مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الاثنين 24 - 05 - 2004م

ــــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجسور |ـجديد الموقع |ـكتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحة اللقاء | البحث في الموقع |
ـ

.....

   
 

متابعات

معهد الشرق الألماني – هامبورغ

   ريموند آ. هينيبوش

    14 آذار 2004

سورية بعد حرب العراق:

بين الإصلاح الداخلي وهجوم المحافظين الجدد

ريموند آ. هينيبوش هو أستاذ العلاقات الدولية والسياسة الشرق أوسطية بجامعة سانت آندروز في سكوتلندة. وهو مؤلف لعدد من الكتب عن سورية، وعن السياسات الدولية المتعلقة بالشرق الأوسط. من هذه الكتب: "السلطة الشمولية وتشكيل الدولة في سورية البعثية: الجيش والحزب والفلاحون"، ويستفيو برس، باولدر – كولورادو،1990. و "سورية والعملية السلمية في الشرق الأوسط"، بالمشاركة مع آلاسدير دريسديل، منشورات مجلس العلاقات الخارجية، واشنطن دي سي، 1991. و "التحالف السوري الإيراني: القوى المتوسطة في نظام إقليمي مخترق"، بالمشاركة مع أنوشروان إحتشامي، روتليدج – لندن، 1997. و"سورية: الثورة من فوق"، روتليدج – لندن، 2001. و"السياسات الدولية في الشرق الأوسط"، منشورات جامعة مانشستر، مانشستر، 2003.

المحتويات

مدخل

1-  سورية بين تشكيل الدولة والضغوط المحيطية

2-  هجوم المحافظين الجدد على سورية

3-  الاستجابات السورية المترددة للتهديدات الأمريكية

4-  غزو العراق

5-  سورية وإسرائيل

6-  الدبلوماسية الدفاعية السورية

7-  التهديد الخارجي والسياسة الداخلية

8-  استنتاجات

موجز

 زاد الغزو الأمريكي للعراق من التهديد الذي تتعرض له سورية من قبل المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والذين يسعون لتجريدها مما بقي في يدها من الأوراق في صراعها مع إسرائيل على مرتفعات الجولان. وقد سلطت الحرب على الإرهاب ضوءا كاشفا على الملاذ الآمن الذي تقدمه سورية للفصائل الفلسطينية المقاتلة، وعلى دعمها لحزب الله، وعلى إمكانياتها في مجال الأسلحة غير التقليدية، في حين مكن الموقف السوري المناوئ لغزو العراق المحافظين الجدد من دمغ سورية بصفة الخصم للولايات المتحدة. لقد أضر الغزو الأمريكي للعراق بمصالح سورية مهمة، وبالتالي كان سيلقى نفس المعارضة من أية قيادة سورية.

وتهدد المطالب الأمريكية الموجهة لسورية بعد الغزو المصالح السورية الأكثر حيوية، بما في ذلك قدرتها الردعية في مواجهة إسرائيل، ودورها في لبنان، وشرعيتها القومية العربية. تحاول سورية تقديم تنازلات الحد الأدنى الضرورية أمام الولايات المتحدة لتجرد المحافظين الجدد من حججهم دون أن تستسلم لمطالبهم بشكل كامل. وتقدم دمشق نفسها كطرف لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار والتسوية السلمية في المنطقة. وقد أخّرت الضغوط الخارجية على سورية عملية الإصلاح الداخلي بدلاً من التعجيل بها. لكن دخول سورية الوشيك في الشراكة المتوسطية الأوروبية قد يؤدي إلى إعادة إطلاق تلك العملية.

مقدمة

في الوقت الذي كان فيه الإصلاح في سورية يتقدم حثيثاً، وكان على الرئيس الإصلاحي أن يقوّي سلطاته، جاء الغزو الأمريكي للعراق ليزيد التهديد لاستمرار النظام السوري نفسه. فلم يكن هجوم "المحافظين الجدد" في واشنطن موجها ضد نظام صدام حسين بشكل حصري على الإطلاق، بل كان يستهدف إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط كله. وفي حين برروا هجومهم بالحرب على الإرهاب، فإنهم لم يخفوا رغبتهم باستخدام القوة الأمريكية لخدمة إسرائيل والسيطرة على احتياط النفط في المنطقة: فبعد احتلال العراق وخضوع كل الأنظمة العربية تقريبا لإملاءات الولايات المتحدة، تبقى سورية كإحدى العقبات الأخيرة في طريق إمبراطورية الشرق الأوسط الجديد الخاصة بالمحافظين الجدد[i]. بعد أن صار النظام محاصراً بين القوات الأمريكية في الشرق وإسرائيل في الغرب، صار بقاؤه متعلقاً بقدرته على لعب ما بقي بيده من أوراق بالمهارة القصوى.

 يشكل تحدي الرئيس بشار الأسد لواشنطن، بتناقضه الحاد مع السلوك الاسترضائي لكل الحكام العرب الآخرين، رصيداً من الشرعية ومسؤوليةً أمنيةً في آن واحد. وفي الوقت الذي تلعب فيه صورته الإصلاحية وعلاقاته الطيبة مع أوروبا دوراً حاسماً في درء عداوة المحافظين الجدد، لا يبدو الدور المتحدي الذي تلعبه سورية مدعوماً بقوة داخلية. لقد طالبت المعارضة الموالية بأن تكون ضمن حكومة وحدة وطنية لتقوية سورية في وجه الخطر الخارجي، لكن النخبة المحاصرة من الخارج لا ترغب بالمخاطرة بتغيير داخلي متزامن مع هذا الحصار.

1 - سورية بين تشكيل الدولة والضغوط المحيطية

 تتشكل الحدود العامة للسلوك السوري بفعل تفاعل بين تراكم المصالح المضادة للتغيير التي جعلها التطور التاريخي لسورية تترسخ مؤسساتياً في النظام، وبين التناقضات الداخلية والضغوط الخارجية الدافعة للتغيير. لقد أنتج تشكل الدولة السورية، الذي كان حصيلة التجزئة الإمبريالية لسورية التاريخية والاستيطان الصهيوني في فلسطين، واحداً من أكثر الميول التجديدية دواما في الدول التي خلفت الدولة العثمانية. فقد اعتلى حزب البعث سدة السلطة محمولا على موجة من الميل القومي لدى الطبقة الوسطى والفلاحين ألهبتها تلك التجربة المرّة. وترافق ترسيخ النظام البعثي مع تركز السلطة بيد مجموعة من الضباط يتزعمها حافظ الأسد الذي كان عليه، بفعل كونه منتميا للأقلية العلوية، أن يدافع عن شرعية جماعته بجعلها تظهر بمظهر المدافع عن قضية القومية العربية التي تجمعها مع الأغلبية السنيّة. ولقد جعل الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان عام 1967 سورية ملتزمة بالصراع مع إسرائيل لاستعادة تلك المنطقة.

وفي ظل الأسد، اكتسبت القومية طابعاً مؤسساتياً ضمن البنية الشمولية لدولة شبه لينينيّة أعطت الرئيس حرية كبيرة في تعديل الاجتهادات بما يناسب مصلحة "الأسباب الخاصة بالدولة"؛ وهذا ما خدم قدرة سورية على توازن أكثر فاعلية في مواجهة القوة الإسرائيلية رغم أنه لم يحظ دائما بالشعبية في أعين القوميين. كان التركيز على استعادة الجولان عبر مزيج من الوسائل العسكرية والدبلوماسية قطب الرحى في استراتيجية الأسد. وانخرطت سورية في العملية السلمية في السبعينات؛ وعندما فشلت تلك العملية السلمية، استخدم الأسد حزب الله ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان لجعل إسرائيل تدفع ثمن امتناعها عن مبادلة الأرض بالسلام. كما أضافت سورية "ورقة فلسطينية" لأوراقها الدبلوماسية بأن قدمت المأوى للمنظمات الفلسطينية المقاتلة.

وحتى الثمانينات، كانت التوجهات القومية السورية مدعومة بالأسلحة وبالحماية السوفييتية التي وازنت الدعم الأمريكي لإسرائيل وكانت رادعاً للقوة العسكرية الإسرائيلية. وبما أن هذه السياسة تتطلب موارد تفوق قدرات الاقتصاد السوري، فقد اعتمدت سورية على مساعدات كبيرة حققتها تحالفاتها مع الدول العربية النفطية ومع إيران. لكن، ومع نهاية الحرب الباردة، وتزامنها مع حرب الخليج عام 1991 تحول محيط سورية الخارجي إلى محيط شديد المعاداة لاستمرارها بسياستها الخارجية القومية. لقد مر على النخبة السياسية السورية عقد كامل من الكفاح للتأقلم مع هذه الحقائق الجديدة. فمع انعدام القدرة على الوصول إلى مقادير كبيرة من المساعدات الخارجية أو على التوازن بين القوى الكبرى، بدأ النظام السوري يحاول أن "يتدبر أمره"، أي أن يسترضي الهيمنة الأمريكية، لموازنة التهديد الإسرائيلي الأكبر خطراً من ناحية، والحصول على التأييد الأمريكي للتسوية الدبلوماسية. من هنا فقد انضم إلى تحالف حرب الخليج عام 1991 وشارك في العملية السلمية في مدريد التي كادت توصل سورية وإسرائيل إلى تسوية قائمة على مبدأ "الأرض مقابل السلام".

 في الوقت ذاته، أدى ركود الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة في ظل انخفاض العون الخارجي، مترافقاً مع النمو السكاني، إلى تآكل في نسبة الدخل القومي الخام إلى رأس المال. لقد فاقت نسبة النمو السكاني السورية، وهي 2.6% سنوياً متوسط معدل الدخل في البلاد، بينما تراجع دخل الفرد الذي بلغ 1010 دولار أمريكي عام 2001 إلى ما دون ذلك المعدل. ولم تكن نسبة الادخار المحلي الشديدة الانخفاض (10.4%)، ومعدل الاستثمار المحلي البالغ 17%، بكافيين لتجديد النمو المستديم.

ورغم أن بعض المساعدات التي أتت بها المقادير من حين لآخر، إضافة إلى الصادرات النفطية، قد أمنت وقاية من أزمة اقتصادية فورية، إلا أن النخبة أدركت أن الحل الوحيد كامن، على المدى البعيد، في الانفتاح على السوق الرأسمالي العالمي. كان النظام قد جرب، لبعض الوقت، إدخال الليبرالية الاقتصادية التي عنت إنعاش القطاع الخاص وتشجيع الصادرات والسماح بدخول الاستثمارات (وخاصة الاستثمارات المهاجرة)؛ لكن المخزون المتراكم من الاستثمار الخارجي لم يبلغ عام 1998 إلا 8% من الناتج القومي الإجمالي.[ii]

والواقع أن هناك عقبات ضخمة في طريق تحويل الاقتصاد السوري الذي تهيمن عليه الدولة. فالركائز الأساسية للنظام، وخاصة العلويّون المهيمنون سياسياً، شديدة الاعتماد على القطاع الحكومي وعلى تحصيل الريع من خلال هيمنة الحكومة على الاقتصاد، بينما يهيمن منافسوهم من رجال الأعمال السنيين على القطاع الخاص. ومن المؤكد أن الزيجات المتبادلة وعلاقات العمل كانت تدمج أقساماً من هاتين الجماعتين في برجوازية جديدة تحقق أرباحاً في القطاع الخاص. لكن هذه الطبقة مستمرة في كونها طبقة باحثة عن الريع، مستفيدة من احتكارات الاستيراد ومن العقود التي تضمنها الحكومة، وهذا ما سيتعرض للخطر في حال إطلاق المنافسة في سوق أكثر انفتاحا وشفافية.

ومن بين العقبات التي تعيق الاندماج في السوق العالمي "العقد الاجتماعي" الذي، بمقتضاه، تكون شرعية النظام مرهونة بتقديم الغذاء المدعوم، والتوظيف في القطاع العام الضخم، والأسعار التشجيعية للمحاصيل الزراعية. لقد رفضت سورية تاريخياً، وانطلاقًا من المبادئ القومية، التغييرات البنيوية المفروضة خارجياً (صندوق النقد الدولي). إن قدرة النظام على نظام الولاء الذي يقوم عليه يجب أن تترافق مع انسحاب الدولة من الاقتصاد. وفوق هذا، فالاستثمار الخاص يحتاج إلى مناخ استثماري سلمي ومستقر مما يتطلب تسوية النزاعات الإقليمية. وهذا هو العامل الوحيد الذي يسمح بتفكيك دولة الأمن القومي القائمة على الريع ويخفف مظاهر البيروقراطية وانعدام حكم القانون التي ترافقت معها. ويرى دعاة الإصلاح أن الحل قائم على مزيج من التكامل الاقتصادي التدريجي مع الشركاء التجاريين العرب وأوروبا، وتدفق الاستثمارات المهاجرة والأجنبية، يتبع التسوية السلمية في المنطقة.

