تابع
كتاب الأخوة الزائفة
الفصل
السادس
خرافة
النصر البلشفي
(هناك
الكثير من الأشياء في حقيقة البلشفية
نفسها، في حقيقة أن الكثير من البلشفيك
يهود، وفي حقيقة أن مثاليات البلشفية
تتفق في وجوه عديدة مع أسمى المثاليات
اليهودية).
مجلة
(التاريخ اليهودي)
(جويش
كرونيل) 4 أبريل 1919
يمكن
القول أن ثورة 1917 البلشفية جاءت
تتويجاً لجهود الأقليات الروسية،
المستعصية على التجانس مع السكان
الروس، للسيطرة على الحكومة. ويعتبر
يهود خزر الروس أهم هذه العناصر
وأكثرها عدداً. وهذه (دائرة المعارف
اليهودية) تصرح بأن الاشتراكية في
روسيا (أصبحت حركة الجماهير اليهودية).
وكانت قد بذلت جهوداً لتشويش النظم
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في
الإمبراطورية القيصرية وذلك لإدامة
تأثير وضغط حرب مطولة في الخارج،
وإحداث تمرد مدمر في الداخل. وكان
القيصر متأرجحاً تنقصه البراعة، وكانت
الحكومة فاسدة تنقصها الكفاءة.
كانت
الحكومة قد ظلت نحو مائة عام تتخبط
يمنة ويسرة في حمى التردد، تنشد حلولاً
لمشاكل استعصت على الحل، وتحاول تهدئة
شعب لم يكن يمكن تهدئته. وفي أعقاب
تحرير عبيد الأرض سنة 1861 اتخذت إجراءات
صارمة ضد اليهود المحرضين على الفتن.
وقد كانت السياسة الروسية مزيجاً
غريباً من الشدة الصارمة والفترات
المفاجئة من الحرية واللطف. فكانت
السياسة أحياناً قاسية وعنيفة ولكنها
نادراً ما كانت تخلو من استثارة الغضب
الشديد. وكانت الحكومة في أحيان أخرى
تقوم بمحاولات خرقاء لاسترضاء رعاياها
وتهدئتهم باقتراح تطبيق إصلاحات
أوروبية محورة ومعدلة. لكن هذه
المحاولات الضعيفة كانت تقابل غالباً
برصاص السفاحين والقتلة. وكانت كل
القوانين التحررية و(الإجراءات
الديموقراطية) و(التسامح) و(التساهل)
تفسر من جانب الثوريين اليهود ورفاقهم
المتآمرين على أنها دلائل على ضعف
الحكومة. ولذا كانت الامتيازات
والإصلاحات كثيراً ما تلغى، ثم تعزز
قوات شرطة الأمن الداخلي.
وإذا
كانت السياسة الداخلية لروسيا
القيصرية ضعيفة فقد كانت أساليب
علاقاتها الخارجية غير قوية بل عديمة
الفعالية وغير موجودة. والواقع أن
انعدام فعالية هذه العلاقات الخارجية
كانت، أكثر من سواها، السبب في نجاح
الثورة الروسية. ولو أن روسيا أقامت
علاقات سياسية قوية وفعالة في نهاية
القرن التاسع عشر لأمكن تلافي تنحي
القيصر وما تلا ذلك من الإطاحة بحكومة
الاسكندر كيرنسكي الاشتراكية
المعتدلة.
كانت
سنة 1898 (كما ذكرنا في الفصل السابق) قد
شهدت مولد منظمتين يهوديتين: إحداهما (الجمعية
الاشتراكية اليهودية)، والثانية (المنظمة
الصهيونية العالمية). وقد أقيمت الأولى
لتدمير جميع الحكومات المسيحية،
والثانية لاغتصاب فلسطين (وبالتالي
ضرب العالم الإسلامي في الصميم وتفتيت
القوة العربية).
