قسم
الترجمة والمتابعة
كتاب:
ما بعد عرفات ؟
مستقبل
السياسات الفلسطينية
روبرت.
ب. ساتلوف
مقدمة
بعدما أصبح فيدل
كاسترو يرتدي بشكل مستمر بدلات مزدوجة
الصدر عند استقباله ذوي المقامات
الرفيعة من الضيوف، أو عند توجهه لحضور
الحفلات الدولية، أصبح بإمكان الزي
الذي يرتديه ياسر عرفات أن يدّعي بحق
لقباً مثل (آخر ثوريي العالم). في هذه
الناحية، كما في نواحي كثيرة أخرى، لا
يوجد وريث لعرفات؛ لا أحد من
المتنافسين على خلافته.. إذا كان الفعل
مناسباً للوصف.. ارتداء زي رسمي، ليس
زياً عسكرياً، ولا ثوباً أمنياً، يصنع
توقعات عظيمة بين المراقبين الغربيين
والإسرائيليين. عندما يموت عرفات، فإن
حاملي النعش سيرتدون إما سترات وربطات
عنق، وكوفيات مخططة، أو ملابس دينية
تقليدية.. ولكن القليل منهم هذا، إن
وجدوا أصلاً، سيرتدون زياً كزيه. بقدر
أي تغيير آخر، فإن هذا التغيير يرمز
للإمكانية.. وكذلك للخطر.. الذي ينتظر
السياسات الفلسطينية في الفوضى
المسيطر عليها، والتي يرجح أنها ستحدث
بعد وفاة عرفات.
إذا كان للتاريخ
أي دلالة، فإنه سيدلنا على أن المخاوف
من الحالة الأكثر سوءاً، والتي تدور
حول الانحدار إلى حالة فوضى سياسية في
أعقاب وفاة عرفات مباشرة، هي مخاوف
مبالغ فيها، وفي غير محلها.
فرغم أن السلطة الفلسطينية ليست دولة
بالمعنى القانوني أو الرسمي، فإن
لديها بعضاً من أكثر الخصائص المميزة
للدول العربية الحديثة، والتي يمكن
استفادة دروس الخلافة منها. فهي دول
سلطوية، متمركزة بشكل كبير في شخص
القائد، تزينها وكالات أمنيّة
واستخباراتية متداخلة متنافسة فيما
بينها، وهي وكالات أقوى من عدة وجوه،
من القوات النظامية الاعتيادية.
ومع وجود عشرات الآلاف من البنادق،
والمسدسات، والبنادق الآلية تعوم حول
الضفة الغربية وغزة، فإن الغالبية
العظمى هي في أيدي حكومية أو أعضاء
تابعين للحكومة؛ إن الوحدات المسلحة
لجماعات المعارضة مثل حماس والجهاد
الإسلامي صغيرة جداً، تعد بالمئات.
بالإضافة إلى ذلك، فلا يوجد هناك تراث
لحرب أهلية أو مواجهة عنيفة واسعة
المدى للقوى في معظم الدول العربية.
بالنسبة للخلافة في العالم العربي،
فتقليدياً، كان هناك في الحكومات
العربية انقلابات واغتيالات، ولكن لم
يكن هناك ثورات. وعندما تواجه باحتمال
تغير راديكالي بإمكانه أن يسقط نظاماً
حاكماً بأكمله، فإن النخب غالباً ما
تجد طريقة لإيجاد خلفاء مناسبين (أو
ممكنين على الأقل) بدلاً من المخاطرة
بتعريض أنفسهم وطبقتهم لتغيير سياسي
إجمالي. هذا ما كان عليه الوضع في
الجمهوريات، مثل مصر، وكذلك في
الملكيات، مثل، السعودية العربية.
والوضع القابل لهذا غير موجود.. فلا
يوجد هناك مثال عن دولة عربية تتحطم
عندما يترك القائد، حتى وإن كان القائد
الأعظم، عندما يترك المسرح.
