فلسفة
العولمة ! ؟... رجس من عمل الشيطان
الجزء
الأول
بقلم
عبد الحميد حاج خضر الحسيني
إن
المنطلقات والأفكار والفلسفات ، التي
قامت عليها الهيمنة الصهيو_أمريكية
على العالم ، اختصرت في نهاية
الثمانينيات وبداية التسعينيات في
مصطلح ، يكاد أن يكون سحر يؤثر ، ألا
وهي العولمة . ترددها الأفواه وترفضها
القلوب والضمائر ولا تكاد تفقهها
العقول . إن الاضطراب الذي ألم
بالسياسة والاجتماع
والاقتصاد والمال والادارة
والأدب والفن وحتى العلم
والتكنولوجيا ، ما هو إلا قمة جبل
ثليجي طاف ، لفكر وفلسفة وايديولوجية
قد تحول العالم إلى جحيم ، بدأت تظهر
معالمه ، من
حروب وفقر ومجاعات
وبؤس وامراض. وأريد من خلال هذه
الدراسة أن أنفذ ما استطعت ، بعون الله
، إلى أس وجرثومة ذلك الفكر وتلك
الفلسفة ، لنتبين أبعاد الايديولوجية
التي تقود وستقود قاطرة الحضارية
الإنسانية ،علنا نسهم ، مع الآخرين ،
بقرع ناقوس الخطر وبقوة ، لإيقاف
التردي الذي يراد للانسان .
إذن
: الهدف والغاية من هذا البحث هو تحديد
أهم المدارس الفلسفية التي رفدت الفكر
السياسي والاقتصادي والإعلامي الذي
يقود الهيمنة الصهيو_ أمريكية (
العولمة ) . حسب تقديري ، حصل التحديد
والبلورة للمناحي الأساسية للعولمة من
الناحية الفلسفية
في نهاية الستينيات على يد
الفيلسوف الصهيوني ليو شتراوس " Leo
Strauss " (ولد
في 20/9 / 1899 في كيرخهاين " Kirchhein " المانيا
وتوفي في 18/10/1973 في انابوليس Annapolisفي
الوليات المتحدة الأمريكية ) . بعد حرب
الأيام الستة عام 1967 وتفشي مقولة
الهيلوكاوس ، عقد اجتماع ضم قادة الفكر
الصهيوني قام شتراوس مخاطباً مستمعيه
من الصهاينة " علينا أن نودع الفكر
القومي بقضه وقضيضه ونتحول إلى
العالميه أو العولمة "
أكتفي
بهذا القدر عن هذا الرجل لأعود إليه
لاحقاً بتفصيل أكثر . المهم الآن أن
أختار طريقاً مألوفاً للولوج إلى كنه
وماهية الموضوع ، ولهذا
سأنحى في هذا البحث منحاً غير
أكاديمي مدرسي ، لأن كل إنسان
يميل إلى ما فطر عليه ،
وكل إنسان ميسر لما خلق له . لا أدري
لماذا لدي عزوف عن الأسلوب المدرسي ،
الذي يهيم بالكيف والكم ، ولكن وجدت بعض التعليل لهذا
السلوك عند أبي الفتح محمد عبد الكريم
ابن أبي بكر الشهرستاني (ولد479 هجرية
وتوفي 548 أي 1153 م عن عمر يناهز السبعين )
.
قال
الشهرستاني في تقسيم الناس حسب
عقلياتهم : إن العرب والهنود يتقاربان
على مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير
خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات
والحقائق ، واستعمال الأمور الرحانية .
والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد
، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء
والحكم بأحكام الكيفيات والكميات ،
واستعمال الأمور الجسمانية . وبلغة
الشهرستاني الفلسفية ندخل إلى الموضوع
الذي نحن بصدده : إن التقسيم الضابط
لمناحي الناس في المعرفة القول :
1-
من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول ،
وهم السوفسطائية .