وسرعان
ما أصبحت (الجمعية الاشتراكية
اليهودية) أقوى حركة اشتراكية وأفضلها
تنظيماً داخل روسيا. وقد انتشرت وتوزع
نشاطها منذ أول مؤتمر لها في (فلنا) سنة
1897، في المراكز التي يكثر فيها السكان
اليهود. وبالطبع كانت الجمعية يهودية
بحتة. وبينما كان أعضاؤها يوسعون
نشاطاتهم الاشتراكية داخل الحركات
السياسية الثورية، كانوا يظهرون كروس
فقط، لا كيهود. وقد كانت الجمعية
الاشتراكية اليهودية تختلف كثيراً عن
المنظمات المشابهة لها في فرنسا
وألمانيا، ومن ناحية هامة: فبينما كان (فرديناند
لاسال) وغيره يقللون من أهمية السمات
القومية لحركاتهم في تأكيدهم على
الصفة العالمية للشيوعية، كانت
الجمعية الاشتراكية اليهودية تقلد
الصهاينة وترد مبادئهم وتعلن أن
اليهود هم أصحاب قومية متميزة. وقد قدر
لهذا الخلاف أن يلعب دوراً هاماً في
تطوير الحركة الثورية المتطرفة (الراديكالية)
في روسيا وغيرها.
والواقع
أن وحدات (الجمعية) الروسية كانت
جمعيات سرية تستقطب أعضاء (العدمية)(1)
(النهلستية) والمجموعات الإرهابية
الأخرى. وفي سنة 1898 قامت الجمعية
بتنظيم (الحزب الديموقراطي الاشتراكي
الروسي) الذي جند داخل صفوفه اليساريين
الروس وقدم الشيوعية لهم. وقد أصبح
الحزب الاشتراكي الأول هو (الحزب
الشيوعي) الحالي في الاتحاد
السوفييتي، والحزب الأم لجميع الأحزاب
الشيوعية في العالم. وبواسطة (الحزب
الديموقراطي الروسي) أصبحت مجموعات
العمال الروس المبعثرة متحدة أخوياً
مع الحركة الاشتراكية اليهودية، وعن
هذه الطريق تعرفت على آراء ماركس
ولاسال.
وأصدرت
(الجمعية) صحيفتها الخاصة في الخارج
باسم (دي اربتر ستيمي)، بلغة الييدش،
وهي لغة يهود روسيا التي طورت عبر
القرون عن لغات أجدادهم الخزر الروس.
وقد
كانت (الجمعية الاشتراكية اليهودية)
زمن تأسيسها، وكذلك ظلت لعدة سنوات
تالية، أكبر وأقوى خلية في الحركة
الشيوعية الروسية. وعمل قادتها دون
توقف على نشر الماركسية بين عمال
القطاعات الصناعية في الإمبراطورية،
مؤسسين خلايا سرية حيثما وجدوا ثلاثة
مؤيدين أو أكثر. ثم أعيد تنظيم القيادة
اليهودية في الحركة الثورية في كل مكان.
وقد
عقد (المؤتمر الشيوعي) الأول في منسك في
مارس من سنة 1898، حيث افتتح تحت رعاية (حزب
العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم
روسيا). ولم يستطع يومها أن يحضر
المؤتمر يوليوس مارتوف (يوري تسدربوم)
الذي كان أحد قادة (الجمعية الاشتراكية
اليهودية)، ولا لينين (فالدمير اليش
اوليانوف)، لأنهما كان قد اعتقلا
وأرسلا إلى سيبيريا قبل ذلك بأشهر
قليلة. وانتخب المؤتمر لجنة مركزية
وعين مجلساً تحررياً لصحيفة الحزب
المقترحة، وأرسلوا النداء الشيوعي
النموذجي إلى الطبقة الكادحة. يقول (غريغوري
زينوفيف)، المؤلف اليهودي لكتاب (تاريخ
الحزب الشيوعي الروسي): (لم تكن مصادفة
أبداً أن يعقد هذا المؤتمر في منسك، في
مدينة التجمع اليهودي ومنطقة نشاط
الجمعية (الاشتراكية اليهودية).. وفي
هذا الوقت، وباستعراض تاريخ حزبنا
الذي أصبح اليوم منظمة عظيمة، يبدو لي
من الواجب أن نتذكر العمال اليهود
الشجعان الذين كانوا أول من نهض
للكفاح، فساعدونا على وضع أول لبنة في
أساس بنيان حزبنا).
وقد
انبثق (بويل صهيون) عن ( الجمعية
الاشتراكية اليهودية) وكان هدفه
الرئيسي إقامة التعاونيات في فلسطين.