بين
السلطة والتغيير:
في الوضع
الفلسطيني الحالي، فإن الأراضي مقسمة
بشكل فعلي بالجنود الإسرائيليين،
والمستوطنات وبنى الطرق التحتية، إن
موت عرفات سيعني على الأرجح (اندفاعاً
نحو المتاريس) من قبل الشخصيات
السياسية الفلسطينية ومسؤولي الأمن،
ما يؤسف له، أنهم سيكونون جميعهم
رجالاً، في إطار تأثيره الخاص في الضفة
الغربية وغزة، وسيعملون على الأرجح
بالتنسيق مع بعضهم. سيكون الهدف الدفاع
عن سلطتهم الجماعية في الوقت الذي
يجمعون فيه شرائح سلطتهم وتأثيرهم
الفردي. وستظهر على الأرجح (قيادة
وطنية) للشخصيات السياسة والأمنية،
وسيلعب من له أسبقية دوراً أكثر عمومية
في بداية العملية، وسيتنازل عن السلطة
الحقيقية للأحدث عهداً مع تقدم الزمن،
وستكون كلماتها المتداولة للوحدة
الوطنية، والمحاسبة، والشفافية،
والمشاركة، والديمقراطية.. والتي
سيوجد منها قدر ضئيل في الواقع.
بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل، فإن
الجماعة ستمزج تراث عرفات
بالبراجماتية، في الوقت الذي سيقدمون
فيه تنازلات سياسية لم يكن عرفات يرضى
بتقديمها، فإنهم على الأرجح سيذهبون
إلى مدى أبعد من ذلك الذي وصل إليه
عرفات، في تلبية مطالب إسرائيل
الأمنية الفورية، خشية أن يقنع اختفاء
عرفات الإيقوني عدداً من الإسرائيليين
بأن المنافع الممكن إدراكها تستحق
تكاليف عمل عسكري ضد السلطة
الفلسطينية. في عهد عرفات لم يكن الحال
كذلك، ولكن في عهد خلفائه، فقد يؤخذ
بأسلوب عمل آخر.
وفقاً لهذا
التحليل، فإن السيناريو الأكثر
احتمالاً بعد رحيل عرفات مباشرة هو
حالة جمود سياسي فلسطيني.. لا سفك
جماعيا للدماء، ولا تلهف جماعيا على
التحرير، ولا جهود كثيرة في سبيل
التحرك للأمام (تجاه حكم أفضل أو تجاه
إصلاح في الديبلوماسية مع إسرائيل) ولا
في التحرك للخلف (تجاه صراع مفتوح، أو
التمسك بالحواجز، ضد إسرائيل).
إن الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها
سيكون الدافع الرئيسي للسياسات
الفلسطينية بعد عرفات، وهناك
القليل الذي تستطيع القوى الخارجية أن
تفعله ـ بما في ذلك الولايات المتحدة ـ
لتغيير الديناميكية المحلية ونتائجها.
الديناميكيات
ذات المدى الأبعد:
مع مرور الوقت،
فإن من المرجح أن يتغير الجميع. يعتقد
المتفائلون أن موت عرفات سيحرر
السياسي الفلسطيني أخيراً من القبضة
الممسكة بخناقه والتي ساعدت شخصية
الرئيس الفريدة في الاحتفاظ بها لجيل
كامل. وفقاً لهذه النظرية، فإن رحيل
عرفات سيدفع الفلسطينيين في اتجاهات
مختلفة: فأولئك الذين ينتمون إلى الضفة
الغربية وغزة سيؤكدون على مصالحهم
الداخلية؛ والمواطنون الفلسطينيون من
دولتين رئيسيتين: الأردن وإسرائيل،
سيؤكدون على مصالحهم الخاصة بشكل
منفصل عن المسألة الوطنية الأوسع.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا لن يزيد إلا في
جعل النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني،
الذي نعرفه، أكثر مطلاً. في نفس الوقت،
فإن السياسات المحلية في الضفة
الغربية وغزة يحتمل أن تتطور بطريقة
أكثر إيجابية مما كانت عليه في السنوات
الأخيرة. إن تأثيراً سلبياً جانبياً
ممكناً لهذا العملية يمكن أن يؤدي
بالتأكيد على الهوية الفلسطينية
بعد عرفات، في الأردن وإسرائيل إلى
تعقد السياسات تماماً في هذه البلدان.
