المدارس الثلاثين
الخاصة الجديدة ,والتي افتتحت لتخفيف"
الضغط" عن المدارس الرسمية, كما قيل.)
لا جدال في أن لهذا القصور جانب مادي
يتعلق بضعف التوظيف المالي وسوء
التوزيع والهدر. (رواتب المعلمين
والأساتذة لا تكفي لتوفير حياة كريمة
لهم). لكن هناك جانب آخر غير مادي, هو
الأصل, له علاقة بالطريقة التي تدار
بها أمور التعليم, وترسم بها مناهجه,
وهي الطريقة ذاتها التي تدار بها
الأمور في شؤون المجتمع الأخرى. فليس
العجز والفشل والخراب في قطاع التعليم,
إلا جزءاً مما هو موجود في قطاعات أخرى,
وقد يكون الحال في بعض منها أسوأ مما هو
في التعليم بكثير.
رابعاً:
أتوقف قليلاً عند ظاهرة قديمة ومستمرة,
تحدث عنها إلياس مرقص, وهي بخس العمل
والمعرفة. في النظام الرأسمالي "
الصافي ", أو المتطور, يعرفون قيمة
العمل, ويدفعون مقابله, قيمة قوة العمل,
أجراً, وهو كمّية متغيرة, تخضع للزمن
وللصراع الاجتماعي والعرض والطلب.
يعرفون أيضاً ويقدرون قيمة المعرفة
والعلم وتحوله الى قوة إنتاج, ربما
أكبر قوة إنتاج, ويستفيدون منهما,
ويدفعون بالمقابل أجراً مناسباً.
عندنا يجري الأمر عكس ذلك تماماً. فنحن
بلد نابذ أو طارد للعمل الموصوف,
وللعلم. ( لا أتحدث عن العمل غير
الموصوف, وعن الآلاف المؤلفة التي تبحث
عن العمل في لبنان وفي غير لبنان ).
الأجيال الجديدة المتعلمة لا تجد
مكاناً تمارس فيه العمل وتكتسب الخبرة
وتتابع التعلم. لو كان لدينا نقابات
مهنية مستقلة, تمارس دورها الحقيقي,
وتعطي جزءاً من وقتها لهذا الشأن,
لتعرفت وعرّفت على حجم البطالة عند
الخريجين الجدد وعلى حجم البطالة
المقنعة بين صفوف منتسبيها. لا يوجد
عمل لآلاف المهندسين والأطباء
البشريين والصيادلة وأطباء الأسنان
والمهندسين الزراعيين وغيرهم. هؤلاء
الآلاف,الذين يزدادون سنوياً, لا يجدون
سوى طريق الهجرة الضيّق, الذي لا يتمكن
من سلوكه إلاّ القلّة, مخرجاً من
الإحباط وضيق آفاق المستقبل.
خامساً:
الإدارة. هل نجانب الحقيقة إذا قلنا إن
بيروقراطيتنا, عدا عن التخلف والجهل
وتدني الإنتاجية, تمتاز بالقدرة على
هدر وقت العمل الاجتماعي, وهدر وتبذير
المال العام ؟ إضافة لذلك, فقد أصبحت
مكلفة. بتهميش المجتمع وإلغاء أو إخضاع
مؤسساته , وتعليق القانون, اجتمع لها من
القوة ما يجعلها تقتطع لنفسها حصة
متزايدة من الدخل الوطني مقابل جهد
قليل تبذله. أما عن المعرفة والتقيّد
بالقانون, فقبل خمسين وستين سنة, كان
الشرطي لا يحمل شهادة الدراسة
الابتدائية, لكنّه يفهم بالقانون
ويخضع له. الآن, حدّث ولا حرج عن الجهل
بالقانون, بينما خرقه ممارسة يومية
وموضع افتخار ممن يفترض بهم التقيد به.