2-ومنهم
من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول ،
وهم الطبيعية .
3-ومنهم
من يقول بالمحسوس والمعقول ، ولا يقول
بحدود ، وأحكام ؛ وهم الفلاسفة الدهرية
4-ومنهم
من يقول بالمحسوس ، والمعقول ، والحدود
والأحكام . ولا يقول بالشريعة والإسلام
، وهم الصابئة .
5-ومنهم
من يقول بهذه كلها ، وشريعة ما ، وإسلام
، ولا يقول بشريعة نبينا محمد(ص) . وهم:
المجوس ،واليهود ، والنصارى
6-ومنهم
من يقول بهذه كلها ، وهم المسلمون
وبدون
استبداد برأي أو هوى نجد أن المدرسة
السوفسطائية أولى أعمدة الهيمنة
الصهيوأمريكية ولهذا أرى من واجبي أن
أقدم تلخصاً لاخطأ فيه ولا إطناب لهذا
المذهب الفلسفي .
كما أرى من ضرورات الصنعة ومستلزمات
الحصافة أن نشير إلى أثر هذا المذهب
على الممارسات اليومية . سأحتاط قدر
المستطاع حتى لا ينفذ الخصم إلى ما
كتبت فيبتسر منه ما يشاء ويتخذها منها
نبالاً ير
شقني بها وبطريقة سوفسطائية ، وهم أهل
هذه الصنعة ، فيحرم القارئ أو السامع
بعض الحكمة التي هي ضالة المؤمن .
السوفسطائية
كلمة إغريقية تعني المرشد أو المعلم ،
وأطلقت الكلمة على تيار فكري كان له
حضور ملحوظ من القرن 5-4 قبل الميلاد .
كانت المذاهب الفلسفية قبل سقراط
الحكيم ( Sokrates ) تنطلق من الوجود باعتباره واسطة
العقد ومحط الأنظار ومنطلق الأفكار ،
وعنه تنبثق النظرية وتنقدح ، فتفسر
الظاهرة فتنبجس عنها المعرفة . ولما
جاس السوفسطائيون في ديار الفلسفة
،
لم يكلفوا أنفسهم مشقة النزال مع
من قال : بواجب الوجود وأصل العلم
والحكمة . وإنما جعلوا الإنسان واسطة
العقد وأصل المعرفة والبيان . ولخص
بروتاقراس ( Protagoras )
مقالتهم بجملته الشهيرة " أن
الإنسان هو مقاس الأشياء " أي : "
تقاس الأشياء على الإنسان ولا يقاس
الإنسان على الأشياء " أن الإنسان هو
ميزان الخير والشر والضر والنفع . بل
يرون أنه : لا وجود للحقيقة واليقين
خارج الكينونة الإنسانية . إن
السوفسطائي لا يقول بحقيقة المعارف
المستقاة من الحواس ويقول أحياناً
بنسبية حقيقتها أو يشكك بمقدار اليقين
فيها .
إن
السفسطائي يشير إلى التباين القائم
بين طبيعة الأشياء وبين ما يعتبره
الإنسان طبيعياً . بين قصد الإنسان
والقيمة ، يتجلى هذا التباين بصورة
جلية في عالم السياسة فالنظم
والقوانين الموضوعة من قبل الإنسان
تتباين وطبيعة الأشياء . والسوفسطائي
في صراع دائم مع فطرة الأشياء والناس
لإخضاعها لإرادته
في
مجال السياسة هو فرعوني المزاج . "
قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ
أهديكم إلا سبيل الرشاد "
هو في حرب دائمة مع الرأي السائد
والعقيدة السائدة والسلطة القائمة
بالأمر التي حتى ولو انسجمت مع
وهواه .
ومسيرة الإنسانية الحضارية قدمت
الدليل القاطع على ارتفاع نسبة
الملاحدة بين السوفسطائين . إن قيمة
العلم والمعرفة محصورة في
فائدتهما العملية .
