محب
الدين الخطيب
هو محب الدين بن
أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد
الرحيم بن محمد الخطيب، ولد بدمشق في
حي القيمرية في تموز 1886، وبها تلقى
علومه الأولية والثانوية. والدته آسية
الجلاد أبوها محمد الجلاد من أصحاب
الأملاك الزراعية
كانت تقية صالحة ذات فضل، توفيت
بين مكة والمدينة بريح السموم، وهي
راجعة من فريضة الحج من ركب المحمل
الشامي، ودفنت هناك بالفلاة، وكان محب
الدين صغيراُ في حجرها ساعة موتها،
فشمله أبوه برعايته ليعوضه حنان الأم،
وبقيت لرحلة الحج هذه صورة في نفسه.
بعدما رجع محب
الدين من رحلة الحج ألحقه والده وهو في
السابعة بمدرسة الترقي النموذجية،
وحصل بعد سنوات على شهادة إتمام
المرحلة الابتدائية بدرجة جيد جداً. ثم
التحق بمدرسة مكتب عنبر، وبعد سنة من
دخوله المكتب توفي والده، فرأت أسرته
أن يترك المدرسة، فتركها ولازم دروس
العلماء، وكان ذلك خلال غياب الشيخ
طاهر الجزائري المشرف على المكتبات
والمدارس في بلاد الشام، فلما عاد
الجزائري من سفره وكان بينه وبين والد
محب الدين صلة احتواه وعطف عليه وفتح
عينيه على قراءة التراث العربي، وبث
فيه حب الدعوة الإسلامية، وإيقاظ
العرب ليقووا على حمل رسالة الإسلام ،
فكان محب الدين يقول: (من هذا الشيخ
الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي) وكان يعده
أباه الروحي.
وسعى له شيخه بأن
وجهت إليه وظيفة أبيه في دار الكتب
الظاهرية على أن ينوب عنه من يقوم بها
إلى أن يبلغ سن الرشد، وفي فترة
الانتظار كان الشيخ ينتقي لتلميذه
مخطوطات من تأليف الأعلام كابن تيمية
وأضرابه فيكلفه بنسخها لتتوسع ثقافته،
ويشغل وقته وينتفع بأجر النسخ، ثم وجهه
ثانية للالتحاق بمكتب عنبر، كما أشار
عليه أن ينتفع بالشيخ أحمد النويلاتي
الذي كان له غرفة يعتزل بها في مدرسة
عبد الله باشا العظم، كما كانت للشيخ
طاهر غرفة فيها، وكذلك غرفة للشيخ جمال
الدين القاسمي، ورابعة للشيخ محمد على
مسلم فكان محب الدين يتردد إلى هذه
الغرف وينهل من علم أصحابها.
وفي هذه الفترة
المبكرة تفتحت آفاق التفكير عند محب
الدين، وصار يلقح ثقافته الشخصية
العربية والإسلامية بما تلقاه في
المدرسة من العلوم الكونية، وبما يضفي
عليها من مطالعاته المتواصلة في دار
الكتب خاصة المجلات الكبرى مثل:
المقتطف، والهلال، والضياء وغيرها.
كون محب الدين
وهو لايزال في فترة الدراسة الثانوية
حلقة صغيرة مع رفقائه يلقحها بالأفكار
التي كانت تطرح في حلقة شيخه طاهر
الجزائري. بالإضافة إلى قراءة الكتب
الجديدة لأمثال عبد الرحمن الكواكبي
ومحمد عبده، كما كان يكتب المقالات
العلمية والقطع الأدبية التي يعربها
عن اللغة التركية ويرسل بها إلى صحيفة (ثمرات
الزمان) في بيروت.
بعد أن نال شهادة
الدراسة الثانوية عام 1906، انتقل محب
الدين إلى الأستانة وهناك التحق
بكليتي الآداب والحقوق معاً، ونزل في
حي يكثر فيه أبناء العرب وطلاب العلم،
وقد هاله أن يرى الطلاب العرب في تركيا
يجهلون قواعد لغتهم وإملاءها فضلاً عن
آدابها وثقافتها، ويتكلمون فيما بينهم
باللغة التركية، فتخير محب الدين من
الشباب العرب طائفة أقنعها بتعلم
العربية وآدابها، واتفق مع صديقه
الأمير عارف الشهابي أن يقتسما هؤلاء
الشباب لتعليمهم وتقوية لغتهم الأم،
ثم كاشف محب الدين هؤلاء الشباب أن ما
هم فيه يبشر بنهضة مباركة، واقترح أن
يسمى عملهم باسم (جمعية النهضة العربية)،
ورغبهم بمطالعة الصحف التي كان قد اتفق
مع صديقه الأستاذ محمد كرد علي على أن
يرسلها إليه في البريد.
