تابع
كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة
فصل
شرط
التكفير بالتأويل
من
الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات
الظنون من غير برهان قاطع، ولا ينبغي
أن يبادر أيضاً إلى كفره، في كل مقام،
بل ينظر إليه، فإن كان تأويله في أمر لا
يتعلق بأصول العقائد ومهماتها، فلا
نكفره، وذلك كقول بعض الصوفية: إن
المراد برؤية الخليل عليه السلام
الكوكب والقمر والشمس، وقوله: (هذا ربي)
غير ظاهرها، بل هي جواهر نورانية
ملكية، ونورانيتها عقلية لا حسية،
ولها درجات في الكمال ونسبة ما بينها
في التفاوت، كنسبة الكوكب والقمر
والشمس.
ويستدل
عليه بأن الخليل عليه السلام، أجل من
أن يعتقد في جسم أنه آله، حتى يحتاج إلى
أن يشاهد أفوله.
أفترى
أنه لو لم يأفل أكان يتخذه إلها، لو لم
يعرف استحالة الإلهية من حيث كونه
جسماً مقدراً ؟
واستدل
بأنه: كيف يمكن أن يكون أول ما رآه
الكوكب، والشمس هي الأظهر، وهي أول ما
يرى ؟
واستدل
بأن الله تعالى قال أولاً:
(وكذلك
نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض). ثم
حكى هذا القول. فكيف يمكن أن يتوهم ذلك
بعد كشف الملكوت له ؟ وهذه دلالات ظنية
وليست براهين.
أما
قوله: (هو أجل من ذلك) فقد قيل: (إنه كان
صبياً لما جرى له ذلك، ولا يبعد أن يخطر
لمن سيكون نبياً في صباه، مثل هذا
الخاطر، ثم يتجاوزه على قرب، ولا يبعد
أن تكون دلالة الأفول على الحدوث عنه،
أظهر من دلالة التقدير والجسمية.
وأما
رؤية الكوكب أولاً، فقد روي أنه كان
محبوساً في صباه في غار وإنما خرج
بالليل.
وأما
قوله تعالى أولاً:
(وكذلك
نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض).
فيجوز أن يكون الله تعالى، قد ذكر حال
نهايته، ثم رجع إلى ذكر بدايته.
فهذه
وأمثالها ظنون يظنها براهين من لا يعرف
حقيقة البرهان وشرطه.
فهذا
جنس تأويلهم، وقد تأولوا (العصا) و(النعلين)
في قوله تعالى:
(اخلع
نعليك) (وألق ما في يمينك).
ولعل
الظن في مثل هذه الأمور التي لا تتعلق
بأصول الاعتقاد يجري مجرى البرهان في
أصول الاعتقاد، فلا يكفر فيه، ولا يبدع.
نعم
إن كان فتح هذا الباب يؤدي إلى تشويش
قلوب العوام فيبدع به خاصة صاحبه في كل
ما لم يؤثر عن السلف ذكره.
ويقرب
منه قول الباطنية إن (عجل) السامري،
مؤول ؛ إذ كيف يخلو خلق كثير من عاقل
يعلم أن المتخذ من الذهب لا يكون إلهاً
؟
وهذا
أيضاً ظن، إذ لا يستحيل أن تنتهي طائفة
من الناس إليه كعبدة الأصنام، وكونه
نادراً لا يورث يقيناً.
وأما
ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد
المهمة، فيجب تكفير من يغير الظاهر
بغير برهان قاطع، كالذي ينكر حشر
الأجساد، وينكر العقوبات الحسية في
الآخرة، بظنون وأوهام واستبعادات من
غير برهان قاطع، فيجب تكفيره قطعاً، إذ
لا برهان على استحالة رد الأرواح إلى
الأجساد.
وذكر
عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل ما
تعلق به.
وهو
مذهب أكثر الفلاسفة.
وكذلك
يجب تكفير من قال منهم: إن الله تعالى
لا يعلم إلا نفسه.
أولا
يعلم إلا الكليات ؛ فأما الأمور
الجزئية المتعلقة بالأشخاص، فلا
يعلمها، لأن ذلك تكذيب للرسول صلى الله
عليه وسلم قطعاً. وليس من قبيل الدرجات
التي ذكرناها في التأويل؛ إذ أدلة
القرآن والأخبار على تفهيم حشر
الأجساد، وتفهيم تعلق علم الله تعالى
بتفصيل كل ما يجري على الأشخاص، مجاوز
حد لا يقبل التأويل، وهم معترفون بأن
هذا ليس من التأويل.
ولكن
قالوا: لما كان صلاح الخلق في أن
يعتقدوا حشر الأجساد؛ لقصور عقولهم عن
فهم المعاد العقلي.