والسوفسطائي يعتبر العلم والمعرفة
سلاح لا مناص عنه إذا قاطعاً وماضياً
في دحر الخصوم والأعداء . إن موهبة وفن
الخطابة وكل ما يفتن الناس كان ضالة
السوفسطائي المنشودة . إن المندوحة
التي يجب أن تذكر للمذهب السوفسطائي هو
اعتبار العلم والمعرفة ليس حكراً على
الطبقة الاستقراطية كما كان الرأي
السائد آنذاك ، بل العلم يمكن تعلمه
وتعليمه . إن فلاسفة الإسلام وغالبية
فلاسفة الغرب لم تعتبر سقراط ( Sokrates )من السوفسطائين . بل أن قراءة فلاسفة
الإسلام لتعاليم سقراط مالت إلى القول
" إن سقراط كان يأخذ من مشكاة النبوة
ويتكلم لغة البرابرة ، أي أهل البرية ،
لغة الفطرة والأنبياء في العرف
الإغريقي . السوسفسطائيون الجدد من
أمثال ليو شتراوس تقرأً فلسفة سقراط
الحكيم قرأة غريبة وباطنية
وترى أن سقراط استحق الموت لأنه
أفشى سر الخاصة من أهل الفلسفة .
كان سقراط حبيباً إلى قلب أفلاطون( Platon (العدو اللدود للسوفسطائية ، لإن سقراط لم
يوظف العلم والمعرفة من أجل السلطة أو
للحصول عل أسباب القوة ،كما فعل
السوفسطائيون . لقد
كان على النقيض من السوفسطائين الذين
كانوا يدعون معرفة الحقيقة كاملة بل
يرون أن الحقيقة تجري على ألسنتهم .كان
سقراط يقر بعجزه عن الإلمام بأطراف
المعرفة وسبر كنه الحقيقة ، لم يكن
يبحث عن أفضل الحجج التي تشد دهماء
المعرفة وأنصاف المتعلمين إليه . لقد
كان ببساطة ينشد الحقيقة . لقد عرف عن
سقراط التقشف في العيش والتواضع في عرض
حجته التي كان يسوقها بعيداً عن زخرف
القول وسحر البيان وفنون الخطابة التي
برع بها أهل السفسطة في كل زمان ومكان .
ومع ذلك تمكن السوفسطائيون من سقراط في
ساحة أثينا الديموقراطية ، وكان
لباطلهم الجولة ،فتجرع سقراط السم رافضاً
الإستخذاء والإستجداء ، بطب العفو عمن
تنكر للحقيقة . ولكن تلميذ سقراط
الموهوب أفلاطون ومدرسته الفلسفية
طاردتهم ونازلتهم وسفهت أحلامهم ، لم
يكن افلاطون حكيم دهره فحسب بل كان
صاحب مدرسة ومنهج ، وضع بصماته على
الفكر المعرفي والسياسي لآلاف السنين .
لقد رفض أفلاطون الديمقراطية كميزان
للحقيقة وبرهن على ضرورة التمسك
بالخير والصدق والفضائل . على أن يسعى
الفيلسوف للظفر بالحقيقة
ممتطياً جواد العقل الجامح ليعانق
ليلى النظريه( Theoria (التي يتخذها وسيلة
لجني ثمار المعرفة
، لقد كان أفلاطون في مسائل الذوق
والجمال نجماً شاحب اللون مقارنة
بالفيثاغورثين
( Pythagoras ) ، ولكنه كان قمراً منيراً مقارنة
بالسوفسطائين الذين أعمتهم بريق
السلطة وأصمهم صخب المعجبين من دهماء
المعرفة وأدعياء الثقافة . لقد استطاع
أفلاطون أن يجعل السوفسطائية سبة
وشتيمة عند طلاب المعرفة . وفي كتابه
الحوار ( (
Dialogosكان
يقدم الدليل تلو الدليل على مروق
السوفسطائية من الحقيقة والخير
باختيارهم أفضل الحجج وإعادة
صياغتها وتوظيفها بما يضمن الغلبة على
الخصوم ، وبكلمة أخرى تجريد العلم
والمعرفة والحجة من الضمير الوازع .
