دروس
قاسية من مدريد
باتريك
سيل*/الحياة /2004/03/19
في
الثاني عشر من ايلول (سبتمبر) 2001، بعد
يوم واحد من تدمير برجي مركز التجارة
العالمي من جانب «القاعدة» حضرت في
جنيف اجتماعاً لمركز التفكير والتحليل
اللندني الشهير «المعهد الدولي
للدراسات الاستراتيجية»، كانت الصدمة
قد هزت العالم بأثره الذي أخذ يتساءل
إذا كانت هذه هي الطلقة الأولى للحرب
العالمية الثالثة... إذ لم يسبق منذ
مئتي عام أن هوجمت أميركا في عقر
دارها، اللهم إلا حين أحرق الإنكليز
البيت الأبيض في عام 1812. وتساءل
الحاضرون: ما معنى ذلك؟ وكيف يكون رد
العالم؟ كان بين المشاركين في اجتماع
جنيف منظّر استراتيجي أميركي يدعى
ادوارد لوتفاك، وكان رأيه في التعامل
مع الإرهابيين بكل بساطة: «اقبضوا
عليهم، اقتلوهم، ولا تصغوا إليهم». وقد
عملت إدارة بوش فيما بعد بهذا الرأي
وكانت النتائج كارثية.
إنني،
على عكس دكتور لوتفاك، أعتقد بأنه من
المهم جدا أن نصغي إلى الإرهابيين
ونحاول فهم ما يرمون إليه، وإلا فكيف
لنا أن نحدد جذور الإرهاب؟ أجل قد
يكونون طلاب ثأر ومتعصبين وقتلة، ولكن
تجاهل شكاواهم وأسباب نقمتهم ما هو إلا
دفن للرأس في الرمال.
كثيراً
ما قيل إن عنف المقاتلين الإسلاميين
مجرد أمر مجاني لا سبب له ولا هدف. وقد
أثار استغرابي أن تعبر صحيفة «لو موند»
الفرنسية عن مثل هذا الرأي في مقال
رئيسي كتبه مدير الصحيفة جان ماري
كولومباني يوم 16 الجاري جاء فيه: «أن
الإرهابيين الذين ضربوا القطارات في
مدريد ليس لهم برنامج غير الكراهية،
ولا هدف سياسي سوى منع انتشار
الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية».
وفي رأيي أن هذا تحليل خاطئ جداً.
إنه
صدى لادعاء المحافظين الجدد في أميركا
بأن الإرهابيين لا يعترضون على «ما
تفعله» أميركا بل على «ما هي عليه».
هؤلاء الصقور في واشنطن يدعون بأن
سياسات بوش وبلير وأثنار ليست هي التي
تسببت في الرد الإرهابي العنيف وإنما
هو طموح الإرهابيين بتدمير المجتمعات
الغربية المحبة للحرية.
رسالة
الإرهابيين
كيف
يمكن التمسك بهذه الآراء الخاطئة في
الوقت الذي تشير كل الدلائل إلى اتجاه
آخر؟ وفي رأيي أن الرسالة التي يريد
المقاتلون الإسلاميون توجيهها هي
ببساطة: «إذا قتلتمونا فسوف نقتلكم».
وهؤلاء الإسلاميون الأصوليون ضاقوا
ذرعاً بالصلافة والوحشية الغربية
والإسرائيلية، فحملوا السلاح ليردوا
على المعتدين. ذلك هو الدرس الذي
يستخلص من العنف البشع في مدريد.
ويمكن
النظر إلى هذا الوضع من زاوية أن
القاعدة - وحزب الله في لبنان، وحماس في
فلسطين - يحاولون الحصول على قدرات
رادعة. فهم يملأون الفراغ الناشئ عن
إخفاق الأنظمة العربية في الوقوف في
وجه إسرائيل وفي حماية بلادهم من ضغط
الغرب وصلافته وحروبه. فالقاعدة
وأضرابها إذن إنما يحاولون أن يفعلوا
ما أثبتت الدول العربية، لمختلف
الأسباب عجزها عن فعله.