كان من المتوقع على نطاق واسع أن يؤدي ضعف القدرة على الحفاظ على الحالة الراهنة إثر تغير القيادة عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد، إلى نقطة تحول تطلق الضغوط المكتومة المطالبة بالتغيير. وقد اعتبر بشار الأسد ممثلاً لجيل جديد يحمل رؤية "تحديثيّة" تتضمن إحلال الليبرالية الاقتصادية، والتقليل من الفساد الساعي وراء الريع، إلى جانب الانفتاح على الغرب. والواقع أن وراثة بشار لدولة أقامها والده، مع بقاء معاونيه في مناصبهم، تعني أن سلطته الرئاسية تتطلب موافقة مراكز قوة متعددة: القيادة القطرية للحزب، والوزارة، والقيادة العليا للجيش، وأجهزة الأمن التي ما زالت تحت نفوذ الحرس القديم الذي تعين على الرئيس الجديد أن يتشاور معه ويقاسمه السلطة. لقد قام منطق بشار، في محاولته إضفاء بريق جذاب على ما اعتبره البعض ورطة له، على أنه ليس ديكتاتوراً قادراً على فرض طريق إصلاحي مقرر مسبقاً، بل عليه أن يعمل من خلال المؤسسات التي تتمثل فيها مصالح متعددة تعبر عن نفسها شرعياً برؤى متباينة قيّمة (طالما أن لا أحد يملك كل الأجوبة الصحيحة). كانت مهمته التأليف بين هذه الرؤى لصنع القرار والدفع باتجاه تطبيقه عبر عملية إصلاح تدريجي، لكنه متواصل. وكانت مشكلته الكبرى نقص الكوادر المدربة لتطبيق القوانين الإصلاحية الجديدة التي غالباً ما بقيت حبراً على ورق.[iii]

 ومع أن بشار قد عكف على تكييف النظام الدولتي (القائم على تحكم الدولة) مع العولمة عبر حملة مضادة للفساد، وتعيين عدد من التكنوقراط الإصلاحيين في الحكومة، وتقييد تدخل الحزب وقوات الأمن في الإدارة الاقتصادية، وكذلك عبر إقرار تشريعات تخلق إطار عمل صالح لاقتصاد أكثر توجهاً نحو السوق – بما في ذلك الموافقة على قيام المصارف الخاصة، إلا أنه لم يقم بأي هجوم مباشر على الطبقة الجديدة من "الرفاق والأقارب الرأسماليين"، طبقة التحالفات الباحثة عن الريع والمؤلفة من السماسرة السياسيين العلويين (والذين تتزعمهم الآن أسرة والدته – أسرة مخلوف)، ولا على طبقة البرجوازية السنيّة المساندة للنظام التي منع فسادها الخانق القابض على الاقتصاد من وجود استثمارات أكثر إنتاجية. ولم يكن إصلاح بشار التدريجي كافياً لتشجيع الاستثمارات الخاصة الجديدة المهمة التي كان لا بد منها لإعطاء الاقتصاد دفعة محركة.

 وفي الوقت الذي شجع فيه بشار المجتمع المدني على التعبير عن النقد البناء، وهو ما بدا وكأنه مسعىً لتشجيع القوى التي يمكن أن تدعم مشروعه الإصلاحي، وعندما بدأ هذا ينذر بالاتساع ليصبح نقدا أوسع للنظام (بما في ذلك إرث والده الذي يستمد شرعيته الخاصة منه)، وعندما بدأ الأمر ينذر بتسليط الضوء على النشاط الفاسد لأقطاب النظام، أصر الحرس القديم وأجهزة الأمن على تشديد قبضة بشار بالاتجاه المعاكس. لقد أغلق ذلك طريقاً محتملاً كان يمكن لبشار أن يستعيد من خلاله شرعية النظام المتهاوية وأن يعزز من سلطته لصالح الإصلاح.

كان من المحتم إذن، أن تكون استراتيجية بشار تدرّجيةً: إحالة الحرس القديم إلى التقاعد وترقية جيل أكثر شباباً في صفوف الجيش وقوات الأمن ممن يدينون بالفضل له. ولكن ليس من الواضح إن كان هؤلاء "الشباب" متحمسين للإصلاح الذي يبتغيه أكثر من الحرس القديم.

 كانت البيئة الخارجية المعادية عاملاً مساهماً في منع إصلاحات أكثر أهمية: فشل عملية السلام السورية الإسرائيلية في اجتماع الأسد – كلينتون في 26 آذار 2000؛ التدهور المستمر للعلاقات مع الولايات المتحدة؛ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وصعود نجم شارون المتشدد في إسرائيل. ومع غياب التسوية السلمية عن جدول الأعمال، وبالتالي غياب إمكانية التعويل على أن إحلال الليبرالية الاقتصادية سيعني إنقاذاً سريعاً للاقتصاد، اختار النظام أن يحتاط للخسارة بانتهاج استراتيجيتين بديلتين. تمثلت الأولى في تعميق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع أوروبا على المدى البعيد. أما الثانية فكانت إجراءاً قريب المدى يقوم على الانفتاح الاقتصادي على العراق في ظل صدام. لكن أحداث الحادي عشر من أيلول، بحفزها سياسة أمريكية تدخليّة جديدة في المنطقة تجسدت في غزو العراق واحتلاله، أغلقت الطريق أمام الاستراتيجية الإنقاذية الثانية جاعلة من الاستراتيجية الأولى أكثر مصيريّة بالنسبة للنظام. ومع أن هذا يجب، من حيث المبدأ، أن يسرّع من الإصلاح الداخلي على المستوى الاقتصادي، فإن تهديدات واشنطن قد أوقفته على المستوى السياسي.

2) هجوم المحافظين الجدد على سورية

 تراوحت سياسة سورية تجاه الولايات المتحدة في عهد حافظ الأسد بين الصدّ والقبول: كانت الولايات المتحدة الداعم الأساسي لإسرائيل، وكانت، بعد الحرب الباردة، الدولة الوحيدة القادرة على كبح جماحها والتوسط من أجل تسوية سورية إسرائيلية مقبولة. ومن هنا فقد سعت دمشق لأمرين معاً: التعاون مع واشنطن، والبحث عن تحالفات بديلة لابد منها للتوازن في مواجهتها.

 إن العلاقات التي كانت، ذات يوم، جيدة إلى حد معقول ومتنامية بفعل وجود سورية في العملية السلمية قد بدأت بالتدهور عندما فشلت تلك العملية، وذلك رغم أن وصول الأسد الشاب إلى الحكم لقي ترحيبا في واشنطن. فقد تدهورت العلاقات السورية الأمريكية تدهوراً نوعياً في ظل إدارة بوش الثاني. حيث تفارقت المصالح السورية والأمريكية بحدة عندما بدأ بوش السعي لعزل العراق تحضيراً للغزو المخطط له، بينما اتخذت سورية جانب بغداد وراحت تتلقى النفط العراقي خارج إطار نظام "النفط مقابل الغذاء". لقد أصبحت الولايات المتحدة، وخاصة بعد 11 أيلول، أكثر إلحاحاً على إغلاق مكاتب حماس والجهاد الإسلامي المسؤولتين عن تفجيرات انتحارية في إسرائيل، وهو ما قاومته دمشق رغم سعيها لتطرية الموقف الأمريكي عن طريق "المساعدة" في الحرب ضد الإرهاب عبر تبادل المعلومات الإستخباراتية.

لقد تشجعت سورية بفعل موقف بوش الأولي الرافض لقانون محاسبة سورية الذي كان قيد الإعداد في الكونغرس، وبفعل ما بدا أنه تسامح أمريكي تجاه الواردات النفطية العراقية لسورية و"الحوار" شبه الرسمي الذي نظمه معهد بيكر. لكن محاولة توفيق المصالح مع واشنطن غدت أصعب فأصعب مع تزايد نفوذ المحافظين الجدد الذين يتمركز معظمهم في البنتاغون. فقد ناصر هؤلاء، مدفوعين بعلاقاتهم الحميمة مع حزب الليكود الإسرائيلي، مبدأ فرض العقوبات على سورية أو استخدام القوة ضدها حتى قبل وصولهم للحكم. وقد أعطتهم أحداث 11/9 فرصاً جديدة لوصم أعداء إسرائيل بوصمة العداء لأمريكا. ومن هنا فقد راحوا يطمسون أي تمييز بين حزب الله الذي يهدد إسرائيل والقاعدة التي تهدد الولايات المتحدة. وفوق هذا، بدءوا بترويج مشروع إمبريالي محابٍ لإسرائيل في الشرق الأوسط.

وفي الوقت الذي كان فيه التناقض الأساسي في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية متمثلاً على الدوام في الحاجة لتبرير دعمها لإسرائيل بما يكفي لإدامة تحالفاتها العربية التي تضمن وصولها إلى النفط، فقد طرح المحافظون الجدد الخروج من هذه المتاهة. حيث تبنوا البرنامج التوسعي لحزب الليكود مزيحين جانباً الحاجة لمراعاة المصالح العربية وذلك عن طريق استخدام القوة العسكرية الأمريكية الطاغية للاستيلاء على حقول النفط العراقية ذات الأهمية المركزية. فباستخدام العراق قاعدة لها، يمكن للولايات المتحدة تخويف ما بقي من معارضة (من جانب سورية وإيران) أو إرغامها قسراً على القبول بسلام أمريكي يحابي إسرائيل.

ومن المؤكد أن المعتدلين الأمريكيين، المتمركزين في المراتب الوسطى في وزارة الخارجية والمخابرات المركزية وغيرها من الوكالات الحكومية، أبدوا تحفظاً واضحاً حول مواجهة عسكرية مع سورية التي أثبتت كونها حليفاً مفيداً في الحرب على الإرهاب. إلا أن المحافظين الجدد كانوا سعداء بالتضحية بمنافع التعاون السوري لقاء التزامهم بجدول أعمالهم الليكودي. وبإلغائهم أي تمييز بين المصالح الإسرائيلية والمصالح الأمريكية، فقد بدا أنهم يسعون تماماً إلى تدمير الأرضية المشتركة بين سورية والولايات المتحدة، وإلى عزل سوريا دبلوماسياً، وممارسة عقوبات اقتصادية وتهديدات، أو أعمال عسكرية لقلب النظام.[iv]

ومع ارتفاع نجم المحافظين الجدد في واشنطن بعد النجاحات العسكرية الأولية في العراق، تحولت بؤرة تركيزهم صوب سورية. ففي غمرة شعورهم بالنصر، بدوا وكأنهم على وشك استخدام معاداة سورية لمغامرتهم العسكرية كوسيلة لحشد التأييد للهجوم العسكري عليها. فقد شنّ وزير الدفاع رامسفيلد ونائبه وولفويتز وغيرهم حملة من الاتهامات لسورية بأنها تساند مقاومة الغزو.[v] وقامت الولايات المتحدة بقصف المركز التجاري السوري في بغداد. وكان أول ما قامت به في العراق هو إغلاق أنبوب النفط الذاهب إلى سورية، والذي كان يشكل مصدر دخل شديد الأهمية لدمشق في السنوات الماضية. وعندما سئل بوش عمّا إذا كان يجب على القوات الأمريكية أن تستدير ناحية سورية الآن، أجاب: "لكل وضع إجابة مختلفة، علينا بالأهم أولا؛ إننا نتوقع تعاوناً من سورية".[vi]

وصار حتى المعتدلين من أمثال كولن باول يريدون استغلال التهديد الذي يمثله الحضور العسكري للولايات المتحدة في العراق لطرح مطالب كبيرة على سورية. فعند اندلاع الحرب أخبر باول لجنة العمل السياسي الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) أن سورية ستتحمل العواقب إن هي لم تكفّ عن دعمها للإرهاب ولنظام صدام حسين المحتضر. لقد أثار مجرد اهتمام باول بزيارة دمشق بعد النصر الأمريكي انزعاج المحافظين الجدد مع أنه جاء مدججاً بالمطالب: طرد الفصائل الفلسطينية، وتجريد حزب الله من سلاحه، والانسحاب من لبنان، والتعاون مع نظام الاحتلال في العراق. وقالت الإشاعات أنه قد ذهب في مطالبه إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ طالب بتسليم القائد الفلسطيني أحمد جبريل واثنين من رؤساء أجهزة المخابرات السورية المتقاعدين وهما محمد الخولي وعلي دوبا. تضرب هذه المطالب أهم المصالح الحيوية السورية: أوراقها في الصراع من أجل الجولان، ومجال نفوذها في الشرق، ومكانتها القومية في العالم العربي، واستقرارها الداخلي. وما من حكومة سورية يمكن أن تتقبلها إلا تحت أشد حالات الخطر الوشيك.

والأسوأ من ذلك هو أن تلك المطالب قد قدمت بأسلوب المنتصر الذي يجعلها تقابل بالرفض حتماً. لقد أخبر باول الصحافة الأمريكية أنه "ما من أوهام في ذهن الرئيس بشار حول ما نريده من سورية"، وأن واشنطن ستراقب أداءه. وكانت الملاحظة التي قدمها البنتاغون قبيل زيارة باول بالغة الدلالة على واقع الحال عندما صرح قائلاً "لسنا قادمين بجزرة في يدنا". أما المتحدثة باسم الخارجية السورية بثينة شعبان فقد ردت بالقول أن سورية راغبة بالمساهمة في الحلول الإقليمية لكنها لا تتحمل إملاءات الولايات المتحدة. فالتعاون يحتاج "علاقة حقيقية على قاعدة الكرامة المتكافئة"[vii]. وقد تكفلت الإغارة التي قام بها الأمريكيون داخل الحدود السورية في حزيران، والتي أسروا فيها بعض الجنود السوريين، بإبقاء الضغط مسلطا على دمشق.

حاولت سورية التكيف مع السياق الجيوسياسي المثبط الذي تواجهه: فمع وجود القوات الأمريكية على أرض العراق، ومع الأنظمة العربية العميلة الساعية لاسترضاء رغائب واشنطن كائنةً ما كانت، حاولت سورية تجريد المحافظين الجدد من حججهم وخاصة بإغلاق حدودها مع العراق. وإثر ذلك، خففت واشنطن من لهجتها المعادية لسورية مع قول بوش بأن سورية قد فهمت الرسالة وأدركت أن عليها أن تتعاون. وفي كل الأحوال، فقد سعى المحافظون الجدد بعد تحولهم إلى الدفاع، بسبب فشلهم في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وبفعل المقاومة العراقية ضد الاحتلال، إلى تحويل الأنظار عن هذا الفشل بإلقاء التبعة على سورية[viii].