وكان
صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله تعالى
عالم بما يجري عليهم، ورقيب عليهم
ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم.
جاز
للرسول عليه السلام أن يفهمهم ذلك،
وليس بكاذب من أصلح غيره، فقال ما فيه
صلاحه، وإن لم يكن كما قاله.
وهذا
القول باطل قطعاً؛ لأنه تصريح بالكذب،
ثم طلب عذر في أنه لم يكذب. ويجب إجلال
منصب النبوة عن هذه الرذيلة، ففي الصدق
وإصلاح الخلق به مندوحة عن الكذب.
وهذه
أول درجات الزندقة، وهي رتبة بين
الاعتزال، وبين الزندقة المطلقة، فإن
المعتزلة يقرب منهاجهم من منهاج
الفلاسفة إلا في هذا الأمر الواحد هو:
أن
المعتزلي لا يجوز الكذب على الرسول
عليه السلام بمثل هذا العذر، بل يؤول
الظاهر مهما ظهر به بالبرهان خلافه.
والفلسفي
لا يقتصر في مجاوزته للظاهر، على ما
يقبل التأويل، على قرب أو على بعد.
وأما الزندقة المطلقة فهي:
أن تنكر أصل المعاد عقلياً، وحسياً.
وتنكر الصانع للعالم أصلاً
ورأساً.
وأما
إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام
واللذات الحسية.
وإثبات
الصانع مع نفي علمه بتفاصيل العلوم،
فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق
الأنبياء.
وظاهر
ظني ـ والعلم عند الله ـ أن هؤلاء هم
المرادون بقوله عليه السلام: (ستفترق
أمتي بضعاً وسبعين فرقة، كلهم في
الجنة، إلا الزنادقة) وهي فرقة. هذا لفظ
الحديث في بعض الروايات.
وظاهر
الحديث يدل على أنه أراد به (الزنادقة)
من أمته، إذ قال (ستفرق أمتي) ومن لم
يعترف بنبوته فليس من أمته.
والذين
ينكرون أصل المعاد، وأصل الصانع،
فليسوا معترفين بنبوته، إذ يزعمون أن
الموت عدم محض، وأن العالم لم يزل كذلك
موجوداً بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر، وينسبون
الأنبياء إلى التلبيس. فلا يمكن نسبتهم
إلى الأمة.
فإذن
لا معنى لزنادقة هذه الأمة إلا ما
ذكرناه.
فصل
ما
يكفر به وما لا يكفر به
اعلم
أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به،
يستدعي تفصيلاً طويلاً يفتقر إلى ذكر
كل المقالات والمذاهب، وذكر شبهة كل
واحد ودليل، ووجه بعده عن الظاهر، ووجه
تأويله. وذلك لا يحويه مجلدات، ولا
تتسع لشرح ذلك أوقاتي.
فاقنع
الآن بوصية وقانون.
أما الوصية:
فان تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك،
ماداموا قائلين لا إله إلا الله، محمد
رسول الله، غير مناقضين لها.
والمناقضة تجويزهم الكذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعذر، أو غير عذر، فإن التكفير فيه خطر.
والسكوت لا خطر فيه.
أما القانون: فهو أن تعلم أن
النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول
القواعد. وقسم يتعلق بالفروع.
وأصول الإيمان ثلاثة:
الإيمان بالله، وبرسوله، وباليوم
الآخر. وما عداه فروع. واعلم أنه لا
تكفير في الفروع أصلاً، إلا في مسألة
واحدة. وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من
الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر.
لكن في بعضها تخطئة، كما في
الفقهيات.
وفي بعضها تبديع، كالخطأ
المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة.
واعلم أن الخطأ في الإمامة،
وتعيينها وشروطها، وما يتعلق به، لا
يوجب شيئ منه تكفيراً.
فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب
الإمامة، ولا يلزم تكفيره.
ولا يلتفت إلى قوم يعظمون
أمر الإمامة، ويجعلون الإيمان بالإمام
مقروناً بالإيمان بالله ورسوله.
ولا إلى خصومهم المكفرين
لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة.
فكل ذلك إسراف ؛ إذ ليس في
واحد من القولين تكذيب للرسول صلى الله
عليه وسلم أصلاً، ومهما وجد التكذيب،
وجب التكفير، وإن كان من الفروع.
فلو قال قائل مثلاً: البيت
الذي بمكة ليس الكعبة التي أمر الله
بحجها، فهذا كفر، إذ قد ثبت تواتراً عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه.