عادت السوفسطائية إلى الصدارة مرة
أخرى مع حاجة السلطة إلى من يزين لها
سوء فعلتها ، فكان هيجل( Hegel
(
ونيتشه ( Nietzsche
(فعادا بالسوفسطائية
جذعة ، لا
لتجرع سقراط والأفلاطونين الجدد السم
فحسب ، ولكن لتنشر الدمار والخراب
وتفسد الزرع والنسل في كل أصقاع الأرض
، مرة تتلبس مسوح الديمقراطية ومرة
تجرد مخالب الفاشية . إن الصلة بين
السوفسطائية والديمقراطيه ( Demokratie (صلة
حميمة ولعل ذلك ما جعل أفلاطون ينحو عن
الديمقراطية إلى حد رفضها .
والديمقراطية كلمة إغريقية مركبة من
كلمتين ، ديمو( Demo (
وتعني الشعب وقراطي (Kratie
) وتعني الحكم ولهذا يمكن القول
أنها تعني لغويا (حكم الشعب ) . لا يمكن
القول أن هناك نموذج محدد المعالم يكمن
اعتباره النموذج النمطي للديموقراطية
. وأفضل تعريف بل وأشمل تعريف
للديموقراطية "
هو احترام وتحكيم إرادة الأمة في تحديد
شكل ومضمون سلطة الدولة انطلاقاً من
المساواة القانونية بين مواطني الدولة
" . ومع ذلك لا تقدم الديمقراطية ،
حتى ولو كانت الممارسة سليمة 100% ، أي ضمانة لسداد وصواب الحكم الصادر
عنها . وعندما تحدث أفلاطون عن أنواع
الحكم قال : هناك الحكم الملكي ( Monarchie
) " أي أن يهيمن على الأمر فرداً
واحداً " ، الحكم الأرستقراطي ( Aristokratie ) " أي أن يهيمن على
الأمر نخبة " والديموقراطية ( أي
حكم الشعب ) . إذا فسدت هذه الأنواع
الثلاثة من الحكم فسيحل بدلاً منها ،
حسب رأي أفلاطون ، أما الحكم
الاستبدادي ( Tyrannis
) " أي حكم الظلمة القساة
الطغاة " أو الأوليغارشية ( Oligarchie ) " أي حكم القلة صاحبة النفوذ ،
وغالباً ما يكون المال ، أي دولة
الأغنياء " أو اوكلوقراطي (Ochlokratie ) وهو الأشد فساداً ، والعياذ بالله ، حيث
يستبد بالأمر السفلة والأوباش من
الناس . أكاد أجزم أنه لا يوجد نظام حكم
في العالم العربي
والإسلامي إلا وله سهم أو نصيب من
الأنواع الثلاثة الأخيرة . لقد كان
تشرشل على حق عندما قال :
إن الديمقراطية هي أفضل النظم السيئة
. علماً أن النظام الديمقراطي
الحديث أصبح غير قابل للفصل عن الحركة
الدستورية وحركة حقوق الإنسان وترسخ
قيم الحرية والعدل والمساواة في
منظومة الحكم الديموقراطي . كيف سيكون
الأمرعندما نعود بالديمقراطيه إلى
سيرتها الأولى، أي الديموقراطية
المباشرة ، ونجرد العملية الديمقراطيه
من كل ما عانته من تصويب وتسديد وتقويم
في القرنين الماضيين ؟
إن النموذج المسخ للديقراطية
المباشرة هو ما نراه في " الجماهرية
الليبية العظمى " . إنها نموذج مسخ
لأنها تفتقد إلى روح
الحرية التي كانت تعيشها أثينا وكانت
ديموقراطية أثينا بمنأىعن السفلة
والأوباش . كما أن ديمقراطية أثينا
المباشرة لم يكن على رأسها ( خنفشاري )