وبحلول صيف 2003 راحت واشنطن تدّعي بأن سورية لم تستجب لمطالبها، وقد وصف مستوى التوتر آنذاك بأنه يقارب "أزمة أمريكية سورية".[ix] ومع أن الحدود السورية العراقية كانت مغلقة، ومع أن سورية لم تعارض ما سمي "خريطة الطريق" المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط والتي استُبعدت منها نزولاً عند رغبة إسرائيل، ومع أن حزب الله كان قد امتنع إلى حد كبير عن تحدي إسرائيل في الجنوب اللبناني بفعل ضغوط شديدة من سورية وإيران، ومع أن الفصائل الفلسطينية كانت قد أقفلت مكاتبها في دمشق، فقد تم رفض المساعي السورية الهادفة لإطلاق الحوار. وقد أورد الصحفي آندرز ستريندبيرغ أن الدبلوماسيين العاملين في دمشق يعزون ذلك إلى رغبة واشنطن بإذلال سورية بسبب معارضتها غزو العراق.[x]

إضافة إلى هذا، أدت معارضة الرئيس الأسد المعلنة للحرب، والادعاءات عن تورط أحد المقربين جداً منه في صفقات أسلحة للعراق قبل الحرب، إلى التقليل من رغبة وقدرة معتدلي واشنطن على المحاججة بأن بشار إصلاحي يستحق المساندة. وقد رأى ويليام بيرنز، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى أن "سورية تتوهم بأن خطوات تجميلية ستكون كافية لتهدئة قلقنا... وهذا آت من قناعة خاطئة مفادها أن انشغالنا في العراق، ومع الإسرائيليين والفلسطينيين، سيمنعنا من اتباع برنامج عمل شديد تجاه سورية". وقد أقر بيرنز بأن التعاون السوري ضد القاعدة في المراحل السابقة من الحرب على الإرهاب كان تعاوناً قيّماً وساهم في إنقاذ أرواح الأمريكيين، لكنه لم يكن كافياً ليرجح على الدعم السوري لجماعات إرهابية أخرى. أي تلك الجماعات التي تقاوم السيطرة الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية المحتلة.[xi]

تشكل قضية "أسلحة الدمار الشامل" المزعومة مثالاً نموذجاً عن محاولة المحافظين الجدد، ليس معاداة سياسات سورية محددة فحسب، بل تهديد أهم المصالح الأمنية السورية واختلاق أزمة سورية أمريكية. ومع أن الصواريخ السورية المزودة بالأسلحة الكيميائية ليست إلا وسائل ردع دفاعية لا بد منها لضمان أمن سورية في مواجهة العسكرية الإسرائيلية ذات التفوق الساحق والمزودة بالسلاح النووي؛ ومع أن تلك الصواريخ السورية لا تشكل تهديداً لأحد، ومع أنها عامل أساسي في توازن القوى الذي حافظ على السلام لعشرين سنة على امتداد الحدود السورية الإسرائيلية، فإن المحافظين الجدد قد حاولوا مراراً تصوير القدرات السورية كتهديد لاستقرار الشرق الأوسط، بل للولايات المتحدة نفسها. فقد ادعى معاون وزير الخارجية جون بولتون المعروف بتأييده لأرييل شارون أنه، "وبعد نزع أسلحة العراق، فإن الولايات المتحدة ستستهدف سورية وإيران"، وأن سورية لا تطور أسلحة كيميائية وبيولوجية فحسب، بل أنها تسعى للحصول على تقنيات ذات صلة بالسلاح النووي: "ما من خطر على بلادنا اليوم أكبر من الدول التي ترعى الإرهاب وتمتلك – أو تأمل في امتلاك – أسلحة الدمار الشامل". كما ادعى المحافظون الجدد، ومن دون أي دليل ملموس على الإطلاق، بأن بعض مواد برنامج التسلح العراقي قد نقلت إلى سورية. لقد اعترضت المخابرات المركزية الأمريكية، وغيرها من الجهات الأمنية، بقوة على رأي بولتون، خاصة وأنه قد اكتسب سمعة سيئة من ناحية إقدامه على ليّ عنق الحقيقة لصالح جدول أعمال المحافظين الجدد.[xii]

 ومع أن المحافظين الجدد كانوا يستخدمون نفس "أسلحة الخداع الشامل" التي سبق لهم استخدامها بنجاح كامل في العراق، فإن سورية – وبعكس العراق – لم يسبق لها أن استخدمت أسلحة كيميائية ولم تنتهك قراراً لمجلس الأمن يأمرها بنزع أسلحتها غير التقليدية. وعلى عكس إسرائيل التي تنتهك قرار مجلس الأمن رقم 487 الذي يدعوها لوضع منشآتها النووية في عهدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن سورية من الموقعين على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وقد "قبلت كامل إجراءات التحقق من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية".[xiii]

ورداً على حملة المحافظين الجدد، رفض وزير الخارجية فاروق الشرع أي تفتيش على الأسلحة على الأراضي السورية، لكنه أعلن عن استعداد سورية لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من كل أنواع أسلحة الدمار الشامل تحت إشراف الأمم المتحدة. وقد قدمت سورية مشروع قرار بهذا المعنى إلى مجلس الأمن لكن واشنطن لم تعره اهتماماً. كان هدف المحافظين الجدد فرض نزع تسلح من جانب واحد على سورية، مما يتركها عرضة للقوة الإسرائيلية وضعيفة أمام تسوية سلمية مفروضة إسرائيلياً.

 كان ما يدعى "قانون محاسبة سورية" دليلاً قوياً على استمرار سلطة المحافظين الجدد، وهو القانون الذي تم إقراره في خريف 2003 بعد أن كان قد واجه معارضة البيت الأبيض أول الأمر. لقد تلقى هذا القانون دفعاً في الكونغرس من تحالف ضم الإيباك والتحالف الأصولي المسيحي اليميني وأتباع الجنرال الماروني السابق عون. ولم يسمح لأي معارض للقانون بالإدلاء بشهادته في جلسة الاستماع، بينما سمح لأمثال عون والمقاتل في سبيل الليكود دانييل بايبس بقول كلمتهم. وشكل ادعاء زعيم الأغلبية توم دالانيز، بأن سورية تشن حرباً على العالم المتحضر وأنها خطر على جميع الأمم الحرة، مثالاً على نوعية النقاش الذي دار في الكونغرس. وكما عبر زونز، فإن القانون كان "مليئاً بالمغالاة والمعايير المزدوجة لدرجة أنه يهدم مصداقيته بنفسه. وفي الحقيقة، ربما كان هدفه الأول إعطاء صورة شيطانية لحكومة جريمتها الكبرى هي رفض تقديم الدعم للسياسة الخارجية لإدارة بوش في الشرق الأوسط".[xiv]

فرض القانون حظراً على بيع سورية تقنيات ذات "استخدام مزدوج" وخول الرئيس سلطة اختيار عقوبات إضافية من قائمة تضم ستةً منها. تضمن ذلك حظراً على الصادرات، ومنع الاستثمارات الأمريكية في سورية، وقيوداً على الدبلوماسيين السوريين في الولايات المتحدة، ومنع الطائرات السورية من الطيران في الأجواء الأمريكية، وخفض الصلات الدبلوماسية مع سورية، وتجميد الموجودات السورية في الولايات المتحدة. والرئيس مخول أيضا بإرجاء هذه التدابير لستة أشهر لأسباب تتعلق بالأمن القومي. إن آثار هذا القانون "متعلقة بكيفية تطبيقه من قبل الرئيس بوش"، كما علق بشار الأسد. لكن، وكما حذر أحد المعلقين، فإن القانون يقدم جملة من حجج الحرب في حال قرر بوش هذا الخيار.[xv]

 إن سورية بأمان من العقوبات الأمريكية على المدى القريب بفعل الوضع الاقتصادي الصحي نسبياً. فالدخل العائد من أسعار النفط المرتفعة والموسم الزراعي الجيد قد أعطيا نموا بنسبة 3.3% عام 2002. أما الاحتياطي السوري من العملات الأجنبية فهو الثالث بين الاحتياطيات العربية ويبلغ 12-17 مليار دولار، وجاء القسم الأكبر منه من أرباح أنبوب النفط العراقي. كما أن الميزان التجاري رابح، ومعدل خدمة الديون منخفض. وهناك حقول غاز ضخمة تنتظر الاستثمار، لكن هذا معتمد على الاستثمارات الأجنبية وعلى التقنية التي يمكن للعقوبات الأمريكية منعها. ويمكن لقطاعي الاتصالات والنفط أن يشهدا تحولاً عن المعدات أمريكية الصنع، كما أن عدداً من الشركات النفطية الأمريكية لها مشاريع مشتركة مع الشركات السورية، أو أنها قد وقعت عقودا لاستكشاف واستثمار النفط وهذا ما يمكن أن يتأثر بالعقوبات. لكن القانون لم يمنع الشركات الكندية والروسية من توقيع عقود جديدة مع وزارة النفط السورية.[xvi]

3) الاستجابة السورية المترددة تجاه التهديد الأمريكي

في الفترة التي تلت تولي بشار الأسد السلطة، بدت نخبة السياسة الخارجية السورية موحدة في تفكيرها الدبلوماسي. لقد سرّع بشار من السياسة التي بدأت في عهد والده، حيث واصل إصلاح الأسوار الإقليمية وتنويع العلاقات مع عدد كبير من الدول، بحيث نجح في انتشال سورية من العزلة الذي كان موقفها القومي من الصراع العربي الإسرائيلي يهدد بوقوعها فيها من حين لآخر.لكن تلك النخبة لم تبد واثقة الخطى في مواجهة التهديدات الأمريكية الأخيرة. ففي غياب سلطة حافظ الأسد التي لا منازع لها في قمة الدولة، وفي خضمّ ضغوط خارجية غير مسبوقة، أنتج الحكم المكون من رئيس غير مجرّب وقيادة جماعية ساعية وراء المكاسب، تردداً وحالات عدم انسجام في سياسة الدولة. تسرب غضب الرأي العام تجاه سلوك الولايات المتحدة (ذلك الرأي العام الذي كانت العملية السياسية معزولة عنه بفعل السياسة الواقعية لحافظ الأسد) عبر شقوق النظام جاعلاً شرعية النظام غير قابلة للتعايش مع الخضوع للإملاءات الأمريكية. ومع هذا فقد بقيت مصلحة بقاء النظام تفرض شيئاً من التوفيقية مع واشنطن.

 كان انعدام الانسجام في السياسة السورية بيّناً في تعرجات السياسة وشللها. وربما كان غياب الوفد السوري عن تصويت مجلس الأمن الدولي على القرار 1483 راجعاً لخلاف بين وزير الخارجية فاروق الشرع، مدعوماً بالقسم الأكبر من الحزب الذي كان معارضاً للقرار بوصفه تشريعاً للغزو، والرئيس الذي لم يكن راغباً في وضع سورية خارج إجماع مجلس الأمن وجعلها تعمل منفردةً في نهاية الأمر. وأوحت الرسائل السورية المشوشة وغير الفعالة والتي جاءت كرد على الغارة الجوية الإسرائيلية في تشرين الأول بانعدام القدرة على التنسيق السياسي في قمة الهرم ذاتها. وكما يقول الناقد فايز سارة "كان من المعتاد في عهد حافظ الأسد أن يقول الرئيس شيئاً فيكون. أما الآن فنسمع الرئيس يقول شيئاً، ووزير الخارجية يقول عكسه". ويدّعي سارة انعدام وجود تفكير استراتيجي، والقائم هو مجرد ردود أفعال محددة على أحداث محددة.[xvii]

ويبدو أن الضغط الأمريكي ولّد نزاعاً في صفوف النخبة، وهو ما يفترض أنه كان مخططاً له، رغم أن هذا النزاع لم يتبلور إلى انقسام ظاهر. إذ لايوجد أحد يقترح الانصياع الكامل لمطالب الولايات المتحدة، لكن بشار يود الحيلولة دون أن تصبح سورية عاجزة عن الانسجام مع الطموحات الأمريكية في المنطقة ويأمل باستغلال الخلافات داخل الإدارة الأمريكية عن طريق القيام ببعض التنازلات والمحافظة على خط الحوار مفتوحاً مع واشنطن. ويناصر البعض في الحرس القديم، وبعض عناصر الأجهزة الأمنية فكرة تقديم بعض التنازلات إن كانت ستؤدي لفكّ الولايات المتحدة حصارها عن النظام. أما وزير الخارجية الشرع، المقتنع بأن المحافظين الجدد ممسكون بزمام الأمور في واشنطن، فلا يرى مجالاً لتسوية الخلافات مع واشنطن. لقد أكسبته لغته المباشرة، وإن لم تكن دبلوماسيةً، احتراماً في الداخل لكنها ربما جعلت منه عائقاً دبلوماسياً. لقد انتقد عدد من رجال الأعمال العلويين النافذين كراهيته المعلنة للولايات المتحدة، وربما كان من المرجح أن يخسر منصبه لو لم تكن الولايات المتحدة هي من يطالب بذلك.

أما دعاة التسوية، الذين يقودهم الرئيس، فيسعون للتأثير في نظرائهم (غير الموجودين تقريباً) في واشنطن بفكرة أنه لا محلّ للتناقض بين المصالح السورية والأمريكية في المنطقة من حيث المبدأ. إن منع الإرهاب يتطلب نظاماً إقليمياً مستقراً وتسويةً للصراع العربي الإسرائيلي، وهذا متعذر التحقيق دون تعاون الولايات المتحدة مع أنظمة مستقرة ذات شرعية وطنية كالنظام السوري. إن تهدئة سورية للبنان الذي كان منبعاً لعدم الاستقرار الإقليمي والإرهاب، واستعدادها للسلم مع إسرائيل، ونموذجها العلماني متعدد الجماعات، ونجاحها في إزالة الأصولية الإسلامية العنيفة في الداخل، وتعاونها في مجال مقاومة الإرهاب، يجب أن يجعل منها شريكا طبيعياً للولايات المتحدة. أما ما يمنع هذا التعاون فهو، حسب رأيهم، السياسة الأيديولوجية اللا متوازنة التي تنتهجها الولايات المتحدة والتي، عبر دعمها غير المبرر لشارون وغزوها للعراق، تخدم المصالح الإسرائيلية وتعمل عكس مصالح الأمن القومي الأمريكي من حيث إثارتها الإرهاب عملياً.

