تحيي
أسرة تحرير الشرق العربي المقال
الجريء للأستاذ خلف الجراد، وتؤكد أن
تشخيص الأسباب التي قادت إلى ما نحن
فيه لا يكفي دون طرق الأبواب الحقيقية
للإصلاح.
الأمة
بين التهديدات وضرورة المراجعة
الذاتية
د.
خلف الجراد
لا
شك أن النظام العربي الرسمي وكذلك
المجتمع الأهلي يمران اليوم بوضع حرج
للغاية بسبب الانكشاف الاستراتيجي من
جهة، وحالة الضعف والتناقض والفوضى من
جهة أخرى. وقد لا يكون المرء بحاجة
للاطلاع على معطيات تقريري التنمية
الإنسانية العربية لعامي 2002 و 2003
ليستخلص ما آلت إليه أوضاع العرب في
بداية القرن الحادي والعشرين.
فالأوضاع القائمة تشرح نفسها بنفسها
في المجالات والمستويات كلها.. وهي
تشبه إلى حد كبير ما كنا عليه في بداية
القرن الماضي من حيث التفكك والاضطراب
والضياع، والوقوع في براثن القوى
الاستعمارية الكبرى آنذاك، نظراً
لغياب الاستراتيجية الواضحة، وسيطرة
الروح الفردية، وارتماء معظم الزعامات
في أحضان الأجنبي.
ورغم سلسلة (المشاريع
النهضوية العربية) التي أطلقتها أحزاب
وتنظيمات سياسية أو شخصيات أكاديمية
وفكرية مشهود لها بالإخلاص والوطنية
والحماسة القومية وسعة المعارف، فإن
النتائج كانت إما مخيبة للآمال وإما
متواضعة حيث لا يمكن البناء عليها. فلا التيار القومي
حقق أهدافه في توحيد العرب، أو على
الأقل جمعهم خلف قضية واحدة، ولا
التيار الماركسي أو الاشتراكي استطاع
أن ينجز مسألة العدالة الاجتماعية
للطبقات الكادحة ويقضي على منابع
الاستغلال، ولا التيار الديني استطاع
أن يبني دولة الخلافة الراشدة. كما أن (المشاريع)
الفردية بقيت حبيسة الندوات
والمحاضرات ونقاشات نخبوية ضيقة لم
تنزل إلى مستوى عامة الناس وتلامس
همومهم وأحلامهم ومفاهيمهم البسيطة.
والحجة لدى الجميع تقريباً هي (الظروف
الصعبة) و(الواقع المرير) و(تآمر
الأعداء) و(عدم تعاون الآخرين) و(عدم
نضوج المرحلة لتطبيق النظرية بشكلها
اللازم).. إلخ.
مرت الأمة بنكبات ونكسات
وهزائم معروفة، وأثبتت الوقائع إخفاق
كثير من النظريات والمشروعات
والطروحات والتوجهات والرؤى، ومع ذلك،
فلا أحد لديه الاستعداد لقراءة أسباب
ما حصل بدقة وعقلانية وجرأة وموضوعية.
بل ما زال الخطاب السياسي ـ
الفكري والإيديولوجي العربي بعامة
ينطلق من المفاتيح المفاهيمية ذاتها
دون نقد أو مساءلة، وكأنها قوانين
كونية مؤكدة في حين أنها أقرب إلى
اليقينات العقيدية الدوغمائية، التي
يؤمن أصحابها بأنها لا تحتاج إلى دليل
أو برهان. وتحولت مع الزمن إلى أوثان
ذهنية ـ إيديولوجية لا يجرؤ الناس على
المساس بقداستها الزائفة، رغم أنها
كانت وليدة لحظتها التاريخية
والسياسية وقد تجاوزتها الأحداث
ومتطلبات الظروف الجديدة.
وقد تبين أن نقطة الضعف
الكبرى في مجمل التيارات والمشاريع
المشار إليها، إنما تكمن في تقوقعها
على الذات وانعزالها وانغلاقها، إضافة
إلى ادعائها امتلاك الحقيقة الكاملة،
والقدرة الكافية للنهوض الحضاري، مع
تجاهل أو ازدراء
للتيارات والمشروعات والطروحات
الأخرى، مهما كانت قريبة في منطلقاتها
وغاياتها وأهدافها. ونتج عن جملة (المعارك)
والصدامات السياسية والحزبية
والإيديولوجية فوضى شاملة وتخبط هائل
ومراوحة فكرية ـ خطابية بعيدة عن
المنطق والعقلانية والفائدة
المجتمعية. وبدلاً من تأسيس فكر سياسي
عربي مؤسس فاعل ومؤثر، طغت الشخصية
السياسية وتناسلت الأحزاب والحركات
والأسماء والشعارات والعناوين دون
اختلافات جوهرية واضحة.
وبذلك ضاعت مرحلة كبيرة من تاريخنا
العربي المعاصر دون أن ننجح في وضع
استراتيجية نهضوية حقيقية، من شأنها
أن تشكل بنية سياسية ـ اجتماعية،
عسكرية، اقتصادية علمية ـ تقنية يحسب
لها الطامعون والأعداء الحساب في
موازين القوى العالمية الراهنة.
إن ما ألمعنا إليه من بعض
عوامل الإخفاق في التجربة العربية
المعاصرة، ربما يقودنا إلى التفكير
الجدي بضرورة فهم واستيعاب حجم
التحديات والتهديدات الموجهة إلى
الوجود القومي برمته، الأمر الذي
يقتضي مراجعة كلية لمجمل الفرضيات
واليقينيات الدوغمائية، وعوامل
الانكسار وأسباب الهزائم، وأدوات
العمل والممارسة، وعلاقة الحكام
بالمحكومين، والمثقفين بالسلطة،
والدولة بالمجتمع، والبدائل
المتوافرة والممكنة للمقاومة الفعالة
والمواجهة المؤثرة والنهوض الشامل.
تشرين
10/11/2003
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|