مع امتداد خط هذه العملية، سيخسر
الفلسطينيون من الشرعية بغير أن يكون
عرفات رمزاً للقضية.
إن للسيناريو
الأكثر تشاؤماً ثقلاً تحليلياً كذلك.
وفقاً لهذه النظرة، فإن فشل عرفات
مزدوج.. فشله في تنمية جماعة من القادة
تخلفه، وفشله في الاستفادة من الفرص
الديبلوماسية لحسم النزاع الإسرائيلي
الفلسطيني.. هذا الفشل المزدوج سيترك
الوطنيين العلمانيين (أي فتح) بغير
قيادة ومتضائلي الأهمية. وفي فترة
الانقطاع بعد وفاته، سيملأ البديل
الإسلاموي الفراغ. والذي سيبدو أكثر
تجاوباً مع حاجات الشعب، وسيكون
متحرراً من استراتيجيات الماضي
الفاشلة. وستكون النتيجة أن النزاع بين
العلمانيين الذي ـ وإن يكن صعباً ـ فهو
يقبل التسوية نظرياً على الأقل بين
طرفين من الوطنيين، ستحل محله حرب
دينية عنيدة لا تقبل التسوية.. وجدير
بالملاحظة، أن العالم سيصبح في توق إلى
الأيام الخوالي.
فرصة
لواشنطن:
رغم كون عملية
الاستيلاء على السلطة بعد موت عرفات،
ستكون فوق نطاق تأثيرهم، إلا أن
اللاعبين الخارجيين بإمكانهم أن
يؤثروا في حصيلة عملية التغيير
السياسي الفلسطيني على المدى الطويل.
وستكون إسرائيل والأردن ومصر كلها ذات
تأثير بدرجات متفاوتة، وسيكون لدى
السعودية العربية وسورية أدوار
لتلعبها كذلك. والأمر البين أن
الولايات المتحدة بإمكانها أن تكون
محورية، طالما استمر صانعوا السياسة
الأمريكيون في تعلم الدروس من الماضي.
بعد توقيع
اتفاقيات أوسلو، عندما دعي إلى اجتماع
للحوار بين منظمة التحرير الفلسطينية
والولايات المتحدة بشكل رسمي، وتغيرت
العلاقات الأمريكية مع القيادة
الفلسطينية بين عشية وضحاها، واجهت
الولايات المتحدة ما بدا أنه كان
خياراً واضحاً، وإن يكن صعباً.
بإختصار، لقد كان هذا
خياراً بين التأكيد على الأمن (أي
التزام عرفات بشجب العنف والإرهاب
والعمل بشكل متعاون مع إسرائيل تجاه حل
متفاوض عليه لنزاعهم) أو الديمقراطية (أي
تنمية مؤسسات سياسية نيابية، مستقرة
ومتينة، تقوم بإنشاء حكومة قوية
وناضجة بشكل كاف لبناء علاقات سلمية مع
إسرائيل). وقد اختارت واشنطن الأمن في
النهاية، نتيجة لعدة قرارات من
التكليف والإغفال، فلم تحصل لا على
الأمن ولا على الديمقراطية. هناك
أسباب كثيرة لهذا الفشل، وتحليل شامل
خارج نطاق هذا التعريف.
