الأمة
بين الوحدة العضوية والوحدة الثقافية
ترددت
أمتنا كثيراً منذ مطلع هذا القرن في
خيار واضح محدد بين الأمة في إطارها
القومي (العضوي) وبين الأمة في إطارها
الإسلامي (العقائدي والثقافي). ومع أن
الخيارين في حقيقتهما لم يكونا
متناقضين أو متعارضين، فقد أريد لهما
أن يكونا كذلك. في نوع من الاحتراب
الطفولي الداخلي الذي كان له شأنه في
تبديد بعض الجهد، والحيلولة دون نجاح
أي من الخيارين في إطار المشروع
النهضوي العام.
وبينما
تتخبط أمتنا، منذ قرن تقريباً، في
أطرها القطرية، وتسعى إلى بناء (وحدة
وطنية) تتجاوز العنعنات (الإثنية) و(الطائفية)
و(العشائرية)، فإن العالم بحركته
السياسية المنحطة من علُ، قد تجاوز
البنى (القومية) على اختلاف أسسها
ليصير إلى وحدات كبيرة تبنى على معطيات
تتجاوز (العضوي) و(الثقافي) إلى ما يمكن
أن ندعوه البناء المتشابك المشدود
بحبال متينة ومنفردة بحيث يكون كل حبل
من حبال الشبكة محوراً ووتراً.
وتبقى
صورة (الاتحاد الأوروبي) بكل أبعادها
مثلاً ناطقاً للأنموذج العصري المسبوق
وليس السابق، الذي يحاول أن يتدارك ما
أضاع منذ منتصف القرن العشرين، مما جعل
دوله كواكب مرتفقة من الشمس الأمريكية.
هذا
بينما ماتزال أقطارنا، أو دولنا
القطرية الناشئة تعاني من مشكلات شتى
حيث لم تستطع البنية الوطنية أو البنية
القومية ببعديها العضوي والثقافي أن
تجد التجسد السليم للتعبير عن نفسها.
وماتزال كلمة (أمة) تعبر عن المظلة
الجامعة أو الكيان الكلي موضع الطموح
المرتقب.
وإذا
كانت قد سقطت من التداول السياسي
والثقافي مسميات مثل (الأمة السورية)
أو (الأمة المصرية) أو (الأمة العراقية)
فإن بعض المثقفين مايزال يتمسك
بثنائية الحديث عن (الأمة العربية) و(الأمة
الإسلامية) حيث يرى في الانحياز إلى
أحد طرفي هذه الثنائية ضرورة ملحة
لتحديد موقف لابد منه في أي حركة ذات
بعد سياسي.
في
علم التخطيط يتحدث الدارسون عن سياسة (حرق
المراحل)، في القفز على بعض المراحل
بغية استعجال الوصول إلى هدف نضجت
شروطه أو استوفى استحقاقاته بفعل
عوامل ظرفية أو خارجية. في حالتنا
العربية والإسلامية نقدر أننا بحاجة
إلى (طي المراحل) التي توقفنا عندها
طويلاً حتى فاتنا قطار التاريخ، لندمج
في حركتنا العضوي بالثقافي، ولنصل من
ثم إلى مقام التشابك الحضاري التي
تضعنا على مدرجة العصر الذي نعيش.
إن
(إنساننا) المستلب المستضعف والمقهور
يتطلع إلى أفق ضام يجد فيه جبراً لكسره
وقوة لضعفه، وغنى لفقره، ويبقى (الانطلاق)
في هذا الأفق خير وأقوم من (التقييد)
بأي أفق واطئ أو قريب، وكل خطوة تقرب من
الهدف البعيد، ولا تحجبه عن النظر،
تعتبر خطوة رشيدة وسديدة.