يشير بشار الأسد إلى وجود انقسام في الولايات المتحدة بين العنصر العقلاني الذي يدرك المصالح الأمريكية، والذي تأمل سورية بالتوصل إلى تفاهم معه، والعنصر اللاعقلاني في البنتاغون الذي لا يفكر في العواقب حين يتصرف. ويصر بشار على "أن المشكلة الوحيدة بيننا وبين الولايات المتحدة هي موضوع إسرائيل". ربما يكون بشار قد فهم من المسؤولين الأمريكيين أن التعاون سيقابل بالمكافآت، وقد يرغب بعض مستشاريه بعرض مزيد من التنازلات، لكنهم يجدون فعل ذلك مستحيلاً عندما لا تقدم واشنطن شيئاً بالمقابل. وفي الواقع، ولأن التنازلات السابقة قد قوبلت بمزيد من الضغط، فقد صارت سياسة هؤلاء تفهم على أنها مجرد تشجيع للسياسة الأمريكية القائمة على المزيد من المطالب.[xviii] يبدو كثير من المسؤولين والمحللين السوريين مصابين باليأس جرّاء القبض على ناصية السياسة الأمريكية من قبل ما يرونه "عصابة المحافظين الجدد المحيطين بالرئيس بوش" من المتطرفين العنصريين المعادين للعرب. ومن هنا ذلك الرد المشهور للوزير الشرع على عدم استعداد واشنطن للاكتفاء بالتنازلات السورية بعد غزو العراق:

 "إن الضغط الخارجي الممارس ضد سورية هو أشد ما واجهته من ضغط. لا يحب الأمريكيون إلا من ينحني أمامهم. إن إدارة الرئيس بوش إدارة استثنائية. ربما شهد الماضي ما يشبهها، لكنه لم ير إدارة بهذا القدر من العنف والحماقة أبداً ... إن الولايات المتحدة تنتهك الشرعية الدولية المرة تلو المرة... "[xix]

وفي محاضرة له أمام الجبهة الوطنية التقدمية (المؤلفة من أحزاب موالية للنظام) قال الوزير الشرع أن استراتيجية سورية، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تربط أمنها الخاص بالشرعية الدولية في عالم كان يبدو عليه الانتقال إلى الأمن المؤسس على القانون الدولي. لكن الظاهر أن هذا الحكم كان متعجلاً فالولايات المتحدة تنتهج سياسة إمبريالية صريحة بالتحالف مع الصهيونية وهو ما يقلب قواعد النظام الدولي. وقد أشار وزير الدفاع مصطفى طلاس إلى أنه مع كون سياسة الولايات المتحدة مسؤولة عن معظم الإرهاب الدولي، فإنها تبرئ نفسها بإلقاء اللوم على الأنظمة العربية.[xx] وحتى بشار الأسد قال بأن الأمريكيين بغزوهم للعراق، قد "نزعوا أقنعتهم وقالوا أنهم يريدون النفط وأنهم يريدون إعادة رسم خريطة المنطقة بالانسجام مع المصالح الإسرائيلية".[xxi]

 مهما يكن من أمر، فإن المحللين وثيقي الصلة بالمنطقة يرون أن سورية تستطيع، من حيث المبدأ، انتهاج خط وسط بين التحدي اللا واقعي للقوة الأمريكية والاستسلام لإملاءاتها. وهم يرون أن سورية تملك ما يكفي من الأوراق، وخاصة موقعها المركزي بالنسبة للسلام العربي الإسرائيلي وللاستقرار الإقليمي واحتواء الإرهاب وضبط حزب الله الذي يملك قدرة أكيدة على إيذاء إسرائيل. وقد أخبر بشار جمهوراً من المستمعين الأمريكيين أن النجاح في إنجاز أي من هذه الأمور لن يكون ممكناً من غير تعاون سوري أمريكي. ستتعاون سورية مع الولايات المتحدة حيث تتقاطع مصالحهما مع احتفاظ سورية بحقها في رفض الخضوع لمطالب تضر بمصالحها هي.

لقد أدركت سورية أن صلاحية هذه الاستراتيجية متعلقة بما إذا كانت الصعوبات التي تواجهها واشنطن في العراق ستدفعها لإدراك حقيقة أن قوتها العسكرية غير كافية لإلغاء حاجتها للتعاون في المنطقة؛ والتعاون لا يقوم إلا على احترام متبادل مؤسس على السيادة. وتتعلق النخبة السورية أيضا بالرأي القائل بعدم استطاعة الولايات المتحدة اللجوء للقوة العسكرية ضد سورية، كما حدث بالنسبة للعراق، لأن سورية لم تخرق الشرعية الدولية، وليست واقعة تحت عقوبات دولية، ولديها تحالفات متنوعة على المستويين الإقليمي والدولي بما يجعلها غير معزولة أبداً. كما أنه ليس في سورية نفط كاف لتمويل احتلال أمريكي لها، وليس فيها معارضة مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة. وستواصل سورية التمييز بين عدوها الحقيقي، إسرائيل، وبين الولايات المتحدة التي تأمل دمشق منها أن تعود لسياستها العقلانية الأكثر توازناً.[xxii]

لقد استجابت السياسة السورية، عملياً، لتهديدات الولايات المتحدة بطريقتين، وهذا ما سنبينه في التحليل التالي. فقد كان من شأن التنازلات الكبيرة تهدئة المعتدلين، بل تهدئة بوش نفسه، وتجنب إعطاء المحافظين الجدد أية ذرائع، مع الاستمرار بالدفاع العنيد عن المصالح القومية الحيوية لسورية؛ ومن ناحية أخرى، انتهاج دبلوماسية قائمة على تنويع الروابط لتجنب العزلة الدولية التي مكنت الولايات المتحدة من استهداف العراق.

4) غزو العراق

سورية والعراق

لماذا أعطت سورية المحافظين الجدد فرصة إظهارها كعدو عبر معارضتها غزو العراق؟

يلقي بعض النقاد باللائمة على الرئيس قائلين أنه سعى لاستعادة شرعية أبيه كقائد للقومية العربية لكنه افتقر لفطنة حافظ الأسد الذي نجح في وضع سورية في الجانب الرابح أثناء النزاع العراقي الأمريكي عام 1991. لكن معارضة الولايات المتحدة كانت قراراً جماعياً من النوع الذي كان من شأن أية قيادة قومية الميل في دمشق أن تتبناه. فالغزو لم يتهدد مصالح حيوية سورية في العراق فحسب، بل كان مواجهة فاضحة للقيم القومية العربية المتجذرة في عميقاً التفكير السوري: فإن كان صدام هو المعتدي عام 1991، فإن سورية ترى اليوم بلداً عربياً يقع ضحية قوة إمبريالية تخدم المصالح الإسرائيلية.[xxiii]

وحتى قبل ولاية بشار، كانت سورية قد بدأت التقرب من العراق مدفوعة بعوامل جيو سياسية: إذ دفع فشل العملية السلمية حافظ الأسد للبحث عن اصطفافات جديدة. وكما أشار نائب الرئيس عبد الحليم خدام، كان العراق عمقاً استراتيجياً حيوياً لسورية في نزاعها مع إسرائيل. وقد مثلت نهاية العداء السوري العراقي إمكانية لتحويل ميزان القوى في المنطقة لغير صالح إسرائيل.

 لكن العلاقة كانت مدفوعة، وخاصة في عهد بشار، بعوامل جيو اقتصادية أساساً. فقد أدى تلقي سورية النفط العراقي الخام عبر الأنبوب العراقي السوري الذي أعيد تشغيله، وبسعر أدنى من سعر السوق، إلى تمكينها من تصدير كمية مماثلة من النفط بالسعر الدولي المرتفع، وهذا ما أعطى الحكومة دخلاً يصل إلى مليار دولار سنوياً. وكان هذا مصدّاً مهماً في وجه عجز الاقتصاد الدولتي عن الاستمرار بالحياة مما يمكّن النظام من متابعة الإصلاح الاقتصادي بالخطوات التدرجيّة التي تناسبه. أضف إلى هذا أن رجال الأعمال الموالين للنظام (وشركائهم من أهل السياسة) كانوا قد أبرموا عقوداً احتكاريةً سياسية لتزويد السوق العراقي، وهذا ما نفخ حيوية جديدة في شبكة زبائن النظام من الرأسماليين ذوي الحظوة لديه.

وأدت الترتيبات النفطية السورية العراقية، التي كانت تتم خارج نظام العقوبات المفروض من الأمم المتحدة وبشكل مخالف لجهود واشنطن التي فشلت في إدامة العزلة العراقية، إلى وضع سورية في خلاف مع إدارة بوش منذ بداية عهدها.[xxiv] لكن تصميم واشنطن الأكيد على إحداث التغيير في العراق هو ما ضرب قلب المصالح الاستراتيجية السورية. من المحتمل أن النظام السوري كان يمكن أن يقبل بإزاحة صدام حسين، الذي لم يكن يضمر أي حب له، لو كان ذلك سيمنحه فرصة استخدام صلاته بالمعارضة العراقية وضمن حزب البعث العراقي بما يضمن وجود نظام صديق له بعد صدام. ولكن إن كانت هذه الصفقة واردة مع إدارة أمريكية أخرى، فهي لم تكن كذلك مع المحافظين الجدد الذين أرادوا تحويل العراق إلى دولة عميلة معادية لسورية وموالية للصهيونية. ومن جهة أخرى، كانت دمشق واعية بأن نجاح المحافظون الجدد في العراق، سيعني أن دمشق هي التالية بشكل أو بآخر.

 فشل الدبلوماسية السورية

 من خلال موقعها كعضو في مجلس الأمن، وقفت سورية على نقطة الاتصال بين الميدانين العالمي والإقليمي. وقد حاولت، من هذا الموقع، بناء تحالف معاد للحرب بالانسجام مع روسيا وفرنسا وألمانيا داخل مجلس الأمن، وكذلك من خلال الجامعة العربية. لم تصوّت سورية لصالح القرار 1441، الذي مدد مهمة التفتيش على الأسلحة في العراق، إلا لتتجنب القطيعة مع حلفائها في مجلس الأمن آملةً أن تجرد المحافظين الجدد من ذرائعهم للحرب.[xxv] أما داخل الجامعة العربية فقد أثارت دمشق مسألة معاهدة الدفاع العربي المشترك والتي بمقتضاها يعتبر الهجوم على أي بلد عربي هجوماً على البلاد العربية كلها. لكنها – وبمزيد من الواقعية – لم تقل إلا أن وقف الحرب ممكن إذا رفضت الدول العربية السماح باستخدام أراضيها لشنّها (وهذا ما فعلته تركيا مؤثرة أشد تأثير على الرأي العام العربي كله). وعلى كل حال، فقد انتهى اجتماع الجامعة العربية الذي عقد في شباط 2003 نهاية قاسية بعد اتّهام الكويت رئيس الاجتماع اللبناني (المدفوع من قبل سورية) بالضغط الشديد لفرض قرار محرج للدول العربية التي تستضيف القوات العسكرية الأمريكية التي تعدّ لمهاجمة العراق. وفي القمة العربية في شرم الشيخ عشية الحرب، سأل بشار الأسد الحكام العرب إن كانوا راغبين بأن يذكر التاريخ أن بغداد قد دمرت مرتين: مرة على يد المغول بسبب ضعف العباسيين، ومرة في بداية القرن الحادي والعشرين بسبب ضعفهم هم.

كما أعاقت سورية خطة قطرية – كويتية لترتيب استقالة صدام حسين، وذلك لخشيتها من أن هذا سيقدم غطاءً عربياً للغزو.[xxvi] وفي كلمته أمام مجلس الأمن عشية الحرب، استشهد وزير الخارجية الشرع بإجماع ألمانيا والصين وفرنسا وروسيا على عدم وجود مبرر للحرب، وحاجج بأن تحقيق نزع أي نوع من السلاح العراقي ممكن عن طريق التفتيش الدولي الذي يتعاون معه العراق، وأنه لا بد من إشهار الشرعية الدولية في وجه تهديد واشنطن بشن حرب غير قانونية. وقال السفير السوري لدى الأمم المتحدة ميخائيل وهبة أنه يظن بأن الأدلة التي قدمتها واشنطن لمجلس الأمن بشأن الأسلحة العراقية أدلة مختلقة.[xxvii]

وسيؤكد الرئيس الأسد لاحقاً بأن التفتيش الدولي أوضح عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق.[xxviii] كانت أسلحة المار الشامل مجرد ذريعة، ولم يكن أي من جيران العراق يشعر بأنها تهديد له أو يرغب بالحرب ضد العراق. وقد شرح المعلقون السوريون كيف أن مطالبات إسرائيل ومصالح الشركات الأمريكية، التي ستستفيد من عقود إعادة الإعمار إن تم تدمير العراق، كانا القوة الرئيسية خلف تلك الحرب.[xxix]

 اعترف الشرع، في حديث له أمام الجبهة الوطنية التقدمية، بأن الدبلوماسية السورية قد فشلت: فالولايات المتحدة ماضية إلى الحرب، وسورية ضعيفة الأمل بأن تستطيع روسيا والصين وأوروبا إيقافها. لو كانت الدول العربية متحدة وصلبة في موقفها لاستطاعت ردع الولايات المتحدة، لكن الحالة النفسية للأنظمة العربية كانت على درجة من السوء بحيث جعلتها مستعدة لتقديم أي شيء رغم أنها ستدفع ثمن مخالفة رغبات شعوبها. إذن، فعلى سورية أن تعتمد على نفسها. لكنه أقر بأن التناقضات الداخلية تضعف موقفها. وقد أخبر الشرع البرلمان بأن الولايات المتحدة ذاهبة للحرب ضد إرادة الأمم المتحدة وضد القانون الدولي وأن لسورية مصلحة وطنية في هزيمة الغزاة.