فعلاً، نحن بحاجة ماسة لإصلاح إداري
عميق وشامل. لكن إذا فسد الملح, بماذا
نملّح ؟ السؤال : إذا كنا نحتاج
للإستعانة بخبراء أجانب لإصلاح قمة
الإدارة، فما هو الحقل الاجتماعي الذي
ليس بحاجة للإصلاح؟ وهل يتعين علينا أن
نستعين كذلك بخبراء أجانب ؟ ألم تكن
الإدارة هي المسؤولة عن كل هذا الخراب
؟ وهل تنصلح إدارة فاسدة, رعت نشر
الفساد, حتى يبدأ الإصلاح في الشؤون
الأخرى ؟
سادساً:
الحرية. والحديث عنها ذو شجون. ف "غاية
ما يرنو إليه عامة البشر هو انبثاق
عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول
والعقيدة ,ويتحرر من الفزع والفاقة",
كما تقول مقدمة الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان. عند
تناول موضوع الحرية
,
الوضوح مطلوب والصراحة مرغوبة. البلاد
محرومة من الحريات التي نصّ عليها
الدستور الدائم، ووثيقة حقوق الإنسان
التي التزمت بها السلطات. نظامنا
السياسي نظّم المجتمع بطريقة تضع
الشعب في موضع القصور الدائم, وموقع
الحاجة إلى الوصاية الدائمة, وألغى
السياسة وأبعد المجتمع عن ممارستها،
وجعلها حكراً لحلقة ضيقة في قمة الهرم
السلطوي، وألغى بالتالي الحريات, وفرض
الأحكام العرفية.
لا أريد التوقف عند الماضي لكي لا
أنكأ الجراح التي لم تندمل , لأنها لم
تعالج. لكن لا بد من الإشارة إلى
العقابيل والنتائج المرة التي نجمت عن
الانتهاكات الفظيعة لحق الحياة وحق
الحرية في الثمانينيات من القرن
المنصرم، وخصوصاً مابين مجزرة تدمر
وأحداث حماة. فهذه النتائج التي تشمل
عشرات الألوف من الناس، لا تزال تثير
الاضطراب في حياتهم وفي الوسط الذي
يعيشون فيه, وفي البلاد كلها. ليس من
الحكمة ولا من العدل استمرار الحال على
ما هو عليه. لا مندوحة من حل يرتكز على
مبادئ الحق والإنسانية والوطنية,
عناصره:
-
إطلاق سراح السجناء السياسيين. فبينهم
من قضى أكثر من ربع قرن مابين تدمر
والمزة وصيدنايا (نذكر عماد شيحا, فارس
مراد,عبد العزيز الخير, صلاح حلاوة
وتيسير لطفي).
- الانتهاء
من مسألة "المفقودين"، وحل
الإشكالات الحقوقية وغير الحقوقية
التي نشأت بالارتباط بها.
-
السماح للمبعدين
والمبتعدين سياسياً بالعودة إلى الوطن
لأن الوطن للجميع.
-
إلغاء القوانين المخالفة للدستور
كالقانون 49 المتعلق بالإخوان المسلمين.
-
التعويض عن المظالم التي لحقت
بالأحياء والأموات.
بذلك
تساعد السلطة على اندمال الجراح، بشكل
سليم، وتنشر الانفراج وتؤسس للمصالحة
الوطنية.
لا يتأسس الإصلاح إلا على نقد
الواقع، أي على تقويمه, وإعادة تقويم
منطلقاته ومساره. بدون ذلك يستحيل
التصحيح. عندما تتمكن القوى المحافظة
من الإمساك بمقاليد السلطة، ترفض
النقد وتحارب أصحابه، ليس احتراماً
للأموات، وصيانة للماضي، بل لأن النقد
يتناول الحاضر أولاً وأساساً،
ويريد التعرف على أسباب الخلل فيه،
ويطاول البنى القائمة بعد ذلك، أي
يطاول الأحياء قبل الأموات، ومصالح
الأحياء التي تكوّنت في هذه البنى،
والتي تتستر بالأموات لإخفاء طبيعتها
كمصالح ضيقة.
يهدف الإصلاح لتحسين قدرة المجتمع
على التلاؤم مع زمن عالمي متغير بسرعة،
ويعمل على مقاومة الانزياح إلى الهامش
والبقاء كموضوع لفعل الآخرين، أو كما
يقال يقاوم " الخروج من التاريخ ".
