الكنز
المرصود في قواعد التلمود
مقدمة
المترجم
الطبعة
الأولى سنة 1899
لما عثرتُ على كتابين فرنساويين أحدهما (اليهودي
على حسب التلمود) الذي ألفه الدكتور (روهلنج)
والثاني (تاريخ سوريا لسنة 1840) الذي
ألفه المؤرخ (إشيل لوران)، انتهزت
الفرصة وترجمتهما إلى اللغة العربية
وأردت أن أتحف بهما أبناء وطني، خصوصاً
وأنهما من الكتب التي يتعسر الاستحصال
عليها(1) ولو ببذل الأصفر الرنان، مع أنهما يبحثان
في مسائل تشتاق النفس إلى الإطلاع
عليها: ألا وهي عوائد الأمة
الإسرائيلية وأسرار ديانتها الخفية.
غير أني ضربت صفحاً عن الجزء الأخير من
كتاب الدكتور (روهلنج) المختص بمسألة
قتل الأب توما، استغناء عنه بما ذكر
مطولاً في كتاب (إشيل لوران) وهو ما
سنذكره في القسم الثاني من كتابنا هذا
إن شاء الله.
ولا تظن أيها القارئ اللبيب أن هذين
الكتابين من عندياتي لأنهما ذكرا في
كثير من الكتب المشهورة لدى العموم
ككتاب (صراخ البريء) لصاحبه (حبيب أفندي
فارس)، وكتاب (فرنسا اليهودية)(2) لادوارد ريمون. ولكن تعذر،
بالطبع، على القراء الاطلاع عليهما
ومراجعتهما لكونهما لا يمكن الاستحصال
عليهما بسهولة(3).
هذا ويا ليت قومي يعلمون أن مقصدي حسن،
وغرضي هو فقط اطلاع الجمهور على ما قال
هؤلاء المؤلفون بدون إبداء ملحوظة ولا
فكرة من عندي. ولو اعترض عليَّ بأن هذه
الكتب ليس منها ثمرة الآن لقلت:
تعلم
السحر ولا تعمل به
العلم بالشيء ولا الجهل به
فلا يتوهمن القارئ حينئذ أن مرادنا ظلم
الأمة اليهودية، أو طلب استعمال
القسوة معها، أو تحريم ديانتها، أو
منعها من إقامة شعائر دينها، كلا ثم كلا، فإنا نعلم أن
الديانة الإسرائيلية أصل الديانات
المنزلة، وكل إنسان حرٌّ أن يعتنق
الدين الذي يعتقد أنه الحقيقي، فإن
الله خول له ذلك حيث لم تتعلق إرادته
تعالى بجعل الناس أمة واحدة (ولو شاء
ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله
ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)(4).
لكل امرئ شأن
تبارك من برا
وخص بما قد شاء كلا من الورى
ولو شاء كان
الناس أمة واحدة
ولم تلق يومـاً منهم قـط منكـرا
خلق الله الإنسان خاتمة خلقه، وسلطه على
كل الخليقة، وجعلها خادمة له تقدم له
من أنواع الخدمة بأسرها مما تتداوله
الأيدي أو تنظره الأعين. ولكن ذهب
الغرور بالتلموديين في الأعصر
الخالية، فتصوروا أن أنفسهم من طينة
أرفع من طينة باقي العالم، وأن بقية
نوع الإنسان الذين لم يعتنقوا الديانة
الإسرائيلية خدم لهم كغيرهم من
الحيوانات الغير العاقلة. ولما كانوا
يخفون تعاليمهم ومبادئهم، ولم يروا
لهم ضداًّ ذا بال يردعهم عن أفعالهم
الوحشية، طمحوا في تيه ضلالهم حتى خيل
لهم أن ما في السماوات والأرض مخلوق
لهم، ونصبوا أنفسهم آلهة، لأنهم كانوا
يعتقدون أن لهم القدرة على تحليل يمين
الله وعدم حنثه بها، وأنه (عز شأنه) جاء
أمراً فريًّا لما جعل الأمة اليهودية
تعيسة، وأنه يبكي وينوح حيث صرح بهدم
بيت المقدس (سبحانه وتعالى عما يقولون
علوًّا كبيراً)(5) واستبدت الحاخامات فلا شريعة
لهم سوى مرادهم، ولا قانون يردعهم سوى
هواهم، فأمروا بسوء معاملة باقي
الشعوب، وقتل أولادهم، واستنزاف دمهم
وثروتهم، واعتبارهم بصفة حيوانات غير
متفكرة. وبالجملة فكانوا يتصرفون فيهم
تصرف المالك في ملكه، وسموهم: الأجانب(6)، والوثنيين.