ومنذ البداية، جسم بويل صهيون المبادئ
الأساسية للشيوعية الماركسية ومبادئ
الصهيونية. وقد بدأ تنظيمه في روسيا
سنة 1901، ومنها انتشر إلى النمسا
وفلسطين والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي 30 يوليو 1903 تجمع نحو ستين ثورياً في
بروكسل ببلجيكا لعقد (المؤتمر الشيوعي
الثاني). وأعلن المؤتمرون أن هدف
المؤتمر هو دمج الجميع في حزب موحد
يسمى (حزب العمال الديموقراطي
الاشتراكي لعموم روسيا). وقد عقد
الاجتماع في مخزن دقيق مزين برايات
حمراء، وفيه حدث أول تصادم حول مسألة
العلاقة بين الجمعية الاشتراكية
اليهودية وبين حزب العمال الديموقراطي
الاشتراكي لعموم روسيا. وكانت الجمعية
والحركة الصهيونية قد ظهرتا في سنة
واحدة، وكانت قضية القومية اليهودية
أكبر ما يشغل أذهان أعضاء الجمعية.
فكانوا قد تبنوا (الييدش) لغة لهم،
وأعلنوا أن (الوعي القومي والوعي
الطبقي يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب).
لذا طالب أعضاء الجمعية بالاستقلال
الذاتي للمشاكل اليهودية الصرفة، وحق
تمثيل كل يهود روسيا. ولكن لينين تمسك
بوجود حزب مركزي، ووقف معه مارتوف
واكزلرود وتروتسكي، وكلهم يهود. ولم
تكن قضية الخلاف قد حلت عندما تدخلت
الشرطة البلجيكية، فانتقل المؤتمر إلى
لندن حيث اجتمع فيها من 11 إلى 23 من
أغسطس.
ونشب
الخلاف مرة أخرى في لندن حول العلاقة
بين الجمعية الاشتراكية اليهودية وبين
الحزب. وبينما كان أعضاء الجمعية كلهم
من اليهود، كان المؤتمر، عموماً،
مشكلاً من اليهود في معظمه، وقد احتد
النقاش بعد ذلك بين مجموعة من اليهود
الشيوعيين المنظمين وبين مجموعة أخرى
من اليهود والأمميين الشيوعيين غير
المنظمين. وكانت الجمعية الاشتراكية
اليهودية عميقة في صهيونيتها بمقدار
ما كانت عميقة في شيوعيتها، وبينما
كانت تصمم على تدمير المميزات القومية
لكل الشعوب الأخرى، كانت تصر على
المحافظة على يهوديتها وعلى أمتها
الخاصة. لقد كانت الجمعية هي من جلب
الماركسية إلى روسيا، ونظم المؤتمر
الشيوعي الأول في منسك، وكذلك تسلمت
زمام المبادرة في تنظيم المؤتمر
الثاني. وكانت هي زعيمة الثورة المنظمة
وقائدتها، ولكن أعضاءها كانوا أولاً
وأخيراً من اليهود، عقدوا العزم على أن
يسير (الوعي الطبقي) و(الوعي القومي)
جنباً إلى جنب. وكان مبعوثوها قد
توجهوا إلى بروكسل ولندن مع تصميم ثابت
على تأمين الاستقلال الذاتي في جميع
القضايا اليهودية، وجعل الحركة
الثورية الشيوعية تعترف للجمعية بحق
تمثيل جميع الاشتراكيين اليهود حيثما
كانوا. ولكن لينين، على العكس من ذلك،
وقف يدعو لحزب مركزي متصلب تكون الفروع
القومية فيه مجرد وكالات تبث من خلال
لغاتها المتعددة شعارات وبرامج
وقرارات وأوامر اللجنة المركزية
القوية. وقام اكزلرود ومارتوف واليهود
الأخرون، غير المنتسبين للجمعية، بدعم
لينين في مواجهة أعضاء الجمعية. وعند
إجراء التصويت النهائي نجح لينين..
وكان ذلك التصويت هو الذي جلب بعد ذلك
الانقسام الذي أدى إلى ظهور (البلشفية)
(الأغلبية) و(المنشفية) (الأقلية).
كان
غياب (الطبقة الكادحة) عن هذا (المؤتمر
الثاني) صارخاً لدرجة استدعاء زينوفيف
للاعتذار عن ذلك وتجلية الموقف، فبين
بأن (منظمة أسكرا ولجنتنا مكونتان، في
الغالب، من الطلاب الثوريين
المحترفين، لم يكن فيها الكثير من
العمال، إذ كان العمال مايزالون
يعملون كأشخاص فرديين من أمثال
بابوشكين وشاتمان اللذين بدآ يشقان
طريقهما من بين جماهير العمال. ولذا لم
يكن المؤتمر الثاني للحزب يتشكل من
العمال بشكل رئيسي، رغم أنه وضع أساس
الحزب، بل كان يضم ثوريين محترفين،
يقودهم الرفيق لينين، ورغم أن المؤتمر
لم يكن في تكوينه من الطبقة العاملة
البحتة، فقد حمل معه جماهير العمال،
وعبر عما يجيش في أعماق الجماهير
الكادحة. وقد حملت هذه المجموعة، التي
خلقت الحزب فيما بعد، على قمة أمواج
الجماهير الكادحة).