أما مفتي سورية الأول أحمد كفتارو فقد حث المسلمين، في العالم كله، على "استخدام كل ما بوسعهم من العمليات الاستشهادية لهزيمة العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني على العراق". كما تظاهر زهاء نصف مليون من المحتجين على الحرب في دمشق.[xxx] ولاحظ بشار الأسد في مقابلة شهيرة مع جريدة السفير أن: "لا شك بأن الولايات المتحدة قوة عظمى قادرة على قهر بلد صغير نسبياً. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا لا تستطيعان السيطرة على العراق كله".[xxxi]

بين دعم المقاومة وتهديدات المحافظين الجدد

 لم تفعل سوريا، في الواقع، إلا القليل جدا لمقاومة الغزو. وما فعلته، تم سراً وعلى نحو متردد، وسرعان ما تراجعت أمام تهديد الولايات المتحدة. ولأنها توقعت أن يدافع العراقيون عن النظام أشهراً طويلة فقد لعبت دور الوسيط في صفقات أسلحة عراقية لتعزيز دفاعاته أمام الغزو الوشيك. كما تدفق عدة آلاف من المتطوعين عبر الحدود صوب العراق عند بدء الحرب للمشاركة في المقاومة. ورغم أن الحكومة السورية لم ترتب لهذا التدفق، إلا أنه أرسل رسالة ذات أوجه عديدة. فقد كانت غير مشجعة له من الناحية الرسمية، لكنها أعطته ضوءاً أخضر ضمنياً لم يكن أقله فتوى المفتي المضادة للغزو. إضافة إلى أن النظام لم يرغب بالوقوف في وجه مدّ الغضب الشعبي المعادي للأمريكيين الذي اجتاح سورية. ومع أن المتطوعين قد جاءوا من كل أنحاء العالم العربي فإن غالبيتهم كانت من الشمال السوري. كانت مصالح الأعمال المهددة بالتضرر جراء الغزو متركزة هناك، وهناك تركزت أيضا معظم الأيديولوجيا الإسلامية المناضلة التي استفزها الغزو. وفوق هذا وذاك، فقد زادت الإغارات الأمريكية داخل الأراضي السورية بعد الغزو في استفزاز الشباب في التجمعات السكانية الحدودية. [xxxii] ومع سقوط نظام صدام، كان واضحاً أن سورية قد منحت المأوى لبعض المسؤولين الفارين من العراق.

 لكن، وتحت ضغط التهديد الأمريكي، قامت سورية رسمياً بإغلاق المنافذ الحدودية الأربعة مع العراق في 21 نيسان. بعد هذا، ادّعت سورية بأنها لم تسمح للمتطوعين بمغادرة الأراضي السورية صوب العراق، ولا بدخول المسؤولين العراقيين الفارين إلى سورية. ولم تستجب سورية لطلب الولايات المتحدة تسليم هؤلاء المسؤولين. ولكن، كان من الواضح أنها أبعدت عدداً منهم. لم تكن سورية راغبة بزج عدد كبير من جنودها لحراسة الحدود التي تبلغ خمسمائة كيلومتر طولاً، ولا بتبديد شرعيتها عبر ممارسة القمع بحق مراكز المقاومة في الشمال السوري. لكن، وكما عبر المسؤولون الأمريكيون، فبالرغم من أن السوريين "ما كانوا ليغادروا خطهم لإيقاف" حركة المقاتلين إلى العراق، فإن تدفق هؤلاء المقاتلين قد خفّ كثيراً. وفي الواقع، فقد زادت سورية من جهودها لإغلاق الحدود، بل أنها اقترحت دوريات مشتركة مع القوات الأمريكية.[xxxiii] واعترف نائب الوزير بيرنز بالطبيعة المساميّة للحدود السورية العراقية وبحقيقة أن العشائر السورية هي امتداد للعشائر العراقية التي تقاتل الاحتلال.[xxxiv]

 رفضت سورية الإقرار بشرعية الاحتلال الأمريكي. وقد أصر وزير الدفاع مصطفى طلاس على أن مقاومة الاحتلال حق قانوني. "كان الاحتلال خطراً على الأمن القومي العربي، وكان جزءاً من المجهود الأمريكي الهادف لتشكيل المنطقة بما يخالف المصالح العربية. تعتمد هذه النسخة الجديدة من الإمبريالية، مثل النسخة القديمة من قبلها، على استغلال الانقسامات الإثنية والعرقية وعلى تعاون المنتفعين"[xxxv]. وقد أكد بشار أن على سورية مساندة الشعب العراقي في مواجهة الخطة الأمريكية الهادفة لمحي هويته العربية والإسلامية، لكنه أضاف: "لا أقصد أنه علينا تزويد المقاومة بالأسلحة. أودّ أن أجعل هذه النقطة واضحة تماماً حتى لا يساء فهمها"[xxxvi]

 كانت سورية قد أعلنت، منذ اندلاع الحرب، أنها لن تتعاون مع أي نظام "دمية" يقام في بغداد. كان من المحتم على السياسة السورية أن تكون أكثر تعقيداً إن كانت دمشق راغبة بتجنب العزلة عن حلفائها الكثر الذين كانوا يؤقلمون أنفسهم مع الأمر الواقع الأمريكي الجديد. ومن هنا، ولعدم رغبتها بالعزلة عن حلفائها في مجلس الأمن في وقت كانت تتعرض فيه لخطر آنيّ من قبل الولايات المتحدة المنتشية بالنصر، فقد عمدت سورية، كارهةً، إلى الموافقة على قرار مجلس الأمن 1483 الذي رفع العقوبات عن العراق وشرّع، في الواقع، تحكم الاحتلال بأموال النفط العراقي. وفوق هذا توصلت سورية لاتفاقات محدودة مع الاحتلال، ومع السلطات المحلية، مما أنقذ بعضاً من مهامها السابقة في الاقتصاد العراقي مع أن هذا كان عاملاً مساعداً على استقرار النظام الجديد هناك. وأعيد افتتاح سكة الحديد السورية العراقية في 30 تموز. وقد تم التوصل لصفقة، بوساطة جنرال أمريكي، تقضي بتزويد الموصل بالكهرباء وببيع سورية العراق مشتقات نفطية مقابل النفط الخام. وتبعاً لوزير التجارة غسان الرفاعي، عادت التجارة مع العراق للانتعاش سريعاً بعد الحرب.[xxxvii]

ومن ناحية أخرى، كان ثمة خلافات مع الولايات المتحدة بشأن الموجودات العراقية التي نقلت إلى البنوك السورية قبل الحرب. حيث أنكرت سورية أن يكون لديها أي مبلغ يقارب الثلاثة مليارات دولار كما تدعي الولايات المتحدة، وأصرت على أنها لن تعيد ما لديها إلا لحكومة عراقية شرعية. لكن سورية أبدت تعاوناً مع المحاسبين الأمريكيين الذين يحاولون اقتفاء آثار تلك الموجودات.[xxxviii]

لقد طرح التعامل مع مجلس الحكم المؤقت الذي عينه الأمريكيون مشكلة خاصة. إذ رفضت سورية الاعتراف بشرعية المجلس، لكنها لم تكن تريد قطع ما يربطها بالعناصر العراقية التي كانت، بقدر أو بآخر، وتبعاً لمصالحها، تتعاون مع الاحتلال الأمريكي، وبالأخص الأكراد وبعض الشيعة. وسرعان ما صارت الاستراتيجية الظاهرة قائمة على تقديم الدعم السياسي (وليس المسلح) للمقاومة العربية التي يغلب عليها الطابع السنّي، مع وجود تعاون غير رسمي مع الجماعات الأخرى داخل مجلس الحكم التي تربطها بسورية روابط تاريخية. سيكون الاحتفاظ بالعلاقات مع مختلف الجماعات العراقية أمراً حاسماً في إقناع واشنطن بضرورة التعاون مع سورية لتحقيق الاستقرار في العراق.[xxxix] وهذا ضروري أيضاً للاحتفاظ بالنفوذ السوري الذي سيلزم مستقبلاً لمواجهة النخبة العميلة التي تسعى الولايات المتحدة لتثبيتها وتركها ورائها عند انسحاب الاحتلال المباشر.

 ومع هذا فقد بقي التعامل السوري، في تفاصيله، مع مجلس الحكم المؤقت تعاوناً عرضياً وغير متسق. وسعت سورية، من غير نجاح، إلى منع الاعتراف بهذا المجلس في العالم العربي: سمح كل من الجامعة العربية والأوبيك للمجلس باحتلال مقعد العراق فيهما. وقد صوتت سورية نفسها لصالح قرار مجلس الأمن 1511 الذي أكد على تجسيد مجلس الحكم السيادة العراقية خلال الفترة الانتقالية إلى أن تقوم حكومة تمثيلية معترف بها دولياً، ودعى الدول المجاورة إلى منع تسرب "الإرهابيين" إلى العراق.[xl] وإذا كانت استضافة سورية لمؤتمر تشرين الثاني 2003 بشأن الأمن في العراق، والذي حضره وزراء خارجية كل من مصر والأردن والعربية السعودية والكويت وتركيا وإيران، قد تمت بهدف ترتيب إجماع مضاد لنظام الاحتلال، فقد فشل ذلك أيضاً. كان الاجتماع، في حد ذاته، محاولة انقلاب دبلوماسي على المسعى الأمريكي لعزل سورية، لكن الوزراء المجتمعين أعربوا عن دعمهم للمجلس في "قيامه بمسؤولياته الانتقالية حتى تشكيل حكومة عراقية منتخبة وكاملة التمثيل". وفي الواقع، فقد رأت سورية في دعوة "وزير خارجية" مجلس الحكم العراقي كشرط لحضور السعودية والأردن والكويت إضفاءً لشرعية لا يستحقها ذلك المجلس. ولأن سورية رفضت تلك الدعوة وجعلت الكويت تقوم بها بدلا منها، شعر المسؤول العراقي بالإهانة ولم يحضر. في الوقت نفسه، استقبلت سورية، وبشكل علني، مندوبين عن الجماعات السنّية المعارضة للاحتلال بكل وضوح بما فيها "المجلس المركزي لشيوخ العشائر العراقية والعربية" بقيادة علي خليفة محمد الدليمي. وقد أدان هذا الوفد "احتلال العراق من قبل الأمريكيين واليهود". كما استقبلت وفد "حركة الوحدة الوطنية للإصلاح" ذات التوجه القومي العربي والتي أدانت مجلس الحكم بوصفه صنيعة سلطات الاحتلال. أساء موقف سورية هذا لبعض حلفائها السابقين مثل "الاتحاد الوطني الكردستاني" بقيادة جلال طالباني والتنظيم الشيعي "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق".[xli]

على كل حال، وتحسباً لإعادة جزئية محتملة للسيادة العراقية، مالت سورية باتجاه تطبيع العلاقات مع مجلس الحكم مع الامتناع عن أية إجراءات من شأنها أن تبدو إضفاءً للشرعية على الاحتلال. وفي كانون الأول، استقبل بشار الأسد رئيس مجلس الحكم الانتقالي دون الاعتراف به رسمياً. وبنهاية 2003، ومع احتدام الجدل في العراق بشأن الانتقال للحكم الذاتي، دعمت سورية من طالب بالانتخابات، وهم الشيعة أساساً، في وجه محاولة الولايات المتحدة التلاعب باختيار جمعية عراقية. وأكد بشار أن "سورية ستعترف بالعراق عندما تكون فيه مؤسسات مستقلة منتخبة وليست مفروضة فرضاً".[xlii]

وتأمل سورية الخروج بنتيجة عراقية مقبولة: إن استمرت المقاومة في العراق، فمن المرجح أن الولايات المتحدة لن تهاجم سورية. وإن حلت الديموقراطية في العراق، فإن سورية ترى بأن علاقاتها مع معظم القوى المفتاحية فيه يمكن أن تضمن عراقاً صديقاً لها. [xliii] وفي حين يرى بعض شخوص الحرس القديم أن على سورية زيادة الدعم السياسي للمقاومة، فإن بشار الأسد يسعى لاستقرار العراق، ليس من أجل فتح تحالف مع المعتدلين في الولايات المتحدة فحسب، بل كسبيل للتعجيل في عودة السيادة العراقية.

5- سورية وإسرائيل

 كان عراك المحافظين الجدد مع سوريا يدور، في نهاية المطاف، حول مقاومتها للقوة الإسرائيلية في المنطقة. ومنذ أن انضمت الولايات المتحدة كلياً للجانب الإسرائيلي، بعد أن كانت تلعب دور الوسيط بين الدولتين، صار على سورية أن تناور لحماية الأوراق القليلة الباقية بحوزتها في هذا الصراع.

 ظلت سورية على رغبتها باستئناف مفاوضات السلام التي فشلت مع إسرائيل بشرط أن تعترف إسرائيل بما اعتبرته سورية التزاماً بانسحاب كامل من الجولان اتخذ في عهد إسحاق رابين. وتم تعريف هذا الانسحاب بأنه انسحاب حتى خطوط الرابع من حزيران 1967، التي تترك لسورية منفذاً على بحيرة طبرية. لكن، ومع صعود شارون للسلطة، صارت إسرائيل غير مهتمة بالتوصل لاتفاق بصدد الجولان مع سورية، في الوقت الذي أدى قمعها للانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى إلهاب الرأي العام السوري ضدها. وبالنتيجة، عادت سورية لإصرارها الأول على أن التسوية السورية الإسرائيلية يجب أن تكون جزءاً من تسوية شاملة تشمل دولة فلسطينية تكون عاصمتها القدس، مع الحفاظ على حق الفلسطينيين بالعودة أو التعويض، كما تنص قرارات الأمم المتحدة.[xliv] وفي القمة العربية في القاهرة، والتي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول، وعندما رغب المصريون والسعوديون والأردنيون بإنهاء الانتفاضة لتهدئة الولايات المتحدة، دعا كل من سورية ولبنان والعراق لاستمرارها كوسيلة لجعل تكلفة الاحتلال باهظة على إسرائيل.