فاتبع بعض اليهود في ذلك الوقت هذه الخطة
الوخيمة، وقست قلوبهم (فهي كالحجارة أو
أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر
منها الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج
منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية
الله وما الله بغافل عما يعملون).
وإذا أردت بياناً وإيضاحاً أزيد من ذلك
فأقول لك إنهم ارتكبوا جملة من الذبائح
البشرية ليحصلوا على دم يدعون أنه نافع
لهم، وتأمر ديانتهم باستعماله وقد جاء
في التاريخ أنه تكرر ارتكاب هذا الفعل
الفظيع حتى أنه في 24 يونيو (حزيران) سنة
1240 (هـ) صار عقد جلسة حافلة في سراي
الملك لويس التاسع في باريس تحت رئاسة
الملكة (بلانش). وكان القصد من هذه
الجلسة الفحص عما ادُّعي به على اليهود
من الأمور المنكرة. ومن جملتها استنزاف
الدم البشري حملاً على اعتقاداتهم
الدينية وما جاء في تلمودهم. وهنالك
أعطيت الحرية المطلقة لبني إسرائيل
بالمدافعة عن أنفسهم وعن تلمودهم. ولما
لم يتمكنوا من إخفاء حقيقة ما نسب
إليهم أقروا به، وقد تحصل وقتئذ من
ترجمة نصوص تلمودهم ما يعتقدون به وهو:
(أن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم
بين الزفت والنار، وأن أمه أتت به من
العسكري (باندارا) بمباشرة الزنى، وأن
الكنائس النصرانية بمقام قاذورات، وأن
الواعظين فيها أشبه بالكلاب النابحة،
وأن قتل المسيحي من الأمور المأمور
بها، وأن العهد مع مسيحي لا يكون عهداً
صحيحاً يلتزم اليهودي القيام به، وأنه
من الواجب ديناً أن يلعن ثلاث مرات
رؤساء المذهب النصراني وجميع الملوك
الذين يتظاهرون بالعداوة ضد بني
إسرائيل).
ورغماً عن كل ذلك لم تحكم الحكومة وقتئذ
بإضرار اليهود، بل اكتفت بإتلاف
وإحراق ما وجد من نسخ التلمود(7).
أما الذبائح البشرية فقد ذكرت في جملة كتب:
منها ما قاله المؤرخ اليهودي (يوسيفوس)
الشهير المولود في سنة 37 مسيحية، وتوفي
في رومية سنة 95 متكلماً عن (انطيوخيوس)
الرابع الملقب (بابي غان) فاتح مدينة
أورشليم والذي تبوأ تخت الملك سنة 174
قبل المسيح، قال إن هذا الملك اليوناني
لما دخل المدينة المقدسة وجد في أحد
محلات الهيكل رجلاً يونانياً كان
اليهود قد ضبطوه وسجنوه بمكان وكانوا
يقدمون له أفخر المأكولات حتى يأتي يوم
يخرجون به لإحدى الغابات حيث يذبحونه،
ويشربون دمه، ويأكلون شيئاً من لحمه،
ويحرقون باقيه، وينثرون رماده بالفلاء.
وكان هذا السجن لأجل أن يعملوا بشريعة
لا يجوز عندهم مخالفتها، وهي أن يأخذوا
في كل سنة يونانياً، وبعد أن يطعموه
أفخر المآكل ليسمن يعدونه لإتمام
الوصية، وأن هذا المسجون استرحم من
الملك أن ينقذه فأنقذه(8).
وهذه الذبائح منها ما ارتكب في الشرق
ومنها ما ارتكب في الغرب. وقد ذكرت
بالتفصيل في كتاب (فرنسا اليهودية)، و(صراخ
البريء) وجملة كتب أخرى نقل عنها مؤلف (صراخ
البريء) فلنضرب عنها صفحاً لأنه ليس في
الإعادة إفادة، ومن أراد مراجعتها
فعليه بهذين الكتابين يرى عجائب
وغرائب. غير أننا نخص بالذكر منها
واقعة قتل (هنري عبد النور)، وواقعة قتل
الأب توما وخادمه إبراهيم عمار، لأن
الواقعة الأولى هي التي بسببها صار
تأليف كتاب صراخ البريء، والثانية هي
التي حصلت بسببها التحقيقات التي
سنذكرها إن شاء الله.
ـ
1 ـ
جاء عن الواقعة الأولى في كتاب صراخ
البريء ما يأتي:
فُقِدَ نهار الاثنين في سابع نيسان
الساعة التاسعة ونصف بعد الظهر(9) (هنري عبد النور) أحد أولاد الطائفة
النصرانية من الأرمن الكاثوليك في
دمشق، وله من العمر ست سنوات. وفي الحال
أرسل أهله للتفتيش عليه في بيوت
الأقارب والمعارف، وبعثوا من نشده في
جميع أحياء المدينة سواد ليلتهم فلم
يقفوا له على أثر.