يقول كما قال فرعون
" مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم
إلا سبيل الرشاد " يريد أن يوصل
سناها على طائر مزركش إلى بقاع العالم
جميعاً . لقد
كان أفلاطون يمقت السوفسطائين ولكن لا
يقدر عليهم ، لما لهم من نفوذ على سواد
الناس . ولما هزمت أثينا( Athenai
) عسكرياً ولم تغن ديموقراطيتها عنها
شي وولت مدبرة في حين أن
سبارطه ( Sparta ) المستبدة لم تهزم أبداً ، مما أدخل في
نفس حكيم الدهر الإعجاب
بنظام سبارطه العسكري الصارم ، المهم ،
عند أفلاطون : أن لا نغزى في عقر دارنا ،
تماماً كما يعتقد غالبية أبناء الأمة
في كل زمان ومكان . هذه النظرة إذا فسرت
وطبقت سلبياً فتعني تبرير كل استبداد
وقهر- اتقاء
الفتنة أو استباحة البلاد والعباد من
أجنبي غازي ، أما إذا فسرت إيجاباً
فتعني أنه إذا أحاطت بالبلاد المخاطر
فتصبح إقامة الجبهة الوطنية ضرورة
مصيره . لقد اجتمعت لأفلاطون بعد هزيمة
أثينا النكراء وكره
السوفسطائية وديمقراطيتها
، وحب الانتقام للهزيمة المرة التي
حلت بالبلاد ، وإعجاب يصل إلى حد
الفتنة بصرامة النظام الاستبدادي ا
لعسكري لسبارطه . من
هذه الخلفية الموضوعية نستطيع أن نفهم
الجهد الفلسفي المضني الذي تجسد في
الأوتوبيا ( Utopie )
الأوتوبيا
حسب رأي ، برتراند رسل ( Bertrand Russell ) ، لا تعدوا عن دولة سبارطه المستبدة
يقودها الفيلسوف
الملك أو الملك الفيلسوف الذي ينحدر من
العائلة الحاكمة ، ليكون له العزوة
التي لا بد منها لإمضاء الأمر ، ثم يلقن
الفلسفة والحكمة ويدرب عليها .
لقد كانت الصياغة والسبك الفلسفي
من الروعة ما جعلها يتيمة الدهور وليس
الدهر وحده ، وفتنة السامعين والقراء،
. الأوتوبيا : ومعناها الجمع بين
النموذج والمثال . إلا أنها
تعني بالإغريقية حرفياً ( اللا
مكان ) لأنها مركبة من كلمتين أو ( Ou
) وتعني " لا "
وتوبوس ( Topos ) وتعني " المكان "
. ما يهمنا هو الأبعاد الفلسفية
والمعرفية لهذا التصور الذي جعل منها
إنجيل الفلسفة السياسة عند المفكرين
الغربيين . ومن المفارقات الغريبة أن
الأوتوبيا لم تستهوي
الفلاسفة المسلمين من أهل السنة
والجماعة وكانت قراة الفارابي لفلسفة
افلاطون الأوسع والأشمل في العصر
الوسيط ، ومع ذلك بقي أثرها محدود عند
بعض أهل النحل والبدع والفرق الضالة
، إلا أنه بعد دخول الفكر القومي ،
وفلسفة الدولة القومية ، والفكر
الماركسي ، و رومانسية البرامج
السياسية القومية والاشتراكية ، كان
لبعض المفكرين العرب مداعبات طفوليه
طوبائية كالتي نراها في الكتاب الأخضر بعد
أن عصفت بصاحبه جنون العظمة . المحاكاة
التي تستحق الذكر للأوتوبيا جاءت من
الخميني في الفتوى التي يمكن اعتبارها
صلب التجديد عند الإمام الخميني