ولكن
هذا كله تلاعب بالكلام، ومحاولة ضعيفة
لإخفاء الأساس المثير للحركة بكاملها.
فقد وصف جميع المجتمعين بالمثقفين،
ولكنهم كانوا (متسكعين) بمعنى الكلمة.
فلم يكونوا عمالاً، وبالتالي لم
ينتموا إلى الطبقة الكادحة. ولكن أعضاء
المؤامرة الثورية رغبوا في قيادة حركة
العمال، وكان من اللازم مخادعة العمال
وجعلهم يعتقدون بأنها حركتهم. ومن هنا
جاءت حيرة زينوفيف وغيره في اعترافهم
بأن منظمي وقادة الحزب الشيوعي لم
ينتموا إلى الطبقة العاملة !
ورغم
أن الحزب الشيوعي الروسي قد انقسم
فعلاً حول القضية اليهودية، لكنه ظل
متحداً على العقيدة الشيوعية عموماً،
وعلى الحاجة لتدمير جميع الحكومات
الرأسمالية بشكل خاص. وبغض النظر عن
الخلاف حول الأهداف النهائية، ظل (الرفاق)
من كلا الشقين يحاربون جنباً إلى جنب
ضد العدو المشترك.
وغني
عن القول أن الجمعية (المنشفية) واصلت
أنشطتها الثورية وانضمت إلى مؤتمر (حزب
العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم
روسيا). وقد اعتقل الكثير من أفراد
الجمعية وتم نفيهم إلى سيبيريا، ولكن
الآلاف منهم توجهوا إلى الولايات
المتحدة. ونتيجة لذلك انتشرت شبكة من
فروع الجمعية في طول الولايات المتحدة
وعرضها وفي كندا. وكان النشاط الرئيسي
للفروع جمع الأرصدة لصالح الجمعية
الاشتراكية اليهودية في روسيا. وتدفقت
أمواج من الثوريين اليهود الهاربين من
الشرطة الروسية في أعقاب الثورة
الفاشلة سنة 1905 لتدعم فروع الجمعية
اليهودية في الولايات المتحدة.
وقد
كان المقتل الشنيع للقيصر الاسكندر
الثاني في 1 من مارس 1881 عاملاً على خلق
موجة من الاحتقار والبغض الشديد
لليهود. وأثبتت اعترافات (جولندنبرغ)
التصميم اليهودي الواسع الانتشار على
تدمير السلطة الدستورية بكاملها. وكان
هناك تقدير بأن ما لا يقل عن عشرين في
المائة من الإرهابيين هم من اليهود.
وقد كانت أعمال شغب اليهود في (كييف)
وغيرها عاملاً على زيادة خطورة محاولة
الحكومة مهادنة القتلة والمخربين.
كانت
الهجرة الفعلية من روسيا وبولندا إلى
الولايات المتحدة قد بدأت سنة 1880، ولكن
عدداً من اليهود الروس قد هاجروا أيضاً
إلى فلسطين. وقد نددت اليهودية
العالمية بجهود الروس لإخضاع المخربين
على أنها (معاداة للسامية)، ووصفت
إجراءات الحكومة ضدهم بأنها (وحشية).
ولم تكن تلك إلا دعاية لتصعيد خطة (استعمار)
فلسطين.