وفي الغداة توجهت أم الغلام ووالدتها إلى
منزل والي الولاية (مصطفى عاصم باشا)
واتهمت عنده بعض اليهود فأنكروا أن
يكونوا فعلوا ذلك. وأمر معاونه، فسار
إلى رئيس الشحنة
(10 وأخبره أن الوالي أمر بالتفتيش على
الغلام المفقود. وبعد مضي أحد عشر
يوماً زعموا أنهم قضوا في البحث
والتنقيب أمر رئيس الشحنة معاونه أن
يفتش في منزل الفقيد ففعل، وأنزل إلى
بئر كان هناك مَن بحث فيه، وفي بئر أحد
المنازل المجاورة. ثم انتقل فجأة وتخطى
عدة بيوت إلى بئر مجهول(11) في مأوى عجلات إلى جانب الثكنة الشاهانية
عند فوهة حارة اليهود، ولما دخلوه تقدم
أحد الشحنة إلى فم البئر وكان مغطى
بلوح خشب عليه حجارة ضخمة ولا يقوي
الرجل الواحد على حملها، واستروح
رائحة وقال: يغلب على ظني أن الغلام في
هذا البئر. ثم جاؤوا بمن نزل إليه، ولما
وصل إلى نصفه صرخ فأطلعوه واستخبروه،
فقال في البئر شيء لا أدري أغلام هو أم
هرة ؟ فطيروا الخبر بذلك إلى طيار باشا
وفوزي باشا رئيس الشحنة ومعاون المدعي
العمومي (وكانوا في انتظارهم رجماً
بالغيب وأخذاً بالوحي!!)(12) فحضروا وأمروا بإخراج تلك (الهرة
المنتنة) من البئر وأرسلوا فأخبروا
والدة الفقيد وسألوها أولاً وثانياً:
هل تعلم أن هذا الغلام غلامها ؟ ثم
أحضروا معاون طبيب البلدة وقالوا له أن
يدقق ليعلم إن كان الغلام وجد في البئر
مختنقاً على أثر سقوطه أم لا ؟ قالوا
والدليل على ذلك أن كان بجانب البئر
عجلة صغيرة ففي غالب الظن أنه أراد
ركوبها فسقط عنها في البئر (ولو كان
مغطى كما ذكرنا ! ) ولما استفاض الخبر
بوجدان الولد اجتمع خمسون رجلاً من
اليهود وذهبوا يبشرون الوالي، ثم
عادوا وأمروا في المساء أن تزين
منازلهم. وأُلقي القبض على أصحاب مأوى
العجلات، فأقروا بعد الاستنطاق (التحقيق)
أنه حضر إليهم ليلتهم البارحة الساعة
الثامنة نفر من اليهود معهم كيس زعموا
أنه فيه زاداً لهم، وطلبوا إليهم
عجلتين إلى دمّر (منتزه(13) بعيد عن المدينة). قالوا ولما
ذهبنا لإعداد العجلتين دخل بعضهم إلى
حيث كان البئر، ثم خرجوا ورجعوا من حيث
أتوا ادعاء أننا تأخرنا في الإعداد.
فلما رأى أولياء الحكم أن في هذا
الإقرار دليلاً كافياً لتأثيم بعض
اليهود تَهددوهم(14) إن لم ينكروا الأمر خيفة
القلق، لحينما تصل الحكومة لمعرفة
الصحيح تأكيداً، ففعلوا خشية ورهبة.
وكان أهل الفقيد قد طلبوا أن
تستدعى الأطباء إلى تشريح الجثة، فحضر
منهم من نظر فيها وأمر بحفظها في
المستشفى العسكري تحت الختم، وأجلت
ساعة التشريح إلى الغد في 22 نيسان
الساعة الرابعة.
وفي الغد قرأ الأطباء أسماء من عين منهم
للتشريح وهم نحو العشرين طبيباً بين
عسكريين وملكيين، وانصرف الباقون.
ولما شرعوا في فحص الثياب وجدوا أن
الحذاء اليمين كان في الرجل اليسرى
وبالعكس، والرداء ناقصاً قبة العنق
والأكمام، والسروال مقلوباً أمامه إلى
الوراء وبالعكس، وكذا الصدرية، والتكة
من فتيل المصباح وقد كانت من نسيج
مطرز، ورباط أحد الجوربين تحت الركبة
والآخر متدلياً إلى أسفل وكلاهما من
نسيج أسود حال كونهما كانا من الأربطة
ذوات الإبزيم. وهذه الفروقات ظهرت
أيضاً عند مقابلة حلة الذبيح بحلة
أمثاله من تلامذة الراهبات العازبات
لأن الغلام كان من أولاد مدرستهن.