لكنه, أولاً, تجاوب مع المتطلبات
الحقيقية للبشر في أن يعيشوا في وطنهم
بحرية وكرامة, إذ ما قيمة أي إصلاح لا
يهدف لضمان الحرية وتأمين الكرامة ؟
يتطلب
الإصلاح معرفة الواقع الوطني، وواقع
العالم، والتطورات الجارية فيه،
والفرق بين الواقعين، لتقدير ما يمكن
تحقيقه في فسحة زمنية محددة. على أن أول
شرط له هو إرادة السلطة وعزمها. وهو شرط
لازم، غير كاف، لأنه بحاجة لتوافق
اجتماعي حول الأهداف والوسائل، ولفعل
اجتماعي لتحويل الأهداف إلى أعمال،
لأن الإصلاح إذا افتقد القاعدة
الاجتماعية سهل تصفيته. استطاع
الإصلاح الياباني في ستينيات القرن
التاسع عشر أن يضع اليابان على طريق
التقدم وهو الطريق الذي حوّل اليابان
إلى بلد متطور وإلى قوة عالمية، ولنشر
إلى أن الإصلاح الياباني كان متأخراً
بأكثر من أربعة عقود عن إصلاح محمد علي
في مصر والذي انتهى إلى التصفية، ليس
بسبب معاداة الدول الغربية له وحسب، بل
أولاً لضيق قاعدته الاجتماعية. أي لأنه
لم يستطع أن يطلق تحولات بنيوية عميقة
ويرتبط بقوى اجتماعية واسعة, مما سهّل
إنهاؤه دون أن تعقبه حركة للمجتمع
تعاود السير على طريقه.
أين وصلت قضية الإصلاح؟ أعتقد أن
الجدال الذي دار خلال السنوات الثلاث
الماضية, قد بلور وأكد على فكرة
الإصلاح العام والشامل, ودفعها الى
أمام ,ودعم مواقع أصحابها. لا يقلل من
هذه الحقيقة استمرار الجدال حول أنواع
الإصلاح وحول الأولويات. هذه السنوات
الثلاث كشفت بوضوح العجز، عن القيام
بالإصلاح، اعتماداً على أنه أمر " تقني ", يخصّ السلطة وحدها, ينبغي أن
يبقى المجتمع بعيداً عنه, وانطلاقاً من
تصور يقوم على الوحدة بين الاستمرار
والاستقرار.ّ مع أن المبدآن لا يجتمعان,
لأنهما مثل الماء والنار. فالاستمرار
يعني المحافظة، وهو مفتوح على نمو
الأزمة والفشل في مواجهة المشاكل
وبالتالي مفتوح على الفوضى والخراب.
بينما يتطلب الاستقرارُ التغييرَ.
والتغيير يخلّ بتوازنات القوى،
وبالتالي بالمصالح المرتبطة بها.
تفرض الضرورة التقدم خطوة الى
الأمام والتمهيد للإصلاح بإلغاء حالة
الطوارئ. ينبغي التمييز بين حالة
الطوارئ وقانون الطوارئ. كل الدول
لديها قانون طوارئ. لكن لا أظن أنه توجد
دولة تسود فيها حالة الطوارئ 40سنة
متواصلة دون حرب فعلية في الخارج أو في
الداخل . حالة الطوارئ مخالفة لقانون
الطوارئ, الذي استندت إليه عند إعلانها.
وهي,على كل حال, تجاهل للدستور الدائم
وتعليق للقانون.
الخطوة
الرئيسية في مسار الإصلاح, تتعلق
بالسلطة , أعني تبني الدعوة لمؤتمر
وطني للإصلاح ينعقد برئاستها وإشرافها,
تشترك فيه قوى العمل والإنتاج
والثقافة والسياسة والإدارة, أي القوى
المعبرة عن المعرفة والحكمة والخبرة
والمراس في البلاد, للتداول في شؤونها,والبحث
عن حلول ناجعة لمشاكلها,والتخطيط
لمستقبلها, مؤتمر يجري فيه توافق على
الإصلاح السياسي بما هو تجديد للحياة
السياسية, وعلى الصيغ الدستورية
والقانونية المطلوبة, بما يضمن
الاعتبار الكامل للدستور والسيادة
للقانون, وفصل السلطات وتحديد
العلاقات فيما بينها. والإصلاح
الاقتصادي، ليس كمعالجة للأزمة
الاقتصادية من حيث هي أزمة بنيوية
وحسب، بل أولاً كإعادة بناء عامة
وشاملة للاقتصاد الوطني، وإزالة
القيود عن القوى المنتجة، وتحديد دور
قطاع الدولة والقطاع الخاص، وتحجيم
النشاط الطفيلي، وتحقيق العدالة
الضريبية، وضمان حقوق الشعب الشغيل،
وتشجيع العلاقات البينية العربية
وخصوصاً مع الدول المجاورة،ورسم سياسة
للتعامل مع العولمة. ووضع برنامج
لمكافحة الفساد، وأسس لإصلاح القضاء
والتعليم والإدارة.