لم
يستطع الاسكندر الثالث التخلص تماماً
من الرعب الذي أصابه باغتيال والده،
وظل شبح ذلك اليوم الرهيب من سنة 1881
يطارده بقية حياته. وقد صمم على مواصلة
سياسة أبيه التحررية وتنفيذ الكثير من
الإصلاحات التي عكف عليها. وكانت جهود
روسيا الطويلة والفاشلة في معالجة
قضية اليهود، الذين يتمردون على
التآلف والتجانس، هي أكثر ما يشغل عقل
الإمبراطور الجديد. وقد جربت كل فكرة
لاسترضاء الحركات الإرهابية التي جلبت
الرعب لحياة المسؤولين الروس. لكن
الأعداد الهائلة من اليهود المتورطين
في حوادث القتل وغيرها من الجرائم كانت
مرعبة ولم يكن ميسوراً فصل المشكلة
اليهودية عن المسألة الثورية. وكذلك
كانت الأوقات اليائسة تتطلب إجراءات
يائسة. فقد منع اليهود من الإقامة خارج
المدن والقرى، حتى داخل المناطق التي
كان يسمح لهم بالعيش فيها. وفي سنة 1887
استثنيت مدينة (رستوفون ـ دون) من (حدود
الإقامة). وفي سنة 1891 رحل 17 ألف يهودي عن
موسكو، وحددت نسب اليهود في المعاهد
الحكومية، ومنع اليهود من العمل في
الوظائف الحكومية، إلا في قليل من
الحالات الاستثنائية، فقد أصرت روسيا
على أن يكون اليهود روساً أو أن يخرجوا
من البلد.
وزلزلت
النشاطات اليهودية الثورية روسياً
بشدة متصاعدة. فقام يهودي يسمى (مولد
يتزكى) بمحاولة فاشلة لقتل لوريس ـ
مليكوف. وقبل إعدام هذا اليهودي أعلن
بتحد أن الإرهاب سيتواصل وأن مليكوف
سيقتل، وصاح قائلاً: (إذا لم أكن أنا (القاتل)
فسيكون غيري، وإذا لم يكن هذا الثاني
فيسأتي الثالث.. إن الكونت مليكوف
سيقتل بأيدينا). وواصلت الحكومة
الروسية صراعها ومواجهة المشكلة
بطريقة خرقاء، تمزقها العواطف
المتضاربة، بينما كانت في حاجة لاتخاذ
إجراءات صارمة من جهة وإجراءات فيها
لين واسترضاء من جهة أخرى. ولكن حركات
التمرد اليهودية، التي كانت تخمدها
الشرطة أحياناً، والقوات الروسية
أحياناً أخرى بسبب خطورتها، كانت تصور
في الداخل من قبل الثوريين على أنها
حركات نزيهة تواجهها الشرطة بوحشية،
بينما كان رجال الدعاية اليهود من
الخارج يصورونها بشكل مذابح منظمة
ومدبرة من جانب السلطة. وكانت تلك
القصص اليهودية تحبك جيداً، وكانت
التقارير الحكومية الروسية تطمس إلى
درجة ظن معها الأمميون الأمريكيون
والأوروبيون، الذين يجهلون الحقيقة،
أن اليهود كانوا ضحايا بريئة لحكومة
متعطشة للدماء، معادية للسامية.
وتواصل
الهياج مع تزايد النشاط بين الطلاب
والعمال. فقد نظمت حوادث الفوضى والشغب
جيداً في الجامعات، بينما كانت تحدث في
المصانع اضطرابات مفاجئة.. ثم عملت
الصحافة السرية داخل البلد والصحافة
الملتهبة في الخارج على نشر الدعاية
الثورية الحامية عن الطبقة الكادحة
الروسية، والدعاية المضادة للروس
للاستهلاك الخارجي. ورغم أن النشاط
الثوري كان متواصلاً منذ عدة سنوات،
لكنه ازداد تناسقاً وتنظيماً مع ظهور
الجمعية الاشتراكية اليهودية والحزب
الشيوعي الروسي، بعد سنة 1897.
وتدفق
الشباب اليهودي الروسي على الأحزاب
الثورية، وانجذب الكثير منهم نحو
النشاطات الإرهابية. وهذا (دنبو) يعلن
بأن (اليهود قد أمدوا الجيش الثوري
وقدموا من المحاربين أكثر مما يسمح به
عددهم بالنسبة لبقية السكان الروس).
ربما
كان (غريغوري غرشوني) أشد الإرهابيين
اليهود تعطشاً للدماء. وقد ولد في
شافلي وغير اسمه وغادرها وانضم إلى
الثوريين. وقد حكم عليه بالإعدام في
فبراير من سنة 1904، ثم خفف الحكم إلى
السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في
سيبيريا، وذلك في 5 من مارس 1904. وبعد أن
حبس في قلعة شلوننبرغ مدة من الوقت نقل
إلى سجن اكاتويسكي، حيث هرب منه، وسافر
إلى اليابان ثم إلى الولايات المتحدة
حيث استقبل فيها كأحد الأبطال
المنتصرين. وقد تمكن خلال ستة أسابيع
من إقامته من جمع أكثر من ثلاثين ألف
دولار لصالح الثوريين الروس.