وأما ما لوحظ في الجثة عند التشريح فقد
وجد عند الصدغ وجانب الرأس جلف ممتد
إلى قرب العين. وكانت العضلات التي
تحته رخوة مملوءة دماً. وكان على
الأسنان تراب وطين وكذلك على طرف
اللسان وكان بارزاً من بين الثنايا
قليلاً. ورأوا على العضدين والفخذين
بقعاً منتفخة حمرة احمراراً خفيفاً
وهي ناشئة عن العَصْب لما قبض على
الولد ليمنع من الحركة عند الاستنزاف.
وكان على طرف اليد اليمنى عند موصل
الكف بالساعد جرح صغير عرضي بجانب ثقب
واصل إلى العرق المعروف بالأُسيلم
ومنه استنزف الدم. ولما وقع خلاف بين
يهودي من الأطباء وسائرهم في شأن الجرح
وزعم أنه (نخسة فارة) حقن بمحقنة فيها
ماء ملون فسرى الماء في العرق صاعداً.
وعند فتح الجمجمة لم يوجد فيها دم
البتة، ولا أثر يقضي بخلاف الاستنزاف.
وكذا في الرئتين والقلب. وكانت المعدة
ملأى بأكل مختلف معه قطعة قضامى وجد
مثلها في الحلق وفي الرئة أيضاً، وكانت
خالية من الماء.
ولما علمت الحكومة بنتيجة هذا الفحص،
وتأكد عندها أن الولد مستنزف دمه كما
كانت تعلم. أمرت بكتم هذا الأمر، وأخفت
أوراق الفحص، وأمرت الأطباء أن يقولوا
أنهم لم يثبتوا في التشريح الاستنزاف،
وأطلقوا بعد أن أوجبوا قطع اليد وحفظها
للغد مراعاة (للخلاف الذي ذكرناه في
الجرح). وفي الغد اجتمع العسكريون
وحدهم وفتحوا الختم وغب أن تحققوا
ثانية الاستنزاف من اليد طلبت أم
الذبيح أن يدفعوها لها فأبوا وبادر
صاحب (نخسة الفارة) المتطبب اليهودي،
وقطعها بالسكين إرباً، وضمت إلى
الجثة، ودفن الكل غلس يوم الخميس 24
نيسان خفية من الأهل والناس، وأقيم على
القبر الخفر، ستة في النهار واثنا عشر
في الليل حذار أن تسرق اليد. وكفى بهذه
الخفارة دليلاً لصحة الاستنزاف(15) إذا وهت بقية الدلائل.
وفي هذا اليوم بعينه أرسل الوالي في طلب
الأطباء (أيده الله) وقام فيهم خطيباً
يذكرهم بما كتب على العلماء من وجوب
إسعاف أولياء الحكم في كبح جماح الجهال
وبث الراحة والسكينة(16)، ثم نقم عليهم بما عزاه إليهم
من إشاعة الاستنزاف، وأنكر انتدابهم
للتشريح بعد أن كان قد دعاهم رسمياً،
وتهددهم إن عادوا إلى مثل أقوالهم
الملفقة !(17)
وهكذا انتهت هذه المذبحة البشرية وفصلت
تلك الدعوى. وقد رثا صاحب صراخ البريء
الفقيد بأشعار لا بأس من ذكرها وهي:
رثـاء
الذبائـح
ولداه
يا ولداه، بعدك بلوتـي
ما العيش غير تحسر وتنـدم
أخذ
اليهود وحيد أحشائي وقد
سفكوا دماه بجنح ليل مظلـم
ولداه
لما صرت تصرخ باكياً
أهل القلـوب عليك لم تتألـم
ولداه
لما صحت ويلي قائلاً:
أماه، كيف ندا البري؟ لم يعلم
يا
ظالمون، أما سمعتم قوله:
أماه، لولا الظلـم لـم أتظلـم
يا
ظالمون، أما نظرتم خوفه
وسقوط أدمعـه بلون العنـدم
إن
الصخور إذا رأت وجه البري يتحول الصخر
الأصـم إلى فـم
كي
يندب المذبوح ندب تحسر
ويقول يا ربي، لما لم تنقـم؟
ولداه
كأس الموت ذقت معذباً
فلما بعدل حميـدنا لم تحتـم(18)
أماه
ما من سامع لتضرعـي
وخزوا يدي بآلـة لم ترحـم
فصرخت
حين رأيت دمي سائلاً
ولتي القساوة علـة لم أعلـم(19)
يا
أيها الحاخام، أرجعني إلـى
أمي وأهلي ليس ينفعكم دمـي
لم
يسمع القاسي الصراخ وإنما
زاد العذاب بضرب سوط مؤلم
وتقدموا
مثل الذئاب إلى خروف
منهـم قـد ذاق طعم العلقـم
ناديت
يا ربي أزل عني عـذا
بهم، فمن قولي لقد سدوا فمي
سأموت
يا ولدي عليك كآبـة
فالله يعلـم حسرتـي وتألمـي
هنري
حبيبي أين أنت لعلنـي
أطفي غليلـي ساعـة بتكلـم
قد
غبت يا ولداه عن عيني فما
لي بالحياة، ومن يزيل تظلمي؟
هل
ألقي الحزن الذي ألقي على
رأسي على جبل ولم يتحطـم؟
لا
ذاقت الحيّات مثل مصيبتي
كلا ولا فهـم وما لم يفهــم(20)
ـ
2 ـ
أما ما كان من أمر الأب توما وخادمه
إبراهيم عمار فإني رأيت الناس كثيراً
ما يتطلعون لمعرفة تفصيلات هذه
الواقعة، والتحقيقات التي جرت فيها.