ولما اشتد نشاطه
في جمعية النهضة العربية، وشعرت به
الرقابة الاتحادية، كاد محب الدين أن
يهلك لولا أن الذي قام بتفتيش غرفته
ووجد فيها أوراقاً وصحفاً عربية
ومجلات مهجرية كانت تربطه بأسرة
الخطيب رابطة وشيجة.
بعد ذلك اكتفى
محب الدين بالدراسة في كلية الحقوق،
ولما نجح إلى السنة الثالثة كانت الخطة
أن يتفرغ في العطلة المدرسية لمواصلة
العمل في جمعية النهضة لولا أن شدة
المراقبة حملته باقتراح من إخوانه أن
يسافر إلى دمشق، وكان قد كتب إلى اثنين
من خلصائه في دمشق يخبرهما بتأسيس (جمعية
النهضة العربية) في استانبول ويدعوهما
للالتحاق بها، وأن يتعاونا في ذلك على
تأسيس فرع لها في دمشق، فانتهز محب
الدين هذه العطلة، وتعهد فرع الجمعية
هذا حين قدومه دمشق صيف 1907، وفي أثناء
العطلة تلقى رسالة من صديقه عارف
الشهابي يطلب إليه فيها البقاء في دمشق
مدة سنة إلى أن تهدأ الحالة في
استانبول وتنقطع الرقابة على الجمعية
وأعضائها.
وحدث في هذه
الأثناء أن طلبت القنصلية البريطانية
في الحديدة باليمن إلى القنصلية في
دمشق أن تختار لها شاباً يتقن العربية
والتركية، وأن يكون له إلمام
بالقوانين العثمانية وشؤون القضاء،
فالتحق بها ورآها فرصة للتعرف على
اليمن، ومر في طريقه بمصر ليلتقي بشيخه
طاهر الجزائري، وصديقه محمد كرد علي.
وفي مصر أيضاً
اتصل محب الدين الخطيب بالأعلام
والأدباء وبزعماء النهضة المصرية،
واجتمع بأركان (جمعية الشورى
العثمانية) الذين فوضوه بتأسيس فرع
رابع عشر لهم في اليمن. وفي اليمن اتصل
محب الدين بأهل الثقافة والنباهة
وضباط الفرقة الرابعة عشرة من الجيش
العثماني السابع في الحديدة، وانعقدت
بينه وبين قائد الحديدة البكباشي (شوقي
المؤيد العظم) صداقة وثيقة، وكاشفه
بأمر جمعية الشورى العثمانية، فاهتم
بها، وأرشده إلى طائفة من الضباط
الأحرار الذين كان إبعادهم إلى اليمن
عقوبة لهم لكراهيتهم للحكم الفردي
وميلهم إلى الحرية. فلم يلبث أن افتتح
الفرع الرابع عشر للجمعية المذكورة
وكان رئيسها (شوقي المؤيد العظم).
ولما أعلن
الدستور العثماني عام 1908، رجع محب
الدين الخطيب إلى دمشق، بنية العمل على
تجديد نشاط (جمعية النهضة العربية)
داخل نطاق الدستور العثماني، فرأى أن
الدولة لا تريد الاعتراف بجمعية
النهضة العربية، وأجبروا الجمعية على
أن تجعل اسمها جمعية (النهضة السورية)،
وفي هذه الأثناء تمنى أن يشارك في
تحرير جريدة (طار الخرج) الهزلية
الناقدة للسياسة العثمانية، فانتبهت
السلطات الحكومية للجريدة،
ولما أوشكت أن تعرف الحقيقة سافر
محب الدين إلى بيروت، فكتبت الحكومة
إلى المسؤولين في بيروت لملاحقته،
انتقل بعدها إلى القاهرة وهناك شارك في
تحرير جريدة المؤيد.
عندما تأسس حزب
اللامركزية العثماني في القاهرة عام
1913، برئاسة رفيق العظم، كان محب الدين
عضو مجلس الإدارة وكاتم السر الثاني
فيها. وتأسست في بيروت ثم في باريس
جمعية (العربية الفتاة) ذات الدور
العظيم، فكان محب الدين يمثل هذه
الجمعية بمصر، وينفذ قراراتها التي
لها علاقة بحزب اللامركزية.
وفي هذه السنة 1913
أيضاً أسس رشيد رضا (مدرسة الدعوة
والإرشاد) فوقع اختياره على محب الدين
ليدرس علم طبقات الأرض.
وعندما وقعت
الحرب العالمية الأولى قررت الجمعيات
السرية ورجالات القومية العربية إيفاد
مندوبين إلى زعماء العرب لمفاوضتهم في
أمرها، واختاروا محب الدين للسفر إلى
الخليج العربي في محاولة للاجتماع
بزعماء تلك المنطقة، فسار إلى عدن، ثم
بومباي، ثم أبحر إلى الكويت فاعتقله
ضابط بريطاني، ومكث في السجن تسعة أشهر
دون أن يتمكن من إتمام مهمته، وعاد إلى
مصر والحرب على أشدها والاضطهاد
التركي في ذروته.