وقد
ظل الأوروبيون والأمريكيون في هياج
شديد وعداء ملتهب (لوحشية الشرطة)
الروسية في تعاملها مع يهود الخزر.
وجمعت المنظمات اليهودية في كل مكان
مبالغ ضخمة من المال، من الأمميين
واليهود على السواء، لإسعاف (إخوانهم)
التعساء الواقعين في قبضة القيصر. وفي
نفس الوقت تواصلت النشاطات اليهودية
الثورية والإرهابية في روسيا دون توقف.
وتواصل
في نفس الوقت أيضاً تدفق يهود الخزر
إلى الولايات المتحدة بزخم أشد،
وأنشئت منظمات ولجان خاصة بهدف
استقبال المهاجرين في جزيرة إيليس
والعناية بهم في نيويورك. وسرعان ما
استخدم اليهود الأمريكيون المهاجرين
اليهود بدلاً من الأمميين أصحاب البلد
الذين كانوا يعملون معهم، الأمر الذي
خلق أزمة بطالة في نيويورك.
تقول
دائرة المعارف اليهودية:
(نقلت
الهجرة اليهودية من روسيا إلى
الولايات المتحدة أعداداً كبيرة من
الاشتراكيين، معظمهم من طلاب الكليات
والجامعات، وكانوا بلا شك من بين رواد
الأحزاب الاشتراكية في أمريكا. وكان
ميدان نشاطهم الأساسي هو الغيتو. ولكن
جماهير العمال والتجار اليهود الذين
تثقفوا على هذه الدعاية، تبعثروا في
أنحاء البلاد بحثاً عن العمل، وأصبحوا
باعة الاشتراكية المتجولين، يبن
زملائهم وجيرانهم).
ولكن
لكثير من هؤلاء الثوريين اليهود سجلات
إجرامية، وكانوا لذلك من غير المرغوب
فيهم. وسرعان ما أنشئت (جمعية مساعدة
المهاجرين العبريين) كجيش دفاعي
قانوني عن حشود يهود الخزر، واستأجرت
الجمعية المحامين للدفاع في قضايا
الترحيل، وأوقفت بالفعل محاولات
المسؤولين في الولايات المتحدة لصد
التيار البشري، الذي لم يسبق له مثيل،
من الثوريين الداخلين إلى هذا البلد.
ونشط
الشيوعيون اليهود داخل صفوف
البورجوازيين، مؤسسين ما أصبح معروفاً
بالجماعات (التحررية) (اللبرالية)،
والتقدمية. وكان المثقفون البرجوازيون
الروس سنة 1904، و1905 يتشكلون غالباً من
المحامين والمهنيين اليهود الذين لم
يندمجوا جيداً مع الإرهابيين
والجمعيات الثورية. ومن أجل تهدئة الجو
لإثارة هياج الشيوعيين اليهود في
الأيام التالية في بلدان أخرى، التقت
مجموعة من المحامين والكتاب (التقدميين)
على مأدبة علنية (للدعوة لإبطال كل
القيود الاستبدادية والقومية).
منذ
ذلك الحين، عرف يوم الثاني والعشرين من
يناير سنة 1905 باسم (الأحد الدموي)
للقديس بترزبرغ. ورغم وجود يهود ثوريين
وسط الجماهير التي قادها القس غابون في
موسكو، والتي سارت إلى (قصر الشتاء)،
يبدو من المؤكد تماماً أن نوايا كل من
القسيس وغالبية الناس كانت سليمة، ولم
تكن مدفوعة بأي دوافع ثورية. وكان
الكثير قد حمل الرايات والإعلانات..
ولا يوجد أي تعليل واضح لبدء الهجوم (القوقازي)،
حيث ظهرت الوحدات فجأة في الميدان وبين
الجماهير المتقدمة، مطلقة النار على
الكثير من الزاحفين أثناء ردهم على
العنف. وليس من المؤكد القول بأن قائد
فرقة (القوزاق) قد توترت أعصابه فوق
الحد الطبيعي، أم أن الثوريين اليهود
كانوا قد دبروا الأمر بإرسال (معلومات)
إلى الشرطة السرية بأن المتظاهرين
يخفون الأسلحة ويتوجهون إلى القصر
بهدف ثوري.. ولكن الاحتمال الثاني يجد
دعماً قوياً مما يعرف الآن بالأساليب
الشيوعية.