ولكوني اطلعت على كل ذلك في كتاب (إشيل
لوران) سآتيك بالخبر اليقين. غير أني
قبل ترجمة تلك التحقيقات أقص عليك
شذرات منها لتقف عليها على سبيل
الإجمال، ويكون عندك في الذهن ما
يساعدك على فهم محاضر التحقيق إن شاء
الله.
اعلم أن مسألة قتل الأب توما الكبوشي
وخادمه هي أهم مسألة حصلت من هذا
القبيل. ولد هذا الرجل في (كجلياري) من (سردينيا)
في إيطاليا نحو سنة /1780/ وسمي فرنسوا
انطوان. فدخل رهبنة الكبوشية إذ كان له
من العمر ثماني عشرة سنة، وكان ذلك في 15
يناير (كانون الثاني) سنة 1807 وبارح رومة
مرسلاً لدمشق الشام حيث بقي فيها إلى
يوم ذبح اليهود له سنة /1840/ فيكون هذا
المرسل اشتغل بعمل الخير مدة ثلاث
وثلاثين سنة مساعداً للإنسانية،
عالماً غيوراً أديباً عفيفاً. وكان من
أسخى الناس، رحيماً بالخلق، متعطفاً
عليهم، محبوباً لكبيرهم وصغيرهم،
عطوفاً على شريفهم ووضيعهم، كريم
الأخلاق حسن الصحبة(21). وكان قد تعلم فن الصيدلة (الإجزاجية)
وطالع في الكتب الطبية فكان يعالج
المرضى في دمشق الشام مجاناً، سواء
كانوا من المسلمين أو النصارى أو
اليهود. وكان على الخصوص ماهراً بصناعة
التطعيم ضد الجدري. فخدم البشرية خدمة
تليق أن يحفظ له ذكر على صفحات قلوب
محبي الخير العام. وكان الناس يأتون
إليه أفواجاً من الشام وجميع القرى
المجاورة لها. وكان رحمه الله يميل
جداً نحو الطائفة الإسرائيلية(22) متأملاً استجلابها إلى الدين
المسيحي كما كان يعرب عن أفكاره بذلك
مراراً. وكان جميع الناس على اختلاف
مذاهبهم ومشاربهم وطبقاتهم يعتبرون
هذا الرجل ويوقرونه ويكرمونه كثيراً.
ومن جملة أفعاله المشكورة تمسكه بالحق.
فإن رجلاً جاءه يوماً طالباً منه أن
يعقد له زواجاً على امرأة، فعلم الأب
توما بأن طلب الرجل غير قانوني فرفضه.
فعاد الرجل إلى غرفته واستل سيفه، وطلب
إلى الكبوشي أن يجيز له الزواج مع تلك
المرأة وإلا يعدمه الحياة ! ففي الحال
جثا الأب توما على ركبتيه، وأحنى عنقه
للسيف قائلاً: الموت أفضل لي من مخالفة
الناموس.. فأثر هذا الكلام بالرجل
البربري، فترك القسيس وانطلق نادماً
على ما فعل.
ولما حل وباء الهواء الأصفر(23) في دمشق، وفتك بسكانها فتكاً
ذريعاً كان الأب توما تقدم على المرضى،
ويقدم لهم كل ما يحتاجون إليه من
المساعدات الروحية والجسدية، فاكتسب
محبة الجميع. حتى أن دولة الوالي شريف
باشا وقتئذ أمر خدمه أن يسمحوا للأب
توما بالدخول إلى دائرته في كل مرة
يأتيها. بل وأجاز له الدخول إلى الحرم
مع أن العوائد الشرقية لا تسمح بذلك.
فهذا ما يثبت الثقة التي كان مستحصلاً
عليها الأب توما في دمشق.