وبعد إعلان
الثورة العربية الكبرى طلبه الشريف
حسين برقياً، فسافر إلى مكة المكرمة
ليؤسس المطبعة الأميرية، وليصدر (جريدة
القبلة) الجريدة الرسمية لحكومة
الحجاز، وكان الشريف حسين يستشيره في
أكثر أموره الخارجية هو والشيخ كامل
القصاب بصفتهما من رجال جمعية (العربية
الفتاة).
ولما دخل الجيش
العربي دمشق عام 1918 بقيادة الأمير
فيصل، عاد محب الدين إليها واستقبلته
جمعية (العربية الفتاة) ليكون عضواً في
لجنتها المركزية التي تشرف على إدارة
الدولة من وراء ستار، وأنيط به إدارة
وتحرير الجريدة الرسمية للحكومة باسم (العاصمة)،
وأُبيح له أن يكتب مقالات توجيهية كما
يشاء بلا رقابة.
عام 1920 ولدى دخول
الفرنسيين دمشق غادر محب الدين دمشق
واستقر في القاهرة، حيث عمل في التحرير
في جريدة الأهرام نحواً من خمس سنوات،
كما أسس المكتبة السلفية ومطبعتها حيث
أشرف بنفسه على نشر عدد كبير من كتب
التراث وغيرها، وأصدر أيضاً مجلة (الزهراء)
وهي مجلة أدبية اجتماعية شهرية دامت
خمس سنوات. ثم أسس جريدة (الفتح) والتي
دامت ثلاثة وعشرين عاماً، خصصها
للتاريخ والأحداث السياسية، ثم تولى
تحرير مجلة (الأزهر) مدة ست سنوات... ثم
ساهم في إنشاء جمعية (الشبان المسلمين)
في القاهرة وكان كاتم سرها، وقد عملت
الجمعية سنوات عديدة في توجيه الشباب
إلى الإسلام الصحيح والسير في الطريق
المؤدية إلى إعلاء شأن المسلمين. وقد
أحدث قيام الجمعية ردة فعل لدى دعة
الإلحاد والقائمين على التبشير،
فتربصوا به حتى وجهوا أنظار النيابة
إلى مقال كتبه بعنوان (الحرية في بلاد
الأطفال) نال فيه من ملك الأفغان ومن
كمال أتاتورك، فقبض عليه وحكم بالحبس
لمدة شهر.
وهكذا قضى محب
الدين الخطيب حياته في البحث والتحرير
والتأليف إلى أن توفي في القاهرة في
كانون الأول عام 1969. وقد ترك آثاراً
عظيمة قال عنها الأستاذ أنور الجندي: (وبالجملة
فإن السيد محب الدين الخطيب وآثاره تعد
رصيداً ضخماً في تراثنا العربي وفكرنا
الإسلامي، وقد أضاف إضافات بناءة،
وقدم إجابات عميقة، وزوايا جديدة
لمفاهيم الثقافة العربية وقيمها
الأساسية).
ومن
آثاره الكثيرة التي تركها:
ـ توضيح الجامع
الصحيح للإمام البخاري (شرح مختضر).
ـ مع الرعيل
الأول (عرض وتحليل لصور من حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
ـ الحديقة (14
جزءاً) (مجموعة أدبية وحكم).
ـ الخطوط العريضة
التي قام عليها دين الشيعة الاثني
عشرية.
ـ اتجاه الموجات
البشرية في جزيرة العرب.
ـ قصر الزهراء
بالأندلس.
ـ تقويمنا الشمسي.
ـ تاغور.
ـ الأزهر.
ـ البهائية.
ـ من الإسلام إلى
الإيمان (حقائق عن التيجانية).
ـ حملة رسالة
الإسلام الأولون.
ـ الإسلام دعوة
الحق والخير.
ـ ذو النورين
عثمان بن عفان (صدرت الطبعة الأولى بعد
وفاته سنة 1394هـ).
ـ الجيل المثالي.
ـ سيرة جيل (تاريخ
حافل خلال القرن الرابع عشر الهجري عن
القومية العربية وحركات التحرر).
ـ بالإضافة إلى
أوراق ومذكرات حافلة بالآراء
والأخبار، ورسائل من بينها رسائل بينه
وبين الأمير شكيب أرسلان يقال أنها
تبلغ ألف رسالة.
المراجع:
ـ (تاريخ علماء
دمشق في القرن الرابع الهجري، الطبعة
الأولى) شكري فيصل وآخرون،
دمشق 1986، الجزء الثاني، ص(847، 862).
ـ (الأعلام، دار
العلم للملايين) خير الدين الزركلي ،
بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء
الخامس، ص(282).
|