وهي (ولاية الفقيه ) التي أخرجت الفقه
السياسي الشيعي من الاسطورة إلى
المضارعة . وللحقيقة
يقال أن الآباء الكنسيون فتنوا
بالأفلاطونية والمنطق الأرسططاليسي
لدرجة أعتبرها البعض أنها من نعم
الله لإصلاح ما أنعم الله على عباده
وهي الدولة الرومانية . وصحيح أيضاً أن
الآباء الكنسيون
الأوائل كانوا يقولون بما ورد عن السيد
المسيح " دع ما لقيصر لقيصر وما لله
لله " ولكن لم تردع هذه الوصية
الكثير منهم من محاولات التأثير
والتأثر بالسلطة ،
بقصد إصلاح الدولة الرومانية القاسية
والتي تفتقد أبسط معطيات السماحة
والرحمة المسيحية ، وكان وسيلتهم إلى
ذلك الأفلاطونية والمنطق
الأرسططاليسي ، الذي تحول فيما بعد إلى
"الشولاستك " ( Scholastik ) ، أي علم الكلام ؛ ثم شمل اللاهوت
بأسره . وقد أشار أوغستين (Augustinus
) في وقت مبكر ، أي في مطلع القرن الخامس
، إلى خطورة المشاركة في شأن السلطة
الرمانية التي كانت تسفك الدماء
وتستحي النساء وتستعبد الرجال والنساء
والولدان . ونادى بمملكة الرب (
civitas Dei ) التي لا تقبل الانسجام مع مملكة
الأرض ( civitas
terrena ). ومع ذلك
كانت صيحته متأخرة ، ولعل
الآباء الكنسيين
ومعهم قنسطنطين ( Konstantin ) ظنوا أن الدين الجديد والسلطة
الرومانية وعاصمتها القسطنطينية ( Konstantinopel
) التي بناها قنسطنطين نفسه
عام 330م هي ( أوتوبيا ) أفلاطون ،
ولعل قنسطنطين ظن نفسه أنه ذلك الملك
الفيلسوف الذي كان يسعى إليه أفلاطون
بكل كتب المعرفة والحكمة . وقد كادت
السلطة أن تهضم المسيحية السمحة لولا
قبول الحكماء من رجال الكنيسة بفصلها
عن السلطة بقسمة لم تكن ضيزا . ولعلي
أسمع همس العلمانين بأذني وهم يتناجون
فيما بينهم " ألا يصح للإسلام ما صح
للمسيحية ، ونتوقف عن القول ( الإسلام
دين ودولة ) ونكتفي بالقول ( الإسلام
دين وأمة ) . أقول وعلى الله التوفيق : إن
محمد بن عبد الله (ص ) لم يقل " دع ما
لقريش لقريش وما لله لله " لم يفهم
ذلك منه سواء أصحابه
من المؤمنين أو أعدائه من الكفرة
والمنافقين . لقد كانت منذ البداية :
دعوة لله وولاية للرسول وحكم بما أنزل
الله وتحذير للرسول عن أن يفتن عن بعض
ما أنزل الله ، وجهاد بالمال والأنفس .
وأني على يقين أن إقامة الخلافة ليس
واجب شرعي فحسب بل ضرورة كونية ،
وسيكون لي ، بأذن الله ، بحث أو كتاب
بهذا المعني في القريب العاجل . هناك من
يكابر ويصر على ضرورة الفصل بين الدين
، أي دين ، وبين الدولة ، أي دولة ،
لهؤلاء أقول :
سيان
عندي إن بّروا وإن فجروا
فليس يجري على أمثالهم قلم
وسأكتفي
بهذا القدر لأعود من جديد إلى الموضوع
الأساس :
لم
يكن الطريق المعرفي والفلسفي
الأفلاطوني بدون مخاطر أو مزالق .