لا أحد يتصور أن المؤتمر الوطني
المنشود سيكون سلطة في البلاد، أو أن
يحلّ محل أية سلطة
تنفيذية أو تشريعية, وليس ميداناً
لاقتناص الفرص والمكاسب. إنه لقاء
للتداول والحوار وتبادل الأفكار
والاتفاق حول الحاضر وصعوباته ووسائل
وكيفيات العلاج، ولاستكشاف الطرق نحو
المستقبل. ولأنه, أيضاً, ليس بديلاً عن
المجتمع , ينبغي ألا تكون مداولاته
محجوبة عن الرأي العام. مؤتمر من هذا
النوع سيؤسس في الوقت نفسه لأمرين
آخرين ضروريين هما المصالحة الوطنية
والتسوية التاريخية بين التيارات
السياسية والفكرية في البلاد .
المصالحة الوطنية ليست "بوس
شوارب" بين المتخاصمين، بل هي حلّ
للإشكالات وتسوية للخلافات وإزالة
للعقابيل التي ما انفكت تجرجر نفسها
منذ عقود وتساهم في تسميم الحياة
السياسية والاجتماعية, وتغذية الهواجس
في المجتمع وبين الأطراف. وليست
التسوية التاريخية إلا إعلاناً بان لا
أحد قادر على إلغاء الآخرين، وميثاقاً
بأن لم يعد من أحد راغباً في ذلك, وأن
التيارات والأطراف السياسية هي جزء من
المجتمع لا يحق لها أن تغتصب حقّ
المجتمع في تقرير مصيره بنفسه, وأن
الرشد يفرض عليها إعادة اكتشاف
الجوامع المشتركة، واستكشاف الطرق
التي يمكن للمجتمع والبلاد سلوكها
سنوات طويلة. بهذا المعنى فالمصالحة
الوطنية والتسوية التاريخية هما تجاوز
للماضي بعد استيعاب دروسه وتوجه
للمستقبل .
التحول التدريجي من الدولة
الشمولية الى الدولة الديمقراطية هو
مضمون وسيرورة وهدف الإصلاح. على أن
الديمقراطية ليست عصا سحرية قادرة على
اجتراح العجائب, وليست علاجاً شافياً
للمشاكل الاجتماعية. إنها نظام سياسي,
يبنيه المجتمع بالتدريج, يتخلص فيه من
حالة " القصور" ويعلن نفسه
راشداً، ويتعلم التصرف كراشد, يتحمل
المسؤولية عن نفسه وعن أفعاله, ويواجه
مشاكله ويتعلم إيجاد الحلول لها, نظام
يتأسس على الحرية والمسؤولية
المترابطتين, فلا حرية بدون مسؤولية,
ولا مراكز مسؤولة, بدون خضوع للمساءلة
والمحاسبة, نظام ينبني على التعاقد بين
المواطنين الأحرار, لحكم أنفسهم
بأنفسهم بما يضمن احتفاظهم بحريتهم
وتطويرها. ليست
الديمقراطية حكم الشعب، على الرغم من
أن اسمها اليوناني يقول ذلك. وليست حكم
صندوق الاقتراع, مع أن صندوق الاقتراع
أحد وسائلها الضرورية. وقولنا إنها حكم
الأكثرية مثل قولنا "ولا تقربوا
الصلاة"، لأنها حكم الأكثرية
المحكومة بقواعد دستور يلزمها باحترام
الحريات والحقوق, بما فيها صيانة حق
الأقلية بأن تتحول إلى أكثرية جديدة
تزيح الأكثرية القديمة عن الحكم، بعد
أن تحولت عبر صندوق الاقتراع الى أقلية
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ), أي
دستور يضمن تداول السلطة, تداولاً يتم
بصورة سلمية. لأن الديمقراطية,تتضمن
نفياً للعنف خارج المجتمع وحصراً
لوسائله ولحق استخدامه بيد السلطة
ووضع القيود والضوابط لهذه السلطة لكي
لا تخرج عن الحدود التي رسمها القانون,
ولا تقوى على قمع المجتمع والاستبداد
به. وهي تجسيد
لسيادة القانون التي يضعه المواطنون
الأحرار أنفسهم, وهم, كلهم, متساوون
أمامه, ليس بينهم أبناء ست, ولا أبناء
جارية.