وفي مساء اليوم الخامس عشر من شهر فبراير (شباط)
سنة /1840/ طُلب الأب توما لحارة اليهود
بقصد تطعيم ولد وقاية من الجدري فلبى
الدعوة في الحال. ولما شاهد أن الولد
المطلوب لأجله مريض وفي درجة الخطر لم
ير إجراء التطعيم موافقاً، فرجع لديره.
وكان بالقرب من بيت الولد المريض دار (داود
هراري). وكان هذا الرجل معدوداً من أتقى
اليهود في الشام. وكان النصارى يبالغون
في اعتباره وتوقيره وإكرامه، حتى أنهم
كانوا يقولون عنه يهودي نصراني صالح.
وكان داود هراري صديقاً للأب توما فلما
رآه ماراً أمام داره استدعاه للدخول
فلبى الأب دعوته، ودخل فوجد هناك أخا
داود، وعمه، واثنين من عظماء اليهود.
فلما صار في إحدى الغرف أُغلق الباب،
وانقض جميع الحاضرين عليه كالذئاب
الكاسرة، ووضعوا على فمه منديلاً،
وربطوا يديه ورجليه، ثم نقلوه إلى غرفة
بعيدة عن مطل الشارع، وألقوه هناك إلى
أن أظلم الليل، وأخذوا في الاستعدادات
اللازمة لذبحه! فلما جاء حضرة الحاخام
استدعوا حلاقاً اسمه سليمان، وأمروه
أن يذبح القسيس. فخاف هذا الرجل وامتنع
عن الإقدام على العمل. فجاء الرجل
التقي بين اليهود، داود هراري صديق
الأب توما نفسه، وأخذ السكين ونحره !!
ذهب
الوفاء ذهاب أمس الذاهب
والناس بين مخاتل وموارب
يغشـون
بينهم المودة والصفـا
وقلوبهم محشوة بعقــارب
ولكن يد هذا الصديق أخذت ترتجف فتوقف عن
إكمال العمل، فجاء في الحال أخوه هارون
لمساعدته. ومن الغريب أن يكون هذا الأخ
المساعد اسمه هارون، فإن هارون كان
يساعد أخاه موسى في عمل الخير، وهارون
هذا ساعد أخاه في عمل الشر، فقال موسى (وأخي
هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي
ردأ يصدقني)(24)،
أي يبين لهم عني ما أكلمهم به فإنه يفهم
عني ما لا يفهمون. ولكن هذه سنة الله في
عباده (فمن يهدي الله فهو المهتدي ومن
يضلل فأولئك هم الخاسرون). وكان سليمان
الحلاق قابضاً لحية الأب توما. وكان
الحاضرون يتناولون الدم في إناء ثم
يضعونه في زجاجة بيضاء، أرسلت فيما بعد
إلى الحاخام باشي يعقوب العنتابي.
وبعد أن تمت تصفية دم الذبيح على هذه
الحالة نزعوا ثيابه عن جثته وأحرقوها،
ثم قطعوا الجسد قطعاً، وسحقوا العظام
بيد الهاون، وطرحوا الجميع في أحد
المصارف المجاورة لمنزل موسى أبي
العافية. وظنوا أنهم بهذه الواسطة قد
دفنوا الحادثة في قبر عميق! ولكن الدم
البريء يصرخ إلى الله كصراخ دم هابيل
عندما قتله قايين (قابيل) أخوه. فلما
طال وقت رجوع الأب توما إلى ديره قلقت
أفكار خادمه إبراهيم عمار. وبما أنه
كان عالماً بتوجه معلمه لحارة اليهود
جاء إليها يسأل عنه، فدخل دار داود
هراري وسأل من كان فيها عن سيده،
فأدخلوه منزل بعض المتهمين، وذبحوه
كما ذبحوا معلمه! وسيأتي عليك تفصيل
ذلك إن شاء الله.
وكان الأب توما دعي لوليمة عند طبيب والي
دمشق في /16/ فبراير (شباط) سنة /1840/
ولكنه لم يذهب في الميعاد المحدد
لسبب فقده قبل ذلك اليوم وعدم رجوعه
إلى الدير وجرى البحث عليه إذا ذاك
بدون فائدة.
أما كشف الحادثة فكان على الصورة الآتية
وهو أنه في صباح اليوم الثاني /16/
فبراير جاء الذين كانت عادتهم الحضور
لسماع قداس الأب توما. فمن حضر منهم
أولاً ظن أنه نائم، ومن حضر أخيراً حسب
أن القداس انتهى والقسيس خرج لأشغاله،
مع ان بعضهم قرع الباب فلم يجاوبه أحد.
وبعضهم قال أنه شاهد الأب توما عشية
أمس متوجهاً لحارة اليهود. فقلقت
أفكارهم فاعلموا الباقين بالأمر فوقع
بين الشعب هيجان وسار البعض إلى سراي
الحكومة وطلبوا الفحص والتدقيق عن هذا
الأب.