لقد
اتهم الثوريون الأب جورجي غابون بأنه
قسيس (مزدوج الشخصية)، مدعين بأنه قاد
عمال القديس بترزبرغ إلى مصيدة الموت.
ولكن المؤكد أنه لا توجد أي بينة تدعم
هذه الادعاءات. فقد قضى الأب غابون
معظم وقته الكهني بين سكان المصانع في
سان بترزبرغ، ولا يوجد ما يثبت أنه لم
يكن شديد التعاطف مع هؤلاء الناس في
محنتهم، أو أنه لم يكن يبذل جهده
لتخفيف تعاستهم. والواضح أنه نال أولاً
إذنا من الشرطة السرية لتنظيم العمال
في اتحادات عمالية، مما يدل على أنه
كان يعمل داخل نطاق القانون، ويحاول
إنقاذ العمال من براثن الشيوعية. وكان
الأب غابون هو الذي قاد إضراب هذه
الاتحادات، بل كان في مقدمة العمال
أثناء سيرهم إلى (قصر الشتاء) في يناير
1905. وقد حمل هو نفسه عريضة الاتحاد
لتسليمها باسمه إلى القيصر. والتفكير
السليم يرفض احتمال أن يكون قد اشترك
في مؤامرة تستهدف إقامة مذبحة لا معنى
لها ولا فائدة منها، تذبح فيها جماهير
عزلاء.. والواقع أن أشد الناس غباء لا
بد أن يتوقع رد الفعل العام لهذه
الوحشية المفاجئة. ورغم سخف وحمق
القيصر نيقولا والرجال المحيطين به،
فلا بد من الاستنتاج بأن قيادة (القوزاق)
تصرفت بسبب دوافع مثيرة، أو أن السلطات
كانت قد تلقت معلومات (خادعة) عن وجود
مؤامرة كبيرة لقتل الأسرة الملكية.
وعلى
أي حال، انتشرت أخبار الحادثة المرعبة
في أنحاء روسيا بسرعة البرق، الأمر
الذي حشد وصعد من الغضب ضد القيصر.
وتضخمت حيوية ونشاط الجمعية
الاشتراكية اليهودية وفروعها
الثانوية. وقد حققت تلك الحادثة في
دقائق معدودة أكثر مما استطاعت تحقيقه
كل الدعاية والنشاط الإرهابي في عشرين
سنة، وحينها أصبح بوسع الثوريين
اليهود توقع الدعم من جماهير الأمميين
الروس.
واجتاحت
روسيا المظاهرات والإضرابات وأعمال
العنف بقوة هادرة، وانتشرت حمى
الثورية بسرعة، وعمل الشيوعيون
المنظمون محمومين في صفوف الطبقة
الكادحة. وظهرت فجأة اتحادات وروابط
المستخدمين في السكك الحديدية
والمهندسين والعمال، وحتى المحامين.
ونودي بالإضراب في كل مكان، وبدأت
التجارة والصناعة تتجه نحو توقف محتوم
في كافة أنحاء الإمبراطورية. وعندما
تحركت الشرطة لتفريق المتظاهرين وضرب
المخربين، عمت البلد أعمال عنف جديدة
وتدمير للممتلكات، وأخذت مناطق بولندا
والبلطيق ترتجف بين براثن الإرهاب.
وقيل
للأممين خارج روسيا أن قلاقل اليهود في
روسيا كانت مذابح دبرتها الحكومة.
وكانت الدعاية اليهودية قد استولت على
أذهان شعوب غربي أوروبا والولايات
المتحدة بتأثير من المؤرخين والكتاب
اليهود، ووجدت طريقها إلى دوائر
المعارف والمقالات والتأريخات، وحتى
القصص التي يكتبها الأمميون للقراء
الأمميين. ولم يحدث من قبل في تاريخ
العالم أن طمست وشوهت جهود حكومة ما ضد
حركة ثورية إجرامية، كما حدث في روسيا.