رعت الولايات المتحدة "خارطة الطريق" التي قصد منها ظاهرياً إحياء العملية السلمية، لكنها تجاهلت سورية مدفوعة بالحاجة لإعداد المناخ السياسي لغزو العراق. وقد أشار بشار الأسد إلى أنها قد تجاهلت أيضاً قرار مجلس الأمن 242 الذي يأمر إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، والقرار 194 المتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة. أما الولايات المتحدة، ومع ادعائها بأنها ملتزمة بالسلام الشامل الذي يتضمن سورية ولبنان، فقد استبعدتهما من المؤتمر المخصص لإحياء "خارطة الطريق" الذي عقد في شرم الشيخ على أساس أنهما لم يكونا متعاونين في "العملية السلمية". وحسب ما قاله الشرع فإن "الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، تحاول وضع شروط على دخول سورية العملية السلمية"، وتطلب بوضوح طرد الفصائل الفلسطينية المقاتلة من دمشق، والتوقف عن دعم حزب الله، والانسحاب من لبنان.[xlv] إن كان الأمر هكذا، فإن الولايات المتحدة تريد تجريد سورية من أوراقها الدبلوماسية قبل ترتيب تسوية مصممة من قبل الإسرائيليين. يلاحظ رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق شلومو غازيت أن سورية لا تستطيع قبول شروط مسبقة كهذه، لأنها تعني "استسلاماً علنياً للإملاءات الإسرائيلية الأمريكية". [xlvi]

وأعلنت سورية، آملةً بتجريد المحافظين الجدد من حججهم، أنها لن تمانع خارطة الطريق وأنها ستقبل ما يقبله الفلسطينيون. وعرضت سورية استئناف المفاوضات مع إسرائيل من النقطة التي توصل عندها الطرفان لاتفاق في عهد رابين وباراك، "حتى لا نهدر كل التقدم الذي تحقق ونعود لنقطة الصفر". وربما يكون بشار الأسد قد قبل خفية بأن تبدأ المفاوضات من غير ذلك الشرط. وبدا أيضاً أن مطالبة سورية بحل متزامن للقضية الفلسطينية قد أسقطت جانباً. لكن شارون، المتمتع بالدعم الأمريكي الكامل، لم يجد حاجةً لدخول مفاوضات لا يمكن أن تنتهي إلا بانسحاب إسرائيلي من الجولان. لقد رأى المحافظون الجدد أن السلام والجولان هديتان لا تستحقهما سورية، لكن بشار حذر من أن السلام، إن لم يكن شاملاً، فلن يكون. [xlvii]

الفصائل الفلسطينية المقاتلة

 من المسائل العالقة لزمن طويل بين دمشق والولايات المتحدة، مطالبة الأخيرة بأن تطرد دمشق الفصائل الفلسطينية المقاتلة التي تحظى بالملاذ الآمن في دمشق، وخاصة حماس والجهاد الإسلامي اللتان تنفذان تفجيرات انتحارية في إسرائيل. وقد قاومت دمشق ذلك لوقت طويل على أساس أن القواعد العملياتية للمنظمتين موجودة في فلسطين، وأنهما لا تحتفظان في دمشق إلا بمكاتب إعلامية. كانت هذه المكاتب تمثل الرأي الفلسطيني في الشتات والذي من حقه المشروع أن يكون مسموعاً، وخاصة في معرض دفاعه عن حق الفلسطينيين بالعودة بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 141. وبعد زيارة وزير الخارجية كولن باول لدمشق في أيار 2003، أقر بشار بأن سورية وافقت على تحديد نشاط هذه الجماعات، لكنه ألمح ضمنياً إلى أن موقف سورية تجاهها متوقف على إدخالها في العملية السلمية. وفيما بعد، أخذت هذه الجماعات على عاتقها إغلاق هذه المكاتب لتخفيف الضغط عن سورية. وكف القادة الرئيسيون لتلك الجماعات عن الظهور العلني، ومن الممكن أن يكون بعضهم قد غادر سورية، مع أنه من الواضح أن بعضهم ما زال يتمتع بملاذ آمن فيها. ولا تستطيع سورية اقتلاع البنية التحتية، من مدارس ومستشفيات وخدمات، تديرها تلك الجماعات المتجذرة عميقاً ضمن تجمع قوي يبلغ نصف مليون من اللاجئين الفلسطينيين في سورية والذين يملكون الحق القانوني بالبقاء فيها. ومن الطبيعي أيضاً أن تنفر سورية من فكرة تبديد رأسمالها القومي بالطرد العلني للقادة المعروفين بمقاومتهم الفعّالة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.[xlviii]

أصرت سورية، رداً على ادعاء إسرائيل والولايات المتحدة بأنها تساند "الإرهاب"، على أنّ لأصحاب الأرض المحتلة حقاً قانونياً بالمقاومة المسلحة ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة. وقد أكد بشار الأسد على: "أننا ضد قتل المدنيين، لكننا لا نستطيع تأييد معايير مزدوجة" حيث ينعت أحد الأطراف بالإرهابي بينما يقتل الاحتلال أعداداً كبيرة من الفلسطينيين. كما لا نستطيع تبني تناولاً للمسألة "يرى الأعراض ولا ينظر إلى سبب الإرهاب: الاحتلال والاستيطان".[xlix] لم يكن هذا كافياً لواشنطن. حيث هاجم بيرنز "رفض سورية التعامل الجدي مع هذه المسألة، وروابطها القوية مع هذه المنظمات الإرهابية". وحسب بعض المراقبين، فقد كانت الحملة الأمريكية متركزة على إسكات الإصرار الفلسطيني على حق العودة، الذي كان من شأنه تعقيد "خارطة الطريق"، أكثر من تركيزها على وقف الأعمال الإرهابية.[l]

حزب الله ولبنان

استخدم جنوب لبنان لفترة طويلة كميدان معركة بالوكالة في حرب بالوكالة كانت سورية قادرة فيها على ممارسة الضغط العسكري على إسرائيل، وبالحد الأدنى من المخاطرة، عبر هجمات حزب الله على ما تسميه إسرائيل "الحزام الأمني". وبعد انسحاب إسرائيل من تلك المنطقة، هدف الدعم السوري لاستمرار عمليات حزب الله ضد جيب مزارع شبعا المتنازع عليه، والذي استمرت إسرائيل باحتلاله، إلى الاستمرار بإرسال رسالة مفادها أن إسرائيل لن تستطيع نيل السلام دون تسوية مع سورية. لكن تلك السياسة غدت خطرة بعد 11/9، وأكثر خطراً بعد أن غزت الولايات المتحدة العراق. وبعد عدد من عمليات حزب الله في نيسان وحزيران 2001، قصفت إسرائيل مواقع سورية في لبنان. وبدلا من أن تقوم الولايات المتحدة بضبط إسرائيل كما كانت تفعل تقليدياً، صارت سورية الآن واقعةً تحت الضغط الأمريكي لضبط، وحتى تفكيك، حزب الله الذي تصنفه الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية.

حاولت سورية تهدئة الولايات المتحدة بأن حافظت بنجاح على هدوء الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وأمضى حزب الله سبعة أشهر دون مهاجمة مزارع شبعا إلى أن ردّ على اغتيال إسرائيل أحد قادته البارزين في آب 2003.[li] وتحت الضغط الأمريكي، قال بشار الأسد أن سورية لا تزود حزب الله بالمال ولا بالسلاح، مع أنها تدعمه سياسياً.[lii] لم تنكر سورية شراكتها الاستراتيجية مع حزب الله قطّ: فهي من مفاتيح قدرتها على السيطرة في لبنان؛ وهي تمنح سورية شرعيةً في المنطقة كلها إذ تظهرها بمظهر الواقف إلى جانب المقاومة الإسلامية؛ ولحزب الله صلات بالقوى الشيعية في العراق يمكن لسورية الاستفادة منها في خلق المتاعب للاحتلال الأمريكي في حالة نشوب مواجهة بين سورية والولايات المتحدة. والأكثر أهمية هو أن قدرة حزب الله الفريدة على إلحاق الأذى بإسرائيل هي أكثر الروادع السورية فعالية ضد الجيش الإسرائيلي، وأفضل الأوراق السورية في أية مفاوضات مستقبلية بشأن الجولان.[liii]

 يحمل المحافظون الجدد برنامج عمل أكثر طموحاً من استهداف حزب الله، وهم حريصون على دفع سورية للخروج من لبنان. يبين قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية المدى الذي وصلت إليه هذه القوى في إعادة صوغ السياسة الأمريكية التي كانت قد رحبت، في البداية، بالتهدئة السورية في لبنان وبطردها الجنرال اللبناني المارق ميشيل عون المدعوم من قبل صدام حسين. وعلى كل حال، فإن كولن باول، الأكثر اعتدالاً، ومع إصراره على أن سورية تحتل لبنان، كان قد عبر عن مجرد الأمل "بأنه سيأتي يوم يعود فيه الجيش السوري إلى بلاده ضمن اتفاق جميع الأطراف". أما أنصار عون فيقولون أن "الانطباع السائد في دمشق هو أن المقصد الأساسي للدعوات الأمريكية للانسحاب السوري من لبنان هو الوصول إلى تنازلات سورية في قضايا أخرى".[liv]

 استجابت سورية لهذا الضغط بمواصلة إعادة نشر قواتها من المدن اللبنانية باتجاه وادي البقاع، أو سحبها إلى سورية مقللة عدد جنودها في لبنان من 3,0000 إلى 18,000. وهذا ما هدّأ التيار العام في المعارضة المارونية، وإن كان لم يضعف موقع سورية، حيث ما زالت تعتمد على شبكة من الموالين لها في لبنان، إضافة إلى الجهاز المخابراتي، أكثر مما تعتمد على القوة العسكرية. كما نجحت الدبلوماسية السورية بتكوين معارضة لبنانية واسعة للتشريع الأمريكي شملت حتى البطرك الماروني نصر الله صفير المعادي لسورية تقليدياً. وتبعا لما قاله محمد رعد، زعيم مجموعة حزب الله البرلمانية، فإن "القانون الأمريكي جزء من حملة تقودها إسرائيل لإعادة إشعال النزاع الداخلي في لبنان ... والبطرك صفير مدرك لهذا الأمر".[lv]

الغارة الجوية الإسرائيلية على سورية

 في تشرين الأول 2003، أغارت الطائرات الإسرائيلية على معسكر شبه مهجور يقع قرب دمشق ويعود للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين– القيادة العامة. وقد جاء هذا بعد هجومين على المواقع السورية في لبنان، وبعد تحليق الطيران الإسرائيلي فوق مقر الإقامة الصيفي للرئيس السوري في اللاذقيّة، وهو ما كان أول خرق إسرائيلي للمجال الجوي السوري منذ 1982. كانت الغارة الإسرائيلية داخل الأراضي السورية تصعيداً جديداً يحقق مزيداً من التهديم للقواعد التي في ظلها امتنعت كل من إسرائيل وسورية عن مهاجمة بعضهما البعض طيلة ثلاثة عقود[lvi]. أما ما كان تغييراً أكبر في القواعد، فهو أن الولايات المتحدة، التي لم تشجب الهجوم أبداً كما فعلت القوى الأخرى في العالم، قد وافقت عليه بوصفه تصعيداً للضغط على سورية حتى تقبل بشروطها. لقد تضمن تصريح بوش، القائل بأن على إسرائيل أن لا تعتبر نفسها مغلولة اليد في "الدفاع عن نفسها"، تهديداً مبطناً لسورية بأن القادم أكبر.[lvii]

 لم يكن ادعاء إسرائيل بأنها هاجمت قاعدة لتدريب المهاجمين الانتحاريين ليصمد أمام أي تدقيق. فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تكن مشتركة في هذا النوع من الهجمات، وهي من الموقعين على "خارطة الطريق" عملياً. وقد سبب الهجوم ضرراً بالغاً لمنطقة سكنية فلسطينية مجاورة. علق روبرت فيسك قائلاً: "هل يحتاج الانتحاريون الفلسطينيون للتدرّب على هجماتهم الانتحارية حقاً؟ أتحتاج إدارة مفتاح التفجير كل ذلك القدر من التدريب؟ من المؤكد أن مقتل أخ أو ابن عم هو كل ما يلزم من تدريب لذلك".[lviii] ومع فشل القمع العنيف في الأراضي المحتلة في وقف التفجيرات الانتحارية، فإن مهاجمة سورية كانت بمثابة مسعى شاروني لتخفيف الضغط الداخلي ولإجبار الدول العربية على العمل ضد المقاومين الفلسطينيين. وقد حذر الشرع إسرائيل من أن سورية تستطيع ببساطة استهداف المستوطنات الإسرائيلية في الجولان إن كررت إسرائيل هجومها على سورية. وعلق بشار بالقول: "لسنا قوة عظمى. لكننا لسنا بالدولة الضعيفة أيضاً. لسنا بلداً من غير أوراق". [lix]

وفي الواقع، فقد ردّ حزب الله على الغارة الإسرائيلية بعملية في الجنوب اللبناني.

6) الدبلوماسية الدفاعية السورية

 يكمن مفتاح معرفة ما إذا كان المحافظون الجدد سيقدرون على عزل سورية وإظهارها بمظهر شيطاني، ثم إرغامها على الاستسلام أو تشريع الحرب ضدها، في السياسة التي يتبعها الرئيس بشار الأسد بنشاط بهدف زيادة الروابط السورية إقليمياً وعالمياً.