واشتغل قنصل فرنسا بهذه القضية وأعطاها
ما تستحقه(25) من الأهمية(26)، فظهر أثناء التحقيق أن الحلاق
اليهودي دعي ليلاً عند التاجر اليهودي
هراري، فنظر الأب توما مكتفاً
ومطروحاً على الأرض، ثم جرى ما جرى كما
سلف. وعند وجود الجثة عثر أيضاً على
قطعة من الطاقية التي كان يلبسها
الراهب وهي معروفة في كل دمشق، واعترف
إذ ذاك سبعة من المتهمين قائلين: إنه
قبل الواقعة بأيام أخبرهم الحاخام
باشي (أي رئيس الحاخامين) أنه يلزم
الاستحصال على دم بشري لاستعماله في
عيد الفصح القريب، فأجابه داود هراري
أنه سيستحصل على ذلك ولو كلفه من
الأموال ما لا يعد. وكان المتهمون وقت
اعترافهم محبوسين في حبس الانفراد
واعترافاتهم جاءت مطابقة لبعضها،
وبواسطتها صار الاستكشاف على الجثة
وعلى بعض الملابس، ولم تستعمل القسوة
معهم قبل الاعتراف كما زعم (بتشوتو)
الذي هو أحد المتهمين المنتمي إلى دولة
النمسا. وكان هذا الزعم لأجل تهديد
السلطة الحاكمة والتخلص من التهمة
التي كانت موجهة قبَله. كيف لا وأجوبته
كلها كانت مبنية على هذا الزعم. وقد هدد
أيضاً (بحري بك) الوالي المسيحي في
أثناء التحقيق كما ستراه. وكل ما حصل من
التهديدات لشريف باشا أثناء تحقيقه
كان يسطر في محضر وعندما يتم أمر في ذلك
يحيط به قنصل النمسا التابع له هذا
المتهم.
وبعد أن تمت التحقيقات ثبتت التهمة ضد
المتهمين، وتوفي في أثناء المحاكمة
اثنان منهم كما سنذكره، ونال العفو
أربعة لأنهم أقروا بالحقيقة، وحكم على
العشرة الباقين بالإعدام.
ومن ضمن الذين صدر عنهم العفو حاخام يسمى
موسى أبو العافية اعتنق الدين
الإسلامي وتلقب بمحمد أفندي.
وقد كاد أن ينفذ هذا الحكم لولا أن قنصل
فرنسا رأى أن يعرض أوراق القضية على
دولتلو المغفور له إبراهيم باشا الذي
كان وقتئذ قائداً للجيوش المصرية لكي
يصدق عليها. ففي أثناء تلك المدة هاج
يهود أوروبا وماجوا واغتنموا الفرصة
فضاعفوا الوسائط الفعالة، وبذلوا
الدرهم الرنان لإطفاء نيران الحادثة،
والتحصل على عفو عن المحبوسين، وقيل
أنهم قدموا 000 200 قرش(27) إلى وكالة فرنسا و000 500 لأحد
المحامين.
ولكن لما خاب مسعاهم وطاح عملهم وثبتت
التهمة وصدر الحكم، سافر اثنان من
عظمائهم هما (كراميو، ومويز
مونتيفيوري)، منتدبان من قبل جمعية
الاتحاد الإسرائيلي لإنقاذ المحكوم
عليهم. فوصلا مصر ورفعا عريضة لصاحب
الدولة المغفور له محمد علي باشا
التمسا بموجبها إعادة النظر في الدعوى
وتخليص المتهمين. فقبل دولته
التماسهما مراعاة للظروف، وأصدر العفو
عن المجرمين إجابة لاسترحام عموم
الشعب الإسرائيلي(28) كما سنذكره إن شاء الله في محله.
وكل ذلك نشأ عن المعاهدة التي بين اليهود
في السراء والضراء وهي التي تكلم عنها
إدوارد ريمون في كتابه فرنسا اليهودية
حيث قال:
(إن قوة اليهود حاصلة من المعاهدة التي
بينهم: فكل اليهود متعاهدون طبقاً
لشروط جمعية الاتحاد الإسرائيلي. وقد
اتخذوا رمزاً يفيد ذلك الاتحاد وهو
يدان مشتبكتان تحت إكليل. وكل اليهود
محافظون على قواعد ذلك الاتفاق
والاتحاد بكل دقة. فلا غرابة إذا من
تسلط اليهود بواسطة هذه المعاهدة على
المسيحيين المساكين الذين لا يعرفون
غير محبة من والاهم. وإني ليعجبني هذه
الصفة المتطبعة في ذهن المسيحي ألا وهي
محبة الموالي، فهو لا يدري غيرها،
ولأجلها يصرف دراهمه وأوقاته وقلبه
وعقله محبة للغير بدون أن يطلب على ذلك
أجرة ولا بديلاً.