إن
عصر الثنائيات الجادة قد ولى. وإن طرح (عربية)
أو (إسلامية) محجور عليهما في دائرتين
منفصلتين متضادتين، تلغي إحداهما
الأخرى قد تجاوزته التصورات والمواقف
والسياسات. فإيران اليوم في جوهر
الموقف العربي أو الإسلامي سمه ما شئت،
ولم يعد الحديث عن (عربستان) والشيخ (خزعل)
و(مزعل) اللذين أذكر اسميهما الآن من
كتب الثقافة القومية، يدخل في ثقافة
الجيل من قريب ولا بعيد. ثمة مستجدات في
الواقع الدولي والإقليمي تجعل الحديث
عن (الفرس) أو (الترك) أو (العرب) بنعرة
شوفينية مستهجناً، ونتمنى ألا يكون
بعيداً اليوم الذي تسقط فيه قسمة
المسلمين إلى (سنة) و(شيعة) أيضاً، وذلك
بالانصهار في بوتقة الهم العام (للأمة).
التي نستخدمها، في هذا السياق،
بدون وصف حيث نستشعر زوال الفرق فيتوحد
الموقف العام وتبقى الخصوصيات الإثنية
والمذهبية في
الزوايا الخلفية لنفسية الفرد حيث
يمكن أن يُقوِّم المعوجَّ، حيث كان،
وارداتُ الثقافة والعلم وحرارة
التحديات.
إن
آفاق الفكر السياسي في القرن الحادي
والعشرين، والمستجدات العالمية، تجعل
النظرة إلى الكيان الموحد المنشود
أكثر مرونة ورحابة من التقوقع وراء سور
المدينة القديمة أو الأمة
الإمبراطورية.
وإذا
كنا مجمعين على أن (الوحدة) هي جسر
النهضة، وقنطرة العبور إلى العصر
بالنسبة إلى هذه الأمة، فلابد أن
تصورنا للوحدة ولمقوماتها
وارتباطاتها وأسسها، قد دخله الكثير
من التطور عما كان عليه الحلم الزاهي
في أوائل القرن الماضي ثم في أواسطه.
ينبغي
لرؤيتنا المعاصرة أن تنطلق بحركة
لولبية صاعدة من أفق الوحدة الوطنية،
الأفق المرقاة الذي يجب أن يكون قوياً
ومتماسكاً وصلباً إلى الأفق القومي
الذي يعتبر قوام الروح الجامعة
ومادتها، والذي ينبغي أن يكون هو الآخر
أساساً ومنطلقاً إلى الأفقين العقائدي
والحضاري، حيث يتمثل الأول في روابط
الدين والعقيدة، والثاني في روابط
القيم الخيرة والحرص على ما ينفع
الناس، والاجتماع لكف الأذى عنهم تحت
عنوان (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم
إلى الله أنفعهم لعياله..) حين يجتمع
أهل الشر في العالم منتشرين في بنية كل
مجتمع تحت فسطاط القسوة والكراهية
والاستئثار، سيكون على دعاة الخير
ومحبي الإنسانية أن يكون لهم فسطاطهم
أيضاً لنشر الرحمة والعدل والعدالة
والحب واحترام الإنسان. وأن تكون في
العالم أيضاً (أمة) من الناس تتلاقى على
هذا الخير العام وتتواثق عليه.
سواء
كان بعضنا قابلاً (للعولمة) أو رافضاً
لها بأبعادها المختلفة، فإنها أصبحت
واقعاً يومياً معاشاً والوقاية أو
الاستفادة منها أن نحسن توظيف
معطياتها.
ودائماً
ستجد الحركة الإيجابية المنفتحة دوائر
انتمائها الأرحب والأوسع كما ستجد
مرتكزات هذه الدوائر، روح شرعيتها.
وهذا هو سر العروبة التي انداحت في شرق
الأرض وغربها على أجنحة الإسلام. وسيجد
المسلم بعض فقه هذا في قوله تعالى (ألم
غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد
غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر
من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون
بنصر الله). إنه فقه بعيد المدى للفرز
والانتماء يعرضه القرآن الكريم في
لولبية صاعدة غير محدودة الآفاق
للتجدد والارتقاء).
|