فعندما ندرس النظم الدكتاتورية
والشمولية سواء منها القومية أو
الاشتراكية وحتى الإسلامية نجد
نزعة تربوية عسكرية ترمي إلى
إعادة صياغة الإنسان وفق المعايير
الفكرية والمعرفية التي نضجها المطبخ
الفكري للحزب أو الدولة أو كليهما معاً
. وهي نزعة فلسفية أصيلة في كل تطلع نحو
الأوتوبيا ، هذه
النزعة قد تكون فظة غليظة ، كما في
الحقبة الستالينية أو النازية أو
الماوية ( الثورة الثقافية ) أو
البولبوتيه في كمبوديا ، أو قد تكون
أقل عنفاً كما في الحقبة
البورقيبية أو المكارثية ، وفي
جميع الحالات لا
بد وأن تعصف بالحرية بكل مفرداتها
وتمهد لعملية مسخ فطرة الإنسان نفسه .
من اللأوتوبيا
انطلقت أديولوجية
التبرير الفلسفي للنظم
الدكتاتورية والشمولية ،
نازية كانت أم شيوعية . والجملة
الشهيرة التي نسمعها من المبررين "
الخطأ في التطبيق وليس في النظرية " .
قد يمل القارئ ويسأل لم هذا الاستطراد
وماذا تريد بهذا مثلاً ؟ أقول : آمل أني
تمكنت من تحديد مواصفات المذهب
السوفسطائي وقدمت تقيم يضارع الحقيقة
في الأوتوبيا ، لأن العولمة كما نظّر
لها وكما يبدو لنا من خلال التطبيق هي
سيفاد السوفسطائية بالأوتوبيا.ولهذا
فستكون ثمرة ذلك السفاد عقم في السياسة
وعقم في الاقتصاد وفوق كل هذا وذاك عقم
في الفكر والأدب والفن والمشاعر .
السؤال
: أين تأثير السوفسطائية على الهيمنة
الصهيوأمريكية أو العولمة
؟ أقول في المجالات الأربعة
الفكرية والإعلامية والسياسة
والاقتصادية ، ومن حيث المكان الجهات
الأربعة . سأحاول باختصار شديد أن أقدم
بعض الأمثلة على ذلك .
في
المجال الفكري : في مطلع هذا العام نشرت
جريدة " دي
تزايت " ( die Zeit
) الإسبوعية مقالاً للمستشار الألماني
الأسبق هلموت شميت
( H.Schmidt ) وهو الذي تجاوز الثمانين وما يزال
يمارس العمل الصحافي ويعمل في أسرة
تحرير الصحيفة آنفة الذكر . لقد ذكر
عشرات الأسماء ، بدأً من هنتنونج
وانتهاءً بفولفوفتس وتسائل هل عقمت
الإنسانية أن تنجب مفكرين إلا من هذا
النوع وهل أصبح الفكر حكراً على هؤلاء
القوم ؟ حتى
شميت الإشتراكي الديمقراطي والذي
ينحدر من جدة يهودية أصبح يضيق ذرعاً
بهذا اللفيف المتعجرف من الصهاينة
الذين انحدروا من المدرسة الصهيونية
السوفسطائية الذي نظّر لها (ليو شتراوس
) وقادها كيسنجر وأعوانه في الإدارة
الأمريكية إلى أخطر مراكز القرار
السياسي والمالي والعسكري والفكري ،
إنها المدرسة التي أنطلق منها
المنظرون لكل شأن من شؤون ا لأمن
والاستراتجية في
الحرب والسلم ، هم الخبراء :
في
طباع الأمم والشعوب ، وهم رجال
الدبلوماسية للمهام الصعبة جداً ،
وهم أيضاً الوجوه الكريهة "
والخبيرة " التي تطل علينا من شاشة
التلفزيون لتدلي برأيها في أدق شؤون
الكون ، من التصوف في الإسلام إلى حرب
الدمار الشامل عند صدام . أنها هيمنة الأقلية ، التي هي
أعلى مراحل الديموقراطية والحداثة -
بدءً من الهيمنة الفكرية وحتى رغيف
الخبز .