إن
رحيل عرفات سيمد القحط الشرق أوسطي
بفرصة ثانية. نظراً إلى أن السياسات
الفلسطينية ستتمحور داخلياً عقب وفاته
مباشرة، ولن تسمح عملياً بأي تحرك
ديبلوماسي مع إسرائيل. وهذه هي تماماً
اللحظة التي ينبغي على الولايات
المتحدة أن تضغط فيها بأجندة أمريكية ـ
فلسطينية تؤكد على الديمقراطية،
والشفافية، والمحاسبة، وعلى احترام
صحي لحكم القانون. قد يجعلنا هذا على
خلاف مع أصدقائنا في المنطقة، هناك
قادة عرب يخافون من أن التركيز على
الديمقراطية للفلسطينيين قد ينذر
بتركيز على الديمقراطية في أنظمتهم.
وقد يرى القادة الإسرائيليون في هذه
الأجندة تغييراً عن التأكيدات
التقليدية على قضية الأمن، في حال لم
يتم متابعتها بشكل عملي. أما إذا توبعت
التطبيقات الأمنية بشكل حكيم وخلاق،
فإن تقارباُ جديداً في العلاقات
الأمريكية الفلسطينية لن تكون موضع
قلق حلفاء الولايات المتحدة العرب أو
إسرائيل؛ فبعد كل شيء فإن كل واحد فيهم
لن يتخلى عن الانتفاع من وجود فلسطيني
مستقر في سلام مع جيرانه. بالطبع فإن
هذه المقاربة الأمريكية الجديدة لا
يمكنها أن تكفل وحدها أن السيناريو
المتفائل هو الذي سيتحقق، ما إن ينتهي
صراع القوى. فبغير دفع ثابت ومنسق من
واشنطن.. العاصمة الأجنبية التي اهتم
بها القائد الفلسطيني في العقد
الأخير، أكثر من اهتمامه بأي عاصمة
أخرى.. فإن احتمالات (تحقق السيناريو
المتفائل تبقى ضعيفة في الواقع). إن
كيفية تجاوب واشنطن مع رحيل عرفات،
يعتمد بشكل كبير على أنباء
الديناميكيات السياسية الفلسطينية
الداخلية، في كلٍ من البعدين القصير
والمتوسط.
إن المقالات
الثلاث المختصرة في هذا المنشور ذي
الإضاءة السياسية الخاصة، تقدم
تحليلات وحسب. وكل قسم من هذه المقالات
كتبه مراقب قريب ومطلع على المشهد
الفلسطيني.
إيهود ياآري،
معلق تلفزيون إسرائيلي بارزفي
السياسات العربية والفلسطينية، ومؤلف
أول سيرة حياة لعرفات.
وآدم جارفنكل،
محرر المصالح الوطنية، ومؤلف لعدة
أعمال في تاريخ الشرق الأوسط
والسياسة، ومقرر معهد واشنطن لأكثر من
سنة في (مشروع دراسة تغيير القيادة في
العالم العربي)، والذي يعد هذا
المنشور جزء منها.
وخالد طعمة، كاتب
كبير في الشؤون الفلسطينية لصحيفة (تقرير
القدس) ومراسل خاص (لأخبار الولايات
المتحدة) و(تقرير العالم). وبدلاً من
العمل في مشروع واحد بشكل متعاون، دعي
المؤلفون لتقديم وجهات نظرهم الخاصة
حول متضمنات موت عرفات في السياسة
الفلسطينية، والتي تدور حول ماذا
سيجري بعد ذلك. وقد قدمت مساهماتهم
جميعاً التحليل الموجز أعلاه، والتي
تمثل وجهات نظر مختلفة، إلا أنها
متكاملة رغم ذلك، حول السياسة
الفلسطينية بعد عرفات. ويؤمل أن تشعل
هذه المقالات الثلاث نقاشاً تحليلياً
حول التطورات المحتملة في السياسة
الفلسطينية، وكذلك نقاشاً متزايداً
حول الفرص والتحديات التي سيشكلها هذا
التغيير بالنسبة لصانعي سياسة
الولايات المتحدة.
|