أجل
إن الهجمات الإرهابية، ومنها تفجير
القطارات في مدريد هي أعمال وحشية تثير
الاشمئزاز ولا يمكن تبريرها أو الدفاع
عنها. فهي تحصد أعداداً كبيرة من
الضحايا البريئة وتدمر أسس النظام
والحياة الحضارية. ومن ناحية أخرى، فإن
العقوبات التي فرضها الغرب على العراق
أودت بحياة مئآت الآلاف كما أن استخدام
قنابل المدفعية ذات الرؤوس المحتوية
على اليورانيوم المنضب في العراق
ضاعفت من انتشار مرض السرطان بنسبة
مخزية. وهكذا فإن الحروب في العراق
وأفغانستان وفي الأراضي الفلسطينية
المحتلة عاملت سكان هذه البلاد وكأنهم
حشرات لا يحسب لحياتهم أي حساب.
والحاصل
فإنه في مثل هذه الحروب الاستعمارية لا
أحد يكلف نفسه تعداد الموتى. فشارون لم
يقلق يوماً من سقوط الضحايا
الفلسطينيين، وتدل سيرته على أنه حتى
قبل أن يصبح رئيساً للوزراء كان قتل
العرب همه الأول طوال حياته.
ترى
هل تصور جورج بوش وتوني بلير أن
بإمكانهما اجتياح العراق وتدميره وقتل
نحو 20 ألف شخصاً مدنيين وعسكريين، وجرح
20 أو 30 ألف آخرين، واعتقال نحو 10 آلاف «مشبوه»
من دون أن يثير كل ذلك أي رد فعل عنيف؟
كيف يمكن أن يفاجأ المتحالفون بردود
الفعل؟ أليس من عبر التاريخ أن
الاحتلال يولد العصيان والتمرد؟
ولا
شك أن مسؤولية توني بلير تكتسب أهمية
وخطورة خاصة. فلولاه لما كان لبوش أن
يحزم أمره. ولقد كان بوسع بلير أن يجذب
بوش ويبعده عن شفير الحرب. لكنه كتم
شكوكه رغبة في الحفاظ على الشراكة
الأنكلو - أميركية بأي ثمن. وهو قد
استمتع بلذة عابرة حين شارك في شن حرب
شاملة - على الأقل حتى بدأت المتاعب في
صفوف حزبه - واليوم يبدو الإرهاب أكثر
تهديداً وخطراً مما كان عليه قبل حرب
العراق، وبريطانيا بفضل توني بلير،
أكثر تعرضاً من ذي قبل.
وفي
سعيها الى القبض على أسامة بن لادن
تقوم القوات الأميركية الخاصة الآن
بعملية بحث وتدمير سميت «عاصفة الجبال»
في المناطق القبلية على الحدود
الأفغانية الباكستانية. ذلك أن هبوط
أسهم بوش في استطلاعات الرأي جعلته
بحاجة ماسة إلى بعض الأخبار الطيبة قبل
الانتخابات في تشرين الثاني )نوفمبر)
المقبل: من دون مبالاة بوقوع المزيد من
القتلى الأفغان الأبرياء.
وفي
إسرائيل، قام شارون من جانبه بعملية
عسكرية ضد القرى الكثيفة السكان
ومخيمات اللاجئين في غزة. إنه رد فعله
التقليدي على الهجمات الانتحارية التي
كان آخرها العملية التي أدت إلى مقتل
عشرة أشخاص في ميناء أشدود
الإسرائيلي، يضافون إلى 900 قتيل
إسرائيلي الذي أودت بهم الانتفاضة
الحالية. ولقد قتلت إسرائيل نحو ثلاثة
آلاف فلسطيني بينهم الكثير من الأطفال.
ومع ذلك فإن شارون لا يزال يتمسك بعناد
باعتقاده أن في قدرته إلحاق الهزيمة
بالفلسطينيين بالقوة العسكرية.