أما
في بيان أثر السوفسطائية في مجال
الإعلام فسوف أوضحه أيضاً بمثال : في
عام 1994 عقدت ندوة لبعض رجال الفكر
وخبراء الإعلام في جامعة بوخوم (Bochum
( الألمانية . وقد عرض
أحد الخبراء دراسة للمادة الإعلامية
التي عرضتها أهم الصحف الأوربية
والأمريكية ، وعنها تأخذ الأجهزة
الإعلامية المسموعة والمرئية ،
للأحداث التي تلت إلغاء المسيرة
الديمقراطية في الجزائر . لقد وصل
الدارسون لهذه المادة الإعلامية ، وهم
من معهد الدراسات الشرقية في هامبورغ ( Hamburg
) ، أن 85% مما نشر في وسائل الإعلام في
هذه الحقبة كان إما موضوع ، أي كذب لا
أساس له من الصحة ، أو تلفيق يسند إلى
شذّر من الحقيقة ،
أو تزيف لواقعة وقعت . ولما كان معظم
الحضور من أهل الاختصاص فلم أرى
الاشمئزاز على وجوههم ، ولكن لما كان
نذر يسير من أهل الصدق ممن كان حضوراً .
بدأ التساؤل والتبرم من " الإعلام
الغربي " المحايد " . وبدأ التبرير والتفسير والتأويل
. فكان
التبرير يبدأ بالقول:
بنقص الخبرة والدراية ، والتفسير
يقول : بسوء النية ونظرية المؤامرة
مروراً بمقولة " كل يغني موال من
أنعم عليه " إلا أن شيخ التأويل كان
عميد كلية الإعلام ، المعروف
بسوفسطائيته ، والذي
جاء الحضورَ بسر الصنعة
فقال : بعد أن سفه أحلام من قبله من
المبررين والمفسرين
" إن رجل الإعلام هو منتج لسلع
مثله مثل أي منتج آخر للسلع ، وعليه أن
يبحث عن سوق لتسويق سلعته ، فلو كان
الإعلامي مجرد ناقل للوقائع أو أميناً
للحقيقة المعقولة أو المحسوسة لما كان
لسلعته رواجاً البتة ، فالعلة في
المشتري وليس في المنتج. المستهلك هو
الذي يحدد نوع البضاعة التي يجب أن
تنتج . ألا ترون أن العمال والمستخدمين
والإداريين على حد سواء في أوبل أو
فولكس فاكن أو أي معمل آخر يقفون
طابوراً ، وحتى في أشد الأيام برودة
وقسوة ، أمام بائعي الصحف الصفراء
الفظة والتي تعج بالأكاذيب والفضائح
ليشتري صحيفته التي اعتاد قراءتها منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية ، وأزعم
أنه لا يريد قراءة غيرها ، تماماً كما
هو الحال مع زجاجة البيرة المفضلة لديه
. لقد كان بفلوف محقاً في بعض ما ذهب
إليه " . أن الحدث الإعلامي ليس عين
الحقيقة ، ولكن أفضل بديل عن الحقيقة
إذا أحسن صنعه وتصنيعه . هذا ما ذهب
إلية ، في تبرير صناعة الكذب ، عميد
كلية الإعلام . لقد جعلوا رزقهم أنهم
يكذبون ، ويفترون على الله الكذب ،
وفيهم سمّاعون للكذب وبه يتأولون . آمل
أن فتح الله علّي بهذا المثل توضيح
سلعة السوفسطائين في مادة الإعلام .
يتبع
الجزء الثاني
هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
|