وليس
غريباً أن نقرأ اليوم أن الدور الذي
لعبه اليهود في الثورات الروسية سنة 1905
و1917 قد (بولغ فيه كثيراً)، وأن العناصر
القيصرية قد سعت إلى (لوم) اليهود، لا
الشعب الروسي، وأن التهم ضد اليهود
عامة ليست إلا نتيجة لدعاية نازية (معادية
للسامية). ويشير المدافعون عن قضية
اليهود بخبث، معتمدين على قلة
المعلومات عند الشخص العادي، إلا أن
البلاشفة هم الذين قاموا بالثورة، وأن
المناشفة ـ العنصر اليهودي ـ كانوا
يعارضون البلاشفة. وهذه الدعاية تؤثر
بلا شك على الذين لا يفهمون معنى هذه
الأسماء، وليست عندهم فكرة عن كيفية
وجودها. والحقيقة هي أن لينين وتروتسكي
عادا إلى روسيا بعد تنازل القيصر، وأن
المناشفة (الجمعية الاشتراكية
اليهودية) هم الذي نفذوا المراحل
الأولى من الثورة. وكان لينين وزمرته
البلشفية هم الذين اختطفوا النصر
والحكومة سنة 1917، وكانت مواهب لينين في
الدعاية هي التي أرست خرافة النصر
البلشفي.
ورغم
أن اليهود، من أمثال مارنوف واكزلرود
عارضوا، عقائدياً، برنامج لينين
لتنظيم الحزب، لكن هذه المعارضة لم
تجعلهم أقل عنفاً من اليهود الذين
أيدوا لينين في ذلك. ولم يكن هناك أي
فرق، سواء أسمى هؤلاء اليهود أنفسهم (الأقلية)
العقائدية (المنشفية)، أم الأغلبية
الانتهازية (البلشفية)، فقد كانوا
جميعاً ماركسيين ثوريين متحدين على
هدف تدمير العالم المسيحي والأديان
كلها..
كان
لا بد أن تحدث انعكاسات غريبة للنزاع
داخل الحزب الشيوعي الروسي حول قضية (القومية
اليهودية). لا شك أن الأصل اليهودي
للحركة وعمل الجمعية الاشتراكية
اليهودية على إرساء دعائم الحزب
الشيوعي الروسي تعتبر حقائق تاريخية.
ولكن سبب انقسام الحزب إلى شقين أصبح
في السنوات التالية غريباً وغير محدد.
ولكن السبب الظاهر يبقى كما كان.. فقد
رأينا كيف أن اليهود يسيطرون على كلا
الشقين، البلشفي والمنشفي، والتقت
أيدي كلا الجناحين في كافة أنحاء
العالم على النشاطات الثورية. ولكن
الصراع الداخلي للسيطرة على الحركة لم
ينته. فحيثما تمكنت قبضة الشيوعية كان
الشيوعيون اليهود يتآمرون ويراوغون
للسيطرة. وقد كان اليهود، حتى وقت
هيمنة ستالين، يسيرون كلا من الحكومة
السوفييتية والحزب الشيوعي في روسيا(2).
وكان من أوجه الخلاف بين ستالين
وتروتسكي (ليون برونستين) قضية القومية
اليهودية وإجراءات ستالين الصارمة في
تصفية الكثير من المناشفة القدماء
وبعض البلاشفة، وكانوا كلهم تقريباً
من اليهود. ولكن اليهود الذين عارضوا
ستالين لم يعارضوا الشيوعية. وقد كان
أنصار تروتسكي ومازالوا من نفس نوعية
الشيوعيين الستالينيين. وقد نال
الكثير من الشيوعيين اليهود في السنين
الأخيرة شهرة واسعة لما كتبوه وتحدثوا
ضد ستالين. ويكشف الفحص الدقيق لهذه
الكتابات والبيانات حقيقة مذهلة، وهي
خلوها من التنديد بالعقيدة الشيوعية،
واقتصارها على التنديد بالستالينية
فقط.
وعندما
يخدم الأمر الأهداف الصهيونية، ويوضع
السوفييت في صورة (المعادين للسامية)،
ولكن التسمية لا تتهم الشيوعية أكثر من
اتهام الرأسمالية. وبينما لم يستطع بعض
اليهود تحمل حلف هتلر ـ ستالين، أصروا
على نشاطاتهم الثورية. ولكن الحقيقة،
مع ذلك، هي أن معظم اليهود الشيوعيين
ساروا مع خط الحزب، المتعرج بالتحالف
الهتلري ـ الستاليني، بدقة كبيرة.
إن
الغزو والاغتصاب الخالي من الرحمة
لفلسطين، بموافقة الأمم المتحدة
الخالية من الأخلاق، سيؤدي أخيراً إلى
تطورات مذهلة في العلاقات اليهودية ـ
السوفييتية. ولا يوضح المناورات
اليهودية في السنوات الأخيرة إلا فهم
الخلاف اليهودي ـ الشيوعي حول
القومية، كما جرى في البداية في بروكسل
بين لينين ومبعوثي الجمعية الاشتراكية
اليهودية.
|