وشارون
غير مهتم بالتفاوض لأن اقتناعه الراسخ
هو أن العنف، مهما كانت بشاعته، يخدم
أغراضه ما دام يسمح له بالاستيلاء على
مزيد من الأراضي في الضفة الغربية. ترى
هل يستغرب الإسرائيليون فعلا حين يحول
اليأس الفلسطينيين إلى قنابل بشرية؟
هل اعتقدوا أن بإمكانهم أن يسرقوا
الأرض الفلسطينية ويقتلعوا أشجارها
ويهدموا بيوتها، ويحشروا الشباب في
معسكرات اعتقال، ويدمروا مدنها وقراها
دون أي رد فعل؟
إن
الحروب ضد العراق وأفغانستان، ومطاردة
واصطياد الناس في أنحاء العالم في نطاق
ما يسميه بوش «الحرب على الإرهاب»،
ومعاملة إسرائيل للفلسطينيين من دون
رأفة. تلك هي المصادر الكبرى الثلاثة
للغضب العربي والإسلامي. وهذا الغضب هو
الذي يغذي ردود الفعل الإرهابية. ولدى
واشنطن أيضاً مناضلوها المتعصبون،
المحافظون الجدد الذين ضغطوا بكل
قواهم من أجل الحرب والذين تصوروا بأن
قلب نظام صدام حسين سيسمح لشارون أن
يفرض على الفلسطينيين الشروط القاسية
التي يختارها.
مطلوب
تغيير السياسة من الأساس
ما
العمل تجاه حالة الطوارئ الناجمة عن
الإرهاب على صعيد العالم ؟ لا بد من
تغيير نمط الحياة في العديد من البلدان
التي تمتص الكثير من الطاقات والموارد.
فمن الواضح أن القمع والأساليب
البوليسية وحدها لن تنزع فتيل
الانفجار.
يبدو
لي أن من الضروري أن تدخل حكومات
أمريكا وبريطانيا وإسرائيل في مفاوضات
مع المناضلين مهما كرهت ذلك. وهي إذا
كانت غير مستعدة للتفاوض، فعلى شعوبها
أن تزيحها من السلطة عبر صناديق
الاقتراع كما حصل لأثنار في أسبانيا.
ولا شك أن بوش وبلير يستحقان أن يسقطا
في الانتخابات بسب حربهما الاحتيالية
والمخالفة للقانون. أما إقدام
الإسرائيليين على انتخاب سفاح لرئاسة
الحكومة، فهو يدل على مدى ضلالهم ومدى
حاجتهم الماسة إلى تغيير المسار.
لا
بد من التوصل إلى هدنة مع الإسلاميين
الأصوليين، ومن اتخاذ قرارات صعبة
ولكنها أساسية لمعالجة ظلامات العرب
والمسلمين الفاضحة الواضحة. لا بد
للعالم من أن يفرض حلا طال انتظاره
للنزاع العربي - الإسرائيلي، هذا الجرح
الدامي الذي أفسد نزيفه أكثر من أي شيء
آخر العلاقات بين العرب والغرب.
لا
بد من مغادرة القوات الأمريكية
والبريطانية للعراق وإعادة السيادة
إليه في شهر يوليو (تموز) المقبل، ومنح
الأمم المتحدة الدعم والمال اللازمين
كي يقف العراق الموحد على قدميه من
جديد. كذلك يجب نزع معظم القواعد
الأميركية من المنطقة ونقل القوات إلى
أماكن أخرى وراء الأفق. وأما «الحرب
على الإرهاب»، فلا بد من إطفاء جذوتها
لأنها أكبر عامل لتجنيد الإرهابيين.
فالأهم والأولى للغرب أن يسعى
للمصالحة بدلا من المواجهة وأن يدخل في
حوار مخلص مع الإسلام بجميع أشكاله
وفئاته، حتى الأصوليين.
*
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق
الاوسط.
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|