الديمقراطية نوع من الهندسة أو
البنيان للدولة وللسلطة، أثبتت
التجربة التاريخية لشعوب كثيرة نجوعه
وقدرته على التطور بما يلبي حاجات
المجتمع المتجددة، نوع من الهندسة
يقوم على انفصال وتمفصل السلطات
التنفيذية والتشريعية والقضائية,
وخضوع السلطة التنفيذية للسلطة
التشريعية لأن الأولى منتخبة من
الأخيرة، وخضوع السلطة التشريعية
بدورها للناخبين لأنها منتخبة منهم،
أي خضوعها للمجتمع المدني من أحزاب
ونقابات وهيئات متنوعة وكذلك للأفراد.
الديمقراطية وسط صالح لحل
التناقضات والصراعات الاجتماعية عبر
الحوار والتفاوض والتسوية، فهي تجمع
التناقضات في إطار الوحدة، دون أن تسمح
لهذه التناقضات بتفجير الوحدة.
هناك دائماً مسافة بين القول
والفعل تعبيراً عن العلاقة المعقدة
بين اللغة والواقع. بسبب الانفصال،
الذي استمر قروناً، بين لغتنا وواقعنا
تبدو المسافة عندنا أكبر. فانتصار فكرة
الإصلاح في ميدان المنطق لا يعني
قدرتها على التجسد في الواقع. لا بدّ من
قوى تتولى هذا الأمر. وهي موجودة
أساساً في حيّز السلطة. لكن المعارضة
تتحمل قدراً من المسؤولية ناجماً عن
قصور في الرؤية، وتقصير في حشد وإدارة
القوى المتوفرة. فلا مسؤولية عليها عن
ضعفها الذي هو نتيجة الاضطهاد الطويل
الذي تعرضت له وخرجت منه مهمشة لكن
منتصرة فكرياً. لقد فُلَّ حدّ القمع
وبان فشله كوسيلة رئيسية لضبط المجتمع.
فالسياسة لا يمكن أن تتماهى مع العنف.
الاضطهاد الذي عانت منه المعارضة أعطى
نتائج سلبية مضاعفة في المجتمع الذي
أصبح خارج السياسة، فبرزت القوة
النسبية للسلطة تجاهه وتجاه المعارضة،
لكن الجسم الاجتماعي كله، أصابه الضعف
والهزال. ضعف المجتمع ليس في صالح
السلطة، فهي أيضاً يلحقها الضعف,
والمعارضة القوية تعني صحة المجتمع
وقوته. للأسف ,جدل القوة والضعف لم يفهم
بعد، حتى بعد احتلال العراق، وهزيمة
نظام المقابر الجماعية. لا تستطيع
المعارضة أن تدفع الإصلاح بدون أن تكون
لها قدرة على الدفع. صحيح أن فصائل
المعارضة من تياراتها الثلاثة (
الاشتراكي والقومي والإسلامي، وهي
التيارات التاريخية في البلاد،
المقسومة بين الموالاة والمعارضة )
حققت إنجازاً تاريخياً بانحيازها
المبدئي للديمقراطية، وهو إنجازٌ لا
يمكن المحافظة عليه، بله ترسيخه، إلاّ
بالتخلي النهائي عن النخبوية (
الطليعية ) التي أدت وتؤدي إلى
الوصائية تجاه الشعب , والإقصائية
والاستئصالية تجاه الفصائل الأخرى .
فلا ربّ العالمين ندب ، ولا التاريخ
كلّف أحداً من الفصائل بقيادة المجتمع
"القاصر". المجتمع هو الذي ينبغي
أن يختار لحكمه هذا الفصيل أو ذاك، وأن
يحتفظ بحرية تبديله بآخر. الإنجاز
الآخر الذي حققته هذه الفصائل هو
اختيارها للإصلاحية بما تتضمنه من نفي
للعنف، وبما تعنيه من نهج في السياسة
يقوم على التدرج في تحقيق الأهداف.
يبقى عليها أن تتحرر من أسر
الايديولوجيا وأن ترتب أوضاعها
الداخلية بانسجام مع خياراتها الجديدة.
الإصلاح سيرورة, نجاحها مرتبط
بعودة السياسة الى المجتمع وعودة
المجتمع الى السياسة والى ميدان الفعل
الاجتماعي. أما النجاح النهائي
للإصلاح فهو مرهون بقدرة المجتمع على
السيطرة على الدولة, وإعادة بنائها
وتشكيلها كدولة ديمقراطية.
دمشق
7/9/2003
هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
|
|