فينتج عن ذلك أن المسيحيين يفتحون
ذراعيهم ويرحبون بالمنكوبين
ويساعدونهم ويحبونهم. ولكنهم لا
يجتمعون ولا يعقدون جمعيات اتحاد
كجمعية الاتحاد الإسرائيلية. ولحسن
طويتهم لم يصطفوا صفوفاً لمقاومة
اليهود والمدافعة عن أنفسهم، فلا عجب
إذا تغلب عليهم اليهودي بواسطة الهجوم
على كل واحد منهم بمفرده, وهذا هو ما
يفعلونه عادة، لأنهم لما يريدون أن
ينهبوا أموال تاجر يتفقون على طريقة
مؤدية لتفليس ذلك المسكين، وهي إما أن
يتحصلوا على رفيقة يهودية تسلبه
الأموال وتوصله إلى الدمار، وإما أن
يحضر له أحد النصارى المنتمين
لجمعياتهم ويستميله للاشتغال في الأمر
الذي يقول له أنه يعود عليه بالنفقة،
وهو يغشه في الأول ببعض من المكسب،
لأنه كما قيل: بحسن السبك قد ينفي الزغل.
ثم لا تمضي مدة إلا وينتهي ذلك إلى
العار والخراب، ولا يقتصرون على ذلك بل
ربما يتسلطون على كاتب من الكتاب
بالسكر وارتكاب المنكر حتى ينتهي إلى
الهلاك والجنون! فلو اجتمع هؤلاء
المنكودو الحظ لمقاومة اليهود الذين
اتفقوا على خرابهم، لخلصوا من هذه
الورطة وقاوموا العدو، ولكنهم بغاية
الأسف يهلكون ولم يشعروا بيد العدو
التي تقبض على أرواحهم(29).
فبواسطة هذه المعاهدة التي بين اليهود
حضر اثنان من عظمائهم كما ذكرنا ومنعا
تنفيذ الحكم على المتهمين وهكذا انتهت
هذه الواقعة أيضاً.
ولم يكفهم ذلك أنهم لما رأوا أن هذه
القضية ستكون نقطة سوداء في تاريخ
الشام أعدموا الكتاب المسطرة فيه هذه
الوقائع وأرخوا عليها سدول الظلماء(30).
هذا ولما كتب المؤرخ لوران مسألة الأب
توما قال في المقدمة ما معناه:
(إما أن يكون اليهود أبرياء مما اتهموا به
من سفك الدماء في الأزمان الغابرة
والمتأخرة، وإما أن تكون تلك التهمة
ثابتة فلنصرخ صراخاً واحداً ولنقم
قومة واحدة نحن المسيحيين والمسلمين
واليهود الفلاسفة لنعدم هذه
الاعتقادات الفاسدة ونسلق أهل التلمود
بألسنة حداد).
وعلى أي الأحوال فخذ الكتاب أيها القارئ
اللبيب واقرأ باسم ربك، وبعدها احكم
بما يتراءى لك.
وقبل عرض مسألة قتل الأب توما وخادمه
إبراهيم عمار عليك ابتدئ بترجمة بعض
فصول من كتاب الدكتور روهلنج المسمى (باليهودي
على حسب التلمود) كما وعدتك، لتعرف كيف
كانت اعتقادات الأمة اليهودية، وتقف
على تلمودها وعوائدها ومبادئها. وتفهم
كيف ختم الله على قلوب هؤلاء القوم
وجعل على أبصارهم غشاوة، حتى أنهم
فتكوا بصاحبهم الرجل التقي البريء وهم
لا يشعرون بفساد ما يفعلون.
وإني قد سلكت في ترتيب هذا الكتاب وتبويبه
مسلكاً يقربه للفهم مع المحافظة على
طريقة ترتيبه الأصلي لعدم ضياع الثمرة
المقصودة.
هذا ولما كان الكتاب مشتملاً على أسماء
أعجمية تشتمل على حروف ليست من لغة
كتابنا ولا اصطلاح أوضاعنا اضطررنا
إلى وضع تلك الأسماء بين هلالين لتسهيل
قراءتها.
وهذا الكتاب الذي أردت نشره يشتمل على
قسمين:
(القسم الأول) يختص بكتاب الدكتور روهلنج
المسمى باليهودي على حسب التلمود.
والثاني يختص بقضية قتل الأب توما وخادمه
إبراهيم عمار، وما فيها من التحقيقات،
وهي مترجمة عن كتاب اشيل لوران المسمى
بالمسائل التاريخية عما جرى في سورية
سنة 1840.
الدكتور يوسف نصر الله
مصـر
|