العلاقات الإقليمية

 كانت إقامة علاقات وثيقة مع جيران سورية الإقليميين في رأس أولويات بشار منذ مجيئه للحكم. لقد ورث تحالفاً إسرائيلياً تركياً أردنياً ناشئا ً يهدد بوضع سورية بين فكي كماشة، وهو الحلف الذي أحبطه بشار بإصلاح ذات البين بين سورية وكل من الأردن وتركيا. كانت مصر والسعودية تعتبران شريكتين أساسيتين، لكن غريزتهما المهادنة مع الولايات المتحدة منعت العمل المشترك الوثيق. وفي حمّى الاستعداد للحرب ضد العراق، كانت الدعوة السورية لتوحّد العرب ضد خطط الحرب الأمريكية مصدر إحراج لكل الأنظمة العربية تقريباً. ومع اندلاع الحرب هتف مئات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين في شوارع دمشق ضد حكام مصر والسعودية والكويت وقطر. واتهمت صحيفة سورية قطر بالتحول إلى "قاعدة أمريكية لإخضاع الخليج والتحكم بكنوز النفط العربية"، بينما شبّه أحد محرري الصحف الكويتية حكم بشار الأسد بحكم صدام حسين.[lx]

 وعندما صارت دمشق عرضة للضغوط الأمريكية الشديدة بعد الإطاحة بنظام بصدام حسين، كانت زيارة الرئيس المصري مبارك هي الدعم (المتأخر) الوحيد لسورية. كان الخط الرسمي المصري متمثلاً في نصح سورية بعدم استفزاز الولايات المتحدة.[lxi] كانت العلاقات أفضل مع السعودية التي تعرضت لتهديدات واشنطن بدورها. لكن السعوديين لم يكونوا في وضع يسمح لهم باستخدام علاقاتهم مع واشنطن للتوسط في صالح سورية. ولم يكن ثمة ما يدل على أن ما كان تحالفاً وثيقاً بين سورية وإيران يمكنه الآن تقديم ما هو أكثر بالنظر للاستراتيجية الدفاعية لكل من البلدين.

 من ناحية أخرى، اندفعت سورية، وبشكل غير متوقع، صوب تركيا، وذلك مع تعزيز العلاقات التجارية والدبلوماسية المتراكمة، والتي بدأت قبل ذلك بزمن، من خلال مصالح معينة مشتركة مع الحكومة الإسلامية الجديدة تتمثل في احتواء الطموحات الأمريكية في العراق والتشجيع الذي قدمته واشنطن للأكراد "الانفصاليين". دحض وزير االخارجية التركي عبد الله غول كلام مسؤول إسرائيلي زائر بقوله أن "إيران وسورية هما جاران لنا، ونحن نريد تحسين علاقاتنا معهما. ومن الضروري تبديد التخمينات القائلة بأن دورهما قادم" (على قائمة من تستهدفهم أمريكا).[lxii] زار غول سورية بالرغم من عدم الرضى الأمريكي. وقد امتدحت تركيا سورية لتسليمها عدداً من المشتبه بهم في تفجيرات استنبول الإرهابية. كما قام الرئيس الأسد بزيارة دولة إلى تركيا في كانون الأول 2004.

انفتاح بشار على أوروبا

 كانت الأولوية الاستراتيجية المعطاة للعلاقات مع أوروبا تجديداً رئيسياً في السياسة السورية في عهد بشار. ومن الغني بالدلالات أن الزيارة الأولى خارج العالم العربي التي قام بها بشار لم تكن إلى موسكو، ذلك الحليف القديم، بل إلى أوروبا الغربية: فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا. لقد نظر بشار إلى التحالف مع أوروبا كعنصر حاسم الأهمية بالنسبة لإعادة الخلق الاقتصادي وكتأمين لدرع سياسي مضاد للعداء الأمريكي.

 رغم هذا فقد جوبه تعميق العلاقات بعقبات كثيرة. فبعد أحداث 11/9 اختلف ممثلو الاتحاد الأوروبي مع سورية المصرة على عدم الخلط بين حركة التحرر الوطني والإرهاب، ورفضوا الدعم السوري للفصائل الفلسطينية الراديكالية. كما أن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي قد توترت أيضاً بسبب مخاوف الأخير بشأن حقوق الإنسان. لكن، وفي النهاية، تعمق التحالف السوري الأوروبي بفعل اتخاذ علاقاتهما الاقتصادية صفة مؤسساتية عبر اتفاقية ضمن الشراكة الأوروبية المتوسطية. طالت المفاوضات بشأن الاتفاقية بفعل محاولة سورية استخدامها لإرغام الأوروبيين للضغط على إسرائيل، وبفعل الخطر الذي ستتعرض له الصناعة السورية بسبب رفع القيود التجارية، وربما بفعل الخطر الذي تمثله قواعد التجارة الحرة على الاحتكارات الخاصة بالرأسماليين المرتبطين بالنظام. لكن، كان لدى سورية حافز اقتصادي متنام لدخول الشراكة لأن تجارتها كانت قد تحولت بحدة غرباً بعد انهيار الكتلة الشرقية جاعلة من الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لسورية. وربما كان الجناح الليبرالي في النظام (بشار ووزرائه الاقتصاديين) قد رأوا في الاتفاقية تزويداً لهم برافعة تمكنهم من تقويض المقاومة ضد اللبرلة الاقتصادية في صفوف حزب البعث وتساعد على تحريك الرأسماليين الريعيين باتجاه اقتصاد السوق. وبحلول خريف 2002 تخلت دمشق عن محاولاتها التفاوضية للحصول على استثناءات من نموذج الاتفاق الأوروبي بشأن الجوانب التي سترغمها على فتح أسواقها.

 تم إضعاف المعارضة للاتفاقية داخل النظام بفعل حاجة سورية الواضحة للحماية الأوروبية من الأخطار التي أحاطت بها. كان التفضيل الأوروبي للتكامل الاقتصادي والاتفاقات البنّاءة في مقابل الاستخدام الأمريكي للقوة العسكرية والعقوبات من جانب واحد مسألة حياة أو موت بالنسبة لسورية. [lxiii] وفي الوقت الذي ناصرت فيه بعض الدول الأوروبية الغزو الأمريكي للعراق، فإنها لم تسر في ركاب واشنطن بشأن معاداة سورية؛ فمثلاً، أدانت إسبانيا الموالية للولايات المتحدة الغارة الجوية الإسرائيلية على سورية وتبادلت الزيارات الرسمية مع دمشق.

 وقعت سورية وأوروبا بالأحرف الأولى على الاتفاق الأوروبي المتوسطي في نهاية 2003. وهو الإجراء الذي سيقوي بشكل حاسم، إن تم إقراره، مواقع الإصلاحيين داخل النظام وسيسمح ببدء اندماج سورية بالنظام الرأسمالي العالمي. لكن، يبدو أن بعض الدول الأوروبية تنوي عرقلة الاتفاق بجعله مشروطاً بالتزام سورية بمعاهدة الأسلحة الكيماوية. وهذا ما يمكن أن يعطي خصوم سورية فرصة إفشال الاتفاق. لكن، من شأن الموافقة السورية المستبعدة على نزع تسلح من جانب واحد بهذا الشكل أن تؤدي لاختلال ميزان القوى مع إسرائيل، وهذا ما سوف يكون عنصر عدم استقرار يضر بمصالح أوروبا ذاتها.[lxiv] أما بالنسبة لسورية، فقد كان هذا إشارة مثيرة للقلق توحي بأن أوروبا يمكن أن تصطف إلى جانب مشروع الهيمنة الأمريكي في الشرق الأوسط بدلا من لعب دور موازن له.

7 – التهديد الخارجي والسياسة الداخلية

الإصلاح وصراع النخبة

عند غزو العراق، كان الرئيس بشار الأسد يرأس تحالفاً متعدد المصالح. فهناك "الحرس القديم" الذي خدم والده في الماضي، و"الحرس الجديد" الذي دخل السلطة معه، لكن من ضمن النظام، وهناك التكنوقراطيون القادمون من خارج النظام والذين أدخلهم في الحكومة. كان الفريق الأخير غير متجانس بحد ذاته. وقد تراوح أفراده من ليبراليين جدد (مثل وزير التجارة غسان الرفاعي) إلى اشتراكيين ديموقراطيين (مثل وزير الصناعة السابق عصام الزعيم).

واستخدم بشار مناسبة سقوط بغداد، والاستعصاء الذي وقع فيه الإصلاح، والاتهامات بالفساد الواسع، لتبرير طرد رئيس الوزراء مصطفى ميرو في أيلول 2003. وقد قدم وزارة جديدة يسودها التكنوقراطيون المستقلون محتفظاً بالحقائب الأمنية المفتاحية للبعثيين. لكن بشار لم يستطع حشد التأييد الكافي ضمن القيادة القطرية التي يجب أن تقر التشكيل الحكومي. رأت القيادة القطرية، مستشهدة بالأزمة الإقليمية، أن من غير المناسب تقليص دور الحزب في زمن الخطر الخارجي الحادّ. وهذا ما زاد من عدد الحقائب البعثية في الوزارة، ففقد الإصلاحي محمد الأطرش وزارة المالية، أما وزارة الاقتصاد التي تولاها غسان الرفاعي فقد قلصت مهامها بحيث صارت تتولى إدارة التجارة، بينما تولى الإصلاحي محمد حسين من "الحرس الجديد" وزارة مالية جديدة قوية تتولى أمر المصارف والإشراف العام على السياسة الاقتصادية. وتم دفع عصام الزعيم إلى خارج وزارة الصناعة، بينما تم تحويل ميرو إلى مكتب العمل الحزبي حيث سيكون له القول الفصل في تعيين مدراء القطاع العام الصناعي.

 لقد بدا سقوط الزعيم والأطرش، اللذان كانا من الإصلاحيين الأساسيين الذين كسبوا كثيراً من الأعداء في صفوف أصحاب المصالح المتجذرة في النظام، وكأنه يوحي بأن الرئيس لم يرد، أو لم يستطع، مساندة الرجال الذين اختارهم بنفسه. لقد كلّفه هذا فقدان قدر مهم من مكانته الاعتبارية، وأكد على الرسالة التي يذيعها الحرس القديم على أسماع كثير من الموظفين الطموحين، وخاصة في صفوف الجيل الجديد، الذين ينتقلون بين مراكز القوى، والتي مفادها أن عليهم إرضاء الحزب، لا الرئيس، إن هم أرادوا الصعود.

كان لسقوط عصام الزعيم أثر مؤذ، بشكل خاص، على قضية الإصلاح. فقد حاول الزعيم تشجيع المشاريع الإنتاجية، في القطاعين العام والخاص معاً، في مواجهة الرأسماليين الطفيليين المرتبطين بالنظام والذين صنعوا ثرواتهم من الريع الناجم عن الاحتكارات المحمية من قبل الدولة، وعمليات الوساطة، واستغلال القطاع العام لمصلحتهم الخاصة. ومن الأسرار، المعروفة للجميع، أن الزعيم دخل في صراع على السلطة مع ميرو. وقد اشتبكا، على نحو خاص، بشأن قيام الزعيم بحلّ غرفة الصناعة في حلب بعد أن قام الرأسماليون الطفيليون هناك بعزل الصناعيين المنتجين عن تلك المنظمة. وعندما حرر الزعيم الرصيد العائد لشركة ألمانية، كان قد تم وضعها على القائمة السوداء نظراً لعدم قبولها الابتزاز من جانب أحد المدراء الفاسدين، تم اتهامه زوراً بتلقي الرشوة من تلك الشركة. ولم يكن ذلك ليفهم إلا كرسالة للمستثمرين والمتعاقدين الأجانب مفادها أنهم لا يستطيعون العمل في سورية إلا بدفع الأموال لقوى الفساد التي كانت أعمق تجذراً من أن يستطيع وزير إصلاحي كبحها.

الإصلاح السياسي المتوقّف

ظن بعض ناشطي المعارضة أن من الممكن استخدام الانهيار السريع للنظام العراقي لإطلاق التغيير في سورية. وانطلاقاً من رغبتهم باستغلال الارتباك داخل النظام من غير أن يربط تحركهم بالغزو الأمريكي، الذي يرفضه الشعب أكثر مما يرفض النظام، فقد طرحوا أن نظاماً مغلقاً لا يستطيع الدفاع عن البلاد وأنه لا بد من انفتاح ديموقراطي لتعبئة الوحدة الوطنية في وجه التهديد الأمريكي. قال أحد المحللين المقربين من الحكومة: "حتى تقفوا في وجه الأمريكيين لا بد لكم من إجراء تغييرات داخلية لجمع الناس من حولكم. وإن لم تفعلوا، فعليكم اللحاق بالأمريكيين. لم يقرر النظام عندنا في أي الطريقين سيمضي".[lxv] من المؤكد أن النظام واقع في معضلة: فهو مفتقر للقدرة على تعبئة دعم داخلي قوي للوقوف بوجه الخطر الخارجي لأنه بالغ في إضعاف المجتمع المدني. لكن البديل المتمثل باسترضاء الأمريكيين سيزيد من ضعف شرعيته الداخلية. لا يعتقد أحد من النخبة أن تجنب التغيير الداخلي أمر ممكن، لكن جدالاً جدياً يدور داخل الحزب حول مدى هذا التغيير والوجهة التي سيأخذها.