ولو أنكر شهادة الرسول صلى
الله عليه وسلم لذلك البيت بأنه الكعبة
لم ينفعه إنكاره، بل يعلم قطعاً أنه
معاند في إنكاره، إلا أن يكون قريب عهد
بالإسلام، ولم يتواتر عنده ذلك.
وكذلك من نسب عائشة رضي الله
عنها إلى الفاحشة، وقد نزل القرآن
ببراءتها فهو كافر؛ لأن هذا وأمثاله لا
يمكن إلا بتكذيب الرسول، أو إنكار
التواتر.
والتواتر ينكره الإنسان
بلسانه، ولا يمكن أن يجهله بقلبه.
نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار
الآحاد، فلا يلزمه به الكفر.
ولو أنكر ما ثبت بالإجماع،
فهذا فيه نظر؛ لأن معرفة كون الإجماع
حجة قاطعة، فيه غموض يعرفه المحصلون
لعلم أصول الفقه.
وأنكر النظام كون الإجماع
حجة أصلاً، فصار كون الإجماع حجة
مختلفاً فيه.
فهذا حكم الفروع.
وأما الأصول الثلاثة، وكل
ما لم يحتمل التأويل في نفسه، وتواتر
نقله، ولم يتصور أن يقوم برهان على
خلافه، فمخالفته تكذيب محض.
ومثاله: ما ذكرناه من حشر
الأجساد، والجنة والنار، وإحاطة علم
الله بتفاصيل الأمور.
وما يتطرق إليه احتمال
التأويل، ولو بالمجاز البعيد، فننظر
فيه إلى البرهان:
فإن كان قاطعاً، وجب القول
به.
ولكن إن كان في إظهاره مع
العوام ضرر، لقصور فهمهم، فإظهاره
بدعة.
ولم يكن البرهان قطعياً،
لكن يفيد ظناً غالباً، وكان مع ذلك لا
يعلم ضرره في الدين، كنفي المعتزلة
الرؤية عن الله تعالى، فهذه بدعة، وليس
بكفر.
وأما ما يظهر له ضرر، فيقع
في محل الاجتهاد والنظر، فيتحمل أن
يكفر، ويحتمل أن لا يكفر.
ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من
يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين
الله تعالى، أسقطت عنه الصلاة، وأحلت
له شرب الخمر والمعاصي، وأكل مال
السلطان.
فهذا ممن لا شك في وجوب
قتله، وإن كان في الحكم بخلوده في
النار نظر. وقتل مثل هذا أفضل من قتل
مائة كافر، إذ ضرره في الدين أعظم،
وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد. وضرر هذا، فوق
ضرر من يقول بالإباحة مطلقاً، فإنه
يمنع عن الإصغاء إليه ظهور كفره.
وأما هذا فإنه يهدم الشرع من
الشرع، ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا
تخصيص عموم، إذ خصص عموم التكليفات بمن
ليس له مثل درجته في الدين.
وربما يزعم أنه يلابس
ويقارف المعاصي بظاهره، وهو بباطنه
بريء عنها، ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل
فاسق مثل حاله، وينحل به عصام الدين.
ولا ينبغي أن يظن أن التكفير
ونفيه ينبغي أن يدرك قطعاً في كل مقام.
بل التكفير حكم شرعي، يرجع
إلى:
إباحة المال. وسفك الدم.
والحكم بالخلود في النار.
فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام
الشرعية:
فتارة يدرك بيقين. وتارة بظن
غالب. وتارة يتردد فيه.
ومهما حصل تردد، فالوقف فيه
عن التكفير أولى. والمبادرة إلى
التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب
عليهم الجهل. ولا بد من التنبيه على
قاعدة أخرى، وهي أن المخالف: قد يخالف
نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، ولكن
ذكر تأويله لا انقداح له أصلاً في
اللسان، لا على بعد، ولا على قرب، فذلك
كفر، وصاحبه مكذب، وإن كان يزعم أنه
مؤول.
مثاله: ما رأيت في كلام بعض
الباطنية:
إن الله تعالى واحد، بمعنى
أنه يعطي الوحدة ويخلقها.
وعالم، بمعنى أنه يعطي
العلم لغيره ويخلقه.
وموجود، بمعنى أنه يوجد
غيره.
وأما أن يكون واحداً في
نفسه، وموجوداً، وعالماً، على معنى
اتصافه، فلا. وهذا كفر صراح ؛ لأن حمل
الواحد على إيجاد الوحدة، ليس من
التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب
أصلاً.
ولو كان خالق الوحدة يسمى
خالقاً ؛ لخلقه الوحدة لسمي ثلاثاً،
وأربعاً؛ لأنه خلق الأعداد أيضاً.
فأمثلة هذه المقالات،
تكذيبات، عبر عنها بالتأويلات.
|