ثمة إجماع وطني كاف على تقليل مخاطر الانفتاح السياسي. وبينما يعلن ما يسمى بحزب الإصلاح السوري عن نفسه بوصفه الأداة التي اختارتها واشنطن لتغيير النظام، ذاع قول أحد رموز المعارضة في الخارج أنه ما من مواطن سوري يقبل العودة على دبابة أمريكية. وقد اعترف أحد بارونات الأمن في سورية، وهو بهجت سليمان، بأن المعارضة السورية موالية لبلدها. وادعى بشار بأن النسبة الضئيلة من الناس الذين ظنوا بأن الحرب على العراق ستساعد قضية الديموقراطية في سورية كانوا واهمين بشأن الكارثة التي حلت بذلك البلد.[lxvi]

 ما من أثر لهذا التناول على مواقف السياسة الخارجية. لا يدعو أحد من رموز المعارضة إلى تقليل الدعم السوري لحزب الله، أو للفصائل الفلسطينية. بل أن النظام يتعرض للنقد بسبب تنازلاته أمام الولايات المتحدة، من قبيل تصويته على القرار 1441 وعدم فعالية ردّه على الغارة الإسرائيلية. "لا يرى الإصلاحيون أي دليل على رغبة الأمريكيين بالديموقراطية في سورية. فالأمريكيون يريدون تغييراً في سلوك النظام لصالح الإسرائيليين".[lxvii] وفوق هذا، فإن السوريين، من جميع الأديان والأعمار والطبقات، مشتركون في كره بوش الذي يرون فيه إرهابياً حقيقياً لأنه هاجم العراق نيابة عن إسرائيل ومن أجل الاستيلاء على نفطه. كما يقوم البعض بمقارنة، لصالح رئيسهم، مع "الجبناء الذين يقودون الدول العربية" لتقف في صفّ بوش.[lxviii] لقد حفزت حرب العراق نوعاً من الصحوة الإسلامية التي يخمن البعض أن النظام يحاول الاستفادة من تقاطع موقفه تجاه الولايات المتحدة معها لبناء تحالف غير معلن مع القوى الإسلامية التي طالما مثلت البديل الأساسي لحكم البعث.[lxix]

 لكن النظام مازال مفتقراً للثقة الكافية للاستفادة من هذا الظرف. وربما كان ذلك لإيمانه بأن الانفتاح سيعتبر علامة على الضعف، مما سيثير مطالب أعمق. لقد أغلق النظام، ذو الحساسية المفرطة، جريدة علي فرزات الهجائية المستقلة لأنها لمحت إلى أن سقوط صدام قد حدث لأن العراقيين ما كانوا ليقاتلوا من أجل نظام لا شأن لهم به.[lxx] وكما لاحظ كل من هيثم المالح، وهو من الناشطين من أجل حقوق الإنسان، ورياض الترك، وهو أحد قادة المعارضة، فإن الضغوط الأمريكية قد قوضت الإصلاح ومكنت النظام من تبرير استمرار حالة الطوارئ.[lxxi] ولم يكن النظام مستعداً لتجريب الإصلاح الداخلي في زمن يتعرض فيه لخطر خارجي استثنائي.

8) استنتاجات

 مع أن الإعلام الغربي غالباً ما يصف سورية بالدولة "المارقة"، فإن الولايات المتحدة، "القوة العظمى"، هي ما يمثل خطراً على استقرار الشرق الأوسط. وذلك لأنها تخلّ، عابثة، بموازين القوى في المنطقة وتشعل "صراع الحضارات". أما سورية، بعكس الولايات المتحدة، فهي تدافع عن مصالحها الوطنية الجوهرية في وجه الغزو الأمريكي العنيف لدولة جارة صديقة، وفي وجه محاولة الولايات المتحدة تجريدها من مكانتها الإقليمية ومن أوراقها في صراعها مع إسرائيل.

ــــــــــــ

[i] باتريك سيل، "لماذا تهدد الولايات المتحدة وإسرائيل سورية؟"، الحياة، 18 نيسان2003 ؛ علي شكري،"العامل السوري"، أوبن ديموكراسي ليميتد، 17 نيسان 2003. لا حاجة بنا للقول أن تلك الإمبراطورية الجديدة ستكون إمبراطورية "غير مباشرة"، وستقوم على الأنظمة العميلة والتهديد بالغزو، وذلك بدلا من الشكل الأكثر كلفة والقائم على الإمبراطورية المدارة بشكل مباشر. لكن يمكن الافتراض، وبسبب ذلك كله، بأنها ستكون أكثر ضررا. راجع كارل ي.ماير، "غبار الإمبراطورية"، نيويورك، مؤسسة سينتشري،2003، حيث يلاحظ أن : "الحكم الأجنبي المباشر يميل لتوحيد الشعب. إذ أن مقاومته لدولة أجنبية تمنحه شعورا بالانتماء لأمة واحدة. بينما يقلل الحكم غير المباشر من شرعية القادة المحليين ويخلق طبقة محتقرة من المتعاونين". (ص 29/27).

[ii]    UNCTAD ،تقرير الاستثمار العالمي، نيويورك: الأمم المتحدة 1999؛ البنك الدولي، "موجز البلدان"، نيويورك،2001

[iii] مقابلة مع الرئيس السوري، 12/1/2003، nytimes.com

[iv] جيم لوب، "موقف بوش تجاه سورية يظهر استمرار سلطة المحافظين الجدد"، إنتربرس سيرفيس،8 تشرين الأول 2003؛ ميدل إيست إنترناشيونال، لندن،21 تشرين الثاني 2003،ص 25؛ سيمور هيرش "الرهان السوري"، نيويوركر ماغازين،27 تموز 2003، ونيويورك تايمز، 6 شباط 2004.

[v] ميدل إيست إنترناشيونال، 25 تموز 2003، ص 7.

[vi] ميدل إيست إنترناشيونال، 4 نيسان 2003،ص9،25.

[vii] فاينانشال تايمز، 26 أيلول 2003؛ فيديرال نيوز سيرفيس، 18 تموز 2003.

[viii] ميدل إيست إنترناشيونال، 21 تشرين الثاني 2003؛ فيديرال نيوز سيرفيس، 18 حزيران 2003.

[ix] وليد شقير، "الأزمة الأمريكية السورية"، الحياة، 1 آب 2003.

[x] آندرز شتريندبيرغ، "السياسة الأمريكية الحمقاء تجاه سورية"، ميدل إيست إنترناشيونال، 25 تموز 2003.

[xi] بيرنز، "تصريح أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ"، واشنطن دي سي، 30 تشرين الأول 2003.

[xii] انترناشيونال هيرالد تريبيون، 19 تموز 2003، ص 3 ؛ 30 تشرين الأول 2003، ص5 ؛ ميدل إيست انترناشيونال 21 تشرين الثاني 2003، ص 25.

[xiii] كايرو تايمز، 24-30 نيسان،2003؛ ستيفن زونز، "قانون محاسبة سورية وانتصار الهيمنة" ، التقرير السياسي FPIF ، تشرين الأول 2003.

[xiv] زونز، "قانون محاسبة سورية"، ميدل إيست انترناشبونال،30 أيار 2003، ص 17-18؛ 19 كانون الأول 2003، ص 32؛ حسين إيبش dailystar.com.lb ، 26 أيلول 2003.

[xv] ميدل إيست انترناشيونال، 21 تشرين الثاني 2003، ص 25 ؛ 5 كانون الأول 2003، ص 19-21؛ nytimes.com ، 1/12/2003.

[xvi] مجموعة أوكسفورد للأعمال، "الإيجاز المستمر"، 29 تشرين الأول 2003

[xvii] فايننشال تايمز، 26 آب 2003

[xviii] ميدل إيست ميديا ريسيرتش إنستتيوت (MEMRI) 30أيار 2003؛ ميدل إيست انترناشيونال، 16 أيار 2003، ص 17-18؛ مجموعة الأزمة الدولية (ICG) ، "سورية في ظل بشار"، القسم الأول ص 5.

[xix] ميدل إيست ميديا ريسيرتش إنستتيوت (MEMRI)، 29 تموز 2003.

[xx] الشرق الأوسط، 10 آب 2003.

[xxi] السفير، 27 آذار 2003.

[xxii] عماد فوزي الشعيبي، الحياة، 13 تموز 2003؛ الحياة 23 تموز 2003.

[xxiii] فايننشال تايمز، 17 نيسان 2003، إيال زيسر، "سورية والحرب في العراق"، ميريا جورنال، الجزء 7، رقم 2، حزيران 2003؛ آندريس شريندبيرغ ، "الأزمة العراقية تهدد الإصلاح السوري"، جينز انتيليجنس ريفيو، الجزء 15، رقم 1، كانون الثاني 2003، ص 38-41.

[xxiv] غاري س.غامبيل، "العلاقات الخارجية السورية: العراق"، ميدل إيست إنتيليجنس بوليتين، آذار 2001، www.meib.org؛ يوتام فيلنر، "لعبة التصعيد: الجزء الثاني:العوامل الإقليمية والدولية بين دمشق وواشنطن: العراق"، MEMRI، 25 أيار 2001.

[xxv] شتريندبيرغ، "الأزمة العراقية...".

[xxvi] زميدل إيست انترناشيونال، 4 نيسان 2003، ص 7-8؛ زيسر، "سورية والحرب في العراق"؛ السفير، 27 آذار 2003.

[xxvii] مجموعة أوكسفورد للأعمال. "الإيجاز المستمر"، 10 شباط2003.

[xxviii] مقابلة، nytimes.com ، 1/12/2003

[xxix] ستيفن ستالينسكي وإيلي كارميلي ، "الحكومة السورية والإعلام بشأن الحرب في العراق"، MEMRI، 21 نيسان 2003.

[xxx] ستاينسكي وكارميلي، "الحكومة السورية"؛ مجموعة أوكسفورد للأعمال، "الإيجاز المستمر"،31 آذار 2003.

[xxxi] السفير، 27 آذار 2003.

[xxxii] ميدل إيست أنترناشيونال، 2 أيار 2003، ص 13؛ فايننشال تايمز، 26 آب 2003؛ انترناشيونال هخيرالد تريبيون، 16 تموز 2003، ص6.

[xxxiii] واشنطن بوست، 26 تشرين الأول 2003؛ ICG "سورية في ظل بشار"، الجزء الأول، ص 19؛ ميدل إيست انتيليجنس بوليتين (MEIB)، الجزء الخامس ، رقم 6، حزيران 2003؛ ميدل إيست انترناشيونال، 25 تموز 2003.

[xxxiv] بيرنز، "شهادة".

[xxxv] الشرق الأوسط، 10 آب 2003.

[xxxvi] بشار الأسد، مقابلة مع العربية، MEMRI، 22 حزيران 2003

[xxxvii] مجموعة أوكسفورد للأعمال، "الإيجاز المستمر"، 22 آب 2003؛ 6 أيلول 2003

[xxxviii] التايمز، 21 تشرين الأول 2003؛ ميدل إيست أنترناشيونال، 21 كانون الأول 2033، ص 19-21.

[xxxix] التايمز، 22 أيلول 2003

[xl] MEIB، تشرين الثاني 2003؛ مجموعة أوكسفورد للأعمال، "الإيجاز المستمر"، 22 آب 2003؛ MEI، 24 تشرين الأول 2003، ص 8-9.

[xli] فايننشال تايمز، 3 تشرين الثاني 2003، ص 9 ؛ MEI، تشرين الثاني 2003.

[xlii]  Anytimes.com، 1/12/2003

[xliii] آندرس شتريندبيرغ وماتس وارن. "سورية، حزب الله، والبعد العراقي"، ميدل إيست أنترناشيونال، 13 حزيران 2003، ص 27-29.

[xliv] ميدل إيست أنترناشيونال، 6 نيسان 2001 ، ص 7-8؛ 13 تموز2001 ، ص 5

[xlv]  MEMRI، 29 تموز 2003؛ فايننشال تايمز 26 آب 2003.

[xlvi] مجموعة الأزمة الدولية ICG، "سورية في ظل بشار"، القسم الأول، ص 8

[xlvii]  Nytimes.com، 1/12/2003. رقم 527؛ العربية، MEMRI، 5 تشرين الأول 2003

[xlviii] مجموعة أوكسفورد للأعمال، "الإيجاز المستمر"،16 أيار 2003؛ انترناشيونال هيرالد تريبيون، 14 تموز 2003، ص 3

[xlix]  Anytime.com، 1/12/2003

[l] شتريندبيرغ، "السياسة الأمريكية..."، ميدل إيست أنترناشيونال، 25 تموز 2003

[li] ميدل إيست أنترناشيونال، 16 تموز 2003؛ 22 آب 2003

[lii]  Anytime.com، 1/12/2003

 [liii] شتريندبيرغ، ميدل إيست أنترناشيونال، 13 حزيران 2003

[liv]  MEIB، تموز2003

[lv] فايننشال تايمز، 29 تشرين الأول 2003، ص14

[lvi] انترناشيونال هيرالد تريبيون، 8 ،14،15 تشرين الأول 2003

[lvii] انتربرس سيرفيس، 29 تشرين الأول 2003، ص 14

[lviii]  www.counterpunch.com ، 7 تشرين الأول 2003

[lix] الحياة، 27 تشرين الأول،2001 ؛ فايننشال تايمز، 9 تشرين الأول 2003، ص 13

[lx] زيسر، "سورية والحرب في العراق"، نفس المصدر

[lxi] كايرو تايمز، 24/30 نيسان 2003

[lxii] ميدل إيست أنترناشيونال، 18 نيسان 2003؛ ميدل إيست انترناشيونال، 16 أيار 2003

[lxiii] الأهرام ويكلي أونلاين ، 30 حزيران 2002

[lxiv] مجموعة الأزمة الدولية ICG ، "سورية في ظل بشار"، الجزء الأول، ص 21

[lxv] فايننشال تايمز، 26 آب 2003

[lxvi] السفير، 15 أيار 2003؛ anytimes.com، 1/12/2003

[lxvii] فايننشال تايمز، 29 تشرين الأول 2003، ص 14

[lxviii] ساول لانداو، "تقرير من سورية: بين العراق وإسرائيل..... موضع صعب"، www.counterpunch.com ،26 تموز 2003

[lxix]  www.csmonitor.com ، 3 تشرين الثاني 2003

[lxx] انترناشيونال هيرالد تريبيون، 24 تموز 2003، ص 2

[lxxi] فايننشال تايمز، 26 آب 2003السابق

for

S&CS

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

ــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع |ـكــتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحـة اللقـاء | البحث في الموقع |
ـ